الفصل السادس

المصادر الألمانية في السينما المصرية

زحف الأدب الألماني القديم والحديث — على السواء — إلى السينما العالمية غير الناطقة باللغة الألمانية، ووجد مكانًا مرموقًا بين مختلف الآداب الأخرى التي اهتمت بالواقع الإنساني. ومن الغريب أن بعض الأدب الألماني قد تم إنتاجه خارج ألمانيا في الوقت الذي لم ينتج داخل ألمانيا نفسها، مثل بعض روايات توماس مان، وكافكا وستيفان زفايج، وإريك ريمارك، وفريدريش دورينمات.

وقد نطق الأدب الألماني، من ضمن ما نطق من لغات في السينما، باللغة العربية عندما وجد بعضُ السينمائيين العرب في نصوصٍ ألمانية مرتعًا خِصبًا يمكن اقتباسه وتصويره داخل البيئة العربية. وشهد الأدب الألماني المقتبس إلى السينما العربية حالة غريبة من التحول لم يشهدها عندما نطق باللغات الأوروبية الأخرى، فبينما دارت أحداث رواياتٍ مثل: «الموت في فينيسيا» و«الجبل السحري» و«كل شيء هادئ في الميدان الغربي» و«القضية» — سينمائيًّا — في نفس الأماكن التي تخيلها كلٌّ من توماس مان وريمارك وكافكا، فإن الروايات والمسرحيات التي تم اقتباسها إلى السينما العربية قد تحولت إلى حواديت جديدة ليست بينها وبين العمل الأصلي سوى ما يمكن تسميته بالحدوتة.

figure

قام صناع هذه الأفلام العربية بنقل الأجواء، في هذه الأعمال، إلى البيئة العربية، وذلك مثل ما حدث عندما اقتبست هذه السينما روايات وأفلامًا عن مصادر عالمية متعددة، وعلى رأسها السينما الأمريكية والأدب الروسي والأدب الفرنسي ومسرحيات شكسبير.

وبالنظر إلى العلاقة بين السينما العربية والمصادر الألمانية، سنجدها محدودة للغاية قياسًا إلى المصادر الأمريكية؛ على سبيل المثال: فإن المصادر الألمانية التي اعتمدت عليها هذه السينما لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، والغريب أن أكثر الأفلام المستمدة من هذه المصادر لا ترقى بأي حالٍ للمصدر الأصلي.

أهم المصادر الألمانية التي تنبَّه إليها السينمائيون العرب هي: «فاوست» لجوته، ومسرحية «زيارة السيدة العجوز» لفريدريش دورينمارت، ثم روايتا: «رسالة من مجهولة» و«جنون الحب» لستيفان زفايج.

لم تجذب أسطورة ألمانية خيال الأدباء والسينمائيين في العالم أجمع قدر ما جذبت أسطورة الدكتور فاوست، ذلك الطبيب الذي باع روحه للشيطان مفستوفيلس، وذلك مقابل منحه الشباب والحيوية والجاذبية. ولعلنا جميعًا هذا الفاوست شئنا أم أبينا، رغبنا أم اعترضنا، ومن هنا تجيء أهمية هذا العمل. وأصل هذه الأسطورة غامض، ولكن أساسها حياة علامة يدعى الدكتور يوهان فاوست عاش في ألمانيا عام ١٥٤١م، وفي ملامح هذه الأسطورة وجد الأدباء منهلًا لا ينضب، فقد قدمها كريستوفر مارلو في مسرحية عام ١٥٩٣م، وعالجها الشاعر الألماني جوته في مسرحيته الشهيرة «فاوست» المصاغة شعرًا في جزأين، ثم أعاد توماس مان كتابتها في رواية تحمل عنوان: «دكتور فاوستس» حوَّلها الممثل والمخرج ريتشارد بيرتون إلى فيلمٍ من إخراجه عام ١٩٦٨م.

وعلاقة السينما بهذه الأسطورة وطيدة للغاية، ويصعب حصر عدد المرات التي قدمتها السينما في شتى الأنحاء بالعالم، إلا أن أول مَن قدمها هو جورج ميليه عام ١٨٩٧م، ثم قام عام ١٩٠٣م بإعادة إنتاجها، وفي فرنسا قدمها رينيه كلير في فيلم، فضلًا عن فيلم «مورناو» الشهير الذي أخرجه عام ١٩٢٢م.

وقدمتها السينما الإنجليزية عام ١٩٦٧م في فيلمٍ يحمل عنوان: Bedazzled بطولة راكيل والش وإخراج ستانلي دونن.

فاوست هو آدم كل عصر، فبعد أن يتم الحوار بين الله والشيطان مفستوفيلس، يقوم هذا الأخير بإغراء الدكتور فاوست بأن يعقد معه اتفاقًا يبيعه روحه مقابل منحه الكثير من متاع الدنيا، فيجعله يجوب أوروبا كي يتمكن من الوصول إلى دوقة بارما التي يحبها، ثم يجعل مرجريت — الفتاة البريئة ذات الجدائل الطويلة — تهيم به فيجذبها معه إلى طريق الزلة الكبرى.

هذه هي الخطوط العامة لحكاية فاوست، ولكن كيف استمدت السينما المصرية ثلاثة أفلام هي: «سفير جهنم» ليوسف وهبي ١٩٤٥م، وموعد مع إبليس عام ١٩٥٥م لكامل التلمساني، و«المرأة التي غلبت الشيطان» ١٩٧٢م ليحيى العلمي. من الواضح إذن أن فاوست وشيطانه قد ارتديا الثوب العصري في السينما المصرية إلا أنه ظل مصاغًا بأجواءٍ أسطورية فانتازية من خلال ذلك الاتفاق الأزلي الذي تم التوقيع عليه بين الشيطان والإنسان، وهذا الشيطان — في هذه الأفلام الثلاثة — مجسد في ثوبٍ آدمي (يوسف وهبي، محمود المليجي، عادل أدهم)، لكن شخصية الشيطان التي جسدها يوسف وهبي في «سفير جهنم» أقرب إلى مفستوفيلس من الفيلمين الآخرين، فهو إبليس القادم من جهنم إلى الأرض كي يوقع أسرة فقيرة في الخطيئة، هذه الأسرة التي يمتلك أفرادها مقومات السقوط في أحضان الشيطان.

figure
سفير جهنم.

فالأب رجلٌ عجوز (فؤاد شفيق) حط عليه الزمن وأنهكه وجعد له ملامحه، وزوجته الشمطاء (فردوس محمد)، تعيش هذه الأسرة في إملاقٍ شديد. هناك ضغوط خاصة تدفع الزوجين إلى القبول بشروط الشيطان، الذي يعيدهما إلى سن الشباب، فيرتبط الأب بفتاةٍ صغيرة يهيم بها حبًّا، وتنحرف الزوجة، وينحدر الأبناء نحو الجريمة. ويجد الشيطان نفسه قد حقق أهدافه الواحد تلو الآخر في سقوطهم في الرذيلة، حتى تنهدم الأسرة ولا تجد أي خلاص من الشر الذي أوقعت نفسها فيه.

كما يتحول الدكتور فاوست أيضًا إلى نموذجٍ عائلي في فيلم «موعد مع إبليس»، باعتبار أن شروره قد انعكست على كل أفراد الأسرة. فإذا كانت مسرحية جوته قد أكدت على الرجل الوحيد الذي يسقط برغبته في الرذيلة، فإن يوسف وهبي والتلمساني يقدمان فاوست في عائلة، ليؤكدا أننا لسنا جميعًا سوى فاوست، سواء في شكلٍ فردي أو جماعي، بشرط أن تكون هناك الدوافع التي تدفع أصحابها إلى توقيع العقد مع مفستو، وهناك فتاة بريئة لكنها ليست مرجريت، بل هي الابنة التي تصر على الزواج رغمًا عن رغبة والديها. والتشابه هنا بين خطوط الأسطورة وبين الفيلم أن مفستو يحقق في انتصار الشيطان سقوط الإنسان في هوةٍ لا مخرج منها، ويصبح الاتفاق مع إبليس بمثابة حلم طوباوي عابر ذي نهاية كابوسية واقعية.

يتحول هذا الفاوست إلى امرأةٍ في فيلم «امرأة غلبت الشيطان» ليحيى العلمي، والمأخوذ عن مسرحية لتوفيق الحكيم بنفس العنوان، المرأة هنا أيضًا عجوز دميم تدعى شفيقة (نعمت مختار)، مشوهة حدباء، تتطلع فجأة إلى عالم الملذات من خلال عملها في منزل راقصة، وترى هناك الصحفي محمود الذي تعجب به. المرأة هنا على استعدادٍ أن توقع عقدًا بالدم مع الشيطان من أجل أن تصبح امرأة مرغوبًا فيها؛ لذا فإنها تقبل أن توقع العقد الأزلي مع أدهم آخر سلالة الشياطين.

ففي ليلة زفاف الصحفي الذي أحبته إلى النجمة اللامعة (شمس البارودي)، تتملكها الغيرة وتقذف العروس بكوب الشراب، فيلقون بها خارج المنزل حيث تترامى الصحراء أمامها، وهناك توقع عقدًا مع الشيطان طوله عشر سنوات تذهب بعدها روحها إلى الجحيم، لكنها لا تذهب إلى الجحيم، فالمرأة تتوب إلى الله وتذهب إلى الأراضي الحجازية، وتستطيع الانتصار على الشيطان من خلال قوة إيمانها.

المسرحية الثانية الألمانية هي: «زيارة السيدة العجوز» لفريدريش دورينمات التي كتبها عام ١٩٥٥م، وعُرضت لأول مرة على مسرح زيورخ عام ١٩٥٦م. وقد وجدت هذه المسرحية طريقها إلى السينما العالمية، فأنتجتها السينما الأجنبية عام ١٩٦٤م في فيلم من توزيع شركة فوكس وإخراج برنارد فيكي. وهي المسرحية المدللة لدورينمات التي وجدت طريقها إلى القارئ العربي كنصٍّ مسرحي مترجم، فضلًا عن العديد من العروض، كان آخرها «الزيارة انتهت» لبهجت قمر عام ١٩٨٥م. كما شاهد المتفرج هذا الفيلم الذي قام ببطولته أنطوني كوين وإنجريد برجمان وإيرينا ديميك، ورغم أن الفيلم من إنتاجٍ أمريكي فإن الكثيرين من العاملين به من الألمان.

figure

تدور المسرحية من خلال المليونيرة كارلا التي تعود بعد غيبة طويلة إلى قريتها سعيًا وراء الانتقام من حبيبها القديم سيرج الذي غرر بها وتخلى عنها، وكان سببًا في طردها من مسقط رأسها معدمة فقيرة، وتزوج من ابنة البقال. لقد عادت لتعرض على أهل القرية مبالغ من المال، سعيًا وراء المطالبة برأس سيرج، ويستجيب أهل القرية لمطالب العجوز الأقرب إلى دميةٍ متهالكة فيعدمون سيرج، ويضعونه في تابوتٍ ترحل به المرأة. وقد وضع فيكي نهاية مخالفة في فيلمه حين رفضت المرأة أن يتم إعدام حبيبها القديم، بعد أن أحيا سكان القرية قانونًا قديمًا لمحاكمة سيرج، وتعلن لحبيبها القديم أنها قررت العفو عنه، ثم تعلن أن الزيارة قد انتهت. وقد بدأ فيلم فيكي (تدور أحداثه أثناء الحرب العالمية) في اللحظة التي تنزل فيها كارلا من القطار في القرية الصغيرة، بعد أن شدت فرملة القطار لتوقفه وتنزل منه، لقد جاءت بعد عشرين عامًا، ونفهم بعد ذلك حكايتها القديمة مع سيرج. إلا أن فيلم تيسير عبود «سأعود بلا دموع» ١٩٨١م يبدأ من الماضي مضيفًا الكثير من الأحداث التي ليست لها أي علاقة بحكاية سيرج وكارلا، فيبتدع أشخاصًا عديدين، ويغرق نصف الفيلم الأول في حكاية البنت هند التي غرر بها شاب، وتزوج رغمًا عنه، بدافعٍ من أسرته، ابنة رجل ثري، ثم يهتم الفيلم بتفاصيل حول كيف جاءت هند بالنقود، فبينما نعرف من الحوار أن العجوز قد تزوجت ثريًّا ورثت عنه الكثير، فإن هند تمارس الهوى وتتزوج من الهلباوي الثري، وهي تسعى للانتقام من الرجل الذي غرر بها. وإذا كانت العجوز في مسرحية دورينمات قد أصبحت هيكلًا إنسانيًّا، فإن إنجريد برجمان بدت جميلة بعيدة عن الكهولة، بينما ظهرت مديحة كامل في أزهى مرحلةٍ من عمرها، ولذا فإن الفيلم العربي اختصر فترة غياب المرأة إلى أعوامٍ قليلة.

وإذا كانت كارلا قد عادت لتنتقم من سيرج وحده، فإن هند عادت لتنتقم من حبيبها وأبيه، ونرى هنا كيف أن أموال المرأة استطاعت أن تغير من نفوس أهل القرية، فبعد أن أعدموا سيرج في مسرحية دورينمات، وكادوا أن يفعلوا ذلك في فيلم برنارد فيكي، فإن النيران تأتي على الفيلا التي تحاصر كلًّا من الأب والابن وهند أيضًا. هكذا جاءت البداية والنهاية مختلفتين تمامًا، فيجب أن تكون هناك حكاية، ويجب أن تكون هناك توابل لهذه الحكاية.

ويقول الناقد مجدي فهمي في حديثه عن الفيلم: «ليست في مصر بلدة يمكن أن تشتريها امرأة بمالها، وإذا كان المؤلف قد وجد مثل هذه البلدة فيما وراء جبال الألب، فهي من الصعب أن توجد في مصر، فهل يُعقل أن يحرق أهل البلدة الفيلا بأصحابها، لمجرد أن بائعة هوى وزعت عليهم اللحم مجانًا، ثم قالت إنها ستهبهم المال الحرام؟»

والواضح هنا إذن أن السينما العربية قد أخذت حكاية المرأة التي تشتري ذمم الآخرين بنقودها، وقامت بنسج عشرات الحكايات وأضافت تفاصيل عديدة. وحسب رأيي فإن فيلم برنارد فيكي أكثر قيمة وأهمية من مسرحية دورينمات نفسها، فقد استطاعت المرأة أن تنتقم من حبيبها وأن تُعدمه على أيدي أبناء القرية الذين باعوه من أجل بضع دريهمات، أما في فيلم فيكي فقد رأينا العجوز تصفح عن سيرج في اللحظة الأخيرة، وهي تردد أنها ستتركه يعيش بين قومٍ كادوا أن يقتلوه من أجل بضعة دولارات؛ ولذا فإنه سيصحو كل يومٍ لتلتقي عيناه بهؤلاء الناس، يشترون منه ويبيعهم؛ ولذا فإن زيارة المرأة لم تنتهِ قط، بل سوف تمتد إلى أمدٍ طويل، بينما استراح جسد سيرج في التابوت الذي حملته كارلا في نهاية المسرحية ورحلت عن القرية.

والمصدر الثالث الذي اقتبست منه السينما العربية هو الأديب النمساوي ستيفان زفايج وهو كاتب مقروء في عالمنا العربي، حيث وجدت أعماله طريقها إلى القارئ من خلال الترجمة، وخاصة «حذار من الشفقة» و«٢٤ ساعة من حياة امرأة»، و«جنون الحب»، و«رسالة من مجهولة»، و«فيرتا»، و«الخوف».

وقد وجدت بعض أعمال زفايج طريقها إلى السينما العالمية، مثل: «٢٤ ساعة من حياة امرأة»، و«حذار من الشفقة»، و«جنون الحب» التي اقتبستها السينما المصرية في فيلم أخرجه نادر جلال عام ١٩٧٧م، أما «رسالة من امرأةٍ مجهولة» فقد اقتبسها صلاح أبو سيف عام ١٩٦٢م في فيلم من بطولة فريد الأطرش ولبنى عبد العزيز.

وتدور رواية زفايج من خلال شخصين فقط: المؤلف المشهور وامرأة تكتب رسالةً طويلة إلى هذا الرجل الذي أحبته دون أن يدري عنها شيئًا، رغم أنه ضاجعها ذات ليلة على أنها ابنة هوى. إنها بالنسبة له مجرد جسد بلا روح مثل كل النساء اللائي تعرَّف عليهن. والرواية بأكملها عبارة عن رسالةٍ ترسلها المرأة إلى حبيبها الذي لا يتذكرها. لقد عاد إلى منزله ليلة عيد ميلاده ليجد مظروفًا كبيرًا من امرأةٍ اعتادت أن ترسل له باقة زهور في عيد ميلاده، ويقرأ الرسالة الطويلة التي تتحدث فيها المرأة عن حبها من طرفٍ واحد، وكم أحبته وقرأت له، وكم جالسها دون أن يعرف، حتى في ليلة حبهما الوحيدة التي أثمرت طفلًا تخبره في نهاية الرسالة أنه قد مات، وأنها سوف تلحق بابنها بعد أن تنتهي من كتابة الرسالة، وبالفعل يشعر الكاتب أن ريحًا باردة تهب من النافذة عندما ينتهي من قراءة رسالة المرأة المجهولة.

figure

ومن قبيل المغامرة أن يقوم مخرج في سينما تجارية بإنتاج مثل هذا الفيلم، فالأحداث قليلة والشخصيات محدودة؛ ولذا فإن صلاح أبو سيف فكر أن يستعيض عن هذا القصور في رواية زفايج كي تصلح للسينما، فيسند بطولته إلى فريد الأطرش. والحق أن لبنى عبد العزيز أو المرأة المجهولة هي التي حملت لواء الفيلم، فهي التي سطرت رسالتها الطويلة إلى حبيبها المطرب المشهور ليلة عيد ميلاده، لتخبره أن ابنه قد صدمته سيارة نقل.

وبصرف النظر عن التفاصيل الدقيقة المختلفة بين الرواية الألمانية والفيلم العربي، فإن الخطوط العامة للحدوتة متشابهة.

والغريب أن صلاح أبو سيف يرى في هذا الفيلم تجربةً ينقصها النضوج، رغم أن خامته حدوتة رائعة صاغها زفايج وكانت خيوطها جيدة بين أنامله، وكان يمكنه أن يصنع من نسيجها عملًا متكاملًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤