الفصل السابع

مواعيد نهائية لا تنتهي: تدفق الأخبار على مدار الساعة

نيك بولارد

تمهيد
جون أوين

في يوليو عام ١٩٨٩، ذلك العام الذي هُدِمَ فيه جدار برلين، أطلقنا في شبكة سي بي سي للأخبار التليفزيونية ثالث قناة تليفزيونية متخصصة في الأخبار والمعلومات على مستوى العالم، وهي التي تحمِل اسم نيوز وورلد. قبل ذلك التاريخ بخمسة أشهر، رد روبرت مردوخ على تأسيس تيد تيرنر لشبكة سي إن إن بإطلاق شبكة سكاي نيوز البريطانية التي بثت برامجها تحت شعار «نحن موجودون متى احتجتم إلينا!» وصف مردوخ تدشين شبكة سكاي نيوز بأنه إيذانٌ ببزوغ عصر جديد من حرية المشاهد.

ورغم ذلك، كانت شبكة سي إن إن القناة الإخبارية الرائدة في العالم على الإطلاق. كانت موجودة على الساحة منذ ١٩٨٠ وأحدثت تحولًا في عالم الأخبار التليفزيونية والاتصال العالمي، واستغلها زعماء العالم لاختصار العملية الدبلوماسية؛ فالحقائق التي أدركها كبار المسئولين منها كانت تفوق تلك التي توصلوا إليها من خلال القنوات الدبلوماسية التقليدية. وهو ما عبرت عنه كلمات الصحفي وارن ستروبل أصدق تعبير وهو يروي كيفية تجاوب سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأمم المتحدة آنذاك، مادلين أولبرايت، إزاء القصف الدامي لسوق سراييفو خلال الصراع البوسني عام ١٩٩٤، فقد نقل قولها: «فعلتُ مثلما كان سيفعل الجميع. فتحت قناة سي إن إن، وظللت جالسة في غرفة المعيشة بقية اليوم أشاهد التليفزيون والهاتف في يدي.»

لقد كان هناك ما أطلق عليه الكثيرون «تأثير سي إن إن» لوصف نفوذها وتأثيرها في الضغط على قادة الحكومات، لا سيما الرؤساء الأمريكيون، للتجاوب مع الأحداث العالمية كما اتضح من خلال تغطية «الأخبار العاجلة» على الشبكة. يروي ديفيد هالبرستام قصة الرئيس بيل كلينتون (عام ١٩٩٤ أيضًا) حين استفزته كرستيان أمانبور، كبيرة مراسلي سي إن إن، في لقاء مفتوح بثته قناة سي إن إن على الهواء مباشرة في جميع أنحاء العالم. كانت أمانبور مشحونة بالعواطف والانفعالات إثر تغطيتها للحرب البوسنية، فقد وجدت في سراييفو حيث شهدت قدرًا كبيرًا من المعاناة؛ لذلك فقد ضغطت على كلينتون خلال هذا اللقاء ليبرر عدم إقدام إدارته حتى تلك اللحظة على وضع سياسة حيال البوسنة، متهمةً إياه بالتخبط. ذُكِر أن كلينتون استشاط غضبًا من المعاملة التي تلقَّاها ومن الطريقة التي كشفت بها أمانبور عن تقاعسه (هالبرستام ٢٠٠٢: ٢٨٣).

رغم هيمنة سي إن إن على الساحة الإخبارية والحتمية الواضحة للاتجاه إلى البث الإخباري على مدار الساعة، فإنه لم يكن ثَمَّ إقبال عالمي على المنافسة. كانت التكاليف باهظة، والبث الفضائي مُكلِّف للغاية، وكذلك التكنولوجيا اللازمة داخل غرف الأخبار وخارجها من أجل جمع الأخبار على نطاق عالمي، فضلًا عن التكلفة الإضافية لتعيين الموظفين الذي سيعملون على مدار الساعة، خاصة في المؤسسات الإخبارية التي تحكمها الاتفاقات الجماعية مع النقابات المهنية. علاوةً على ذلك، ظل مشاهدو القنوات الإخبارية، سواء الفضائية أو التي تُبث عبر تليفزيون الكابل، قِلَّةً لم تكن تزداد إلا عند وقوع أخبار عاجلة خطيرة. زعمت القنوات والمحطات الرئيسية أنها كانت لا تزال قادرة على اجتذاب جماهير غفيرة عن طريق وقف بث البرامج المعتادة في أوقات الأزمات وتقديم تغطية إخبارية متواصلة للأحداث التي تجريها طواقمها الإخبارية الخاصة. لكن قطع البرامج التجارية المربحة ذات الإيرادات العالية لم يكن أمرًا سهلًا، كما كان كثير من المشاهدين يعترضون على قطع مسلسلاتهم الدرامية المفضلة أو مسلسلات الست كوم التي يحبونها لعرض تغطيات إخبارية مباشرة. (كما أن القنوات الإخبارية نفسها لم تكن في حِلٍّ من استبداد البث المعتاد؛ فقد كانت ولا تزال القنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة تشعر بالقلق إزاء قطع البرامج الوثائقية التي تُذاع في مواعيد منتظمة أو البرامج المثيرة التي تسمح بمداخلات هاتفية من الجمهور على شاكلة برنامج لاري كينج من أجل تقديم تغطيات إخبارية متواصلة لوقائع كثيرًا ما تكون أقل إثارة.)

يثير نقاد القنوات الإخبارية، وما أكثرَهم، تساؤلًا بشأن مقدار ما يُخصَّص بالفعل من بث القنوات الإخبارية على مدار الأربع والعشرين ساعة لتغطية قصص إخبارية لا تُقدَّم في أي نشرة إخبارية تذاع في مواعيد منتظمة. إن الذين درسوا هذه القضية — والاستعراض السنوي للإعلام الأمريكي الصادر عن مؤسسة بيو الأمريكية وهو ما يبدو أنه أكثر التحليلات منهجية — وجدوا أن المزاعم التي تحمِل شعار «كل الأخبار على مدار الساعة» ليست سوى محض وهم. فقد اكتشفت دراسات مؤسسة بيو أن ثلثي الأخبار التي تبثها القنوات الإخبارية الأمريكية — أمثال سي إن إن، وإم إس إن بي سي، وفوكس — هي في أغلبها نُسَخ معدلة من الأخبار ذاتها، ولا تُمثِّل الأخبار «المحدثة ذات المغزى» سوى ١٠ بالمائة منها. خلُص تحليل لمركز بيو يرجع تاريخه إلى عام ٢٠٠٥ (مشروع التميز الصحفي ٢٠٠٥) إلى التالي: «ماذا يعني ذلك؟ إن القنوات الإخبارية، ذات البث المباشر الذي يمتد لساعات والمراسلين الكثر، لا تكرس مواردها لجمع المعلومات الجديدة أو التعمق في التغطيات الأساسية بقدر ما تكرسه لتبقي على بثها المباشر ولتبدو على رأس أبرز ثلاثة أو أربعة أخبار في يومها.» (اشتُهرت سكاي نيوز في بداياتها بتحديثها الدائم لأخبارها، مدفوعةً في الأساس بحاجتها إلى تصحيحها لا تحديثها — وقد تكرر ذلك كثيرًا حتى اعتاد نقادها أن يسخروا منها قائلين: «سكاي نيوز: استدراك الأخبار لحظة بلحظة».)

النقطة نفسها أشار إليها المؤرخ والكاتب البريطاني تيموثي جارتون آش، الذي أطلق على نفسه مدمن الأخبار التليفزيونية، وذلك في مقابلة عام ٢٠٠٥، حيث أوضح قائلًا:

من الأمور غير الطبيعية في عصر الوسائط والقنوات المتعددة ألا نجد أمامنا، بطريقة ما، سوى تغطية لحدثٍ واحدٍ في فترة ما. [خلال إعصار كاترينا]، لم تكن تُذاع أخبار أي شيء آخر على شاشتَي سي إن إن وفوكس على مدار الساعة. كان من الممكن أن تندلع ثلاث ثورات في العالم دون أن تجد لها مكانًا مطلقًا [على قائمة الأخبار].

يرى جيريمي باكسمان، المقدم اللامع لبرنامج الأحداث الجارية البارز الذي يُعرض مساءً على شاشة بي بي سي، نيوزنايت، أن أهم ما يعيب القنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة أن ما يحكمها هو الكثير من الجنون والقليل من التعقل: «ما حدث هو أن لدينا دينامية في الأخبار حاليًّا تُعنى بإخفاء الأحداث أكثر من عنايتها بالكشف عنها وسبر أغوارها؛ فلا يهم إذا نشبت حرب في لبنان أو وقعت فيضانات في دونكاستر، فإنه لا وجود لهذه الأحداث حقيقةً بالنسبة إلى هذه القنوات حتى يوجد مراسلها هناك ويقدم تقريرًا إخباريًّا مرتديًا معطفًا واقيًا من الرصاص أو حذاءً مطاطيًّا طويلًا» (باكسمان ٢٠٠٧).

لن تكتمل مناقشة لتاريخ القنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة دون ذكر التأثير الجذري بحقٍّ الذي حققته قناة الجزيرة، التي تُعد أول قناة فضائية غير ناطقة باللغة الإنجليزية تصبح لاعبًا رئيسيًّا في عالم الأخبار الدولية وقوة في عالم السياسة. لو كانت الثمانينيات وأوائل التسعينيات قد شهدت ما يُعرف بتأثير سي إن إن، فقد وُجِد ما يطلق عليه تأثير الجزيرة بعد عام ١٩٩٦ حين بدأت تلك القناة بث برامجها من مقرها الرئيسي العالمي في قطر، تلك الدولة الخليجية الصغيرة. أنت لست في حاجة إلى أن تكون ناطقًا بالعربية لكي تستوعب الأسباب التي أكسبت هذه القناة أهميتها البالغة لدرجة أنها أصبحت القناة التي تنقل صوت ٢٥٠ مليون عربي تقريبًا.

لكن بدلًا من أن تُحاكي الجزيرة نمط بي بي سي، حيث تَدرَّب أغلب صحفييها في قناة بي بي سي العربية التي لم تدم طويلًا وسبق أن عملوا بها أو في سي إن إن، فقد عمدت إلى تقليد نمط عمل شبكة فوكس نيوز وبرامجها التي تعتمد على المذيعين ذوي الجرأة والانتماءات المعلنة من أمثال بيل أورايلي. صار أعلى برامجها مشاهدةً برنامجا «الشريعة والحياة» و«الاتجاه المعاكس» (وهذا الأخير يعد نسخة معدَّلة من برنامج «نيران متبادلة» الذي يذاع على شاشة سي إن إن، والذي يقدِّم تعارضًا في وجهات النظر، غالبًا ما يكون مفتعلًا). كما منحت هذه القناة العالم العربي شيئًا لم ينعم به من قبلُ: وهو فرصة لأي شخص أن يُعبِّر عن رأيه في برنامج يسمح بالمداخلات الهاتفية.

لكن الجزيرة حظيت بشهرتها الأوسع لكونها القناة المختارة لأسامة بن لادن. فحين كان بن لادن أو، مؤخرًا، نائبه أيمن الظواهري يُصدر مقاطع فيديو له، كانت الجزيرة أول من يبثها ثم تتيحها لبقية القنوات لتقرر ما إذا كانت ستعرضها أم لا.

تُعزَى شعبية قناة الجزيرة على مستوى العالم العربي إلى تغطيتها الجريئة لممارسات الفساد؛ لذلك عمدت الحكومات غير الراضية عن تغطياتها إلى منعها نهائيًّا أو إغلاقها على نحوٍ مؤقت. غير أن الجزيرة أضحت في الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو العراق القناة الأقل تفضيلًا للإدارة الأمريكية؛ فقد دُمِّر مكتبها في كابول بقذيفة أمريكية في هجوم لم يُجرَ تحقيق شامل بشأنه أو تفسره الإدارة الأمريكية تفسيرًا رسميًّا لقطر حتى الآن. كما لم تقنع الجزيرة قَطُّ بتبرير البنتاجون لما حدث في الثامن من أبريل عام ٢٠٠٣ حين أطلقت القوات الجوية الأمريكية قذيفة دمرت مكتب القناة في بغداد، وقتلت مراسلها طارق أيوب بينما كان يقف على سطح المبنى أثناء تقديمه لتقارير حية.

كما هو الحال بالنسبة إلى سي إن إن التي كان عليها أن تتصدى لتحديات دولية كبرى من شبكتَي سكاي نيوز وبي بي سي وورلد نيوز (التي أُسِّست عام ١٩٩١) ثم وجدت نفسها مستبعدة من المركز الأول من حيث نسب مشاهدة القنوات الإخبارية التي تُبث عبر تليفزيون الكابل لصالح فوكس نيوز، وجدت الجزيرة نفسها كذلك في مواجهة بعض المنافسة القوية؛ فقد أصبحت قناة العربية أهم منافسيها. تضم مدينة دبي مقر قناة العربية التي يمولها السعوديون والذين يمقت حكامهم ما يبديه أمير قطر من رعاية لقناة اعتُبرت معاديةً سياسيًّا لهم. قدمت العربية نفسها إلى المشاهد العربي باعتبارها قناة أكثر توازنًا وحياديةً من الجزيرة.

بعد بذل القليل من المحاولات الحقيقية لتدشين قنوات باللغة الإنجليزية — قليل نتيجة للتكاليف التي يستلزمها الأمر — شهدت السنوات الأخيرة زيادة حقيقية هائلة في القنوات الإخبارية المحلية الجديدة العاملة على مدار الساعة، وذلك إلى جانب القنوات الدولية الأبرز حضورًا؛ ففي الهند على سبيل المثال يوجد ما يُقدَّر بثلاثين قناة تبثُّ برامجها بعدة لغات، ومن بينها الإنجليزية، في جميع أنحاء الدولة شاسعة المساحة.

لم تعد التكنولوجيا باهظة التكلفة. يُعتبر كين تيفين، المسئول التنفيذي السابق في سي إن إن، واحدًا من أكثر الاستشاريين الإعلاميين تنقلًا لإسداء استشاراته إلى الدول بشأن كيفية إطلاق قنواتها الخاصة. يُقدِّم تيفين استشاراته إلى الجهات المقبلة على إنشاء القنوات العاملة على مدار الساعة لكي تتجنب شراء التكنولوجيا الباذخة غير الضرورية لتشغيل قنواتها. لقد صرح لِذا نيويورك تايمز ذات مرة قائلًا: «إذا كان لديك اليوم كمبيوتر محمول من نوع ماكنتوش، فيمكن أن تُنفِّذ به تقريبًا كل ما ترغب فيه. ليس عليك سوى أن تُدخل مقطع الفيديو خاصتك إليه وتُدخل عليه ما ترغب من تعديلات ثم تعيد إخراجه على شريط فيديو أو على كمبيوتر خادم موصل بشبكة» (كارفاخال ٢٠٠٦).

غير أن المال لم يكن مشكلة بالنسبة إلى الحكومات التي رأت أن تمويل قناة تُبَث على مدار الساعة لا يختلف عن افتتاح سفارة أو مكتب تجاري. كما أن هذه الحكومات آثرت القنوات الناطقة باللغة الإنجليزية لتتمكن من التنافس في الساحة مع القنوات القائمة بالفعل أو على الأقل تقديم بديل لما كان في نظر الكثيرين صورة عن بلادهم منحازة لوجهة النظر الأمريكية أو البريطانية. أسست روسيا ابتداءً من ٢٠٠٥ إلى ٢٠٠٦ قناة روسيا اليوم، وأطلقت فرنسا قناتها فرانس ٢٤، كما أسس الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز قناة جديدة تُمثِّل دول أمريكا اللاتينية تحمِل اسم تيليسور، وذلك بالتعاون مع حكومات كلٍّ من أوروجواي وكوبا والأرجنتين. وقد صرح مديرها الجديد معلنًا: «من اليوم، سنبدأ نرى أنفسنا بعيوننا نحن» (أهارونيان ٢٠٠٥).

كانت أبرز الخطوات المتوقعة، وأعلاها طموحًا وتكلفة على الإطلاق (والتي تأجلت في الغالب بسبب المتطلبات المعقدة والمكلفة لإطلاقها بدقة عالية) هي قناة الجزيرة الدولية. لكن النجاح لم يُحالف شبكة الجزيرة في إيجاد موزع خدمة تليفزيون كابل في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بالرغم من قوتها الصحفية ونجومها اللامعين الذين نجحت في استقطابهم من أهم الشبكات في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية (مثل ديفيد فروست، مقدم البرامج الحوارية الشهير في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، الذي صار له برنامجه الخاص على القناة).

قد تتدخل التكنولوجيا مجددًا لإنقاذ قنوات كالجزيرة من مواجهة مصير الاستبعاد من عالم القنوات التي تُبث عبر تليفزيون الكابل الذي يسيطر عليه بشدة الطابع السياسي. أصبحت قناة الجزيرة الدولية متاحة الآن على شبكة الإنترنت، مثلها في ذلك مثل كثير من القنوات الأخرى المستفيدة من الثورة التي أحدثتها خدمات النطاق العريض. وبمجرد أن ينجح إدماج هذه الخدمات في عاداتنا التليفزيونية ويسهل استخدامها من خلال التليفزيون وأجهزة الكمبيوتر على السواء، يُعتقَد أن قنوات كالجزيرة الدولية وفرانس ٢٤ وروسيا اليوم ستجد فئات جماهيرية جديدة أكثر انفتاحًا على العالم تتطلع إلى وجهات نظر بديلة عن الأحداث.

يركز الفصلان التاليان على تاريخ القنوات الإخبارية وطريقة عملها. في هذا الفصل، يُقدِّم الصحفي البريطاني نيك بولارد، الذي لعب دورًا فعالًا في تمكين سكاي نيوز من أن تصير مثالًا يحتذي به الكثيرون، شرحًا لتاريخ هذه القناة، ويتناول التحديات التي واجهت فكرة إذاعة الأخبار على مدار الساعة ولا تزال تواجهها.

في الفصل التالي، يعرض توني بورمان، الذي تنحَّى مؤخرًا عن منصبه بصفته رئيس تحرير بشبكة سي بي سي، الرؤى العالمية تجاه الأخبار الدولية. تولَّى برومان قيادة القسم الإخباري بشبكة سي بي سي من عام ٢٠٠٠ حتى ٢٠٠٧، وتقلد جميع المناصب الرفيعة في خدمة البث العام الكندية على مدار ٣٥ عامًا.

حين سألتُ تيموثي جارتون آش عما إذا كان المواطنون في عالم القنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة يشاهدون واقعًا أقرب إلى الحقيقة من أي وقت مضى، أجاب قائلًا: «لا شك أن مواطني العالم المتقدم اليوم على اطلاع بما يجري في بقية العالم أكثر من أي وقت مضى في التاريخ البشري. كما أنني أرى جيلًا كاملًا من المواطنين والمدونين والصحفيين والناشطين المنخرطين بشدة في الأحداث والمعتمدين على ذلك البث الاستثنائي للمعلومات.»

مراجع

Aharonian, A. (2005) Quoted in ‘A Latin Al-Jazeera?’ Newsweek, 4 July.
Carvajal, D. (2006) All-news channels abroad look to their future in English. New York Times nytimes.com, http://www.nytimes.com/2006/01/11/arts/television/11engl.html?_r=1&pagewanted=print&oref=slogin.
Garton Ash, T. (2005) Interviewed at the 2005 NewsXchange conference ‘24-Hour News: Rolling News and Big Events’. http://www.newsxchange.org/newsx2005/rolling_news_01_05.html.
Halberstam, D. (2002) War in a Time of Peace: Bush, Clinton and the Generals. Scribner.
Project for Excellence in Journalism (2005) The State of the News Media: An Annual Report on American Journalism. http://www.stateofthemedia.org/2005/narrative_cabletv_contentanalysis.asp?cat=2&media=5.

ربما يصعب الآن تصديق الحقيقة التالية: لقد مر علينا وقت لم تكن لدينا أخبار متواصلة على مدار الساعة. من العسير كذلك على بعض مَن عمل منا آنذاك أن يتخيل العمل الذي كنا ننجزه طوال اليوم!

لكنها حقيقة. كانت هناك بالفعل حقبة سبقت ظهور سي إن إن وسكاي نيوز ونيوز ٢٤ والجزيرة وفوكس نيوز وسبقت بفترة طويلة، بالطبع، تلك الموجة العارمة التي نشهدها حاليًّا من الأخبار المتاحة على الإنترنت، ومقاطع الفيديو التي تُقدَّم حسب الطلب، وعناوين الأخبار التي يتلقاها هاتفك المحمول، والقنوات الإضافية المتدفقة إلى جهاز الاستقبال خاصتك، وانتهاءً بالأخبار التي تلاحقك على الشاشات داخل محطات القطارات وخلف مقاعد سيارات الأجرة.

لو عدنا بذاكرتنا إلى تلك الأيام الخوالي، حين كانت التغطية الإخبارية تخطو خطواتها الأولى، فسنجد أن كلًّا من شبكات البث والمشاهدين كانوا يعرفون أدوارهم جيدًا. كان الأمر بسيطًا؛ كان المشاهدون ينتظرون أن تجمع لهم شبكات البث الأخبار وتكون مستعدة لعرضها ثم يجتمعون حينها لمشاهدتها بأعداد كبيرة. كان للأخبار مواعيد محددة، وكان المشاهدون (الذين لم نكن نعتبرهم حينها «مستهلكين») يعرفون بالضبط متى يفتحون التليفزيون: حوالي نصف ساعة في وقت الغداء، ثم ١٥ أو ٢٠ دقيقة عند تناول الشاي بعد العصر، ثم نصف ساعة كاملة من الأخبار في المساء. ولو جدَّ جديد بين المواعيد السابقة، فليس أمامك سوى أن تنتظر حتى يحين موعد النشرة التالية لتعرف الأخبار.

آه، يا لها من أيام! كان عصرًا ذهبيًّا كانت الجماهير فيه غفيرة، والتغطية الإخبارية كان لها بريقها الدائم، أما الميزانيات، فلم تكن تثير قلقك سوى مرة واحدة في العام.

أجل، كانت الأمور تبدو كذلك إلى حد ما. فحين انتقلت من بي بي سي إلى الشبكة التجارية آي تي إن عام ١٩٨٠، كانت نسب المشاهدة لأهم برامجها الإخبارية، «أخبار العاشرة»، هائلة بمعاييرنا المعاصرة. فعندما كان يُذاع برنامجنا عقب أحد البرامج الناجحة، كنا «نرث» ما يزيد عن ١٥ مليون مشاهد، وننجح في استبقاء نسبة كبيرة منهم أمام برنامجنا بفضل التقارير الإخبارية الخفيفة التي كنا نعرضها في نهاية البرنامج والتي اشتُهرنا بها.

كنا نحب بطبيعة الحال أن نستفيد من الموقف أقصى استفادة: عندما كانت نسب مشاهدة برنامجنا ترتفع، كنا نتبادل التهاني ونستأثر بالفضل لأنفسنا، لكن متى انخفضت، كنا نكيل اللوم للبرنامج المذاع قبلنا ونعزو إليه نسب المشاهدة المنخفضة التي خلفها لنا.

كان هناك قدر من العمل الصحفي الرائع أيضًا. أذكر أن غرفة الأخبار داخل بي بي سي كانت مكانًا أهدأ من آي تي إن أغلب عقد الثمانينيات، وذلك رغم ما كانت تضمه من بعض الكوادر الممتازة. لقد هيمن برنامج «أخبار العاشرة» على الساحة وعُدَّ أفضل البرامج الإخبارية على مستوى المملكة المتحدة.

ولم تعدم هذه الفترة أيضًا المراسلين البارزين، في شبكتَي آي تي إن وبي بي سي على السواء.

بدا أن لدى الجانبين أموالًا طائلة، ولم يكن أحدهما يتوانى عن تغطية أبرز الأخبار حينها: حصار السفارة الإيرانية، حرب جزر الفوكلاند، تفجير لوكيربي، كارثة زيبروجه، حادث منصة إنتاج النفط بايبر ألفا، الحرب في لبنان، تفجير فندق برايتون، إضراب عمال المناجم لمدة عام كامل اعتراضًا على إغلاق المناجم. كنا ننفق بقدر ما يحتاج إليه العمل وتتولَّى الشبكة في نهاية العام جبر أي عجز (لم نكن ننظر إلى القائمين على الشبكة باعتبارهم مديرين) دون تبرُّم يُذكَر.

ثم إن لنمط الحياة دورًا أيضًا؛ فكما قد يتعذر على صحفي شاب اليوم أن يستوعب العالم دون أخبار متلاحقة، يبدو بعيدًا عن التصديق ما كانت عليه طبيعة الأمور آنذاك من أن العمل، بالنسبة إلى أغلبنا، لم يكن سوى شيء يقع بين تناول الغداء واحتساء المشروبات.

إن مجرد فكرة أن الغداء قد لا يعدو أن يكون شطيرةً تؤكل على المكتب لئلَّا يتعطل سير العمل المزدحم بالمهام كانت ستُعتبر أمرًا شاذًّا غير مفهوم؛ فقد كان الغداء وجبة متكاملة من ثلاثة أطباق نتناولها في مطعم فاخر.

كانت الكلمات الختامية لنشرة أخبار السادسة إلا الربع مساءً (وهي استعراض خاطف لأحداث اليوم لا يزيد عن ١٢ دقيقة ونصف الدقيقة، بمعدل دقيقة وربع لكل خبر على الأكثر) دائمًا ما تضيع وسط ضوضاء الكراسي المتصادمة ووقع الأقدام المغادرة لغرفة الأخبار متجهةً إلى الفندق المحلي.

وكان من «العادات والممارسات» المتعارف عليها في القناة أن نعود قبل عشرين ثانية على الأقل من موعد الاجتماع التحضيري الأخير لبرنامج «أخبار العاشرة» الذي ينعقد في السابعة مساءً، حتى ساد اعتقاد بأن هذا الاجتماع لم يُستحدث إلا لإجبار الجميع على العودة من الفندق.

والآن سأصرح لكم بالأمر الغريب. لم يحدث قَطُّ أن قصَّر أحدنا عن العمل بجد وفاعلية شديدين، وذلك لسببين: أحدهما أن الثقافة ذاتها بالضبط، بدرجة أو بأخرى، كانت متبَعة في كل غرف الأخبار في المملكة المتحدة تقريبًا، سواءٌ أكانت في مجال الأخبار المسموعة أم المقروءة أم المرئية. أما السبب الثاني فهو أن برامجنا كانت بالفعل جيدة للغاية ويُنظر إليها على ذلك النحو.

من الأسباب التي تفسر الجودة العالية التي بدا عليها برنامج «أخبار العاشرة» أنه كان لدينا متسع من الوقت للتحضير له؛ فقد كرَّسنا بحقٍّ جهدًا بالغًا للتوصل إلى الأسلوب الصحيح في تناول الأخبار، وكنا نمعن التفكير في الموضوعات والنصوص (رغم أننا لم نصل قَطُّ إلى درجة اتباع الممارسة الأمريكية المعروفة باسم «اعتماد النصوص»، والتي كانت تُوجب على كل مراسل أن يُسلِّم نص كلماته، حتى لو كانت تلك التي يخاطب فيها الكاميرا متحدثًا للجمهور، إلى محرر البرنامج ليُخضعها للتدقيق).

كما أن «البث الحي» كان أمرًا نادرًا. ولم تكن قد أطلَّت برأسها بعدُ تلك العادة الحديثة بإتباع كل خبر تقريبًا ببث حي لمستجدَّاته يُقدمه مراسل من موقع الحدث. كان هناك على الأقل سببان وجيهان يَحُولان دون إمكانية اتباع هذه العادة، حتى لو كانت طُرِحت حينها؛ أولًا: لم يكن لدينا القدر اللازم من المعدَّات، وثانيًا: بالنظر إلى مدة عرض البرنامج التي كانت تبلغ، بعد طرح الاستراحة الإعلانية وعناوين الأخبار وغيرها، حوالي ٢٥ دقيقة، سنجد أنه كان علينا تقديم الكثير من الأخبار بحيث لا يوجد وقت لعرض مثل هذه التقارير الحية.

يجدر بنا تذكُّر القليل من الأمور الأخرى التي كانت تختلف اختلافًا ملحوظًا عما هي عليه الآن. كان الاستمتاع ببعض الوقت من بث الأقمار الصناعية، على سبيل المثال، أمرًا عزيز المنال، فقد كان محدودًا وباهظ التكلفة. لم تكن الوصلات الصاعدة للأقمار الصناعية متاحة حقًّا في الغالب إلا من المدن الغربية الكبيرة وقليل من عواصم العالم الكبرى. كان عليك أن تحجز حصة زمنها ١٥ دقيقة (أو ١٠ إذا استطعت أن تفوز بها) لبث أخبارك. وإن فاتتك الفترة المخصصة لك، فلن تحصل على فترة أخرى في الغالب، ولن يستطيع جهاز البث خاصتك المتقن الصنع، الذي بات عديم الجدوى الآن، القيام بعمله.

كان لا يزال يجري «شحن» الكثير من المواد الإخبارية أو نقلها يدويًّا من خارج البلاد إلى مقر الشبكات. وهذا يدل أيضًا على مدى تغيُّر الأوضاع بين الماضي والحاضر لدرجة أنه كان بإمكانك الذهاب إلى أيِّ مطار في العالم تقريبًا وإيجاد راكب لطيف أو أحد أفراد طاقم الطائرة لتطلب منه تسليم صندوقٍ يحوي شرائط فيديو أو أفلامًا لشخص آخر غريب تمامًا عنه ينتظر في جهة وصول الرحلة. (تخيَّل أنك تحاول تنفيذ ذلك حاليًّا: «لا تفتح تلك العلبة المعدنية وتنظر داخلها مَهما حدث. كل ما عليك هو أن تحملها معك على متن الطائرة وكل شيء سيكون على ما يرام!»)

نتيجة لهذا الأسلوب البسيط، غالبًا ما كانت الأخبار، أو الجانب المصور منها على الأقل، تستغرق وقتًا أطول بكثير مما تستغرقه الآن للوصول إلى المشاهد. ولا شك أن هناك من سيرى أن ذلك لم يكن أمرًا سلبيًّا؛ إذ يمنح الصحفيين مزيدًا من الوقت للنظر في كلماتهم وصورهم وتأثير كليهما على المُشاهد. كما قد يقال إن الأخبار المثيرة حقًّا، عند إذاعتها، كانت تخلِّف أثرًا أكبر بكثير نظرًا لغياب ذلك «الطوفان» الثري والعميق من المعلومات الذي يغشانا الآن.

كان هناك اختلاف آخر كبير أيضًا. كانت الأخبار التليفزيونية تخضع بشدة لقواعد النقابات العمالية في كلٍّ من آي تي إن وبي بي سي. وكانت الممارسات التقييدية شائعة. وعادةً ما كان يجري تنسيق أنماط المناوبات، لا سيما بالنسبة إلى طواقم التصوير، بما يلائم ظروفهم، لا حسبما تمليه متطلبات البرامج، بل إنه كان من الممارسات المعتادة لدى أعضاء تلك الطواقم الأقل حماسًا أن يطالبوا باستراحة لتناول الطعام في نفس اللحظة التي تزداد الأخبار فيها إثارةً.

كان وقت الشبكة شيئًا عزيزًا بالطبع وكان مراقبو شبكة آي تي في يمانعون بشدة في منح الأخبار وقتًا أكثر مما هو محدد في جدول البث؛ فعلى سبيل المثال، عندما اقتحمت قوات الخدمات الجوية الخاصة مقر السفارة الإيرانية في لندن لتحرير الرهائن يوم الخامس من مايو عام ١٩٨٠ (وهو عطلة رسمية في المملكة المتحدة)، أصرَّ مراقب شبكة آي تي في على عرض الدقائق القليلة الأخيرة من المسلسل الدرامي الطويل «شارع كورونيشن» قبل الانتقال إلى التغطية المباشرة المهمة.

رغم كل ما سبق، أصبحت التغطية الإخبارية أكثر إبداعًا وجرأةً مع انقضاء حقبة الثمانينيات؛ فقد اتسعت الآفاق التكنولوجية وشهدنا بروز العناصر والمقومات التي أسهمت في رسم ملامح الأخبار التليفزيونية كما نراها الآن.

كان الإقدام هو كلمة السر. رغم أن الوصلات الصاعدة للأقمار الصناعية ظلت كبيرة الحجم إلى حد مذهل — وذات تكلفة شحن عالية — فقد تزايد استخدامها في المجال: في نورماندي في عام ١٩٨٤ حيث الاحتفال بالذكرى الأربعين لعملية الإنزال التي قام بها الحلفاء والتي مهدت الطريق لانتصارهم في الحرب العالمية الثانية؛ في الصين بعدها بعامين لالتقاط الصور التاريخية للملكة وهي تسير فوق سور الصين العظيم؛ وزيبروجه لمتابعة آثار غرق عبَّارة عام ١٩٨٧ (مع بث صور مدهشة على الهواء من قارب تجديف يُقِلُّ مذيعًا إلى جانب العبَّارة الغارقة)؛ وأفغانستان عام ١٩٨٩ لنرى المجاهدين وهم يحتفلون بالرحيل المثير للقوات السوفيتية؛ وأخيرًا ألمانيا أواخر العام نفسه لنقل سقوط جدار برلين.

طوال ذلك الوقت، كان هناك، عبر المحيط الأطلنطي في مدينة أتلانتا، من يغرس بذور ثورة من نوع مختلف بعيدًا عن المملكة المتحدة. أما من غرس تلك البذور فكان تيد تيرنر، رائد الأعمال الذي يملك مئات الملايين، والذي قاد ذات مرة اليخت الفائز في كأس أمريكا للملاحة وكوَّن ثروته من العمل في مجال الإعلانات الإذاعية واللافتات الدعائية. اشترى تيرنر بداية الستينيات من القرن الماضي سلسلة من المحطات التليفزيونية المحلية الخاسرة، واستطاع أن يحوِّل خسائرها إلى أرباح ثم استخدم أمواله لإطلاق قناة سي إن إن في يونيو عام ١٩٨٠ لتُصبح أول قناة تليفزيونية متخصصة في بث الأخبار على مدار الساعة.

كحال أغلب المشروعات ذات الطابع الابتكاري الحقيقي، لاقت سي إن إن سخرية واسعة ممن لديهم أسبابهم الوجيهة للشعور بالخطر. لقد وصفها أحد خصومها على نحو شهير بأنها «شبكة نودلز الدجاج»، جزئيًّا بسبب استعانة تيرنر بموظفين شباب ليسوا أعضاءً في نقابات لشغل أغلب المناصب الفنية. ورغم أن ثقة تيرنر بنفسه كانت مضرب الأمثال، لم يكن هو ولا المسئولون التنفيذيون في قناته واثقين تمامًا من مدى قدرة قناتهم الناشئة على الصمود، لا سيما وهي تواجه منافسة خدمة إخبارية على مدار الساعة ما لبثت إيه بي سي وَوستنجهاوس أن أطلقتاها بعد انطلاق سي إن إن مباشرةً. لكن تيرنر نجح عام ١٩٨٣ في الاستحواذ على خصمه الذي كان يُعاني من عدة مشكلات، ثم شرع تيرنر في الانطلاق إلى الأمام. وبحلول عام ١٩٨٥، صارت سي إن إن موجودة في منازل ٣٠ مليون أمريكي وبدأت تجني أرباحها الأولى. وبلغت القناة أوج نضجها ومجدها الباهر خلال حرب الخليج الأولى (١٩٩٠-١٩٩١) بتغطيتها المباشرة والمتواصلة للهجمات الجوية الغربية على بغداد ليلًا.

تجدر الإشارة إلى أنه كان يستحيل تدشين مثل تلك القنوات في المملكة المتحدة في منتصف عقد الثمانينيات لعدم وجود القدرات اللازمة للبث بكل بساطة. غير أن هذا الوضع تغيَّر تغيرًا هائلًا بحلول أواخر الثمانينيات بفضل إطلاق خدمتين فضائيتين متنافستين: بي إس بي المدعومة حكوميًّا وتليفزيون سكاي الذي أسسه روبرت مردوخ والذي أطلق قناته سكاي نيوز التي تعد القناة الإخبارية الثانية عالميًّا والأولى أوروبيًّا التي تذيع الأخبار على مدار الساعة.

تبع إنشاء الخدمتين الحديثتين منافسة طاحنة بينهما، مع تصاعد الخسائر الجسيمة لكلا الجانبين. انتهت هذه المنافسة أخيرًا باندماجهما معًا — وإن كانت سكاي قد استولت في حقيقة الأمر على بي إس بي التي كانت على شفا الانهيار — وولدت مجموعة بي سكاي بي.

figure
شكل ٧-١: مقر الأخبار العالمية، سكاي نيوز، عام ٢٠٠٧ (نُشرت الصورة بإذن من سكاي نيوز).

استطاعت سكاي، خلال سنواتها الأولى التي زامنت بداية التسعينيات، أن تُهيمن على مجال الأخبار المذاعة على مدار الساعة في المملكة المتحدة وبدأت تترك بصمتها الصحفية، رغم أن نسب المشاهدة كانت منخفضة إلى حد ما نظرًا لقلة الاشتراكات. واجهت سكاي نيوز في البداية، كما كان الحال مع سي إن إن، ازدراءً من منافسَيها الكبيرَين، بي بي سي وآي تي إن، لكنها أحرزت بعض النجاحات البارزة بتغطيتها الخاصة لحرب الخليج ونجاحها الباهر الذي حققته الصور الحية التي بثتها للحكم المثير الصادر في محاكمة أوه جيه سيمبسون؛ إذ كانت القناة الوحيدة في المملكة المتحدة التي عرضت المحاكمة، الأمر الذي جلب إليها مكسبًا مذهلًا تَمَثَّل في مليون مشاهدة إضافية، ولا تزال هذه، حتى تاريخ كتابة هذا المقال، ثالث أكبر مُشاهدة في تاريخ سكاي نيوز.

مع هيمنة الخدمة التليفزيونية متعددة القنوات في المملكة المتحدة، اعتمادًا على التكنولوجيا التناظرية في البداية ثم التكنولوجيا الرقمية، صار من الجلي أن البث المتواصل للأخبار على مدار الساعة لم يكن أمرًا واقعًا وباقيًا فحسب، بل إنه سيلعب أيضًا دورًا رئيسيًّا في مستقبل الصحافة المرئية والمسموعة.

خاضت بي بي سي عام ١٩٩٧ غمار المنافسة بإطلاق قناتها الإخبارية الخاصة على مدار الساعة والتي أطلقت عليها اسم نيوز ٢٤. غير أن بدايتها لم تكن موفقة؛ فرغم ما تتمتع به من موارد صحفية لا نظير لها، فقد بدا أنها كانت تفتقر إلى سرعة التغطية ومراعاة احتياجات المشاهد، وهما الأمران اللذان أجادتهما سكاي نيوز. كان عرضها الأول نموذجًا فريدًا لزوايا التصوير غير الملائمة وانعدام التناسق بين المواد الإخبارية. ووجد المشاهدون أنفسهم مشتتي الانتباه برؤية الموظفين في غرفة الأخبار وهم يلتهمون غداءهم أو يرتدون معاطفهم بتثاقل استعدادًا للرحيل. إلا أن أكثر ما أضر بالقناة هو ما أبداه بعض الشخصيات الرفيعة داخل القناة من استخفاف بها، على الشاشات أو خلف الكواليس، واصفين إياها «بصحافة غير لائقة». في ظل تلك الأوضاع، كان من الحتمي أن تبدو سكاي نيوز أكثر احترافية وحداثة بالمقارنة مع القناة الناشئة.

لكن قناة بي بي سي الجديدة وجَّهت إلى سكاي نيوز ضربة قوية عاجلة ممتدة المفعول: فقد قوضت الأساس التجاري لسكاي نيوز تقويضًا كاملًا. كانت سكاي نيوز، حتى إطلاق قناة نيوز ٢٤، تُحصِّل من مشغلي خدمات تليفزيون الكابل في المملكة المتحدة ٦ جنيهات إسترلينية سنويًّا مقابل بث القناة إلى كلٍّ من عملائهم البالغ عددهم آنذاك ثلاثة ملايين. لكن مع تقديم بي بي سي خدماتها الإخبارية مجانًا، اتضح أن هذه الرسوم ينبغي أن تتضاءل، وهو ما كان. أدت تلك الضربة إلى تلاشي إيرادات سكاي نيوز من الاشتراكات تمامًا خلال أسابيع وانتقال القناة من الربح إلى الخسارة.

ورغم ذلك، واصلت سكاي نيوز مسيرتها كمثال يُحتذى به في العمل الصحفي ونسب المشاهدة. إن محاكمة جليسة الأطفال البريطانية لويز وودورد عام ١٩٩٧ بتهمة قتل طفل في رعايتها في ولاية بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية أثبتت أنها قضية رأي عام في المجتمع البريطاني وكشفت أن المشاهدين سيمكثون شاخصين أمام شاشات التليفزيون لساعات لو كانت القضية مثيرة للاهتمام بالقدر الكافي. وعندما توفيت ديانا، أميرة ويلز، عام ١٩٩٧ حظي المشاهدون بأسبوع كامل من التغطية الإخبارية لهذا الحدث، وهي التغطية التي جلبت لسكاي نيوز جائزة جمعية التليفزيون الملكي المرموقة للتغطية الإخبارية.

على نحو متزايد، أصبحت التكنولوجيا والإقدام هما مجالَي التنافس الأساسيَّين في المجال الإخباري. لقد صارت المعدَّات المستعملة في جمع الأخبار، خلال عقد الثمانينيات، أصغر حجمًا وأخف وزنًا وأسهل نقلًا، وقد تزامن ذلك مع ثورة تكنولوجية أطلق عنانها التحول من استخدام الأفلام إلى استخدام شرائط الفيديو. وأضحى التحرير الميداني للمحتوى الإخباري، بدلًا من شحن مقاطع الفيديو الأصلية إلى المقر الرئيسي للشبكات الإخبارية، هو العرف السائد. ومن التطورات التي لا تقل أهمية عن كل ما سبق أن الوصلات الصاعدة للأقمار الصناعية أصبحت أقل تكلفةً وأسهل حملًا، إما بتثبيتها في ظهر شاحنات صغيرة ونقلها برًّا أو بوضعها في بضع حقائب للسفر لتنقلها الطواقم الصحفية معها جوًّا إلى بلدان بعيدة.

كشفت حرب الخليج الأولى بعضًا من إمكانيات الوصلات الصاعدة النقالة؛ إذ تسابقت الطواقم الأمريكية والبريطانية لتكون أول من يُدشن وصلاتهم في الكويت المحرَّرة حديثًا بعد هزيمة القوات العراقية.

لكن الصراع الذي شهدته كوسوفو هو الذي ارتقى بتلك الميزة التي وفرتها تلك الوصلات، والحرية الصحفية التي نشأت عنها، إلى مستويات جديدة. كما أثبت ذلك الصراع مدى الصعوبة التي ستواجهها السلطات العسكرية في المستقبل لفرض سيطرتها ورقابتها المادية على شبكات البث من خلال تقييد وصولها إلى الموارد أثناء وجودها في ميادين القتال.

مع استعداد قوات حلف الناتو لدخول كوسوفو من مقدونيا في يونيو عام ١٩٩٩، اعتقد «المشرفون» الإعلاميون التابعون لوزارة الدفاع البريطانية أنهم نجحوا في تقييد قدرة شبكات البث على التغطية الإخبارية بالسماح لشاحنة واحدة مزودة بخدمة الاتصال بالأقمار الصناعية بمرافقة القوات، بل والحرص على إبقائها في مؤخرة الجيش.

غير أن سكاي نيوز، في الأسابيع السابقة لذلك الإجراء، وجهت أربع شاحنات من نفس النوع عبر أوروبا إلى جنوب إيطاليا ثم شُحِنت على متن عبَّارة إلى اليونان ومنها إلى شمال مقدونيا حيث كانت على أهبة الاستعداد لمرافقة قوات حلف الناتو أثناء عبورها الحدود إلى داخل كوسوفو. كانت النتيجة بثًّا يوميًّا مشهودًا للأحداث، تتوقف خلاله شاحنتان من الشاحنات الأربع لبث التغطية الحية بينما تتقدم الشاحنتان الباقيتان لتغطية المزيد من المناطق. ثم كانت تتقدم الشاحنتان الأُوليان بمحاذاة رتل القوات لمزيد من التغطية وهكذا، بما يكفل قدرة سكاي نيوز على تقديم التغطية المتواصلة ومواكبة تقدُّم القوات في الوقت نفسه.

دفعت مثل هذه التطورات التكنولوجية إلى زيادة الطلب على «البث الحي»، الذي صار واحدًا من سمات الوسط الإعلامي الغالبة وإحدى القضايا التي أثارت نقاشات حامية داخل صناعة الأخبار التليفزيونية. إن السؤال ببساطة الذي يطرح نفسه في هذا الشأن هو: إذا استطعنا أن نرسل «بثًّا حيًّا» من موقع الخبر، فهل سيضيف ذلك كثيرًا، أو بالأحرى سيضيف أي شيء، إلى جودة التغطية؟

لا شك أن الكثير يعتمد على الخبر نفسه. لا أظن أن هناك من سيزعم أنه لا توجد قيمة حقيقية في رؤية حدث وهو يجري بالفعل أمام الكاميرات، سواءٌ أكان ذا أهمية تاريخية كهجمات الحادي عشر من سبتمبر، أو وصول القوات الأمريكية إلى بغداد، أو تقلُّد رئيس وزراء جديد لمهام منصبه في المملكة المتحدة، أم كان حتى أقل أهمية.

لكن من المؤكد أن هناك مجالًا للجدل بشأن ما يجري الآن بصورة روتينية من تغطية حية من موقع جميع الأخبار تقريبًا، خاصة حين لا تتضمن تلك الأخبار الكثير من المستجدات. من الحجج القوية المعارضة لهذا الاعتماد على «البث الحي» أنه يمنع المراسلين من أداء عمل صحفي حقيقي. فالشكوى (التي يطلقها كثير من المراسلين) هي أن هناك خطرًا حقيقيًّا بأن ينتهي بهم الأمر إلى أن يكونوا «متسابقين في سباق الأقمار الفضائية»، بحيث يكونون مرهونين بمواقع العرض الحي وعاجزين عن الانطلاق لجمع وقائع جديدة.

إن تفجير السيارة المفخخة الذي وقع بمدينة أوماه في أيرلندا الشمالية عام ١٩٩٨، والذي خلَّف ٢٩ قتيلًا دفعنا في سكاي نيوز إلى معالجة تلك الإشكالية ونجحنا في التوصل إلى قاعدة عامة تساعدنا في تحديد عدد العاملين الواجب إرسالهم لتغطية مثل هذه الأحداث الكبرى بحق. شكَّلنا فريقًا مكونًا من صحفي ومنتِج وطاقم تصوير وطاقم دعم فني، ثم شكلنا ثلاث فِرَق أخرى تضم نفس التخصصات. كانت الفكرة التي اعتمد عليها هذا التشكيل هي أن الفريق الأول سيكون موكَّلًا بتقديم تغطية حية متواصلة بينما سينشغل أفراد الفريق الثاني خلف الكواليس بجمع المعلومات، ومقابلة شهود العيان، وإعداد تقارير بأحدث التطورات — وهي المهام التي لا يسع الفريق الأول تنفيذها.

أما السبب وراء تشكيل الفريقين الثالث والرابع، فكان بديهيًّا: فبعد ١٢ أو ١٥ ساعة، لا شك أن أول فريقين سينتابهما من الإجهاد ما يعوقهما عن مواصلة العمل؛ لذلك إن أردت تغطية حقيقية للأخبار على مدار الساعة، فعليك أن تستبدل بهما فريقين آخرين في أوج نشاطهما. حقَّق هذا النهج نتائج جيدة في تغطية حادث أوماه وغيره من نقاط الأخبار الكبرى مثل تسونامي الذي وقع في آسيا عام ٢٠٠٤، رغم أنه بالطبع يُكلِّف الكثير من الموارد البشرية والمادية، لا سيما لو احتجت إلى نقل العشرات من العاملين وأطنان من المعدَّات عبر مختلف أنحاء العالم. لكن الأهم هو أن هذا الأسلوب يمكِّن شبكات الأخبار التليفزيونية بالفعل من أداء عمل صحفي حقيقي بدلًا من مجرد التعقيب على الأحداث الجارية.

إن التغطية المتواصلة للأخبار على مدار الساعة مجال يشهد منافسة شرسة تدفع أهم القنوات إلى البحث دائمًا عن أساليب تكنولوجية حديثة تمنحهم ميزة جوهرية على منافسيها، خاصة عند تغطية الحروب وغيرها من الأخبار المهمة.

بعد كوسوفو، وقع صراع آخر بارز في أفغانستان، لكنه تطلَّب نهجًا مختلفًا. لم يكن بالإمكان نقل الشاحنات المزودة بخدمة الاتصال بالأقمار الصناعية برًّا؛ لذلك نُقِلَت الوصلات الصاعدة النقالة جوًّا ثم حُمِلَت فوق سيارات نقل مستأجرة، وقد أخذت تتهادى فوق الطرق المغبرة حتى وصلت إلى موقع الحدث. استطاعت بي بي سي أن تفُوق الجميع حيلةً ودهاءً بأن نجحت في تفكيك وصلة صاعدة ووضع أجزائها في بضعةٍ وعشرين صندوقًا صغيرًا، حُمِل كلٌّ منها على ظهر حمار، ثم مضت القافلة كلها عبر الجبال حتى وصلت إلى مشارف مدينة كابول لنقل تغطية حية لاستيلاء التحالف الشمالي وحلفائه الغربيين على المدينة.

كما شهد الصراع الأفغاني أول استخدام ابتكاري واسع النطاق حقًّا لوصلات «هواتف الفيديو» الحديثة، والتي تستخدم تكنولوجيا الهواتف المحمولة لإرسال صور حية مضغوطة (لكنها مشوشة بعض الشيء لا محالة) دون الحاجة إلى استعمال وصلات صاعدة للأقمار الصناعية؛ ومِن ثَمَّ أصبح بإمكان المشاهدين في بريطانيا رؤية بعض الأحداث الهامة وقت وقوعها في مناطق لم يكن بالإمكان الوصول إليها باستعمال وصلات الأقمار الصناعية التقليدية.

أضحت حرب العراق التي اندلعت عام ٢٠٠٣ واحدة من أكبر العمليات الصحفية والفنية واللوجستية في تاريخ البث الإخباري؛ فالجماهير المتابعة لقنوات الأخبار المتواصلة على مدار الساعة قفزت أعدادها حول العالم واتسعت حدود التطورات التكنولوجية أكثر فأكثر. وأذهلت شبكة البث الأمريكية إن بي سي منافسيها بإزاحة النقاب عن مركبة رائعة لإصلاح الدبابات جرى تعديلها لتحمل وصلة صاعدة مثبَّتة للأقمار الصناعية؛ مما سمح لمراسلي القناة بالبث الحي عن قرب بينما تطوي المركبة العملاقة الصحراء العراقية طيًّا برفقة الجيش الأمريكي.

لقد أثارت التغطية التليفزيونية للحرب العراقية جدلًا شديدًا داخل صناعة الأخبار وفي العالم أجمع. على وجه الخصوص، أثارت «مرافقة» المراسلين للقوات العسكرية تساؤلًا عما إذا كان بإمكانهم حقًّا التزام الحيادية بينما يعتمدون في ضمان سلامتهم وتنقلاتهم وطعامهم وإيوائهم على تلك القوات. عبَّر النقاد كذلك عن تشكُّكهم في قيمة مثل هذه التغطية لعدم تمتع المراسلين وأطقم التصوير بحُرية التنقل خارج نطاق المحيط الملاصق للوحدة المخصصة لهم.

لكن أغلب شبكات البث الغربية تقبلت الفكرة بدعوى أن إرسال أكثر من عشرين مراسلًا بصحبة القوات البريطانية، الذين يحشدون جميعهم تغطياتهم الإخبارية، وعشرات المراسلين الآخرين برفقة القوات الأمريكية، من شأنه أن ينتج الكثير من المواد الإخبارية القيِّمة — والمعتمدة على الجانب المرئي اعتمادًا كبيرًا — وهو ما حدث بالفعل. كما أشارت شبكات البث إلى أن جميع المؤسسات الإخبارية الكبرى لم تعتمد على المراسلين المرافقين للقوات العسكرية فقط، بل أرسلت آخرين مراسلين «منفردين» (أو «متمردين» كما كان العسكريون يفضلون أن يصفوهم)، وقد استطاعوا، بصعوبة ومخاطرة كبيرة، أن يؤدوا قدرًا معينًا من العمل الصحفي المستقل ميدانيًّا. كانت هناك أيضًا مستويات أخرى من التغطية، متمثلة في المراسلين الذين نقلوا الأحداث نقلًا حيًّا — بشجاعة فائقة — من بغداد وغيرها من بؤر الصراع الرئيسية: الكويت والبحرين والدوحة والمناطق الكردية داخل العراق.

شهدت حربَا أفغانستان والعراق ارتفاعًا كبيرًا في عدد الصحفيين الذين فقدوا حياتهم في ميدان القتال؛ إذ وقع بعضهم ضحايا لتبادل إطلاق النار، والبعض الآخر نتيجة «النيران الصديقة»، والبعض الثالث نتيجة حوادث. لقد تبيَّن أيضًا أن الصحفيين لم يعودوا يحظون ﺑ «الحصانة» التي سبق أن تمتعوا بها في حروب وحقب أخرى؛ إذ يمكن أن يتعرضوا في كثير من بؤر الصراع للهجوم أو الاختطاف أو القتل، مثلهم مثل الجنود تمامًا.

وفي سوق الأخبار المتواصلة على مدار الساعة بالمملكة المتحدة، كانت الأمور تشهد تغيرًا؛ فقد أطلقت شبكة آي تي إن في عام ٢٠٠٠ قناتها الخاصة المذاعة على مدار الساعة، مدفوعة بنية واضحة لإزاحة سكاي نيوز عن صدارة المجال لتحل محلها. لكنها عانت من مشكلات منذ البداية؛ إذ أبقتها نسب المشاهدة المنخفضة في المرتبة الثالثة ولم تتجاوزها رغم ما قدمته من بعض البرامج القوية. الأخطر من ذلك أن اقتصاديات الصناعة، لا سيما مع استمرار بث قناة بي بي سي مجانًا، قضت عمليًّا وإلى الأبد على فرص قيام أي مؤسسة أخرى تسعى لجني الأرباح من مجال بث الأخبار على مدار الساعة. نتيجة لتلك الظروف، قررت شبكة آي تي في، المالك الرئيسي لآي تي إن، أن تكتفي بهذا القدر وأغلقت القناة في أواخر عام ٢٠٠٥.

بعد بضع سنوات عجاف في مستهل مسيرتها، بدأت قناة نيوز ٢٤ التابعة لبي بي سي تقوى مكانتها، من حيث الجوانب التحريرية ونسب المشاهدة على السواء. لقد أقرت قيادة الشبكة أخيرًا بضرورة أداء القناة دورًا محوريًّا في القسم الإخباري. وتلقت دفعة حقيقية بعد نجاح فريفيو، وهي خدمة متعددة القنوات تقدَّم مجانًا إلى الأسر التي لا ترغب في اقتناء طبق هوائي أو وصلة تليفزيون كابل. وبالرغم من أن مشاهدي القنوات الفضائية لم يتوقفوا عن متابعة الأخبار المتواصلة على شاشة سكاي نيوز، فإن المنازل المشتركة في خدمة فريفيو آثرت بقوة قناة نيوز ٢٤. بالإضافة إلى ما سبق، أقبل المشاهدون على الاشتراك في خدمة فريفيو على نحو يفوق بكثير إقبالهم على شراء الأطباق الهوائية؛ مما مكَّن نيوز ٢٤ من اللحاق بسكاي نيوز وتخطيها بتؤدة من حيث نسب المشاهدة. ومع ذلك ظلت المنافسة الصحفية بين المؤسستين على أشدها.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن معركة مختلفة تمامًا كانت تدور رحاها بين قناة سي إن إن، التي كانت تحظى بتقدير بالغ، وخصمها الشرس والطموح، فوكس نيوز، وهي القناة المملوكة لمؤسسة روبرت مردوخ، نيوز كوربوريشن، مع وجود قناة ثالثة تُدعى إم إس إن بي سي، تكافح بجسارة بمحاولة اللحاق بالمنافسَين الكبيرين.

أطلق مردوخ قناته فوكس نيوز عام ١٩٩٦ لمجابهة ما اعتبره انحيازًا ليبراليًّا في وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية، بما فيها سي إن إن، وقد تبنَّت هذه القناة أجندة محافظة ذات طابعٍ قومي قوي، وذلك رغم تأكيدها بأن تغطياتها، بوجه عام، «منصفة ومتزنة» كما ينص شعارها. سددت نيوز كوربوريشن، وقت إطلاقها لفوكس نيوز، ضربة محكمة لمنافسيها بتقديمها لمشغلي خدمات تليفزيون الكابل ١٠ دولارات مقدمًا مقابل كل مشترك وذلك لتشجيعهم على بث القناة، وهو الإجراء الذي قوضت به المؤسسة ببراعة جميع جهود تايم وورنر (المؤسسة المالكة لسي إن إن) لكبح مسيرة القناة. ودخلت فوكس نيوز، بحلول عام ٢٠٠٧، أكثر من ٩٠ مليون بيت أمريكي، متمكنةً من الوصول إلى الأغلبية العظمى من الشعب الأمريكي، ومحتلةً المرتبة الأولى بين القنوات الإخبارية من حيث نسب المشاهدة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.

إذًا، كيف يبدو المستقبل بالنسبة إلى إذاعة الأخبار على مدار الساعة؟ تكثر التوقعات، لكن حتى الذين يديرون دفة كبريات المؤسسات الإخبارية يُقرُّون بأنه ليس ثمَّة مسار واحد واضح المعالم. ورغم ذلك، يمكننا أن نرسم الخطوط العريضة لبضعة اتجاهات رئيسية.

من المرجح أن الاندثار الوشيك لجميع وسائل الإعلام التقليدية، والذي دأب كبار المتخصصين في دراسة مستقبل العالم الإلكتروني على التنبؤ به لعدة سنوات حتى الآن، سيجري على نحو أكثر تدرجًا مما يخشاه البعض ومما يرجوه آخرون. فمثلما لم يقضِ الراديو على الصحف ولم يُلغِ التليفزيون وجود الراديو، فإنه لم يَحِن بعدُ الوقت الذي يُبطِل فيه المحتوى الإلكتروني التليفزيون. ورغم ذلك، فمن الجلي أنه يستحيل لنا أن نتخيل انقلابًا عكسيًّا في مستويات الانخفاض المطردة في أعداد المتابعين لنشرات الأخبار التي تبثها الشبكات المحلية وتُشاهَد في نفس الوقت في كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. كما يبدو من الواضح أن مبيعات الصحف ستواصل انخفاضها ما دام قُرَّاؤها يجدون بدائل إلكترونية في مكان آخر.

لكن القنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة لن تقدِّم وحدها بديلًا متكاملًا أو ما شابه. بل إن هناك بالفعل من يزعم أن القنوات الرئيسية منها في طريقها إلى الزوال مع انصراف المشاهدين عن الخدمات الإعلامية الأحادية — أي التي تتضمن مشاهدة سلبية بلا تفاعل من جانب المتلقي — إلى الخدمات الإعلامية التي تكفل قدرًا أكبر من التفاعل بين المتلقي والمصدر. إن أكبر مثالب القنوات الإخبارية الدائمة البث، في المملكة المتحدة على الأقل، هو اعتمادها على الأخبار العاجلة البارزة — التي يستحيل التخطيط لها مسبقًا بحكم طبيعتها — من أجل مضاعفة أعداد المشاهدين أو الوصول إلى نسب مشاهدة قياسية، ولم تفلح جهودها في اجتذاب المشاهدين إلى برامج «محددة المواعيد»، تقوم على أشخاص أو موضوعات معينة.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فالحال ليس كذلك؛ فمقدمو البرامج المرموقون، من أمثال لاري كينج في سي إن إن وبيل أورايلي في فوكس نيوز، هم نجوم تجذب الجماهير، وما ساعد على ذلك في حالة شبكة فوكس هو الموقف الرقابي تجاه الآراء المؤثرة الذي يتسم في الولايات المتحدة الأمريكية بمزيد من التحرر مقارنةً بالمملكة المتحدة.

من الواضح أنه سيتوجب على جميع المؤسسات الراغبة في احتلال مكانة محورية في عالم الأخبار أن تعرِض منتجاتها من خلال طائفة متكاملة من المنافذ — وهو ما يقوم به بالفعل أكثرها. وهذا يعني، في الوقت الحالي، تقديم برامج تليفزيونية وخدمات إخبارية على مدار الساعة، وتحقيق وجود قوي على شبكة الإنترنت (أي موقع إلكتروني إخباري)، بالإضافة إلى توفير مجموعة من القنوات والمواد الإخبارية ذات البث التدفقي عبر أجهزة الاستقبال، وإرسال عناوين الأخبار ومقاطع الفيديو إلى الهواتف المحمولة، وربما إلى جانب خدمة إذاعية أيضًا.

قد يبدو ما سبق مجموعة مربكة من المتطلبات، لكن الواقع أن الأمر يسير نسبيًّا بالنسبة إلى شبكات البث في ظل الكيفية التي تُنسَّق بها غرف الأخبار الحديثة؛ فالمحتوى الإخباري كله يُحفَظ حاليًّا على خوادم فيديو حاسوبية ذات قدرات عالية — لا على شرائط فيديو كما كان الحال منذ خمس سنوات — ومِن ثَمَّ يسهل على الطواقم أو الأفراد القائمين على إعداد الخدمات الإخبارية لجميع هذه المنافذ المختلفة الحصول عليه واستخدامه («إعادة تكييفه» هو المصطلح المستخدم في المجال). بناءً على ذلك، تكمن التكلفة على نحو متزايد في عملية إنتاج المادة الإخبارية ابتداءً، لا عملية تقسيمها بطرق مختلفة وإرسالها إلى المتلقي.

إن أصحاب الصحف عازمون على ألا يتخلَّفوا عن الركب. إنهم يدركون أنه لم يعد بإمكانهم كسب رضاء عملائهم بمجرد بعض الكلمات والصور الفوتوغرافية المؤثرة (والتي لا تُعرَض بالتأكيد مرة واحدة في اليوم). فعليهم أيضًا أن يستحدثوا خدمات إخبارية أكثر تكاملًا تضم، في أفضل الأحوال، مقاطع فيديو إخبارية وأخبارًا يجري تحديثها بانتظام. أما الصحف الأبعد نظرًا، فتعمد بالفعل الآن إلى إعادة تصميم غرف الأخبار خاصتها بحيث يوجد قسم الطباعة التقليدي جنبًا إلى جنب مع فريق إدارة المحتوى الإلكتروني، مع إمكانية تقاسم جميع المواد الإخبارية فيما بينهما. وليس من الصعب الآن تخيُّل جريدة المستقبل غير البعيد: فهي ستكون صحيفة إلكترونية مرنة (تخيلها على هيئة شاشة كمبيوتر محمول، رقيقة جدًّا قابلة للطي، حجمها نصف حجم الجرائد الصغيرة أو أقل)، يمكن أن تُنزَّل عليها الأخبار المقروءة والصور الثابتة ومقاطع الفيديو والخرائط الحية، إلخ. ربما تقرأ تلك الجريدة وأنت في طريقك إلى العمل على متن قطار، وتتركها في حقيبة مستنداتك طوال اليوم ثم تخرجها وأنت في طريق عودتك لتقرأ نسخة محدَّثة تمامًا تضم محتوًى إخباريًّا جديدًا جرى تنزيله قبل أن تستقل قطار العودة بخمس دقائق فقط.

لكن كيفية سداد تكاليف توفير كل هذه الخدمات الإلكترونية مسألة عويصة، وهي أصعب، من أوجه كثيرة، من مسائل التكنولوجيا والمحتوى. لا تُعَد هذه المسألة مشكلة كبيرة بالنسبة إلى تلك المؤسسات التي توفر القسط الأكبر من إيراداتها من الاشتراكات، مثل سكاي، أو من رسوم الترخيص، كما هو الحال بالنسبة إلى بي بي سي، ذلك لأن مثل هذه الخدمات المقدمة عبر الإنترنت يمكن استخدامها لمنح المشتركين «قيمة مضافة» وربما لتبرير الزيادات في الرسوم.

لكن بالنسبة إلى مؤسسات أخرى، كالصحف، التي تستمد أغلب إيراداتها من المبيعات الفردية، فإن مثل هذه الخدمات تُمثِّل عبئًا حقيقيًّا. إن الإنترنت يضم حشدًا هائلًا من الأخبار والمعلومات المجانية التي يتشبث المستخدمون بفكرة عدم دفع مقابل لها. كما توجد «خدمات تجميع» ضخمة للمحتوى الإلكتروني مثل خدمة أخبار جوجل التي تزعم عرضها لأفضل محتوًى إخباري تقدمه أكثر من ٤ آلاف خدمة إخبارية حول العالم، مع التحديث المنتظم لهذا المحتوى وإتاحته مجانًا. لا تُنتج خدمة جوجل أي خبر بنفسها ولا تلتقط صورة فوتوغرافية واحدة أو تسجل مقطع فيديو واحدًا، لكنها تعمل كمركز عملاق لتبادل الأخبار يتعامل مع كل المنافذ الإخبارية في العالم تقريبًا؛ لذلك ما لم تكن عملياتك الإخبارية شديدة التخصص أو عالية القيمة، كأجزاء من ذا نيويورك تايمز أو فايننشال تايمز على سبيل المثال، فإن محاولة تحصيل رسوم من العملاء مقابل استخدامهم لموقعك الإلكتروني هي فكرة محكوم عليها بالفشل في ظل وجود عدد كبير من البدائل المتاحة مجانًا.

مِن ثَمَّ تبدو الدعاية الإلكترونية المصدر الوحيد المعتبر للدخل والذي تتنافس عليه جميع المنافذ الإخبارية بشراسة (إلا أنه مع استحواذ جوجل على نسبة كبيرة منه، فمن الواضح أنه لن يبقى ما يكفي الآخرين).

إذًا كيف يؤثِّر ذلك على مجال الأخبار المذاعة على مدار الساعة؟ حسنًا، من الواضح أن هذا المجال، بنحو أو بآخر، أمر واقع وباقٍ. إن الشيء الوحيد الذي لن يتضاءل هو تعطُّش الجماهير لمعرفة ما يجري في عالمهم، وتلقِّي الآراء والتفسيرات المطلعة حول الأحداث، وتكوين آرائهم الخاصة بشأنها أيضًا، وهو ما صار أسهل من أي وقت مضى، لكن حسب رؤيتي الخاصة للمستقبل (التي لعلها يكون مصطبغة بما أتمناه بقدر ما هي استشراف حقيقي للمستقبل)، فإني أعتقد أن الصحافة الحقيقية لن تقل أهمية في المستقبل عن أهميتها في وقتنا الحالي، بل ربما حتى ستزداد أهمية؛ فمع كل التطورات التكنولوجية التي أحرزناها، وكل وسائل التوزيع التي تشهد تحسنًا مطردًا، تظل أفضل أداة يُستعان بها ميدانيًّا هي صحفيٌّ متفانٍ يتمتع بالخبرة وقدرٍ صحيٍّ من التشكك، حاصل على كل ما يحتاج إليه من المساندة والدعم، بحيث يكون مستعدًّا لنقل كل ما رآه بعينيه أو علمه من المصادر التي يعرفها ويثق بها. لو كنت تبحث عن أفضل أداة صحفية، فإن هذا هو كل ما تحتاج إليه في الحقيقة.

أسئلة يُجيب عنها الطالب

(١) صار بالإمكان، بفضل التكنولوجيا الحديثة، «البث الحي» للأخبار التليفزيونية المذاعة على مدار الساعة من أي مكان وفي أي وقت تقريبًا. لكن كما أشار نيك بولارد، هناك جدل كبير حول ما إذا كانت القدرة على «البث الحي» من موقع الخبر ستضيف الكثير، أو بالأحرى ستضيف أي شيء، إلى جودة التغطية. ما رأيك في هذا؟

(٢) كيف يمكن للقنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة أن تجتذب المشاهدين والمُعلِنين في حال لم تكن هناك أخبار عاجلة مهمة تنقلها؟

(٣) ما المخاطر التي تتعرض لها قنوات الأخبار التليفزيونية العاملة على مدار الساعة وما الميزات التي تمتلكها؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤