الفصل الخامس

المصادر الروسية في السينما المصرية

لم يعرف القارئ العربي الأدب الروسي إبان القرن التاسع عشر سوى من مصادره الفرنسية، غالبًا، والإنجليزية. وقد عُرف أدباء هذه الفترة بارتباطهم بالثقافة الفرنسية بشكلٍ محدد، مثل: دوستويفسكي، وتولستوي، وتورجنيف، وتشيكوف، وجوجول، وبوشكن، وليرمنتوف.

وفيما يتعلق بالمصادر الروسية في السينما المصرية، فإن هذه السينما قد تعاملت في المقام الأول مع كلٍّ من تولستوي ودوستويفسكي، ثم جاء تشيكوف في المقام الثاني. ولذا فإن المصادر السينمائية القادمة من الشمال هي في الغالب روسية تنتمي إلى القرن الحالي. ولم يحدث هذا في السينما العربية فقط، بل حدث في جميع أنحاء العالم، فالسينما الأمريكية والفرنسية قدمت أعمال تولستوي ودوستويفسكي وبوشكن وجوجول أكثر من مرة، بينما تجاهلت كافة كتَّاب الرواية السوفييتية في القرن العشرين، عدا رواية «دكتور زيفاجو» لأسبابٍ سياسية معروفة.

figure
دوستويفسكي.

وقد اهتمت السينما المصرية بروايتين لا أكثر للكاتب تولستوي هما: «آنا كارنينا» ثم «البعث»، وهما من الروايات المهمة. لكن السينما المصرية اختارتهما لما فيهما من أجواءٍ تراجيدية تتناسب مع موضوعات الأفلام التي تقدمها هذه السينما. فرواية «آنا كارنينا» أصبحت الدجاجة التي تبيض ذهبًا لصناع السينما في العالم، وقدمتها السينما العالمية أكثر من ثلاث عشرة مرة في كلٍّ من ألمانيا والهند والولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا والأرجنتين والاتحاد السوفييتي، وفي مصر حيث ظهرت عام ١٩٥٣م في «المستهترة»، ثم في «نهر الحب» لعز الدين ذو الفقار.

ويعتبر فيلم «نهر الحب» لعز الدين ذو الفقار عملًا جيدًا قياسًا إلى الأفلام التي أُخرجت عن هذه الرواية، وقد سعى المخرج إلى الاستفادة من أجوائها الرومانسية، فقام بتغيير الكثير من أحداثها بشكلٍ يرضي المتفرج المصري. فهناك الرجل السياسي المتزمت في حياته الخاصة، وتزوج من امرأةٍ تصغره في السن. وهو يعامل زوجته بقسوة، ولكن في حدود ما تمليه عليه وظيفته ومكانته الاجتماعية. وتلتقي المرأة مصادفةً بضابط شاب يملي عليها عواطفه الحارة، فتتردد في أول الأمر ثم ما تلبث أن تنصاع لمشاعرها، وتندفع إلى الضابط بكل جوارحها، لدرجة أنها توافق أن تهجر أسرتها وبيتها من أجل الزواج من الضابط الذي لا يلبث أن يموت في الحرب. وتعود إلى زوجها طالبة رؤية ابنها، لكنه يرفض، وعند العودة يصطدم قطار بسيارتها فتموت.

figure
تولستوي.

الأرجح أن عز الدين ذو الفقار قد استعان بالرواية التي كتبها تولستوي، ورجع إلى الفيلم الذي أخرجه كلارنس براون لجريتا جاربو عام ١٩٣٥م، وإلى الفيلم الذي أخرجه جوليان دوفيفييه بطولة فيفيان لي في بريطانيا ١٩٤٨م. وهناك اختلافات بين فيلم ذو الفقار وكل النصوص المأخوذة من رواية تولستوي؛ فالضابط فرونسكي في الرواية هو زير نساء يحاول أن يجرب حظه مع إحدى الزوجات التعيسات، فيلهو بها ويجعلها تهجر بيتها وابنها، ولكنه ما يلبث أن يهجرها. وعندما تهجر آنا كارنينا هذا البيت ترحل إلى موسكو مع عشيقها، وتنفجر فيما بينهما المشاكل فتنتحر بأن تلقي نفسها تحت عجلات القطار. أما الضابط عند عز الدين ذو الفقار فهو رجلٌ رومانسي يمر بتجربة حبه الأول، وتبارك الأم هذه العلاقة، وهو يدفع حياته ثمنًا لنداء الوطن. وقد جاء الموت في الفيلم المصري بشكلٍ قدري؛ فالزوجة تحلم دومًا أنها سوف تموت في سيارتها التي تتعطل عند المزلقان فيصدم القطار سيارتها، هذا الحلم تراه الزوجة قبل أن تقابل الضابط بسنوات، بل قبل أن تتزوج، وهذا الحلم يتحقق بنفس الصورة التي تمت أثناء كافة كوابيسها.

وإذا كان «نهر الحب» قد حاول أن يطاول رواية تولستوي، فإن كافة الأفلام التي أُخذت عن «البعث» لم تقترب من المعنى السامي عند الكاتب الروسي. حيث تنبهت السينما المصرية إلى جزئياتٍ من هذه الرواية في أفلامٍ ثلاثة هي: «ظلموني الحبايب» لحلمي رفلة ١٩٥٣م، و«دلال المصرية» لحسن الإمام ١٩٧٠م، و«أشياء ضد القانون» لأحمد ياسين ١٩٨٢م.

وفي الرواية صور الكاتب بطله ديمتري شابًّا أرستقراطيًّا يحمل لقب الإمارة، وقد بدأ حياته مثاليًّا، ثم جرفته التعاسة وسط المجتمع، إلى أن تظهر كاتيوشا فتُعتبر بالنسبة له أشبه بجرس إنذار، فبعد أن أخطأت معه في تجربةٍ عابرة أثناء زيارة لقريبتها التي تعيش معها، وتحمل منه، تهرب من قريتها، وتُتهم بقتل تاجر في سيبريا، ويُحكم عليها خطأ بالأشغال الشاقة. وكان ديمتري أحد المحلفين في هذه القضية، فيقرر الذهاب وراءها راغبًا في الزواج منها كي يكفر عن خطيئته، وأثناء رحلته إلى سيبريا يمر بحالةٍ من الخلاص تطهره من جميع أدرانه، وتكون بمثابة بعثٍ جديد له وللفتاة.

وقد اختار حلمي رفلة من هذه الرواية الحدوتةَ التي تتعلق بابن الذوات الذي يفاجأ يومًا أن المتهمة التي تقف أمامه ليست سوى حبيبته القديمة التي حملت منه سفاحًا، فيقرر الدفاع عنها، وتبرئتها، ثم الزواج منها. أما حسن الإمام فقد صوَّر الفتاة الريفية يتيمة الأبوين، نشأت بين أسرةٍ في زمن ما قبل ثورة يوليو، حيث الترف والمجون (كما يرى الفيلم)، وقعت في حب أحد أبناء الأسر الإقطاعية، وفي دوامة هذا الحب تفقد عذريتها وحبيبها الذي تخلى عنها وتنكر لها، حتى أنها هاجرت إلى القاهرة لتخدم في البيوت، وينتهي بها الحال إلى احتراف الدعارة — كما جاء في ملخص الفيلم — تحت اسمٍ جديد هو «دلال»، وأثناء حياتها الجديدة تحدث جريمة مروِّعة تكون هي أول مَن يُتهم فيها، وتُساق إلى المحاكمة، ويشاء القدر أن يكون القاضي هو الذئب الذي كان حبيبها في يومٍ من الأيام، وأثناء المحاكمة يستيقظ ضميره ويعرض عليها الزواج، ولكنها ترفض عرضه لأنه تغير عن الشخص الذي أحبته فيما قبل، وعندما يعلن أنه لا يزال نفس الشخص تقبل الاقتران به. وقد امتلأ فيلم حسن الإمام بجوٍّ خاص عن الراقصات والدعارة، مثل ما فعل مع عشرات الراقصات، ولم تكن دلال المصرية إلا صورة مكملة لشفيقة القبطية وامتثال، وبمبة كشر، ولكن في إطارٍ من حدوتة العم تولستوي.

أما أحمد ياسين فقد أخرج الرواية بما يناسب جو الثمانينيات، فرءوف طالب الحقوق يحب جارته أزهار التي تتورط معه في علاقتهما، ويعاهدها على الزواج. ويضيف مصطفى محرم كاتب السيناريو شخصيات جديدة، مثل الدكتور راشد أستاذ رءوف في الجامعة، ويقوم بتشجيعه حتى يصل إلى مركزٍ كبير في عمله بعد تخرجه، ويتخلى رءوف عن أزهار ويتزوج سهام ابنة راشد رغم الفارق الاجتماعي بينهما. أما أزهار فتهرب عندما يجبرها أبوها على الزواج، وتتعرف على زغلول القواد الذي يتزوجها دون أن تعلم أن ذلك من أجل إجبارها على العمل معه، ويتم القبض على المرأة في قضية دعارة، ويفاجأ بها رءوف الذي يقوم بالتحقيق في القضية، ويقرر مساعدتها، ويستغل منصبه فيضغط على زغلول ويجعله يطلقها، وينشغل رءوف عن عمله ومنزله، ويؤجر شقة لأزهار التي يتزوج منها بعد أن عمل محاميًا. ويتفق راشد مع زغلول على تلفيق تهمة مزاولة أزهار للدعارة في منزلها انتقامًا من رءوف، وتنجح خطته ويتم القبض على أزهار.

وقد تعمدنا أن نروي وقائع كل الأعمال الأربعة كي نكشف أبعاد المنظور العربي لأي مصدرٍ أجنبي، فالجدير بالذكر أن فيلمي حسن الإمام وأحمد ياسين قد أشارا إلى المصدر الأساسي للفيلم، ومع هذا لم يأخذا منه سوى القشور.

الكاتب الثاني هو فيودور دوستويفسكي، وهو كاتب لأعماله مذاق خاص في السينما، حيث تنبهت السينما إلى أهمية رواياته، فأُخرجت في كلٍّ من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا والاتحاد السوفييتي، ومن بين هذه الأفلام: «الإخوة كارامازوف» لريتشارد بروكس عام ١٩٥٨م، و«الليالي البيضاء» لفيسكونتي عام ١٩٥٧م، و«الأبله» لجورج لامبان عام ١٩٤٧م. وفي مصر مر المخرج حسام الدين مصطفى بحالة إنجاب دوستويفسكية في منتصف السبعينيات، حيث أخرج ثلاثة من أفلامه دفعة واحدة بالإضافة إلى مسلسل تليفزيوني طويل عن رواية «مذلون مهانون». كما يقدم مدحت السباعي روايته «الأبله».

أول هذه الأفلام هو «الإخوة الأعداء» عن «الإخوة كارامازوف»، وهي رواية وجدت العديد من الطبعات والترجمات إلى اللغة العربية، أكثرها مترجَم عن اللغة الفرنسية. ويؤكد مجدي فهمي أن الفيلم الذي أخرجه حسام الدين مصطفى قد اعتمد في المقام الأول على الفيلم الذي أخرجه بروكس أكثر من الاعتماد على رواية «دوستويفسكي».

وإذا كان بروكس والمخرج السوفييتي إيفان برييف قد احتفظا بالأجواء الروسية في الفيلمين اللذين تم إخراجهما عن الرواية، فإن عملية تمصير كاملة قد تمت، كالعادة، لشخصيات وأحداث دوستويفسكي، حيث تحول الإخوة كارامازوف إلى أبناء القرماني، وهذا القرماني هو الأب الذي مات مقتولًا، وجدوا رأسه محطمًا بآلةٍ صلبة، ووجهه ملطخًا بالدماء، واتجه البحث عن القاتل بين أبنائه الأربعة: أولهم توفيق (ديمتري) الشاب الضائع الذي لم يكمل طيلة حياته عملًا واحدًا جيدًا، وكان دائم المواجهة مع أبيه، فقد حرمه الأب من حقه في ميراث أمه، ثم نافسه على قلب امرأة تملكته جسدًا وحسًّا. أما الأخ الثاني فهو شوقي، الكاتب الذي ضل الطريق إلى الله، إنه يقف على شفا الهاوية، ويكتب مقالات أدبية من منطلق: «إذا لم يكن الله موجودًا فإن كل شيء مباح.» أما الأخ الثالث فهو حمزة، الذي تأثر بحب أخيه، وهو ابن غير شرعي للقرماني، وقد أصبح أداةً جيدة لأفكار أخيه المؤلف. أما الأخ الرابع فهو أحمد، الإنسان الملتزم الذي يعمل مدرسًا، ويشكل الاعتدال في وسط هذه الأطراف.

وتشير القرائن أن توفيق هو القاتل، ويتم القبض عليه. ويتعاطف الكثيرون مع توفيق؛ فمنهم لولا حبيبته التي تركت الأب من أجله؛ ومنهم الأخ أحمد. ثم يحدث تغيير لدى الكاتب الذي يعبر عن إيمانه بالله من خلال معاناة أخيه: «الله يعرف أنه بريء … فقد أصبح الله موجودًا … ولم يعد كل شيء مباحًا.»

والقاتل الحقيقي هو الأخ الذي أصابه صرع؛ الابن غير الشرعي حمزة. وفي الفيلم الذي أخرجه بروكس استكمل المخرج رحلة إدانة ديمتري، بعد أن حُكم عليه بالنفي والسجن في سيبريا، وتُقرر حبيبته الرحيل معه، ثم يساعده إخوته في الهرب قبل أن يصل إلى منفاه.

وأعتقد أنه رغم الانتقادات التي وُجهت إلى الفيلم، فإن حسام الدين مصطفى قد حاول أن يصنع عملًا له قيمته، وهو في رأيي أفضل من أعمالٍ كثيرة اقتبستها وشوهت السينما صورتها، وخاصة أن الفيلم لا ينزع إلى تقديم الرواية فصلًا فصلًا، وإنما يتخذ من الرواية وفلسفتها منطلقًا لتصوير فيلم يصور حيرة الشباب والمجتمع في نصف السبعينيات.

أما رواية «الجريمة والعقاب» فرغم أنها أكثر صلاحية للسينما، إلا أن الأفلام التي ظهرت مقتبسة عنها في السينما العالمية والمصرية أقل أهمية وشهرة من مثيلتها المأخوذة عن «الإخوة كارامازوف»، فقد أخرجتها السينما الأمريكية مرتين: الأولى في عام ١٩٣٥م من إخراج يوسف فون سترنبرج، والثانية في عام ١٩٥٩م من إخراج دنيس ساندرز، وفي فرنسا أخرجها جورج لامبان — الذي تخصص في إخراج روايات دوستويفسكي للسينما الفرنسية — في فيلمٍ من بطولة جان جابان وروبير هوسين. في نفس الفترة تقريبًا عام ١٩٥٧م قدمها المخرج إبراهيم عمارة في فيلمٍ يحمل نفس العنوان من بطولة ماجدة وشكري سرحان وزهرة العلا. وفي عام ١٩٧٦م قدمها حسام الدين مصطفى تحت عنوان «سونيا والمجنون».

وقد رجع الفيلم — الذي كتبه محمود دياب — إلى أجواء الأربعينيات في القاهرة من خلال طالب فقير يُدعى مختار المنزلاوي، يدرس القانون، ويؤمن بقدرة الإنسان في كسر الحواجز وتحطيم القوانين الوضعية، وهو يتعرف على فتاةٍ تدعى سونيا تتاجر في عرضها، أبوها رجلٌ سكير وتائه بشكلٍ دائم، وقد قرر أن يتجاهل الصغار الذين أنجبهم، وعلى سونيا أن تقوم بالمهمة، وأن تحمل المسئولية.

ومختار واقعٌ بين عدة فُكوك، منها الفتاة التي يتعاطف مع ظروفها، والمرابية التي تستغل حاجة الآخرين فيقرر أن يقتلها. وبعد الجريمة تدور مباراة بين مختار وضابط الشرطة الذي يسعى لجعله يعترف بجريمته، وفي النهاية يقرر الاعتراف ويذهب إلى مصيره. وقد وقف حسام أيضًا عند أجزاء من أحداث الرواية، ولم يشأ أن يستكمل رحلة الخلاص والعقاب التي عاشها راسكولنيكوف في سجنه، قبل أن يعود إلى سونيا بعد سنواتٍ تغيرت فيها شخصيته وتجربته، ووجدها في انتظاره.

ومن الصعب تحويل رواية دوستويفسكي إلى فيلم لكثرة الحوار الداخلي وكثرة النماذج البشرية التي تحفل بها، وقد استغل الفيلم المصري الموضوع الرئيسي للرواية ووضعها في إطارٍ فيلمي. ومن جديد حاول حسام الدين مصطفى أن يقف شامخًا أمام النص الأدبي الذي يتعامل معه، ولكن لكل من دوستويفسكي وحسام عالمه الخاص المنفصل.

ويقول عبد المنعم سعد في كتابه (السينما المصرية في موسم): «إن دوستويفسكي قد صور حالة الانهيار الكامل للمجتمع الروسي، فيقدم أبطاله وهم يسعون إلى إقامة علاقاتٍ جديدة، ومن ثم يُطلَق على واقعية دوستويفسكي الواقعية التجريبية. وهو يرى أن «الواقع الاجتماعي الذي قدمه المخرج» يتمثل في فلسفته للواقع، وفي اختياره للحرية ككائنٍ اجتماعي يمثل شرور المجتمع. والبعد السيكولوجي الذي تراه في الصراع بين مختار وواقع المجتمع الذي يعيش فيه، والذي بدأ يتحداه منذ البداية وصولًا إلى إحداث التغيير. ثم البُعد العاطفي بين مختار وسونيا وعلاقة الحب بينهما، دون أن يتجاوزها إلى استغلال الجنس كوسيلةٍ لإغراء الجماهير.»

أما الرواية الدوستويفسكية الثالثة «الممسوسون» فهي أقل حظًّا في السينما، إلا أن أندريه فايدا قدمها في عام ١٩٨٧م في فيلم هام من إنتاج فرنسا. وقد سبقه حسام الدين مصطفى في تقديم هذه الرواية قبل ذلك بعشر سنوات. وتدور أحداث الرواية حول قصة حقيقية سمعها المؤلف من شقيق زوجته، حول طالبٍ روسي قتلته إحدى الجماعات الفوضوية لمجرد انسحابه من عضويتها. وقد ركز في روايته على شخصية سنتيان الذي قتل الطالب، وتجمع هذه الشخصية بين التيارين الغربي الملتزم والفوضوي. وقد حاول حسام التركيز على هذه الفوضوية من خلال جمعيةٍ إرهابية تضم مجموعة من الشباب ينقادون إلى زعيمهم، وهذه الجمعية لا تعرف لنفسها خطًّا، يرتدي زعيم الجماعة فوق رأسه قبعة ونظارة سوداء على عينيه، وهو أشبه بجيمس بوند، فهو يعرف كل شيء، ويدبر كل شيءٍ بإتقان، ويهدد مَن يريد الانسحاب، يحمل في رأسه أفكارًا لا هوية لها، وكل همه هو قتل بعض الباشوات. أما الطالب الشاب المتمرد (إيفانوف) فيتحول في الفيلم العربي إلى «نبيل» من أبناء العائلة الحاكمة، وهو يكنُّ صداقة طيبة لزعيم الإرهابيين، كما أنه يكنُّ مشاعر طيبة لأبناء عشيرته من الأمراء. ويتزوج من الخادمة التي تربت في قصره ثم يتركها، ويغري زوجة صديقه التي تهجر زوجها من أجله، وتتتابع الأحداث بشكلٍ مأساوي، حيث تحول الإرهابيون إلى سفاكين لأنفسهم.

ويرى سامي السلاموني، في مقالٍ له حول هذا الفيلم، أن محمود دياب وحسام الدين مصطفى قد نقلا من رواية دوستويفسكي بعض الملامح (الخارجية) لشخصيات الشبان الأربعة «المهووسين» و«الممسوسين» الذين ركبتهم الشياطين، وهي شياطين مفهومة تمامًا في الرواية بعد تلك المقدمة الطويلة السابقة «عن ظروف القيصرية وقت كتابة الرواية عام ١٨٧٠م، لكنها شياطين غير مفهومة في هذا الفيلم، أو بمعنًى أكثر دقةً شياطين بلا سبب!»

وتؤكد درية شرف الدين في مجلة روز اليوسف أنه «بعد مشاهدة الفيلم وقراءة الرواية، يتأكد أنه قد تم نوعٌ من التعامل السطحي في تقديم هذا الفيلم، فهل كان هذا التعامل مع رواية دوستويفسكي مسئولية كاتب السيناريو؟ أم في تعامل المخرج مع النص المعد عنها، والذي قدمه كاتب السيناريو، وهذه مسئولية المخرج؟ وأيًّا كان الحال فالمسئولية مشتركة بين محمود دياب وحسام الدين مصطفى.»

وبعيدًا عن حسام الدين مصطفى، فإن مدحت السباعي قد مر أيضًا بحالة إعجاب سينمائية دوستويفسكية، حيث استلهم بعضًا من أحداث «الجريمة والعقاب» في فيلمه «فقراء لا يدخلون الجنة»، فهناك طالب الحقوق الذي يتقلب بين العديد من المهن، وينتهي به الأمر إلى أن يقتل صاحب العمارة الذي اعتدى على جارته التي يحبها مستغلًّا حاجتها، ثم يتم التحقيق معه ويعترف في النهاية. أما فيلم «الجريح» فهو محاولة جريئة للاقتراب من رواية «الأبله» التي لم يجسر أحدٌ على الاقتراب منها سوى جورج لامبان في فرنسا؛ لذا جاء الفيلم فاترًا تقليديًّا من خلال الإضافات السينمائية التي تمت بالنسبة له. فهناك ابن الباشا القديم الذي سافر إلى أوروبا لسنواتٍ من أجل العلاج ويعود إلى قريته فقيرًا في حالةٍ يرثى لها، لكنه يكتشف أن هناك أرضًا يملكها قد انتزعها مستغلون، ومن هنا تدور أحداث الفيلم.

وفي عام ١٩٧٧م اقتبس مصطفى محرم سيناريو فيلم «مع سبق الإصرار» عن رواية «الزوج الخالد» لدوستويفسكي، وقام بإخراج الفيلم أشرف فهمي، حول القاضي الذي يكتشف فجأة أن له ابنة من إحدى علاقاته القديمة، ويجيئه الأب بالاسم كي يخبره أن زوجته قد ماتت، وأن ابنته في انتظاره، ويكون هذا الحدث سببًا في قلب حياة القاضي. أما الناقد عزت معوض فقد نشر مقالًا في مجلة الكواكب أكد فيه أن الروائي إسماعيل ولي الدين قد اقتبس أحداث روايته «بيت القاضي» عن رواية «نهر الحياة» للكاتب الروسي ألكسندر كوبرين، وبالتالي فإن الفيلم الذي أخرجه أحمد السبعاوي عن الرواية هو بالتبعية مقتبس.

ومن المسرح الروسي قدمت السينما ثلاثة أفلام عن مسرحية «المفتش العام» لنيكولاي جوجول؛ الأول: هو «المفتش العام» من إخراج حلمي رفلة وبطولة إسماعيل ياسين ١٩٥٧م، ثم «الرجل المناسب» لحلمي رفلة ١٩٧٠م، أما الفيلم الثالث: فهو «اللي ضحك على الشياطين» لناصر حسين عام ١٩٨١م. وهي كلها أفلام لا ترقى إلى مستوى النصوص الأجنبية المأخوذة عنها. أما فيلم «وداعًا يا ولدي» لتيسير عبود عام ١٩٨٦م، فقد كُتِبَ على أفيشاته أنه مقتبسٌ عن رواية «تاراس بولبا» لجوجول، والفيلم بعيد تمامًا عن الرواية التي كتبها الكاتب الروسي، وكذلك هي بعيدة عن الفيلم الأمريكي الذي أخرجه جاك لي طومسون عام ١٩٦٣م. وهذا بمثابة نكتة موضوع الاقتباس، أو فلنقل الاقتباس لمجرد الشبهة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤