الفصل الثالث عشر

العمل في ظل الإعلام الجديد

بين هامرزلي

تمهيد
جون أوين

إنَّ تبنِّي قيادات المؤسسات والوكالات الإخبارية بحماسة متأججة لصحافة المواطن، والمحتوى الذي يُنتجه المستخدمون، وتبادل المعلومات بين الأقران قد يعني شيئًا. لكنه يعني شيئًا آخر بالنسبة إلى الصحفيين الذين يعانون بالفعل من الضغوط الناتجة عن ضرورة التزامهم بالمواعيد النهائية المتواصلة لإعداد الفترات الإخبارية وتغذية المواقع الإلكترونية بالأخبار على مدار الساعة لينتقلوا بعد ذلك إلى كتابة المُدونات ودمج المحتوى الذي ينتجه المستخدمون في تغطياتهم الإخبارية.

لكن المؤسسات الإخبارية قد لا تملك خيارًا سوى التحرك سريعًا لاستغلال تلك الاتجاهات ذات الرواج الهائل، وإلا فإنها تُخاطر بفقدان اهتمام قرائها ومستمعيها ومشاهديها بها.

لم تسارع المؤسسات الإخبارية فيما مضى إلى تغيير ممارساتها الإخبارية. فلم يستعن سوى القليل من شبكات البث الإخباري بصحفيي الفيديو «متعددي المهام»؛ أي الذين يتولَّون تسجيل مقاطعهم بالإضافة إلى تغطية القصص الإخبارية وكتابتها. إلا أن التطور المُطرد في تصغير حجم معدَّات التصوير جعل هذه الممارسة ممكنة لعقود، وبادر قليل من الشبكات، كشبكتي القديمة سي بي سي، بإيفاد مثل هؤلاء الصحفيين لإعداد التحقيقات الرئيسية والفرعية. غير أن الشبكات الأكثر ثراءً، لكثير من الأسباب، لم يكن لديها حتمية مالية تجبرها على تقليص حجم طواقمها المعنية بجمع الأخبار، ومعارضة النقابات العمالية، كما أنها لم تكن راغبة في مواجهة ثقافة المقاومة ضد التغيير الموجودة في أغلب غرف الأخبار، والالتزام بتدريب صحفيي الفيديو المحتملين، ولذلك لم تحظَ صحافة الفيديو والطواقم الأصغر لجمع الأخبار بدعم واسع النطاق، لا سيما في الشبكات الأمريكية.

لكن القسم الإخباري بشبكة إيه بي سي في الولايات المتحدة الأمريكية أعلن مؤخرًا عن عزمه افتتاح سبعة مكاتب مصغرة، وهو ما يُمثل تحولًا كبيرًا عن قراره بالانسحاب من جمع الأخبار على نطاق دولي. صرَّح رئيس هذا القسم، ديفيد ويستن، لمجلة «هوليوود ريبورتر» قائلًا:

«تُمكِّننا التكنولوجيا الآن من افتتاح مكاتب لنا دون الحاجة إلى موظف استقبال، وثلاث قاعات للتحرير، وكاميرات استوديو، إلخ … إن الصحافة هي جوهر عملنا، لا الإنتاج. إن الإنتاج هو الكيفية التي تنقل بها الأخبار على الهواء مباشرةً إلى الجمهور، أما الصحافة فهي الأساس.»

سوف يعمل المراسلون السبعة من منازلهم وسوف يجولون في مناطقهم حاملين كاميرات فيديو رقمية صغيرة وأجهزة كمبيوتر محمولة مزودة بخاصية التحرير. وسيتولون تغطية القصص الإخبارية، وكتابتها وتصويرها وتحريرها، لكنهم سيحظون أيضًا بدعم آخرين من القسم الإخباري بشبكة إيه بي سي. وسوف يستخدم هؤلاء خدمات النطاق العريض لتحميل أغلب عملهم وإرسالها إلى نيويورك، إلا أنهم سيحملون معهم كذلك أطباق الأقمار الصناعية المحمولة لاستخدامها ميدانيًّا حيث لا يتوفر النطاق العريض. (جوف ٢٠٠٧)

في هذا الفصل، يُحدِّثنا بين هامرزلي، أحد مراسلي الإعلام الجديد البارزين في بريطانيا، الذي عمل في بداياته في مجال الصحافة المطبوعة واتجه مؤخرًا إلى تغطية الأخبار لحساب الخدمة العالمية التابعة لبي بي سي عبر جميع المنصات الإعلامية؛ عن خواطره حول الدروس التي تعلَّمها وهو يحاول إنجاز كل هذه المهام المتنوعة.

مرجع

Gough, P. (2007) One-man show at ABC o’seas bureaus. Hollywood Reporter, 3 October, http://www.hollywoodreporter.com/hr/content_display/news/ e3i47e6403b3602038866ba096cb9fcdc29.

تصفَّح الإنترنت، أو طالِع أيَّ مدونة، أو ألقِ نظرة على أيٍّ من المجلدات التي تتخذ من الصحافة موضوعًا لها، أو احضر أيَّ محاضرة تتناول حال مجالنا، وغالبًا ما ستُصادف نفس الطائفة القليلة من الموضوعات: صحافة المواطن، والمجتمعات الإلكترونية، والاندماج الإعلامي، وإذا كنت حقًّا سيِّئ الحظ، فستُصادف الجيل الثاني من الويب. ليس لديَّ شك في أنك بوصولك لهذا الفصل ستكون مررت بالفعل خلال قراءتك لهذا الكتاب، أيًّا كان الترتيب الذي قرأت به الفصول، بإشارات إلى التدوين، والتدوين الصوتي، وربما فيسبوك. ولو أن هناك شيئًا واحدًا من شأنه أن يفزع الصحفيين المنخرطين في العمل الصحفي خلال وقت كتابتي لهذا الفصل (نهاية ٢٠٠٧)، فهو تأثير الإنترنت على وظائفنا. ماذا يجري؟

figure
شكل ١٣-١: بين هامرزلي أثناء وجوده في تركيا لتغطية الانتخابات التركية لصالح شبكة بي بي سي، كجزء من تجربته المعنية بوسائل التواصل الاجتماعي في يونيو ٢٠٠٧ (نُشِرت الصورة بإذن من بين هامرزلي).

لا أدري، ولا أحد يدري. لكنني حاولت لسنوات كثيرة أن أستوعب ما يجري وأن أتأقلم معه. سأحاول في هذا الفصل أن أنقل إليكم بعض الأمور المتعلقة بالصحافة الرقمية، والتي تعلمتها أو توصلت إليها. سوف أفعل ذلك من وجهة نظر شخص عمل في مجال الإنترنت لفترة طويلة بحيث نسي متى كان أول عهده به: فرغم أنني كنت مولعًا بالأفكار ومؤيدًا صاخبًا لتجربة أنماط صحفية جديدة، فإنني أعتقد الآن أن بعضًا من أفكاري يتسم بالتشاؤم والتشكك الشديدين، وقد يدفع البعض إلى القول بأنني لا أستوعب الأمر جيدًا. أبلغ من العمر ٣١ عامًا، وهو ما يعني، من منظور عصر الإنترنت، أنني أُعاني بالفعل من خرف الشيخوخة. ربما يكون ذلك صحيحًا، لكن المعرفة ظلت دائمًا أعظم ما يُقدمه الإنترنت، لا سيما المعرفة الواردة من غير الممارسين، وتلك هي نقطتي الأولى. والصحافة ليست استثناءً من تلك الحقيقة، ورغم أن الكثير من الأمور التي من المفترض بنا الآن أن نقوم بها تبدو جيدة جدًّا، فإن الأمر ليس بهذه السهولة عند التطبيق. إن هذه الخبرة العملية هي ما سأحاول استعراضه بإيجاز.

أولًا: صحافة المواطن: سأتجاهلها. لا شك أن لصحافة المواطن مكانتها، لكن يُفترض وأنت تقرأ هذا الكتاب أنك تريد أن تكون مراسلًا كل يوم، لا فقط حين يتصادف وجودك مع هاتفك المزود بكاميرا في موقع حدث هام. (أو حين تمر مصادفةً برأي تجب مشاركته مع بقية العالم، كما هو الحال أغلب الأحيان.)

كما أن صحافة المواطن لا تشكل تهديدًا لوظيفتك، إلا إذا كان ما تُنتجه يقف على قدم المساواة مع ما ينتجه المشاهدون المجهولون لحدث ما. صحيح أن جميع شبكات البث الكبرى حقَّقت نجاحات باستخدام مقاطع الفيديو التي سجلها الهواة من مواقع الأحداث الكبرى، وأن الأمثلة الكبرى لصحافة المواطن يمكن أن تكون متميزة، لكن حين يكون الشكل الوحيد من صحافة المواطن الذي تشهد استخدامه في وسائل الإعلام التقليدية متميزًا، فإن ذلك يجلي الأمر لك. لم يوجد قَطُّ صحفي مواطن يغطي خبرًا مُملًّا أو يُطلَب منه مجهود صحفي أكثر من مجرد الوجود في موقع الحدث وتوجيه عدسة الكاميرا في الاتجاه العام. ولو أن الصحفيين المواطنين يمثلون أيَّ منافسة تُذكر لنا، فلن تعدو أن تكون دافعًا لنا لتقصٍّ أعمق وتصوير أفضل وتغطية أدق لأسباب الوقائع وكيفياتها، وليس ماهيتها فقط. وأخيرًا، إن قبولنا نفسه ﻟ «صحافة المواطن» كمصطلح يبدو لي مُهينًا للغاية لمهنتنا: لا أتخيَّل أن يشير المحامون إلى غيرهم ممن شاهدوا ذات مرة حلقة من مسلسل «كوينسي» باعتبارهم محامين مواطنين، كما أن ليس لدينا جراحون مواطنون ولا سباكون مواطنون. فهل يمكننا فضلًا أن نسترد بعضًا من الفخر بمهاراتنا التي كدحنا في اكتسابها؟

ورغم ذلك، فنحن نعيش في عالم يحث على المشاركة. لقد وجِد المحتوى الذي ينتجه المستخدمون ليبقى. إن مثل هذا المحتوى، خارج نطاق العمل الصحفي، يعيد تشكيل الثقافة حتى النخاع: أن يستطيع أي شخص نشر عصارة فكره على الإنترنت دون أيِّ تكلفة تقريبًا لتكون متاحة وقابلة للبحث أمام العالم أجمع، إنما هو، كما أعتقد، تحوُّل ثقافي أوسع نطاقًا وأبعد أثرًا من حركة النهضة الأوروبية.

لكن الأمر ليس على هذا النحو تمامًا عندما نتحدث عن هذا المحتوى في عالم الأخبار؛ فحين يبرز هذا المحتوى مستقلًّا، كما هو الحال في يوتيوب أو فليكر، فإنه لا يعدو كونه شكلًا آخر من أشكال صحافة المواطن: لو شكَّل هذا المحتوى تهديدًا لك، فإما أن تكون قد وجدت زميلًا جديدًا يجدر بك أن تستعينَ بخدماته — كلِّفه بمهمة وافرغ من الأمر — أو ينبغي عليك تجاهل الأمر وحسب.

أما حين يمس هذا المحتوى الصحافة التقليدية، فإن الأمر يختلف: كتابة تعليقات أسفل الأخبار. لقد بدأ المُدوِّنون هذه الظاهرة وبإمكانهم، في شهادتي التي صارت مجروحة الآن، مواصلتها. لكن دعونا نستعرض ماهية تلك الظاهرة في المقام الأول.

يُقدِّم المعسكر المؤيد للتعليق أسبابًا عدة لأهمية وضع تعليقات أسفل الأخبار. إن مثل تلك التعليقات تسمح بمشاركة القُراء، كما أن هناك قارئًا ما، حسب قانون المتوسطات، سيكون على دراية أفضل منك بموضوع الخبر؛ لذلك فالسماح لهذا الشخص بالتعليق أسفل الخبر سوف يمنح القراء الآخرين بعض القيمة المضافة. كما أنها تتيح فرصة لبناء مجتمعات حول الأخبار، وهي خطوة يُرجى منها تعزيز الولاء للاسم التجاري للمؤسسة الإخبارية وزيادة عدد من يرتادون موقعها. بالإضافة إلى ذلك، هي تُبقي الكتَّاب على أهبة استعدادهم، وذلك من خلال تقوية النقاش، وتمحو أي ظهور بغيض لروح النخبوية.

أما المعسكر المناهض للتعليق، فيرون الأمر على نحوٍ مختلف. أولًا: يقول أعضاء هذا المعسكر إن نوعية النقاش ليست بالمستوى الذي قد تأمله. (تجب الإشارة هنا إلى قانون جودوين (١٩٩٠) الذي ينصُّ على أن «كلما طالت المناقشة الإلكترونية، فإن احتمالية خلق مقارنة تتضمن النازيين أو هتلر تقترب من واحد»، ومما يدعو للأسى أن هذا قد ثبتت صحته في جميع الحالات بلا استثناءٍ تقريبًا.) ثانيًا: لا تُجدي المناقشة نفعًا بالفعل إلَّا في قليل من النماذج الصحفية؛ فمقالات الرأي والافتتاحيات تُكتَب لتكون محل جدل ونقاش — من الأمثلة الجيدة على هذا موقع Comment is Free (http://commentisfree.guardian.co.uk/index.html) التابع لصحيفة ذا جارديان، أما مناقشة التغطيات القائمة على الحقائق فليس هناك ما يُبررها، اللهم إلَّا إذا كان من يتصدى لهذه المناقشة يحظى بمكانة تسمح له بالفعل بالجدل بشأن الحقائق.
يبدو ذلك بديهيًّا، غير أن التعليق على تغطيتك القائمة على الحقائق يعني عمليًّا خوض جدل بشأن تحيُّزك المتصوَّر، لا الحقائق الواردة في التغطية. إن استعراضًا سريعًا للتعليقات التالية للتغطيات القادمة من أيِّ منطقة في الشرق الأوسط يظهر هذا على نحو عملي. إن التفنيد المُفرط لكل صغيرة وكبيرة في التغطيات القائمة على حقائق بحثًا عن دلائل للتحيز له تسمية في عالم الإنترنت، ألا وهي «فيسكنج»، وذلك نسبةً إلى تقارير روبرت فيسك من منطقة الشرق الأوسط.١

أرى شخصيًّا الآن أن السماح بالتعليق على تغطياتك الإخبارية لا معنى له في أفضل الأحوال، ويُشكِّل خطورة فعلية على القُراء الآخرين ومصدر تنفير لهم في أسوئها. غير أن هذا بالنسبة لي في الغالب رأي تقديري مبني على قراءة عدد كبير جدًّا من التعليقات التي تبدو غريبة الأطوار ومتشككة. أما بالنسبة إلى آخرين، فإن التعليقات الإلكترونية تنطوي على مخاطر قانونية إلى أبعد الحدود؛ فالسماح للآخرين بنشر تعليقاتهم على موقعك الإلكتروني يُعرضك للتورط في قضايا السب والقذف والتشهير، وما يمكن أن يستتبعها من تكاليف فادحة.

سوف تحتاج إلى إمكانية للتخفيف من حدة التعليقات وتحريرها وإزالتها إن لزم الأمر، وهو ما يتطلب وقتًا ومالًا، وليس مؤكدًا أن العدد الإضافي من زوَّار موقعك ممن يكتبون تعليقات ثم يعودون لقراءة السلسلة النقاشية الناتجة يكفي لتغطية التكلفة المترتبة على وجود التعليقات من البداية. ولا يوجد حتى الآن أي بيانات متاحة لتقييم الجدوى المالية لذلك.

إنني أشكُّ أن المحتوى الذي ينتجه المستخدمون في المدونات الصغيرة شديدة التخصص والقائمة على موضوع واحد يُعَد وسيلة مجدية حقًّا لإدارة موقع إلكتروني وجني المال بما يكفي لمعيشة شخص أو شخصين. طبِّق المفهوم نفسه على الصفحات العامة في مواقع الصحف، مثلًا، وستجد أن العوائد تتناقص تناقصًا كبيرًا.

رغم كل هذا النقد اللاذع الذي وجهتُه لثورة المحتوى الذي ينتجه المستخدمون، فإن مثل هذا المحتوى يُعتبر أيضًا أعظم ما حدث للصحافة منذ اختراع المفكرة. ليس المحتوى هو ما ينبغي أن يثير إعجابنا، بل الأدوات التي يستخدمها المستخدمون لإنتاجه؛ فهذه هي الثورة الحقيقية. إن نظم إدارة المحتوى كانت تكلف مئات الآلاف من الجنيهات منذ عشر سنوات، أما اليوم فهي مجانية؛ كانت مساحة أجهزة الكمبيوتر الخادمة وسعة النطاق الترددي خاصتها مُكلِّفتَين للغاية، أما اليوم فهما شبه مجانيَّين؛ كانت استضافة مقاطع الفيديو أقرب إلى المستحيل، أما اليوم فلدينا موقع يوتيوب؛ وهلم جرًّا. يمكنك اليوم شراء كاميرا عالية الدقة من أحد تجار التجزئة المحليين بأقل من ألف دولار، وتستطيع تحرير أي فيديو تلتقطه بها باستخدام كمبيوتر محمول مُعد للمستخدم العادي.

لقد شاعت الكاميرات الرقمية، ومعدَّات نقل الصوت الرقمية، وحتى اتصالات البيانات المتنقلة ذات سعة النطاق الترددي العالي؛ شيوعًا كبيرًا بحيث يبدو غريبًا أن نعتبرها أدوات غير معتادة أو استثنائية، لكنها قادرة على أداء مهام كانت تتطلب منذ عقد أن يأخذ المرء رهنًا عقاريًّا ثانيًا لسداد تكاليفها وشاحنة لنقل المعدَّات. لم تكن الصحافة هي الدافع المحرك لما تحقَّق من ابتكار في الأدوات التي نستخدمها، وإنما كان الدافع هم أولئك الأشخاص العاديون الراغبون في تصوير حفلات أعياد ميلاد أطفالهم أو التقاط الصور ومشاركتها مع أصدقائهم.

إذًا، لو طرحنا جانبًا ما يُنتجه المستخدمون من محتوى، فلا يزال بإمكاننا الاستفادة من الأدوات التي يستعملونها، ومن هنا يمكننا إحداث الفارق الحقيقي. لن أستفيض في ذكر ما هو مُتاح من مختلف أنواع أدوات التدوين أو مواقع استضافة الصور (أحد أسباب ذلك هو أن ما سأكتبه سيُعَد قديمًا بحلول صباح اليوم التالي)، لكن هناك مبدأ عامًّا جديرًا بالملاحظة في هذا الإطار. كانت البرمجيات قديمًا تنقسم إلى صنفين: البرمجيات المؤسسية، وهي ضخمة وباهظة التكلفة وفعالة، والبرمجيات المعدة للمستخدم العادي، وهي صغيرة ومنخفضة التكلفة وضعيفة الجودة. ومنذ انطلاق عصر الويب، ولا سيما حقبة الجيل الثاني من الويب، لم تزل البرمجيات المؤسسية ضخمة وباهظة، لكنها صارت موصومة بضعف الجودة أيضًا. أما البرمجيات المُعدة للمستخدم العادي فقد انخفضت تكلفتها أكثر، وصارت أقوى، وتحسَّنت جودتها. ما أريد قوله هو أنه مهما كانت الأداة المؤسسية التي تستعملها في مكتبك، فغالبًا ما ستجد نظيرًا مجانيًّا لها معدًّا للمستخدم العادي، أفضل جودة، ويناسب تصميمه استخدام طفل في العاشرة من عمره. يتَّسم ممارسو التدوين المرئي بغزارة الإنتاج بفضل، وليس برغم، ما يستخدمونه من برمجيات تحرير منخفضة التكلفة؛ يمتلك المراهقون مدونات وحسابات على موقع ماي سبيس على درجة عالية من التطور، ويرجع ذلك على وجه التحديد إلى عدم استخدامهم لذلك النوع من نظم إدارة المحتوى التي ربما تستخدمها الصحف، أو كانت تستخدمها خلال عقد التسعينيات.

إذًا ينبغي على مراسلي الإعلام الجديد الجدد الاستعانة بالخدمات المعدة للمستخدم العادي فقط من أجل نشر قصصهم الإخبارية؛ لأنها أفضل جودة وأقل تكلفة وأسرع في إعدادها، كما أن إلغاءها أو تحسينها أثناء العمل أسهل كثيرًا من غيرها.

إن الاستعانة بأدوات الإنترنت الجديدة تُشجع أيضًا على العمل بأسلوب الإنترنت الجديد. ألقِ نظرة على أيِّ شركة من الشركات الناجحة التي يقوم عملها على الإنترنت وسترى أنها تعمل باستخدام كثير من الأساليب ذاتها: طواقم عمل صغيرة، والإعداد السريع لنماذج أوَّلِيَّة للمنتجات الجديدة باستخدام أرخص الأدوات الممكنة، وعرضها على الجمهور بأسرع وقت ممكن، ثم تكرارها سريعًا بينما تمضي قدمًا، وإدخال تحسينات على المنتج أثناء الاستخدام وأثناء تلقِّي تقييمات من المستخدمين. قارن هذه العملية بنظيرتها لدى أغلب وسائل الإعلام الرئيسية: طواقم عمل كبيرة تستخدم أدوات باهظة التكلفة، التأخر في عرض منتجاتها، والعزوف عن تغييرها بعد إصدارها. إن هذا أمر مشين لأن الابتكار يتطلب منا تجربة الكثير من الأمور الجديدة، والتي سيفشل كثير منها، وهو أمر جيد وإيجابي، ومن حسن الحظ أن استخدام الأدوات منخفضة التكلفة وأساليب التطوير السريعة يُخففان من وطأة الفشل، ثم لا يسعك إلَّا أن تمضي قُدمًا وتجرب شيئًا آخر: إن هذه عقلية من الصعب أن تجدها في الشبكات التليفزيونية مثلًا.

إن المعدَّات المطلوبة لإنشاء، وتحرير، ونشر مقاطع الفيديو واللقطات الفوتوغرافية الثابتة والمحتويين الصوتي والنصي تتسم بالانخفاض الشديد في التكلفة والسهولة الكبيرة في الاستعمال بحيث يستطيع المراسل المعاصر الآن العمل عبر جميع وسائل الإعلام: لقد تلاشت تمامًا حواجز دخول المجال التي أحدثتها، على سبيل المثال، كاميرات التصوير التليفزيوني التي كانت تفوق تكلفتها ثمن سيارة عائلية. ولقد حان الآن وقت التجربة.

إن محل اهتمامي الشخصي، وما أثار نشاط عمليات جمع الأخبار لسنوات، هو الفكرة القائلة بأن بإمكان مراسل واحد أو اثنين الوصول إلى أماكن بواحدة أو اثنتين فقط من حقائب الظهر لإنتاج محتوى كان من ضروب المستحيل الحصول عليه دون شاحنة محمَّلة بطبق هوائي وطاقم إنتاج كامل، وكل ذلك بفضل صغر حجم المعدَّات وانخفاض تكلفتها. يُعَد هذا التطور مثيرًا للاهتمام بوجه خاص في مجال تغطية الصراعات والشئون الخارجية؛ إذ يتيح أمام المراسلين مساحات شاسعة من العالم كان العمل داخلها في السابق غاية في الصعوبة، أو الخطورة، أو ذا تكلفة عالية للغاية.

إن إعادة إرسال الإشارات التليفزيونية عبر هاتف متصل بالأقمار الصناعية ليس بالأمر الجديد بالطبع، لكن المعدَّات اللازمة الآن لا يتعدَّى حجمها حجم مجلد، بحيث يمكن حملها في أحد الجيوب الجانبية لحقيبة الظهر. أما الكاميرات فقد تكون حتى أصغر حجمًا، ويمكن استخدام كمبيوتر محمول مصغر لتشغيل برنامج تحريري كامل، وإن كان بطيئًا. لقد عملت وحدي على هذا النحو في أفغانستان، وكنت أرسل مقاطع فيديو بصفة يومية باستخدام معدَّات مخصصة للمستخدم العادي، يمكن أن تسعها حقيبة سفر صغيرة ولا يتجاوز ثمنها الإجمالي عشرة آلاف دولار.

إن لهذه الثورة وحدها تأثيرًا جذريًّا، وذلك بتمكينها لعدد أكبر بكثير من المراسلين من الوصول إلى مناطق أكثر وأبعد من العالم.

مع كل تلك الخيارات التي تقدمها لنا تكنولوجيا رواية الأخبار الجديدة، والتي قد تسبب الحيرة لكثرتها، سيكون علينا تجربة المزيد من الأشياء. من بين تجاربي تلك التجربة التي أجريتها لصالح شبكة بي بي سي في يونيو ٢٠٠٧، عندما سافرت إلى تركيا لإعداد برنامج وثائقي حول الانتخابات العامة المقبلة.

إلى جانب نقل هذه التجربة تليفزيونيًّا — التي استعنت في أدائها بكيث موريس، منتج اللقطات/التحرير — خططتُ لمشاركة تجربتي في تغطية هذا الحدث عبر الإنترنت. كنت أكتب في مدونة، وأنشر الصور على فليكر، وأرسل تعليقات متتابعة إلى تويتر، وأتجه إلى يوتيوب لتحميل مقاطع فيديو لما يحدث من وراء الكواليس. فسرت الأمر بالكلمات التالية:

بدءًا من البث الحي من سفوح أفغانستان ونقل الأخبار لحظة وقوعها تقريبًا وانتهاءً بإيفاد المراسلين والطواقم إلى أبعد المناطق وأخطرها وأهمها على سطح الكوكب، كل ذلك يجري ليتسنَّى إرسال الأخبار إلى الوطن ليشاهدها الجمهور وقت احتسائهم الشاي. لا يبدو الأمر سحريًّا فقط، بل ومُربكًا أيضًا: فلم يسبق قَطُّ أن توفر لنا كل هذا القدر من التغطيات الإخبارية. لم يسبق قَطُّ أن توفر كل هذا القدر من المعلومات للراغبين فيه. فسواءٌ عبر الإنترنت أم التليفزيون أم الإذاعة، تأتيك الأخبار الآن بسرعة وعمق أكبر، وبتنوع أكبر من أي وقت مضى. لكن رغم أن هناك المزيد من الأخبار المتاحة أمامك، فيقل كثيرًا احتمال معرفتك لكيفية إنتاجها. لقد ولَّى ذلك العهد حين كان يتوجه الصحفيون إلى الحانات لمقابلة أشخاص، ويعمدون إلى تدوين بعض الملاحظات على ظهر مفارش الطاولات، ثم يعودون إلى مكاتبهم لكتابتها ونشرها. إن الصحفي المعاصر مخلوق يتعامل مع وسائل الإعلام المتعددة، ويغذي شهية جماهير التليفزيون والإذاعة والإنترنت. لقد تضاعفت متطلبات الجماهير في وقتنا الحالي، وتقلصت احتمالات التوجه إلى إحدى الحانات في منتصف اليوم، كما أن عدد الفاحصين لعملنا أصبح يفوق كثيرًا أي تحليل تعيَّن على أي إعلامي محترف التعامل معه أبدًا. إن ممارسة السحر تحت مرأى الكثيرين، كما سيخبرك بذلك أي ساحر، ستكون صعبة لو كنت ترغب في الحفاظ على سرية أساليبك. أجل، يرغب الكثيرون في الحفاظ على الهالة المحيطة بالصحافة، لكنني، صدقًا، أعتقد أنه من الأسهل والأكثر فائدة وفاعلية أن أفعل ما كان يرجوني لفعله دائمًا معلم الرياضيات خاصتي: ألا وهو إظهار تفاصيل ما أقوم به. (هامرزلي ٢٠٠٧)

لقد تعلَّمنا كثيرًا من الدروس من واقع تلك التجربة؛ أولًا: إنها مجهدة جسديًّا. إن التغطية الحية عبر وسيلة إعلامية واحدة، وبها أعني أن ترسل التقارير بينما لا تزال في موقع الحدث، هو عمل مضنٍ بما يكفي، فإذا أضفت إليه بضع وسائل إعلامية أخرى — الإذاعة والإنترنت إضافة إلى التليفزيون، مثلًا — فسوف تخور قواك سريعًا إذا كنت بمفردك؛ فلا تخجل من الاستعانة بمن يساعدك في هذا الشأن.

ثانيًا: إن أسلوب التدوين ذا المرجعية الذاتية ينطوي على خطورة، رغم رواجه الشديد على الإنترنت. ربما تكون الكيفية التي نُقِلَت بها الأخبار البارزة أمرًا مثيرًا للاهتمام حقًّا، غير أن تسجيل الأحداث وقت وقوعها يفترض نجاحًا لا يمكنك أن تضمنه. إن التدوين الحي لوصف رحلة صحفية أجنبية، مثلًا، يعرضك لخطر شديد، ألا وهو إحباط الجمهور. لم يكن هذا ما حدث في تجربتي بتركيا، لكنني ارتكبت، كآخرين غيري، في مواقف أخرى خطأ التعهد بالوقوع الوشيك لحدثٍ مثيرٍ لأجد عند وصولي إلى موقع الخبر أن كل شيء يبدو هادئًا. تقل خطورة تعرُّضك لهذه المشكلة عند التعامل مع الموضوعات الوثائقية، كانتخابات عامة، لكن كلما روَّجت لتحقيقك القادم، ازدادت احتمالية وصولك إلى موقع الخبر عقب توصُّل أطراف الحرب لوقف إطلاق النار أو بعدما هدأت رياح الأزمة.

إن إعداد تقاريرك عبر مختلف وسائل الإعلام عقب الحدث ثم نشرها كسلسلة تشبه اليوميات يُعَد أحد الخيارات التي تخلصك من هذا الخطر.

لكن الأضمن والأجدى من الناحية الأسلوبية أن تنشر تغطيتك على أجزاء من مقعدك الوثير في مكتبك الرئيسي متى توصلت إلى الخبر، وذلك بدلًا من تنقلها نقلًا حيًّا ثم تأمُل أن تسير الأمور كما تريد.

يُساهم ذلك أيضًا في تخليصك من الوقوع تحت الضغط الزمني الذي يسببه إعداد أخبار مُجزَّأة بصفة يومية. وناهيك عن احتياجك إلى نقل معدَّات التحرير — حتى لو اقتصرت تلك المعدَّات على كمبيوتر محمول، فالمهمة لا تزال شاقة أيضًا — يقلل ذلك على نحو هائل من وجودك الميداني. لا شك أن إعداد التقارير المحررة من ميدان الحدث هو جوهر نشاط المراسل الذي يعمل عبر وسيلة إعلامية واحدة، أما لو كنت عازمًا على إعداد تقاريرك لجميع وسائل الإعلام ولا يوجد ما يضطرك إلى نقل الخبر من الميدان، فيجب ألا تفعل. صحيح أن الأدوات الجديدة ستمكِّنك من جمع قدر هائل من المواد الإخبارية الخام في جميع أشكال الوسائل الإعلامية، إلا أن ذلك يستهلك أيضًا وقتًا وتركيزًا وطائفة ضخمة من المهارات: إلى جانب كل ما سبق، اضطرارك إلى تحرير موادك الإخبارية سيزيد كثيرًا من صعوبة المهمة.

الأمر ليس مستحيلًا، على المدى القصير على الأقل، لكن لكي تقوى على إعداد هذا القدر الهائل من التغطية الإخبارية عبر جميع وسائل الإعلام، عليك في النهاية أن تضيف طابعًا جماليًّا إلى تقاريرك، وهو أمر ليست له حاجة في هذا الوقت. بمعنى آخر، كلما كنت أكثر تعبًا وتكلفًا، سيبدو منتجك الإخباري غريب الأطوار، ثم يفقد تأثيره.

تأتي الابتكارات الصحفية في شكلين: ابتكارات أسلوبية وابتكارات تكنولوجية. ومن المهم ألا تخلط النوعين معًا.

قد يتبع أحدهما الآخر، مثلما أتاحت الكاميرات خفيفة الوزن إيجاد أسلوب تصوير البرامج الوثائقية بكاميرات الفيديو المحمولة، لكن كما أنه ليس بإمكانك دائمًا أن تعتبر وجود أحدهما دليلًا على وجود الآخر، فإن امتلاكك للمعدَّات الحديثة لا يقتضي بالضرورة أن تصير تقاريرك الإخبارية جزلة الأسلوب على نحوٍ متفرد.

باستطاعتنا تحقيق إنجازات تكنولوجية ضخمة في الكيفية التي يمكن أن ننتج بها الأخبار وننشرها، لكن مع الحفاظ على أسلوب المنتج النهائي بحيث يبقى مطابقًا لما أنجزناه سابقًا. أو قد نستخدم التكنولوجيا القديمة بطرق جديدة ونعمد إلى اقتحام آفاق أسلوبية جديدة: على سبيل المثال، «الصحافة الجديدة» التي شهدتها أوائل الستينيات أو الابتكار المتواصل في الإذاعة المعاصرة. لكن محاولة السير في الطريقين معًا، لا سيما داخل إطار المؤسسات المتغيرة، قد تكون أحيانًا نوعًا من تجاوز المعقول.

إن التكنولوجيات الجديدة، باختصار، تقدِّم بالفعل الكثير من المزايا: فالمعدَّات أصغر حجمًا وأقل تكلفةً وأسهل استخدامًا، وتقدم إمكانية إجراء التغطية الإخبارية من مناطق كان يصعب الوصول إليها سابقًا وبتكلفة لم تكن ميسورة في الماضي. غير أن الرواية الإخبارية الرقمية لا يمكن أن تُحقِّق كلَّ شيء؛ فإلى جانب كون الصحافة مهارة، فإنها حرفة أيضًا؛ حرفة تتطلب كثيرًا من الوقت في سبيل إخراج أفضل الأعمال، وتلك الحرفة ذاتها هي التي تجعل المراسل المحترف جديرًا بما يتقاضاه أكثر من الصحفي المواطن. إن الصحافة الرقمية تؤكد هذه الحقيقة بما لا يدع مجالًا لشك.

أسئلة يُجيب عنها الطالب

(١) هل بين هامرزلي محقٌّ في قلقه بشأن ما قد تسببه المتطلبات الهائلة الملقاة على عاتق الصحفيين العاملين عبر جميع المنصات الإعلامية من إضعاف لجودة التغطية؟

(٢) ما الحجج الصحفية والمهنية المؤيِّدة والمعارضة لتكليف الصحفيين بالعمل عبر جميع المنصات الإعلامية؟

(٣) ناقِش مع القائمين على الصحيفة أو شبكة البث المحلية في منطقتك آراءهم بشأن تكليف المراسلين بالعمل عبر جميع المنصات الإعلامية.

هوامش

(١) روبرت فيسك هو مراسل جريدة ذي إندبندنت البريطانية لمنطقة الشرق الأوسط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤