السياسة

لا يصلح الذهب والحديد
إلا لشراء الذهب والحديد.
وإنما يُباع بما يساويه
كل ما فوق الأرض من صوف الغنم أو من طعام.
إن مرلن المتنبئ الحكيم
برهن على أن نابليون عظيم.
كل سلعة وكل عملة
لا تشتري أكثر من قيمتها شيئًا.
الخوف، والدهاء، والجشع
لا تقوم عليها دولة من الدول.
وهل تُبنى من التراب
ما يفوق التراب؟!
لا بد لفيبس أن يقيم
أسوار أمفيون المتراكمة.
عندما تلتقي إلهات الفن التسع
بآلهة الفضائل.
ثم يجدون جميعًا مقعدًا أطلنطيًّا
على ما يهوون من طراز
يتقي الحرارة
بأغصان البساتين الزاهرة
حيث يحرث رجل الدولة
الأخاديد للقمح،
حينما تكون للكنيسة قيمة في المجتمع،
وحيثما يكون مقر الحكم عند موقد النار،
حينئذٍ تسود الدولة الكاملة،
ويشعر الجمهوري بالأمان.

عندما نعالج موضوع الدولة، يجب أن نذكر أن نظمها ليست أزلية، بالرغم من أنها قد وُجدت قبلما نُولد. يجب أن نذكر أن كل نظام من هذه النظم كان ذات يوم عمل رجل بمفرده، وأن كل قانون وكل عادة كان حيلة رجل يقابل بها موقفًا بعينه. يجب أن نذكر أنها جميعًا يمكن أن تُحاكى، ويمكن أن تتغير. نستطيع أن نسن مثلها، بل وأحسن منها. المجتمع وهم الشاب. إنه يمتد أمامه صورة جامدة لا تتحرك، وفيه أسماء ورجال ونظم تمتد جذورها وسط الصورة كأنها شجر البلوط، وينظم الجميع أنفسهم حولها على أحسن ما يستطيعون من نظام. ولكن السياسي العجوز يعرف أن الجماعة مائعة، ليست بها جذور ولا أوساط، وإنما تستطيع أية ذرة أن تصبح فجأة مركز الحركة. وترغم ما دونها على أن يدور حولها، كما يفعل كل رجل ذي إرادة قوية. مثل بزستراتس أو كرمويل، لفترة ما، وكل رجل صادق، مثل أفلاطون أو بولس، إلى الأبد. غير أن السياسة تقوم على أسس ضرورية، ولا يمكن أن تُعامل باستخفاف.

ما أكثر الجمهوريات التي يتوهمها المدنيون، الذين يعتقدون أن القوانين تصنع المدن، وأن التعديلات الجوهرية في السياسة وفي أساليب المعيشة، وأعمال السكان، وأن التجارة والتربية والدين يمكن أن يُصوت لها أو عليها، وأن كل إجراء — حتى إن كان سخيفًا — يمكن فرضه على شعب من الشعوب إذا استطعت أن تحصل على الأصوات التي تكفي أن تجعله قانونًا. ولكن الحكماء يدركون أن التشريع السخيف حبلٌ من الرمال يتلاشى عند لفه، ويدركون أن الدولة يجب أن تتبع — لا أن تقود — شخصية المواطن وتقدمه، وإن أقوى مغتصب يجب التخلص منه فورًا. فلا يبني بناءً أبديًّا سوى أولئك الذين يشيدون على أساس الآراء، كما يدركون أن شكل الحكومة الذي يسود إنما هو تعبير عن لون الثقافة الذي يسود بين السكان الذين يسمحون به. ليس القانون إلا تذكرة. والناس يعتقدون في الخرافة، ويهابون الدستور بعض الشيء، وقوة هذا الدستور تتناسب ومقدار حياته في تكوين الأحياء.

إن الدستور يقوم بيننا ليقول: بالأمس اتفقنا على كيت وكيت، ولكن كيف تحس يا صاح اليوم إزاء هذه المادة من مواده؟ دستورنا عملة ندمغها بصورتنا، وسرعان ما تمَّحي الصورة، فلا تُعرف العملة، وبمرور الزمن تعود إلى دار السكة. ليست الطبيعة ديمقراطية، وليست ملكية مقيدة، ولكنها مستبدة، ولا يخدعها أو يغل ذرة من سلطانها أشد أبنائها سلاطة وقحة. وكلما اشتد الوعي القومي إدراكًا تبين أن القانون همجي يتلعثم. إنه لا ينطق بفصاحة، ويجب أن نجعله فصيحًا. وفي الوقت عينه لا تقف تربية الوعي القومي عند حد. إن أحلام الصادقين السذج تنبئ بما سوف يحدث. إن ما يحلم به الشباب الشاعر الرقيق، وما يتمناه، وما يصوره اليوم، ولكنه يتفادى السخرية من ذكره علنًا، سوف يكون قريبًا مما تصمم عليه الهيئات العامة، ثم يصبح ضيمًا وحقوقًا يطالب بها عن طريق النزاع والقتال، ويمسي بعدئذٍ قانونًا ظافرًا ومؤسسةً تبقى مائة عام، حتى تتخلى بدورها لأمانٍ جديدة وصور جديدة. إن تاريخ الدولة يصور في رسم تخطيطي تقدم الفكر، ويتبع من بعيد الخطوط الدقيقة التي تتألف منها الثقافة والأماني.

إن نظرية السياسة التي استولت على عقول الناس، والتي عبَّروا عنها أحسن ما استطاعوا من تعبير في قوانينهم وفي ثوراتهم، تَعتبِر الأشخاص والأملاك الشيئَين اللذين من أجل وقايتهما تقوم الحكومة. أمَّا الأشخاص فلهم جميعًا حقوق متساوية؛ لأنهم متكافئون في الطبيعة. وهذا الرأي يتطلب — بطبيعة الحال — بكلِّ ما فيه من قوة نوعًا من الديمقراطية. وبينما تكون حقوق الجميع — كأشخاص — متساوية، بسبب إمكانهم بلوغ العقل، فإن حقوقهم في المُلك تختلف كل الاختلاف؛ فهذا رجل لا يملك إلا ثيابه، وذاك آخر يملك قُطرًا بأسره. وهذه المصادفة تتوقف أوَّلًا على مهارة كل فريق ومزاياه، مهارته التي تنقسم درجاتٍ لا حصر لها، وتتوقَّف ثانيًا على الميراث. ولذا نراها تقع وقوعًا لا مساواة فيه، ومِنْ ثَمَّ فإن ما تجلب من حقوق لا تتوفر فيه بالطبع المساواة. ولما كانت الحقوق الشخصية هي عينها في كل مكان فإنها تتطلب حكومةً تقوم على أساس نسبة الملك والمالكين. فمثلًا لابان الذي يملك قطعان الغنم والماشية يود أن يرعاها ضابط عند الحدود خشيةَ أن يطردها مديانتز، ويدفع ضريبة لهذا الغرض. أمَّا يعقوب فإنه لا يملك قطعانًا من الغنم أو الماشية، ولذا فهو لا يخشى مديانتز ولا يدفع ضريبة للضابط. وقد تبين أن لابان ويعقوب يجب أن يتساويا في حق انتخاب الضابط الذي يحمي شخصَيهما، في حين أن لابان وحده — دون يعقوب — هو الذي يجب أن ينتخب الضابط الذي يحمي الأغنام والماشية. فإذا أُثير موضوع زيادة الضباط أو مراكز الحراسة، أفلا يجب أن يكون لابان وإسحق وأولئك الذين يتحتم عليهم أن يبيعوا جانبًا من قطعانهم لكي يشتروا حماية بقيتها، أحسن في الحكم، وأحق به، من يعقوب الذي — بحكم كونه شابًّا رحالة — يأكل خبزهم دون خبزه؟

كان المالكون في المجتمع الأوَّل يكوِّنون ثروتهم بأنفسهم، وما دامت تأتي إلى المالكين بالطريق المباشر، فإن أي جماعة منصفة لا يمكن أن يظهر فيها رأي غير أن المالكين يجب أن يضعوا قانون الملكية، والأشخاص قانون الأشخاص.

ولكن الثروة تنتقل بالهبة والميراث إلى أولئك الذين لم يجمعوها. والهبة — في الحالة الأولى — تجعل الثروة حقًّا للمالك الجديد كما كانت بالعمل مِلكًا للمالك الأوَّل. أمَّا في الحالة الثانية — حالة الميراث — فإن القانون يجعل الملكية حقًّا يثبت شرعًا في نظر كل إنسان طبقًا لتقديره للأمن العام.

غير أنه لم يكن من اليسير أن يتجسم المبدأ الذي يسلم به الجميع دون مشقة، وهو المبدأ الذي يقرِّر أن المالكين يجب أن يَسُنوا قانون الملكية، ويسن الأشخاص قانون الأشخاص؛ ذلك لأن الأشخاص والأملاك قد امتزجوا في جميع المعاملات. وأخيرًا يظهر أن الرأي العام استقر على أن العدل يقضي بأن تكون للمالكين حقوقًا انتخابيةً أكثر مما يتمتع به غير المالكين، وفقًا للمبدأ الإسبرطي الذي «يُسَمِّي كل عدل مساواة، ولا يُسَمِّي كل مساواة عدلًا.»

ولا يبدو هذا المبدأ اليوم واضحًا كما بدا في سالف الأيام، وذلك من ناحية لأننا بتنا نشك في هذا الاهتمام الزائد بالملك في القوانين، وهذا الاتجاه في تقاليدنا الذي يسمح للغني بأن يعتدي على الفقير، وأن يبقيه على فقره، ومن ناحيةٍ أهم لأن هناك إحساسًا غريزيًّا مهما يكن غامضًا مبهمًا بأن نظام المِلك بأسره — بقواعده الراهنة — ضار، وتأثيره على الأشخاص محط بهم مؤخر لهم، وأن الأشخاص حقًّا هم وحدهم الجديرون باهتمام الدولة، وأن الملك سوف يتبع الأشخاص دائمًا، وأن الغرض الأسمى للحكومة هو تثقيف الناس، وإذا أمكن تعليم الناس فإن النظم السائدة سوف تسهم في إصلاحهم، وإحساسهم الخلقي سوف يكتب لهم قانون الأراضي.

فإذا لم يكن من اليسير أن نحكم بالإنصاف في هذا الموضوع، فإن الخطر يقل إذا وجهنا التفاتنا إلى دفاعنا الطبيعي. إنَّا بذلك نكون أحسن حراسةً لأنفسنا من رعاية أمثال هؤلاء الحكام الذين نختارهم عادة.

إن الجانب الأكبر من المجتمع يتألف دائمًا من أشخاص صغار غافلين. أمَّا الشيوخ الذين شاهدوا نفاق المحاكم ورجال الحكم فإنهم يموتون دون أن يتركوا حكمةً لأبنائهم؛ فهؤلاء يصدقون صحيفتهم الخاصة كما كان آباؤهم يفعلون وهم في مثل سنهم. وبمثل هذه الأغلبية الجاهلة المخدوعة سرعان ما تنهار الدول. بَيْدَ أن هناك حدودًا لا تستطيع حماقة الحكام وأطماعهم أن تتخطاها؛ فللأشياء قوانينها، كما للرجال، وتأبى الأشياء التلاعب بها. والملكية سوف تُحمى. والقمح لا ينمو إلا إذا زُرع ووُضع له السماد، ولكن الفلاح لن يزرعه أو يفلحه، إلا إذا كان الترجيح بنسبة المائة إلى الواحد بأنه سوف يجمعه ويحصده؛ فالأشخاص والمِلك — تحت أية هيئة من الهيئات — لا بد أن يظفروا بالحكم العادل، وسوف يظفرون به. إنهم يمارسون قواهم باطراد كما تمارس المادة جاذبيتها، فإنك إن أخفيت رطلًا من التراب بطريقة ماكرة لم يسبقك إليها أحد، وإن شتته أجزاءً وجزيئات، وإن أذبته سائلًا، وإن حولته إلى غاز، فإنه سوف يزن الرطل دائمًا، وسوف يجذب ويقاوم غيره من المواد دائمًا بمقدار ثقل الرطل كاملًا. وصفات الشخص، وذكاؤه وقواه المعنوية، لا بد أن تمارس قوَّتها كاملة، تحت أي قانون من قوانين الاستبداد المطلق، إن لم يكن صراحةً ففي الخفاء، وإن لم يكن مع القانون فضده، وإن لم يكن بطريقة سليمة فبأخرى مسمومة، بالحق أو بالقوة.

ومن المستحيل أن نبين حدود التأثير الشخصي؛ لأن الأشخاص أعضاءٌ ذوو قوًى معنوية وخارقة. وقوى الأشخاص لا يمكن أن تكون موضعًا للحساب تحت سلطان فكرة تستولي على عقول الجماهير، كالحرية المدنية، أو العاطفة الدينية. إن أمةً أبناؤها يميلون بالإجماع نحو الحرية، أو الغزو، تستطيع بسهولة أن تحير حساب الإحصاء، وتنجز أعمالًا مسرفة، لا تتناسب البتة وما لديها من وسائل، كما فعل الإغريق، والعرب، والسويسريون، والأمريكان، والفرنسيون.

وكذلك لكل ذرة من ذرات الملكية جاذبيتها الخاصة. ويمثل السنت كميَّة معينة من القمح أو غيره من السلع، وقيمته في ضرورات الجانب الحيواني من الإنسان. إنه يساوي قدْرًا معينًا من الدفء، ومن الخبز، والماء، والأرض. وقد يفعل القانون ما يشاء بصاحب الملك، ولكن قواه العادلة سوف تظل ملتصقة بالسنت. ويستطيع القانون في صيحة جنونية أن يقول إن لكل شيء قوة ما خلا أصحاب الملك، لن تكون لهم أصوات. غير أن الملكية بقانون أسمى — بالرغم من ذلك — سوف تدوِّن، عامًا بعد عام، دستورًا شاملًا يحترم الملكية، وسوف يصبح غير المالك مسجلًا للمالك. وما يريد الملاك أن يفعلوه سوف تفعله قوى الملكية بأسرها، سواء عن طريق القانون، أو عن طريق مخالفة القانون. وإني طبعًا أتحدث عن كل الملكيات، ولا أتحدث فقط عن الضياع الكبرى. وإذا ما غُلب الأثرياء في الانتخاب، كما يحدث غالبًا؛ فإنما يكون ذلك لأن ملكية الفقراء المشتركة تفوق ما جمع الأثرياء، فإن كل فرد يملك شيئًا ما، حتى إن كان بقرة، أو عربة، أو أسلحته، ولذا فإن لديه هذا الملك يتصرف فيه.

والضرورة عينها التي تضمن حقوق الأشخاص والملكيات ضد خبث الحاكم وحماقته، تحدِّد صورة الحكم ووسائله، التي تلائم كل أمة، وطرق تفكيرها، ولا يمكن نقلها إلى ألوان أخرى من المجتمع. ونحن في هذا البلد فخورون جِدًّا بنظمنا السياسية، التي تتفرَّد بأنها نشأت — في حدودِ ما يذكر الأحياء من الرجال — عن صفات الشعب وظروفه، التي ما زالوا يعبِّرون عنها بإخلاص كافٍ. ونحن نُظهِر إيثارنا لها على غيرها مما رواه التاريخ. إنها ليست أحسن، ولكنها أشد ملاءمة لنا فحسب. وقد يكون من الحكمة أن نفرض في العصور الحديثة مزايا الشكل الديمقراطي. ولكن في ألوانٍ أخرى من المجتمع، التي يقدِّس فيها الدين الشكل المَلَكي، كان هذا الشكل دون غيره هو اللائق بها. الديمقراطية خيرٌ لنا لأن العاطفة الدينية في العصر الحديث أكثر اتفاقًا معها. ولما كُنَّا ديمقراطيين مولدًا، فلسنا أهلًا للحكم على الملكية، التي كانت صحيحة نسبيًّا عند آبائنا الذين عاشوا في الفكرة الملكية. غير أن نظمنا — رغم تطابقها مع روح العصر — لا تخلو البتة من العيوب العملية التي وُصمت بها الأشكال الأخرى؛ فكل دولة تفسد عند تطبيقها. والرجال الصالحون لا ينبغي لهم ألا يخضعوا للقانون خضوعًا تامًّا. وأية سخرية من الحكومة يمكن أن تساوي قسوة النقد الذي تتضمنه كلمة «السياسة» التي كانت تدل لعدة عصور خلت على «المكر»، مشيرةً إلى أن الدولة إن هي إلا خدعة وحيلة؟

وهذه الضرورة البريئة عينها وهذه الإساءة في التطبيق ذاتها تظهر في الأحزاب التي تنقسم إليها كل دولة، من معارضين ومؤيدين لإدارة الحكومة. والأحزاب تقوم كذلك على الغرائز، ولها مرشدون خير من حكمة زعمائها يقودونها إلى أغراضها الخاصة المتواضعة. وليس في نشأتها أي اعوجاج، ولكنها تحدد في شيء من الجمود نوعًا من العلاقة الواقعية الدائمة. ولا نعدو الحكمة إذا نحن أنحينا باللائمة على حزب سياسي لا يستطيع أعضاؤه، في الأغلب، أن يبرروا موقفهم، ولكنهم يقفون موقف الدفاع من تلك المصالح التي يجدون أنفسهم في غمارها، إلا بمقدار ما نعدوها إذا أنحينا باللائمة على الرياح الشرقية أو الصقيع، إنما يبدأ نضالنا معهم حينما يهجرون هذا الأساس الثابت الطبيعي بإشارة من زعيم، وعندما يخضعون للاعتبارات الشخصية فيتشبثون بالمحافظة على أمورٍ معينة والدفاع عنها، أمور لا تتعلَّق البتة بمبادئهم. إنما تُفسِد الأمورُ الشخصيةُ الحزبَ دائمًا.

وقد نبرِّئ الجماعة من الخيانة، بَيْدَ أنَّا لا نستطيع أن نشمل الزعماء بهذا التسامح عينه؛ فهم يحصدون مزايا الانصياع والحماسة عند الجماهير التي يوجهونها. وأحزابنا في العادة أحزاب ظروف لا أحزاب مبادئ، كالصراع القائم بين مصلحة المزارعين ومصلحة التجار، وبين أصحاب رءوس الأموال والعمال، وهي أحزاب متفقة في صفتها المعنوية، ويمكنها بسهولة أن تتبادل الأوضاع في تأييد الكثير من أعمالها. أمَّا أحزاب المبادئ، مثل الطوائف الدينية، أو حزب حرية التجارة، أو الانتخاب العام، أو إلغاء الرق، أو إلغاء حكم الإعدام، فهي تنحدر إلى خلافات شخصية، أو توحي بالحماسة.

إن عيب أحزابِنا الرئيسية في هذا البلد (الذي يمكن أن تُذكر مثالًا حسنًا لهذه الجمَاعاتِ الفكْرية) هو أنها لا تستند إلى الأساس المتين الضروري الذي ينتمي كلٌّ منها إليه، ولكنها تتحمس أشد الحماسة لاتخاذ إجراء محلي وقتي، لا يفيد المصلحة العامة في شيء. أمَّا عن الحِزبَين الكبيرَين اللذَين يكادان في هذه الساعة أن يقتسما الأمة بينهما، فإني أقول إن أحدهما يضم أحسن المبادئ، ويضم الآخر خير الرجال. يود الفيلسوف والشاعر ورجل الدين بطبيعة الحال أن يُدلي بصوته للديمقراطي، ولحرية التجارة، والانتخاب العام، وإلغاء القساوة الشرعية في قانون العقوبات، والتيسير بكل الوسائل للشباب والفقراء بالظفر بمصادر وسائل الثروة والنفوذ، ولكنه قلما يقبل الأشخاص الذين يقترحهم له ما يسمونه بالحزب الشعبي ممثلين لهذه الحريات؛ فهم لا يؤمنون بقلوبهم بالأهداف التي تعطي كلمة الديمقراطية ما تنطوي عليه من معاني الأمل والفضيلة. إن روح الراديكالية الأمريكية هدامة لا ترمي إلى غرض. إنها لا تحب، وليست لها أهداف بعيدة أو مقدَّسة، ولكنها هدامة فقط لما تنطوي عليه من كراهية وأنانية. والحزب المحافظ من ناحية أخرى يتألف من أكثر السكان اعتدالًا وقدرةً وثقافةً، ولكنه جبان، لا يهمه إلا أن يدافع عن الملكية. إنه لا يبرر حقًّا، ولا يتطلع إلى خير حقيقي، ولا يصم جرمًا، ولا يقترح سياسة كريمة، إنه لا يبني، ولا يكتب، ولا يحمي الفنون، أو يحتضن الدين، أو يؤسس المدارس، أو يشجع العلم، أو يحرر العبيد، أو يصادق الفقير، أو الهندي، أو المهاجر. ولا يتوقع العالم من أي الحزبَين — حينما يظفر بالسلطة — نفعًا في علم أو فن أو إنسانية، نفعًا يتفق وموارد الأمة.

ولست من أجل هذه العيوب يائسًا من ديمقراطيتنا. لسنا تحت رحمة أية موجة من موجات المصادفة؛ ففي نضال الأحزاب الكاسرة تجد الطبيعة الإنسانية دائمًا نفسها معززة، كما وُجد أن أطفال المجرمين في خليج بوتاني لهم من الإحساس الخلقي السليم ما لغيرهم من الأطفال.

إن المواطنين في الولايات الإقطاعية يزعجهم أن تهوي مؤسساتنا الديمقراطية إلى الفوضى. وقد تعلَّم الشيوخ والحذرون مِنَّا عن الأوروبيين أن ينظروا بشيء من الفزع إلى حريتنا المضطربة. يُقال إنَّا في تسامحنا في تفسير الدستور، وفي استبداد الرأي العام، لا نرسو على مرفأ. وقد يظن مشاهد أجنبي أنه يجد صمام الأمن في قدسية الزواج عندنا، ويظن غيره أنه واجدها في مذهبنا الكلفني. أمَّا فِشَر آمز، فقد عبَّر عن الضمان الشعبي بطريقة أحكم حينما وازن بين الملكية والجمهورية فقال: «إن الملكية كالسفينة التجارية، تشق الأبحار، ولكنها قد ترتطم أحيانًا على صخرة وتهوي إلى القاع، في حين أن الجمهورية كالعوامة، لا تغطس أبدًا، غير أن قدمَيك تكونان في الماء دائمًا.» لا يمكن أن تكون للأشكال أهمية خطرة، ما دامت قوانين الأشياء تصادقنا، ولا يهمنا البتة كم طنًّا يكون ثقلُ الجو الذي يضغط على رءوسنا، ما دام في داخل رئتَينا ضغط مساوٍ له يقاومه. إنك إن ضخمت الكتلة ألف ضعف فلن تسحقنا ما دام رد الفعل يساوي الفعل.

إن حقيقة القطبَين، والقوتَين، الطاردة والجاذبة، قاعدة عامة، وكل قوة بفعلها الخاص تنمي القوة الأخرى. الحرية الهمجية تقوي الضمير الحديدي. وانعدام الحرية — بتقوية القانون والتقاليد — يميت الضمير، ولا يسود الحكم العرفي إلا إذا زادت شدة الزعماء وقدرتهم على الاحتفاظ بذوَاتهم أكثر مما ينبغي. ولا يمكن أن يدوم حُكْمُ الرعاع؛ فإن مصلحة كل فرد تتطلب زواله، ولا يرضي الجميع سوى العدالة.

يجب أن نثق ثقة لا حد لها في الضرورة النافعة التي تضيء خلال جميع القوانين. إن الطبيعة البشرية تعبِّر عن نفسها فيها تعبيرًا مميزًا كما تعبِّر عن نفسها في التماثيل أو الأغاني أو الخطوط الحديدية، وخلاصة قوانين الأمم ليست سوى تسجيل للضمير العام. إن الحكومات قد نشأت عن تشابه الناس في التفكير؛ فالسبب عند أحدهم سبب عند الآخر، وعند كل مَن عداه. وهناك طريق وسط يرضي جميع الأحزاب، مهما كثر عددها، ومهما اشتد تعصبها. يجد كل فرد تصديقًا لأبسط مطالبه وفعاله في قراراتٍ من عقله يسميها «الحق» و«العدل الإلهي». ويجد جميع المواطنين اتفاقًا تامًّا في هذه القرارات، وفيها وحدها، لا فيما يطيب أكله أو ارتداؤه، وفي حسن استخدام الوقت، وفي مساحة الأرض أو المعونة العامة التي يستحق أن يطالب بها كل فرد. وسرعان ما يحاول الناس تطبيق هذا الحق وهذه العدالة على قياس الأرض، وتقسيم الخدمات، وحماية الحياة والمِلك. وليس من شك في أن محاولاتهم الأولى ملتوية معوجة، ومع ذلك فالحق المطلق هو الحاكم الأوَّل، أو قل إن كل حكومة هي حكومة دينية لا تخلو من الشوائب. إن الفكرة التي تهدف كل جماعة إليها كي تَسُن قانونها وتعدله هي إرادة الرجل الحكيم. ولا تستطيع الجماعة أن تجد الرجل الحكيم في الطبيعة، فهي تبذل جهدًا ملتويًا وإن يكن جادًّا كي تحقق حكمه بالحيلة، وذلك مثلًا بأن تدفع الشعب كله إلى التصْويت على كل إجراء، أو بالانتخاب على مرتَين تجريه كي تحصل على مَن يمثل الجميع، أو بانتخاب خير المواطنين، أو بالحصول على مزايا الكفاية والأمن الداخلي بتخويل الحكم رجلًا واحدًا يستطيع أن يختار بنفسه معاونيه.

إن كل أشكال الحكومات ترمز إلى حكومة أبدية، مشتركة بين كل الجماعات، بغض النظر عن عدد أفرادها، فهي كاملة إذا وُجد من الرجال اثنان، وكاملة إذا لم يوجد غير رجل واحد.

إن طبيعة كل فرد إعلان كافٍ له عن صفة زملائه. الصواب والخطأ عندي، هما الصواب والخطأ عندهم. وما دمتُ أعمل ما يُلائمني وأمتنع عما لا يلائمني، فإني وجاري سوف نتفق غالبًا في وسائلنا، ونعمل معًا مدة من الزمن لهدف واحد. ولكني حينما أجد أن سلطاني على نفسي لا يكفيني، وأتعهد بتوجيه جاري كذلك، أتخطى الحقيقة، وأفسد علاقتي به. وقد يتوفر لي من المهارة أو القدرة ما لا يتوفر له، فلا يستطيع أن يحسن التعبير عن شعوره بالإساءة، ولكن ذلك خداع، يصيبه بالأذى ويصيبني ككل خداع آخر. والحب والطبيعة لا يمكن أن يؤيدا هذه الدعوى، وإنما يجب أن تنفد بالخداع العملي، أقصد بالقوة، وهذا التعهد بعمل الآخرين هو الخطأ الجسيم الذي تقع فيه حكومات العالم فيجعلها مرذولة ممقوتة. والأمر يختلف في الأعداد الكبيرة عنه في الزوج، ولكنه لا يُفهم في الحالة الأولى بالوضوح الذي يُفهم به في الحالة الثانية.

إني أستطيع أن أرى جَيِّدًا فرقًا كبيرًا بين أن أَقْصر نفوذي على نفسي، وبين أن أحاول أن أجعل غيري يعمل وفقًا لآرائي. ولكن إذا زعم ربع الجنس البشري أنه يوجهني إلى ما ينبغي لي عمله، فقد يجبرني هذا الظرف إلى درجةٍ لا أرى معها بجلاء سخف ما يدعونني إليه. ومِنْ ثَمَّ فإن الأهداف العامة كلها تبدو غامضة خيالية إلى جانب الأهداف الشخصية؛ لأن أي قانون، ما خلا ذلك الذي يسنه الناس لأنفسهم، مدعاة للضحك. إذا وضعت نفسي موضع طفلي، ووقفت وإياه إزاء فكرة واحدة، ورأينا أن الأمور هي كذا أو كذا، فإن هذا الذي نرى هو القانون لي وله. فكلانا هناك، وكلانا يعمل. أمَّا إذا كنت أتدبر أمره — دون أن أشركه في الفكر — وأحدس كيف يكون الأمر معه، وأقضي بهذا أو ذاك، فإنه لن يطيعني. هذا هو تاريخ الحكومات، رجل واحد يعمل شيئًا يربط به غيره، رجل لا يمكنه أن يتعرف بي يفرض عليَّ ضريبة، وينظر من بعدُ إليَّ، ويحكم بأن ينصرف جانب من عملي إلى ذلك الغرض الهوائي، الذي يتراءى له دون أن يتراءى لي. الضرائب هي الدَّين الذي أشد ما يكون الناس ميلًا عن دفعه. وما أشد هذه السخرية من الحكومة! إن الناس يعتقدون أنهم يحصلون على ما يساوي ما لهم في كل شأن سوى هذا.

ولذا فكُلما ضعُف سلطان الحكومة كان ذلك خيرًا لنا، وكذلك كلما قلَّت القوانين وقلَّ النفوذ الذي نوليه ثقتنا. والبلسم الذي يقي من شر هذه الحكومة الرسمية هو تأثير شخصية الفرد، ونمو الفرد، وظهور الأصل ليحُل محل الصورة، أو ظهور الرجل الحكيم الذي يجب أن نقر بأن الحكومة القائمة ليست سوى محاكاة ممسوخة له.

إن ذلك الذي تميل الأشياء جميعًا إلى استخلاصه، وذلك الذي تتآزر الحرية، والثقافة، وتبادل العملات، والثورات، على تكوينه وإخراجه، هو الشخصية. ذلك هو هدف الطبيعة: أن تبلغ تتويج ملكها هذا. إنما تقوم الدولة لتربية الرجل الحكيم، وبظهور الرجل الحكيم تنتهي الدولة. إن ظهور الشخصية يجعل الدولة أمرًا لا ضرورةَ له. الرجل الحكيم هو الدولة. إنه ليس بحاجة إلى جيش أو حصن أو أسطول، إنه شديد الحب للناس. لا يجذب الأصدقاء إليه رشوةٌ، أو وليمة، أو قصر، ولا أساس المنفعة أو الظروف المواتية. إنه ليس بحاجة إلى مكتبة لأنه لم يفكر، أو كنيسة لأنه نبي، أو كتاب قانون لأن لديه واضع القانون، أو مال لأنه القيمة، أو الطريق لأنه في بيته حيثما يكون، ولا خبرة لأن حياة الخالق تخترقه وتطل من عينَيه. ليس له أصدقاء شخصيون؛ لأن من يملك السحر الذي يجتذب دعاء الناس جميعًا وتقواهم لا يحتاج إلى زوج وقل من يربيهم، كي يشاطروه حياة شاعرية منتقاة. علاقته بالناس ملائكية، وذكراه دواءٌ لهم، ووجوده عطر وزهر.

إنَّا نحسب أن مدينتنا قد اقتربت من ذروتها، ولكنَّا ما زلنا عند صياح الديك ونجم الصباح. إن تأثير الشخصية في مجتمعنا الهمجي لا يزال في طفولته. ويكاد وجوده لا يُحس كقوة سياسية أو كسيد شرعي يُنزل كل حاكم عن عرشه. وقد فات ذلك مالتس وريكاردو تمامًا، «والسجل السنوي» صامت، ولم يُدَوَّن ذلك في «قاموس المحادثات»، ولم يرِد له ذكر في رسالة الرئيس، أو خطاب الملكة، ولكنه — برغم ذلك — لا يكون عدمًا قط. كل فكرة يُلقي بها النبوغ والتقوى في هذا العالم تغيِّر وجه الأرض. ويحس المقاتلون بالسيوف وهي بين صفوف الجيش وجود القيمة الحقة، برغم ما يرتدون من ثياب القوى التي تنعدم فيها الأصالة. وأعتقد أن النضال نفسه في سبيل التجارة والأطماع ليس سوى اعتراف بهذه الصفة المقدسة، والنجاح في هذه الميادين هو العوض القليل، أو ورقة التين التي تحاول أن تغطي بها عُرْيَها النفسُ المستحية. وإني أجد مثل هذا الاتجاه الملتوي في كل صقع من الأصقاع. إنَّا نسارع إلى إظهار شيء من قدرتنا العقلية عِوَضًا عن القيمة الحقيقية؛ لأنَّا نعرف مقدار ما يجب علينا أداؤه. إن الإحساس بحق عظمة الشخصية هذه يطاردنا، ولكنَّا لا نخلص له. غير أن لكل مِنَّا نوعًا من القدرة العقلية، ويستطيع أن يؤدي شيئًا نافعًا، أو جليلًا، أو مريعًا، أو مسليًا، أو مربحًا. إنَّا نقوم بذلك، اعتذارًا لغيرنا ولأنفسنا؛ لأنَّا لم نبلغ حد الحياة الطيبة المتساوية. بَيْدَ أن ذلك لا يرضينا، وإن كُنَّا نلقي به تحت ملاحظة الرفاق. وقد يعمي بصائرهم، ولكنه لا يبسط أسارير وجوهنا، أو يعطينا اطمئنان الأقوياء حينما نسير في الخارج.

إننا نقدم الكفارة حيثما حللنا. وقدرتنا العقلية نوع من الاستغفار. ونحن مكرهون على التأمل في أية لحظة من اللحظات يتم فيها عمل عظيم، ونحن لها خاشعون، كأنها أمر جلل، وليست فصلًا من عدة فصول، وتعبيرًا صادقًا عن طاقتنا الدائمة. إن أكثر الأشخاص القادرين يلتقون في المجتمع بشيء من التجاذب الخفي. وكأن كلًّا منهم يقول: «لست هنا بكليتي.» وأعضاء مجلس الشيوخ، ورؤساء الولايات، قد تسنموا الذروة بكثير من الألم، لا لأنهم يعتقدون أن المكانة العليا تريحهم خاصة، وإنما فعلوا ذلك اعتذارًا عن القيمة الحقيقية، ولكي يبرروا رجولتهم في أعيننا. هذا المقعد البارز هو تعويضهم لأنفسهم عن طبيعتهم الضعيفة الباردة الجامدة. يجب أن يفعلوا ما يستطيعون. وما أشبههم في ذلك بنوع من حيوان الغاب ليس له سوى ذَنَب قابض، ولا بد له أن يتسلق أو أن يزحف. وهل إذا وَجَد المرء نفسه غنيًّا في طبيعته إلى درجةٍ تمكنِّه من الدخول في علاقات دقيقة مع خير الأشخاص، فيجعل الحياة صافية حوله بما في مسلكه من كرامة وعذوبة، هل يستطيع مثل هذا الرجل أن يرضى بالمزايا الكاذبة للصحابة واجتماعات الانتخابات النيابية، ويشتهي العلاقات الجوفاء التي تنم عن الأبهة والعظمة، علاقات رجال السياسة؟ ليس من شك في أن من يستطيع أن يكون مخلصًا لا يرضى أن يكون دجَّالًا.

إن اتجاهات العصر الحاضر تؤيد فكرة الحكم الذاتي، وتترك الفرد — في كل الشرائع — إلى ما يوقعه عليه دستوره الخاص من جزاء وعقوبة، وهذا الدستور يعمل بنشاط لا نتصوره، في حين أنَّا نعتمد على القيود المصطنعة. وقد ظهرت في التاريخ الحديث الحركة التي تسير في هذا الاتجاه ظهورًا واضحًا. وما أكثر ما فيها من طيش وانحطاط. غير أن طبيعة الثورة لا تتأثر برذائل الثائرين؛ لأن الثورة قوة معنوية بحتة. لم يتميز بها قط أي حزب في التاريخ، ولا يمكن أن يتميز بها؛ لأنها تفصل الفرد من كل حزب، وتوحِّده — في الوقت نفسه — بالجنس كله. إنها تبشِّر بالاعتراف بحقوقٍ أسمى من حقوق الحرية الشخصية، أو ضمان الملكية. لكل امرئٍ الحق في أن يعمل، وأن يكون محل ثقة، وأن يُحَبَّ وأن يُحترم.

إن قوة الحب لم تُجرَّب قط كأساس للدولة. يجب ألا نتصور أن كل شيء يسير نحو الفوضى، إذا كان كل بروتستانتي رقيق الحس لا يُرغَم على القيام بنصيبه في الأوضاع الاجتماعية المعروفة، ولا ينبغي كذلك أن نشك في أنه ليس من الممكن أن تُعبَّد الطرق، وأن تُرسَل الخطابات، وأن تُكفَل للعمل ثمرته، إذا انتهى حكم القوة. وهل بلغت وسائلنا الآن حدًّا من الامتياز يجعل كل منافسة عديمة الجدوى؟ بل هل لا تستطيع أمة من الأصدقاء أن تخترع وسائل أحسن من هذه؟ ومن ناحية أخرى، لا يخشى أشد الناس تحفُّظًا وجبنًا شيئًا من إلقاء السلاح ونظام القوة قبل الأوان؛ فإنه طبقًا لنظام الطبيعة، الذي يسمو كثيرًا على إرادتنا تسير الأمور في هذا الاتجاه. وتقوم حكومة القوة دائمًا إذا اتصف الناس بحب الذات. وعندما يَصْفُون إلى درجةٍ تجعلهم ينكرون ناموس القوة، يبلغون من الحكمة ما يجعلهم يدركون كيف يمكن أن تُؤدى هذه الأغراض العامة، أغراض البريد، والطرق العامة، والتجارة، وتبادل المِلك، والمتاحف، والمكتبات، ومؤسسات الفن والعلم.

إننا نعيش في حالةٍ وضيعة جِدًّا من الدنيا، ونَدين بالولاء — بالرغم مِنَّا — لحكوماتٍ تقوم على أساس القوة. وليس عند أشد الناس تديُّنًا وعلمًا في أكثر الأمم دينًا ومدنية، اعتماد على الإحساس الخلقي، واعتقاد كافٍ في وحدة الأشياء، مما يدفعهم إلى الاعتقاد بأن المجتمع يمكن أن يسير بغير قيود مصطنعة، كما يسير النظام الشمسي، أو أن المواطن الفرد يمكن أن يكون عاقلًا، وجارًا طيِّبًا، دون التلويح بالسجن، أو مصادرة الأملاك. ومن عجبٍ كذلك أنه لم يكن بنفس أي إنسان إيمانٌ كافٍ بالقدرة على الإصلاح، مما يوحي إليه خطة عامة لتجديد الدولة على مبادئ الحق والمحبة. كل من زعموا هذه الخطة كانوا مصلحين جزئيين، اعترفوا بسلطان الدولة على صورة من الصور. ولست أذكر إنسانًا واحدًا أنكر بإيمان سلطة القوانين، على هذا الأساس البسيط، أساس طبيعته الخلقية الخاصة. أمثال هذه الخطط، قد تنم عن منتهى النبوغ وغاية التقدير، ولكنَّا لا نرحب بها كصور مثالية إلا نفاقًا. وإذا اجترأ الفرد الذي يعرضها على احتسابها خططًا عملية فإنه ينفِّر منه العلماء ورجال الكنيسة، ولا يستطيع الرجال ذوو المواهب، أو النساء ذوات العواطف السامية، أن يخفوا ازدراءهم لها، ولا يقل عن ذلك ما تدأب الطبيعة عليه من ملء قلوب الشباب بالإيماء بالحماسة؛ فهناك الآن جماعة من الرجال — إن جاز لي أن أتكلم بصيغة الجمع — أو إن نشدتُ الدقة قلتُ إني كنت أتحدث منذ حين إلى رجل واحد، لا يحمل من عبء الهوى والتحيز ما يُظهر له في لحظة واحدة استحالة أن يتبادل ألوف البشر أسمى العواطف وأبسطها، كما تتبادلها ثلة من الأصدقاء، أو زوج من العاشقين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤