شعراء الأمير

(١) اختراع الرواد

(١-١) التأريخ الشعري

يصح أن نسمي القرن التاسع عشر قرن التأريخ شعرًا، فكما اخترع الحريري معجزاته البهلوانية في نظم قصائد رقطاء وغير رقطاء، كذلك كان لرواد النهضة معجزة التأريخ في الشعر، فما هو هذا التاريخ إذن؟

إنه مجموعة كلمات منظومة يأتي رصيد حروفها الأبجدية دليلًا على السنة التي يقصدها الناظم، وهكذا صار الحساب حساب في دفاتر شعرائنا.

أما الحروف «الأبجدية» لا الألفباء، فحسابها معروف. سمَّاه القدماء حساب «الجمل»، ولكن ابن دريد يقول: وما أحسبه عربيًّا. أما الزمخشري فاعترف به في «أساس بلاغته» وقال: وأجمل الحساب والكلام تعلم الجمل. فحروف كلمات «أبجد هوز حطي» يعتبر بها في عرفهم عن الآحاد، من الواحد حتى العشرة. ولفظتا «كلمن سعفص» تعبِّر عن العقود، من العشرين إلى التسعين. وحروف «قرشت ثخذ ضظغ» تعبر عن المئات فالألف.

أخذ السريان هذا الحساب عن العبرانيين، وهم لا يزالون عليه حتى اليوم. ولعله أبو الرقم الروماني الذي لا يزال يستعمله الفرنجة في بعض الأماكن؛ ولهذا أزعم أن نواة «التأريخ الشعري» سريانية، لا كما زعم المير حيدر في تاريخه: إن السيد عبد الرحمن شاكر النحلاوي — تلميذ الشيخ عبد الغني النابلسي — هو الذي اخترع التاريخ على حساب الجمَّل١ أما الذي يحملني على هذا الزعم فهو أن السريان لم يستعملوا قط في حسابهم غير الحروف، ولا يزالون على هذا حتى اليوم. وقد لامهم المطران يوسف دريان مؤلف كتاب نحوهم وصرفهم؛ لأنهم لم يستعملوا الرقم العربي الذي عدَّه يدًا من أيادي العرب البيضاء على العلوم الرياضية، ونعى على قدمائنا تسميته بالرقم الهندي، ونفى معرفته عن الهنود.٢
وإذا قيل: ولكن أبجدية السريان لا تفي بهذا الغرض؛ لأن أرقامها لا تتجاوز الأربعمائة. فالجواب على ذلك عند القسِّ نعمة الله الكفري أحد علماء النهضة في السريانية، قال في غراماطيقه:
لما كان السريان لا يستطيعون أن يعدُّوا بهذه الحروف — الأبجدية — إلا الأربعمائة، أوجد الأولون نوعًا يعدُّون به المئات، والألوف والربوات، فيضعون علامة المائة نقطة من فوق أحرف العشرات — كلمن سعفص — وإذا أرادوا أن يبينوا الآلاف يضعون خطًّا منحرفًا من تحت أحرف الآحاد، أما الربوات فيوضع لها خط مستقيم تحت الحرف.٣
وهناك شيء غير هذا سأذكره لك، يجعلنا نشك بزعم المير حيدر في القصيدة التي قال إنها أدهشت أهل عصر النحلاوي حتى قال بعضهم: إن الجن لقنه إياها. والمشهور عند الجمهور أن روح الشيخ عبد الغني حلت عليه؛ فاستفاد بها ذلك.٤

ورحت أبحث هنا وهناك في الكتب السريانية على غير جدوى، وأخيرًا استعنت ببطريركية السريان فأفادتني أنَّ ابن العبري استعمل شكلًا من التأريخ الشعري، فذكر السنة بحروف الجمل في سياق الشعر، وتفضلت علي بنص البيتين، ثم رأيت ابن الشبيب من شعراء القرن السادس للهجرة ينحو نحو ابن العبري — تقريبًا — فيقول في الخليفة المستنجد بالله، وهو الثاني والثلاثون من العباسيين، دالًّا على ذلك بلفظة «لبَّ» فاستقامت له تورية لطيفة:

أصبحت «لبَّ» بني العباس كلهم
إن عُدِّدتْ بحروف الجمل الخلفا

وعلى هذا المنوال نسج شاعر آخر، فقال في كهل مزواج:

من كان «آدمُ» جُمَّلا في سنِّه
هجرته «حوَّاء» السنين من الدمى

أي أن ابن «٤٥» سنة، وهي جُمَّل آدم، تهجره ابنة خمسة عشر، وهي جُمَّل حواء.

وقرأت لصلاح الدين الصفدي، وهو من شعراء القرن الثامن الهجري بيتين في وصف قلم ممدوحه بدر الدين نفَّاع ألمَّ فيهما بشيء من حساب الجمل، فقال:

لصفات بدر الدين فضل شائع
تصبو له الأفكار والأسماع
انظر إلى «القلم» الذي يحوي فقد
صحَّ الحساب بأنه «نفَّاع»٥
أي أن كلمتي القلم ونفَّاع تتفقان في حساب الجمل، فتكون كلٌّ منهما ٢٠١، ثم رحتُ استقصي تاريخ حساب الجمل، فاهتديت إلى بلاطة عمرها ٣٨٦ سنة — العمر كله — لا تزال حتى الساعة في عاليه، فوق عين، تعرف بعين الضيعة، وهي تقع جنوبي الجامعة الوطنية على مسافة مائتي متر، كتبت عليها هذه الكلمات:

بسم الله الرحمن الرحيم، أنشأ هذا السبيل المبارك العبد الفقير صالح بن محمد الحلبي الشهير نسبته، ثبَّت الله حسنته، وجزاه جزاء الآخرة، وبخلود دولة مولانا السلطان مراد حفظه الله كل حفظ. وكتب في شهر شعبان المبارك سنة «هفظ»، أي سنة ٩٨٥ بحساب الجُمَّل.

figure

ويأتي بعد ذلك ما يحسبه الناظم شعرًا:

يا واردًا للعين قصدك لا يخيب
اشرب وطهِّر جسمك من ماء صبيب
اشرب وقول الحمد للمولى على
أنعامه هنيئًا يا من قد شرب

حتى هنا لم نصل إلى التاريخ الشعري بالصورة المعروفة اليوم، أي بوضع كلمة «تاريخ» وما يشتق منها من لفظ، قبل الألفاظ التي تنظم لتجمع فتدل على العام الذي يقصده الشاعر، ولعل أقدم هذا الطراز هو قول أحدهم في وفاة الشيخ تاج الدين بن بخشي المتوفى عام ٨٧٢ﻫ:

انتقل الشيخ وتاريخه
قدَّسك الله بسرٍّ رفيع

ثم يليه قول ابن المبلط مؤرخًا جلوس السلطان سليم العثماني:

تولى مليك العصر، وابن مليكه
بعزٍّ وتأييد ونصر وسلطان
ودولة ملك قلت فيها مؤرخًا
سليم تولى الملك بعد سليمان

وقال شاعر، وهو لا شك إمام عالم، يؤرخ ظهور التبغ في البلاد، وما أحسب هذا الشاعر إلا حديث العهد، وإن كان الزمن الذي يؤرخه يرجع إلى سنة ٩٩٩ﻫ، وهذا هو تاريخه كما ورد في كتاب علم النبات للدكتور بوست الأميركي:

سألوني عن «الدخان» وقالوا
هل له في كتابنا إيماء
قلت ما فرَّط الكتابُ بشيءٍ
ثم أرَّختُ يومَ تأتي السماء

فهذا التاريخ مجتمعة فيه جميع شروط التاريخ الشعري الفنية، فهو يشير إلى الآية الكريمة: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ، فالتاريخ متى كان رصف ألفاظ يجيء بشعًا، ومن أصوله أن يحتوي إما على نكتة طريفة، كتورية جميلة، أو على آية كريمة، أو كلمة مأثورة توافق المقام، كما فعل شاعر حين أرخ موت شاب قُتل خطأ، فأخذ شطر الفارض القائل: أنا القتيل بلا إثمٍ ولا حرج، وعمل منه تاريخه.

ثم يجيء بعد هذا تاريخ آخر لمقتل السلطان عثمان بن أحمد سنة ١٠٣١ﻫ:

مات سلطان البرايا
فهو في الأخرى سعيد
قال لي الهاتف أرِّخ
إنَّ عثمان شهيد

فالتورية هنا هي في قوله: إن عثمان شهيد، حيث يشير إلى ابن عفَّان.

وأذكر تاريخًا قيل قبل هذا، جاء فيه:

بنى سلطاننا برقوق جسرًا
ومن تغدو الأنام له مطيعة
مجازٌ بالحقيقة أرَّخوه
وأمر بالسلوك على «الشريعة»

أي نهر الأردن الذي يسمى نهر الشريعة. وقال الشيخ عبد الرحمان التاجي مؤرخًا بناء قصر الأمير عمر الحرفوش سنة ١٠٧٧ﻫ:

أبديتَ فيه للعيون بدائعًا
في الحسن تصدر عن علاك وتورد
ولذاك ثغر السعد قال مؤرخًا
قصر زهيٌّ للأمير مشيَّد

ويحبو التاريخ الشعري نحو التطور، فنرى الشيخ أحمد بن ناصر الدين الحنفي يؤرخ فتح الموره على يد علي باشا المعروف بابن الحكيم في بيتين؛ كل منهما برمته تاريخ لذاك الفتح الذي كان عام ١١٢٧:

قد صاغ بيتين في كل يؤرخه
من بعد هذا كعقدٍ زان ذا عَطلِ
في كلِّ حربٍ دهي الإسلام من نوب
قد أيد الله فيها أحمدًا بعلي
لا زال بين الورى إعلاء عدلهما
ما دام عزهما في السهل والجبل
والآن يأتي دور الشيخ عبد الغني النابلسي الذي استعمل التواريخ في البديعيات،٦ وعنه أخذ تلميذه النحلاوي صاحب الأعجوبة التي أدهشت الناس.

وبعد هؤلاء أرَّخ الخوري نيقولاوس الصائغ شعرًا، ثم كان أحمد البربير أول المتفننين في التاريخ؛ فجعل الحروف المهملة في البيت كله تاريخًا، وكذلك الحروف المعجمة.

أما أول من أرخ في السريانية على الطريقة الحديثة فهو المطران يوسف اسطفان الغسطاوي المتوفى عام ١٨٢٢ نظم قصيدة سريانية بليغة في رثاء عمه البطرك يوسف اسطفان، افتتحها واختتمها ببيت فيه تاريخ وفاته عام ١٧٩٣، وهو منشور في كتاب بصائر الزمان للأب بولس عبود.

والآن فلنعد إلى ذاك الذي أملاه الجِّن على النحلاوي، كما روى لنا المير حيدر في تاريخه — كما مرَّ، فهما بيتان تضمَّن كل بيت منهما أربعة تواريخ، وهذان هما:

أهديك مدحًا بليغًا. يا سني غدا
بحر الفتوحات. باهي الفضل والمنن
ألفاظه كنجوم، فهي تشرق ما
بدا سنا بدرها. أرَّخه عبد غني

[أهديك مدحًا بليغًا = ١١٣٦، يا سني غدا = ١١٣٦، بحر الفتوحات = ١١٣٦، باهي الفضل والمنن = ١١٣٦]، [ألفاظه كنجوم = ١١٣٦، فهي تشرق ما = ١١٣٦، بدا سنا بدرها = ١١٣٦، أرَّخه عبد غني = ١١٣٦]

ثم بنى على حروفهما قصيدة يتضمن كل شطر منها تاريخًا. فأدهش الناس كما قال المير.

ثم كان ناصيف اليازجي — بعد النحلاوي — أول من حاول محاولة «تاريخية» أخرى جديدة، فنظم تلبيةً لاقتراح مولاه الأمير بشير الشهابي تاريخًا لفتح عكاء في بيتين ضمنهما ثمانية وعشرين تاريخًا، وذلك يحصل من كل شطر منهما متى جمع، ثم من مهمل كل بيت منهما ومن معجمه، ومن مهمل كل شطر مع معجم كل شطر فيهما، وبالعكس صدرًا لصدر، وعجزًا لعجز، وبالخلاف سوى التاريخ الناطق لفظًا، أما البيتان فهذان هما:

في فتح عكا برد نار معاطبٍ
دار الخليل، وللديار به البكا
رأس الثمان وأربعين بطيه
مئتان مع ألف، فبارك ربكا

[مئتان مع ألف، فبارك ربكا = ١٢٤٨]

ولما قرأ إبراهيم باشا البيتين أرسل يطلب قصيدة على نسق قصيدة النحلاوي، فنظم ناصيف القصيدة وجعل كل شطر منها تاريخًا، وصدَّرها ببيتين ضمَّن كل شطر منهما تاريخين، ووزع — مثل النحلاوي — حروف البيت الأول على أوائل بيوت الغزل من القصيدة، وحروف البيت الثاني على أبيات المديح منها، أما البيتان فهذان هما:٧
أنت الخليل وفي. الأطلال برد لظى
أطلال عكا ورفض. الرعب والحذر
كن بالغًا أوج سعدٍ. ما به ضرر
أو غالبًا لم يزل في. أول الظفر

[أنت الخليل وفي = ١٢٤٨، الأطلال برد لظى = ١٢٤٨، أطلال عكا ورفض = ١٢٤٨، الرعب والحذر = ١٢٤٨]، [كن بالغًا أوج سعدٍ = ١٢٤٨، ما به ضرر = ١٢٤٨، أو غالبًا لم يزل في = ١٢٤٨، أول الظفر = ١٢٤٨]

ثم نظم ناصيف لجاوس السلطان عبد العزيز بيتين كبيتي فتح عكا، ضمنهما ثمانية وعشرين تاريخًا، ونظم قصيدة أخرى في مدح هذا السلطان على نسق القصيدة النحلاوية.

ولليازجي تواريخ مفردة عديدة جدًّا، جمعت في آخر النبذة الثالثة من ديوانه المسماة «ثالث القمرين».

وحذا اليازجي الابن حذو والده فنظم تواريخ جمة، ولكنها ذات طلق واحد، وليست ذات طلقات من نوع التومغان، ولا من نوع المترليوزات كما سترى …

وظل اليازجي بعد النحلاوي سيد الموقف حتى نظم أستاذنا المعلم عبد الله البستاني عند غياب شمس القرن التاسع عشر؛ قصيدة في مدح المطران إلياس الحويك عند انتخابه بطريركًا.

عنوان هذه القصيدة «فتاة الأناة». وقد أتم السجعة جامع كتاب «لهجة الحق»، فقال: وهي آية في المعجزات، ثم راح يعرفنا عليها بقوله: وهي قصيدة «تاريخية» تتضمن ٦٢١٦ تاريخًا، وذلك أن كل مصراع من مصاريعها يتضمن تاريخًا للسنة ١٨٩٩، ثم إن مهمل كل مصراع إذا ضم إليه معجم أي مصراع أردته، كان تاريخًا للسنة المومأ إليها، ومعجم كل مصراع إذا ضم إليه مهمل أي مصراع أردته كان تاريخًا أيضًا للسنة نفسها، فتكون التواريخ بمقتضى ذلك ٦٢١٦ تاريخًا.٨

إني أنقل لك — أيها القارئ العزيز، بعض أبيات منها لتجرب وتتسلى، افترضها سؤالًا من تلك المسائل التي تطلب بعض الصحف حلها، وامتحنها في ساعة فراغك، فالعلم بالشيء خير من الجهل به. قال الشيخ عبد الله:

يا بطريرك الشرق رفتك النهى
رتبًا وقفتَ لها السرور مع اللها
مرحت بك الأقمار مسفرة ولم
تؤثرْ سواك فسرَّ أو سِرْ بالسُّها

ومنها:

وسهرت للفقراء تعكل كربهم
ترفوا وأمرك قد أبار الترها
وافخر ومر، وابشر وسد، واسلم ودم
ترع المكارم فاحرسن متنبِّها

أما هذه القصيدة، وهي معجزة حقًّا، فهي ثمانية وعشرون بيتًا، فاعمل حسابك … ثم احمد الله على أننا لسنا في عصر المير حيدر لننسبها لإبليس وجنوده …

وهكذا «كسر» المعلم عبد الله البستاني «ركورد» اليازجي والنحلاوي، واستولى على الأمد ولا يزال.

تذكرني هذه «الآيات» بذاك الأمير الذي وقف بحضرته بهلواني وفي يده مائة إبرة، فجعل يرميها من فمه جاعلًا رأس كل إبرة بخرم الأخرى، ثم لم يخطئ أبدًا؛ فأجازه الأمير بمائة «كرباج» لأنه أضاع مهارته فيما لا فائدة فيه، وأعطاه مائة دينار جزاء تعبه ونصبه.

عفوك أستاذنا، تحت التراب. لقد كنت نافعًا، بل كنت الجسر الذي عبر عليه رجال النهضة من ضفة الركاكة والرطانة إلى ضفة الفصحى وواحتها.

ولعل قارئي العزيز يقول في قلبه: ما دام هذا لا ينفع فما لك تحدثنا عنه؟!

إن الأمانة الأدبية تقضي بهذا؛ لقد تعب الجماعة فلنذكرهم بما عملوا، وقد تكلمت عن هذا قبل التحدث عن شعراء الأمير؛ لأنهم ومن جاءوا بعدهم — حتى الشدياق وهو عدو التقليد — قد نظموا جميعًا تواريخ، ولا يزال في عهدنا من ينظم منها حتى الداعي.

أما التراسل بالشعر٩ أو التراشق به، فهو أيضًا من ابتداع هؤلاء الرواد. فكأن سوق الشعر قد بارت فأمسى لا ينفق عند أحد، فأخذ شعراء هذا القرن يمدح بعضهم فيما سموه رسائل، فصح فيهم قول المثل: حكَّ لي أحكُّ لك.

ولا يزال أدباء اليوم على هذا، فيتقارضون الثناء على كتبهم وغير ذلك، وقد صدق من قال: حب الثناء طبيعة الإنسان. فالطفل إذا ما امتدحته تبدو على وجهه غبطة دونها الغبطة التي تعروه ساعة أكله قطعة حلوى يحبها.

صحتين، كلوا حتى تشبعوا … ولأم الناقد الهبلُ …

(١-٢) نقولا الترك

كان الشاعر اللبناني الأول، الأسقف جبرائيل بن القلاعي، زجَّالًا فنظم حوادث بلاده زجلًا، منذ خمسمائة سنة، ثم استحال ذلك الزجل شعرًا فصيحًا — بمقدار — لما تضلع اللبناني من لغته. وكما كان الزَّجال الأول أسقفًا كذلك كان الشاعر الأول أسقفًا أيضًا.

كانت قيثارة المطران جرمانوس فرحات تملأ حنايا كهوف لبنان وتلافيف أوديته ترانيم وتهاليل روحية. يرتفع الضباب بخورًا قدسيًّا نحو الأعالي، فترتفع معه روح الشاعر الزاهد، ويحدو نهر قديشا موكب عرسه الخالد، فيتبعه قلب الشاعر المتصوف منفسًا عن عاطفته المكبوتة بذلك الغزل الإلهي … وكأن حرب ميوله لم تضع أوزارها حتى هتف؛ معترفًا لنا: إني بُليت بأربع لم يخلقوا.

وبعد قرن كان للبنان أمير كالملوك؛ له بلاط، وله شعراء يكدون قرائحهم ليعملوا شعرًا يليق بسعادته، فيهزونه هزَّ الكماة عوالي المرَّان، فتتدفق الصلات في قصر بتدين العامر.

يدور كثيرًا على الألسنة في هذه الأيام ذكر البشير الشهابي أمير لبنان، وتذكر كثيرًا بيت الدين حيث عاش الأمير العظيم سيدًا تراوده الدول العظمى، فيستقبل في «قاعة العمود» السفراء والوزراء، والقواد والقصاد، وعليه أبهة الملوك، وسيماء الأسود.

كثيرًا ما يذكرون هذا الأسد اللبناني وعرينه الذي جدد «عهد» الشيخ بشاره خليل الخوري شبابه، وأعاد صاحبه إليه رفاتًا لا عليه ولا له، بعد مائة عام ونيف يذكر الناس أعمال الأمير ونضاله وبطشه، وينسون أنه كان له شعراء، وأنه كان سيف دولة زمانه، لم يجتمع بباب ملك من ملوك عصره أكثر مما التفَّ حوله من أمراء الكلام في زمانهم، ولكل دولة رجال.

أجل لكل دولة رجال فلا يطلب من نقولا الترك، وبطرس كرامة، وناصيف اليازجي، وأمين الجندي؛ أكثر مما عملوا في خدمة الأدب، فهم والشدياق والبستاني والأحدب والأسير وخليل الحوري وغيرهم قد بنوا هذه النهضة فأعلوها، والقلم يقرع القلم …

أنعش الأمير العظيم الأدب العربي في عهده؛ مدفوعًا إلى ذلك من نفسه المطبوعة على الأريحية، ومن طموحه إلى تأييد إمارته وإذاعة صيتها. رأى أن لا بد لها من شعراء يؤيدونها بأقلامهم، ويدعون لها بألسنتهم الفصيحة، كما كانت الحال في جميع الأدوار العربية، فقربهم وأدناهم من السرير فسمعنا شاعره الأول نقولا الترك يمدح مولاه بعد وقعة غلب فيها:

سِواك إلى المعالي ليس يُدعى
لأن الله أحسن فيك بدعا
أمير، لا أمير سواه يُرجى
مليك كامل خلقًا وطبعا
بشير خوَّل الدنياء بشرًا
به طاب الورى قلبًا وسمعا
شهاب أوعب الآفاق نورًا
على نور الثريا فاق سطعا
إذا أعددته يومًا بفرد
من الأفراد كنت تراه «سبعا»
ندى كفيه جلَّ عن انكفاف
كأن الله أجرى فيه نبعا
فما الفضل بن يحيى، وابن طيٍّ
وهل معنى «لمعن» بعد يدعى
بصارم عدله كم بتَّ جورًا
وأحيا لانتصار الحق شرعا
ولست أشك في أن سعادة الأمير استطاب هذا الثناء، وأجزل لقائله العطاء، فحركت مواهبه قريحة شاعره، فراح يفتش عن نول آخر ينتج عليه فتطاول إلى الحريري وبديع الزمان؛ فدبج لسيده المقامات، كما نظم القصائد، ليريه أن في دولته على صغرها من يعنو لهم النثر كما يطيعهم الشعر. كتب مقامات، بلغة ضعيفة طبعًا، ولكن فيها جدًّا وهزلًا هما من طبع هذا الشاعر، وأشهر مقاماته تلك التي سماها «المقامة الديرية» كتبها طالبًا من الأمير دارًا يسكنها؛ فراح يتخيل فيها ما استطاع حتى أخرجها بصورة حلم أبصره في نومه، ثم عبَّره في ختام تلك المقامة الطويلة كما يأتي: فقال المعبر:

أما حدوث الزلزال، وقلقلة الجبال، وهياج الرياح، وقيام الصياح، فهذا دليل على ما بك من البلوى، لعدم المأوى، وأما ارتفاعك في اللجج، وقطع الآمال من الفرج، فهذا دليل نهاية النحوس، واضمحلال البئوس، ورؤياك لذلك النير الساطع، ذي السيف القاطع، هو عبارة عن ذلك الملاذ المفخم، والأمير المعظم، بشير السلام، وشهاب الأنام، أما ما أصبت منه من المنزلة، والهبة الجليلة المكملة، فدليل على حلولك في قطره الزاهر، وحماه الباهر، المعروف بدير القمر، المنظوم في سلك عدله الذي اشتهر. وستعطى أرضًا خلية، تبني لك بها دارًا سنية، وبالقرب من قبة الشربين، فهذا ما رأيته باليقين.

بهذه البراعة الفنية تملَّك الشاعر دارًا كما اشتهى، وكان كلما ازداد من مولاه قربًا ازداد براعة طلب، فاسمع كيف يطلب منه شروالًا وعمامة:

وشروالٍ شكا عتقًا وأمسى
يراودني العتاق فما عتقت
وكم قد قال لي: بالله قِلني
وهَبني كنت عبدًا وانطلقتُ
أما تدري بأني صرت هَرْمًا
وزاد عليَّ أني قد فُتِقتُ
فدعني حيث قلَّ النفع مني
وعاد من المحال ولو رتقتُ
ولا تعبأ بتقليبي، لأني
بعمر أبيك نوحٍ قد لحقتُ
ولم يبرح يجدد كلَّ يوم
عليَّ النعي حتى قد قلقتُ
فقلت له عتقت اليومَ مني
لأني في سواك قد اعتقلت
فأشعرت العمامة في مقالي
له فاستحسنتْ ما قد نطقتُ
فراحت، وهي تشدو فوق رأسي
ليَ البشرى إذن وأنا عتقتُ

أشهد أني أستنشق من شروال الشاعر العتيق رائحة الأمير وشعراء بلاطه، فعبقرية شاعره الظريف فواحة العبير، فهو، وإن لم يؤزَّر بالبلاغة، طافح بالشخصية الظريفة والخيال الفاره.

كان الترك عند أميره شاعرًا ونديمًا وكاتبًا. يقول له ما يرضيه، ويجيب على كل اقتراح يصدر عن سعادته، ومن يطَّلع على ديوان نقولا — هكذا قالوا حين «لزموه» — يقرأ صفحة من تاريخ لبنان الحديث. وقيل لي — أيضًا — إنه طبع ولكني لم أحصل على نسخة رغم السعي وراء ذلك.

رووا لنا من شعر الترك، يوم كنا على مقاعد المدرسة، هذا المطلع:

عجبٌ عجبٌ عجبٌ عجبٌ
قطط سودٌ ولها ذنب
تصطاد الفار من الأوكار
وتطيح الحيط فتنقلب

وكان لنا رفيق في مدرسة الحكمة اسمه سعيد جوهر من «وادي الست»، فكان معلمنا الخوري يوسف أبي صعب يمازحه بهذا البيت الذي ينسب إلى شاعرنا:

ورحتَ تحطُّ بوادي الستِّ
وغرَّك فيها الشيطانُ

ونقل الأب شيخو مناظرة شعرية أجراها الشاعر بين الزيت واللحم، ولعلها اقتراح من سعادة المير، وهاك بعض ما نظمه الشاعر في هذا الموضوع:

أنا الزيتُ الذي كلٌ إليه
بمحتاجٍ ووصفي قد تنوَّعْ
فنوري شاهدٌ في عظم فضلي
إذا ما في ظلام الليل لعلع
وكم قوَّمت من عرجٍ وكم قد
أقمت مكشحًا وشفيت أكتع
ومني يكسب الصابون عرفًا
زكيًّا يشبه المسك المضوَّع
به قد نغسل الأدران طرًّا
عن الأبدان والملبوس أجمع
وكم لي من مزيَّات تناهت
فضاق بوصفها الشرح الموسَّع
فقال اللحم مفتخرًا عليه
لقد وسَّعت ذا الشدق المخلَّع
فشحمي في الليالي عنك يغني
ضياه، بل وفي الأشراق يسطع
فريحك كيفما حاولت تردي
ودهنك أينما قد حل بقَّع
وأكلك منكرٌ عند الأطبا
لأنك محرق للكبد تلذع
وإما أن تسل عني فإني
أنا اللحم الذي قدري ترفَّع
ومطبوخي لذيذ مستطابٌ
شهيُّ الأكل طاب لكل مبلغ
كذلك طعم أمراقي شفاء
يقوي كلَّ من منه تجرَّع
وأنواع البقول وكلُّ بنتٍ
نما للأكل لي خدم وتُبَّع
ولي دسم يذكي كل نوعٍ
من الطبخ الذي لي فيه إصبع
لذاك ترى ملوك الأرض طُرًّا
لهم في مأكلي ولع ومطمع
فعد يا زيت عما أنت فيه
ومن هذا الجدال الشاذ دع دع

وإلى جانب هذا الهزل نرى للشاعر شعرًا آخر رصينًا يقوله حسب مقتضى الحال. فمن يدخل قاعة الأمير في بتدين ير قصيدة، من عمل شاعره هذا مكتوبة على عالي جدرانها وهذه هي:

الله الله أنت الواحد الأحد
والسرمد الأزليُّ الدائم الصمد
حيٌّ، عزيز، قدير، خالق، وله
مَن في السماء ومن في أرضنا سجدوا
لا ربَّ غيرك يا مولاي نعبده
ولا سواك إلهًا فيه نعتقد
أنت الغنى والمنى والفوز أجمعه
والعون والغوث والإنجاء والمدد
ما لي سواك غياث لي أطالبه
كلا وغيرك ما لي في الورى سند
خولتني يا إلهي خير تسمية
فكنت فيك بشيرًا، أنت لي عضد
فاللبُّ والروح كلٌ فيك مشهده
والفكر والقلب والأحشاء والكبد
بل كل جارحة مني وعاطفة
تصبو إليك، ونار الحب تتقد
إذ أنت علة نفسي، أنت مركزها
يا ربَّ كلٍّ ومنه الخلق قد وجدوا
يا ربيَ امنن بعفوٍ منك لي كرمًا
واغفر جنايات عبد منك يرتعد
وجد بخاتمة يا رب يعقبها
ذاك النعيم السعيد الثابت الوطد

ولكن الخاتمة، وا أسفاه، لم تكن في هذه الدنيا كما اشتهى الشاعر لأميره، أما الآخرة فلا أعلم عنها شيئًا.

هذا هو شاعر الأمير الأول، وهو الذي قرَّب المعلم بطرس كرامة من مولاه، فصار شاعره الأكبر، ونجيه، ومستشاره.

كان نقولا طيب القلب، دمث الأخلاق، مرحًا طروبًا حسن البديهة، وهو أبرز معاصريه شخصية في شعره، وإن قاله ركيكًا كما ترى. فنان طمح إلى التجديد والأدب الرفيع، فأدرك ما قدر عليه، ولهذا ترى الطرافة عنده في كل مقام ومقال، وإذا قصر في ميدان الفصاحة والبلاغة فهو معذور؛ لأنه ابن نفسه.

(٢) الشاعر والمدبر

(٢-١) بطرس كرامة

إمارتي من سيفي هذا.

هكذا أجاب الأمير بشير حين سأله شريف باشا: إمارتك من أين؟ لم يبال بطل «المزة» بما أحدثته كلمته في نفس محدثه ساعتئذ، إلا أنه — بلا شك — قد تذكرها في إحدى ليلات مالطة، كما تذكر نابليون في جزيرة القديسة هيلانة كلمات كهذه.

صدق الأمير، أعلى الممالك ما يُبنى على الأسل، كما قال المتنبي منذ ألف وأكثر، الأسد يمنع عرينه الصغير، أما سطوته فتحمي الغاب كله، ولهذا تطاول الأمير بشير إلى جميع آلات الملك فاصطنعها كلها؛ فللبلاط بروتوكول، وللديوان مراسيم، يجري عليها في مخاطبة العظماء، ومناصب البلاد، وللدخول على المير، والجلوس بحضرته أصول تطبَّق وتراعى، أما السيطرة وما يتبعها من بطش فسعادته أمها وأبوها. كانت مهابته كما قال المتنبي في سيف الدولة:

قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت
لك المهابة ما لا تصنع البُهمُ

كان الأمير عادلًا بلا رحمة، يدعم عرشه بهدم كل ما يراه خطرًا عليه سيان عنده في ذلك ما بناه الله، وما بناه الإنسان. إذا رجع من «شر»، وقعد يستجم في بلاطه، بين ندمائه وشعرائه، فكأنه يضرب أخماسًا لأسداس؛ لأن «الثغر» دائمًا خلف الباب. يجلس سعادته في قاعة العمود جاثيًا، فتخاله القمة الماثلة. ينسيه ثناء شعرائه تعب أمسه ومشاكل السياسة وعقدها حينًا، فيستأنس بالشعر والأدب. كان سعادته يضرب في الشعر بسهم ككل أمير عربي فيساجل شعراءه، ويأمر بالقول ارتجالًا، تخميسًا وتشطيرًا، وقد رُويت له هذه الأبيات التي قالها متغزلًا في عاصمة دولته بيت الدين:

سرى النسيم بيت الدين ذكرني
حديث من كنت أهوى، والزمانُ صبا
وقد شفى كبدي الحرى بروضتها
جري «الصفاء» الذي في سفحها انسكبا
أهدى لنا نسمات من نوافحه
مبسامها، فأزال الهمَّ والكربا
وبث عرف الأقاحي والخزام ضحى
وادي الجنان فأحيا قلبي الوصبا

وفي سنة ١٨١٣ دخل نقولا الترك على أميره مقدمًا له المعلم بطرس كرامة، فعهد إليه الأمير في تعليم ولده أمين، وبعد فترة قصيرة أضحى هذا المعلم شاعر الأمير، ثم صار كاتبًا للشئون الخارجية؛ لإجادته التركية، ثم أمسى مدبِّر الأمير وقهرمانه يستسفره إلى الأبواب العالية في الخطوب الجسام، ويدير مالية الإمارة، وهكذا أمست شئون لبنان كلها في يده، وظل كذلك حتى مغيب الشهاب عن سماء لبنان، فرافقه شاعره ومدبره إلى منفاه، ثم كان في الأستانة العلية شأن آخر.

لست ممن تعنيهم السياسة إلا بمقدار ما تلابس الأدب، فهمِّي هنا أن أصف عهدًا نتغنى به؛ لنفهمه على حقه.

كان همُّ بطرس كرامة أن يظل خاطر المير صافيًا، والأمير ككل البشر يرضيه الثناء ويعجبه، فلم يدع شاعره فرصة تمر حتى قال فيها شعرًا، فكل ما يحدث في البلاط، وفي ساحة الوغى، وفي الصيد، وفي ساعات الفراغ، يستحق عنده التسجيل شعرًا، فكأن قريحة شاعرنا عداد «تكسي» لا يقف أبدًا، لو سعل سعادة المير سعلة رنانة، أو تجشأ بعد عشاء ثقيل شمَّته شاعره بالمنظوم، فيطيب الخاطر العاطر.

وكان «سعادته» ماهرًا في حلب القرائح يستفزها بطرق شتى، كإهداء «باقة زهر» إلى الشاعر، فيقول هذا في وصفها:

وباقة زهرٍ من مليكٍ مُنحتها
معطرة الأرواح مثل ثنائه
فأَبيَضُها يحكي جميع خصاله
وأصفرها يحكي نضار عطائه
وأزرقها عين تشاهد فضله
وأحمرها يحكي دماء عدائه

فيخمسها ويعارضها نقولا الترك، فتعجب أبياته الأمير، فيأمر بتخميس التخميس، وتشطير المعارضة، فتخمس وتشطر في حضرته، وتنال كلها إعجابه العالي، ويعلم الله ماذا كانت جوائز صاحب السعادة، وعطاياه في تلك الساعة.

أما قصائد بطرس الضخمة، فكانت تقال في «الخلع السنية» التي تهدى إلى الأمير كل عام، وفي الحوادث الجسام، وكل ذلك منشور في ديوانه المطبوع عام ١٨٩٨، أما المناسبات الصغرى فحدث عنها ولا حرج: يرخي الأمير عذاره، فيقول شاعره «مؤرخًا» هذا الحادث الجلل!

إن البشير الذي جاد الزمان به
قد ساد بالمجد والأفضال واللطف
بدا عذار إليها في سعد طلعته
يحكي أساطير بسم الله والطرف
الله عظمه قدرًا وجمله
أرِّخ وزينه في حلية الشرف

ويُهدى الأمير أشجار سرور فلا يحجم شاعره عن القول فيها:

جاء سروٌ فقلت هذا سرور
يتجلى في روض مجد البشير
حيث يروي النسيم عنه، فحيوا
يا وجوه الأنام فضل الأمير

ويصطاد الأمير فيخص شاعره بحجل من صيد يمينه المباركة، فيقول في هذا شعرًا، ويزيده الأمير فيزيد الشاعر، وهكذا دواليك. وإذا انقطع الوارد الملهم الموحي، ورأى الشاعر مولاه جالسًا في الإيوان في إحدى الدكتين المختصتين بجنابه العالي، أنشد الشاعر:

وإيوان مجد برج ليث تخاله
به كوكب الإقبال أصبح مشرقًا
حوى منزليْ عزٍ كأنهما به
«السماكين» والبدر البشير به ارتقى

وإذا سكت الطائر هيجه مولاه، فأهدى إليه «بز كهرباء»، فألهمه المناظرة بين «البز والماسورة والأركيلة»، فيبذل في هذا الموضوع جهده، ويقول:

وربَّ خرساء أضحت بعد لكنتها
«فصحاء» ذات فم للضدٍ ردَّاد
قامت بمبسمها الزاهي ترد على
نرجيلة، فجرت في قولها البادي:
تندِّدين بأني غير ناطقة
ألم تريْ منطقي يروي ظما الصادي؟!
ألم ترى ماجدًا نعم الأمير ومَن
أحيا وجود الندى في كفه النادي
فهْو الذي قد غدا لي منجدًا وبه
ثغري يغرِّد في مدح وإنشاد

وإذا غفل الأمير عن أعطية التبغ نطق الشاعر ملتمسًا «الدخان» من سعادته، كما طلب نقولا من قبل دارًا وشروالًا وعمامة.

وإذا كان الشاعر قال حين رمَّم مولاه بناء سبيل، فما تراه يفعل ومولاه قد جر نبع الصفا وبنى الجسور؟! إن رمم الأمير بابًا، أو فتح طاقة تنفتح للشاعر أبواب وأبواب على دنيا عبقر … ما أحلاها حياة! لا أدري كيف أصفها، فليته كان لها شعراء أكبر … فقصيدة «نهر الصفا» طويلة كالقناة التي هندسها للمير «أخوت» شانيه، ولكن الركاكة تشينها.

وللصيد ورثاء البزاة مقام جليل في ديوان كرامة، وكذلك وصف البرك وكل مكان تشرفه ركاب صاحب السعادة؛ دخل الأمير بستانًا، فقال الشاعر:

وبستان زها شرفًا وحسنًا
بزورة كوكب الشرق المنير
حللناه فماس الغصن قدًّا
ومال مقبِّلًا ذيل الأمير

وتظهر الحصبة في جسم «سعادته» الشريف، فيقول شاعره في ذلك:

قالوا حبيبك محصوب فقلت لهم
لا. لا. فقولكم زور وبهتان
وإنما جسمه مذ راق جوهره الصـْ
ـصَافي، فنقطه بالحسن مرجان

ويصف الشاعر ما في قصر بتدين، فتخالك في الحمراء؛ إذ يقول:

ما ترى البركة العذيبة أضحت
تتثنَّى كصفحة الهندواني
جاد فوارها العجيب برقصٍ
حين غنت سباعها كالقيان

ويمد سعادته يمينه المباركة فوق البركة، فتهرع الأسماك إليه، وتأكل من يده فتات الخبز، فيصرخ شاعره:

حيا الإله بشيرنا المولى الذي
ضاءت بنور شهابه الأفلاك
خضع السماك للثم راحته التي
نهضت للثم بنانها الأسماك

ويتعمم «سعادته» بعمامة سوداء، فيقول شاعره فيها:

بعمامة سودا أتى رب السنا
فغدا الرجا يسمو على النبراس
ما ذاك حبًّا بالسواد وإنما
يروى ثناء عن بني العباس

ويبني سعادته إيوانًا في مقام النبي يونس، فيستلهم الشاعر الكتاب، ويقول:

فانزل بحضرة يونسٍ
تأمن به حوت الطريق
واقرأ بفاتحة الثنا
حمدًا لمنشئه العريق
أعني الشهابيَّ البشير
بكل سعدٍ للصديق
وانشق نسيمات الصبا
من عرف لبنان العريق

وقضت الأيام فابتعدوا عن بتدين، ثم عادوا إليها فقال الشاعر في ذلك قصيدة طويلة:

هذي الديار ديار بيت الدين
فتمتعي يا مهجتي وعيوني
دار بها طاف الصفاء فأصبحت
تهدي السرور لقلب كل حزين
إن دُنِّست عيني بروية غيرها
طهَّرتها بصبيب ماء جفوني

ولا نستغرب هذا بعد ما قرأنا للأمير نفسه شعرًا في بتدين كما مرَّ.

ويوفد الأمير شاعره إلى مصر، فيسمع هناك غناء قينة تدعي أمُّ رضوان، فيقول فيها:

رعى الله مصرًّا إن مصرًّا لجنّةٌ
يزول بها عن صاحب الهمِّ همُّه
ففي جنة الفردوس رضوان وحده
وفي مصر رضوانٌ كذاك وأمُّه

ودارك الفلك، لما أتت الساعة، فإذا الأمير في مالطه، وجاءت نوبة المدبر السياسية فلعب دوره على المسرح العالمي؛ أرسله مولاه — الأمير بشير المالطي — إلى إسطمبول رائدًا فكتب إليه كلمته المشهورة: «الصندوق في إسطمبول والمفتاح في لندره …» ثم رغبه في الإقامة بها، فجاءها الأمير، وقضى فيها أعوامًا سكت في خلالها طبل المديح ومزماره، تحوَّل عنه شاعره إلى مدح وزراء الدولة العلية وصدورها العظام، ولم نسمع صوته إلا حين أرَّخ ضريح مولاه المتوفى سنة ١٨٥٠:

قد كان صاحب هذا اللحد ذا شرفِ
مدى الزمان رفيع غير منخفض
لاقى المنية في التسعين متشحًا
بردَ الفضائل في عمدٍ وفي عرض
أولت ولايته لبنان طيبَ ثنا
وشاد بالعدل فيه كل منتقض
فهو الأمير الشهابيُّ البشير ومَن
غير العلى لم يكن يرتادُ عن غرض
قضى فأظلمت الدنيا مؤرِّخةً
أما البشير شهاب في الجنان يضي

ثم يقول قصيدة طويلة في رثاء الشهاب الذي انطفأ، ويمضي الشاعر لسبيله لاحقًا بمولاه بعد عام، فقال شاعر الأمير الثالث — الشيخ ناصيف اليازجي — مؤرخًا وفاته:

مضى من كان أذكى من إياس
بحكمته وأفصح من زهير
فقل يا ابن الكرامة قرَّ عينًا
لبطرس أرخوه ختام خير

(٢-٢) ضوضاء الخالية

كان المعلم بطرس كرامة أرصن وأصحَّ قولًا من شاعر الأمير الأول، ولكن هذاك كان، كما قلنا، أخف روحًا. كان القدماء يرون الهزل والضحك في الأدب قلة هيبة، ولهذا طارت لكرامة شهرة لم يكن لنقولا شيء منها، وقف نقولا نفسه على أميره فما تطاول إلى ولاة الأقطار حتى يذيع له صيت، أما بطرس فما أحجم عن ذلك، فأحدثت قصيدته «الخالية» ضوضاء أدبية اشتركت فيها الأقطار العربية.

قال بطرس هذه القصيدة جاعلًا قافيتها لفظة واحدة، ولكنها مختلفة المعاني، قال في مطلعها:

أمِنْ خدها الورديِّ أفتنك الخال
فسحَّ من الأجفان مدمعك الخالُ

ثم ختمها بقوله:

لكلِّ جماحٍ إن تمادى شكيمة
ولكن جماح الدهر ليس له خال

ولما وقف عليها الشيخ عبد القادر الموصلي، وكان يومئذ ببغداد، عارضها ممتدحًا واليها المشير داود باشا فقال:

إلى الروم أصبو كلما أومض الخال
فسحَّ من الأجفان مدمعك الخالُ
وعن مدح داودٍ وطيب ثنائه
فلا القدُّ يثنيني ولا الخدُّ والخال
مشير إلى العليا أشار فطأطأت
وأصبح مندكًّا لهيبته الخال

ثم ختمها بهذا البيت:

فذي معجزاتي ما أرى ابن كرامةٍ
يُعارضها حتى يصاحبه الخال١٠

وخمَّس «خالية» بطرس الشيخ إبراهيم ابن الشيخ صادق آل يحيى العاملي الشامي، وخمسها أيضًا الشيخ موسى المشهدي، ثم عارض وامتدح هذه القصيدة كثيرون من شعراء ذلك العصر، ولكن الشيخ صالح التميمي شاعر المشير داود باشا قال قصيدة يعتذر فيها إلى مولاه حين كلفه معارضتها، فابتدأها مخاطبًا إياه قائلًا:

عهدناك تعفو عن مسيء تعذرا
ألا فاعفنا عن ردِّ شعرٍ تنصرا
وهل من مسيحيٍ فصيحٍ نعده
إذا أينع الشعر الفصيح وأثمرا
عداه «شبيبٌ والأحص» وفاته
من الرند والقيصوم ما كان أزهرا
دع الشانئ المخصوص بالنصر إننا
نراه بميدان البلاغة أبترا
به سمةٌ من صبغة الخال سودت
بصيرته، لو كان ممن تبصرا

ثم يقول بعد استحلاف المشير بصفاته المثلى:

لجمٌّ غفير صير الخال قبلةً
مكان القوافي بالقوافي مكررا
لعمرك ما «كعب» وما الشيخ قبله
«زهير» بتكرار الرويِّ تصدرا
وما الشعرُ إلا ما أبانت صدوره
قوافيه، لا ما السمع فيه تحيَّرا

فرد عليه بطرس بقصيدة طويلة هذا مطلعها:

لكل امرئ شأن تبارك من برا
وخصَّ بما قد شاء كلًّا من الورى
ولو شاء كان الناس أمة واحدٍ
ولم تلق يومًا بينهم قط منكرا
إذا انحط قدر الدر من أجل بائع
فذلك جهل باللآلي بلا امترا
كما عاب شعري قائل في قريضه:
ألا فاعفنا عن رد شعر تنصرا

وبلغت هذا الضوضاء مسامع الأدباء في كل قطر فكتب الشيخ رشيد الدحداح في كتابه «قمطرة طوامير» انتقادًا مطولًا حمل فيه على التميمي، وأخيرًا كان الكلام الفصل في هذه المعركة الأدبية للسيد عبد الجليل البصري الذي قال:

حكمت وحكمي الحق ناءٍ عن المرا
بأن التميميَّ الأديب تعثرا
بذمِّ قوافٍ في بديعِ جناسها
وذلك نوع في البديع تقررا

ثم يمدح شعراء نصارى رادًّا على قول صالح:

فمن كابن عبَّاد يجاري مهلهلًا
وكان مسيحيًّا تقدّم يشكرا
وكالأخطل المعروف شاعر تغلب
يسوق به القسيس في الدير كالفرا

ثم يتطرق إلى مدح بطرس فيقول:

فصيح رقى أوج البلاغة يافعا
فأشعاره حلَّى بها ربع قيصرا
أتى منه نظم هدَّ حجة صالح
وإن كان في المنظوم قدمًا تصدَّرا
وقد كان لي من صالح خير صحبة
وعند اتباع الحق ما زلت أجدرا
لكلٍّ تراني قد قضيت بحقه
وأسأل بارينا الهدى والتبصرا

وهكذا ألقت الحرب أوزارها، واستراحت أقلام شعراء ذلك الزمان.

ولما كان بطرس «كاخية» الأمير ورئيس ديوانه وجب علينا أن نعرِّف القارئ بنثره الديواني، ولكن ذلك النثر كان يكتب للبشر على مقدار إفهامهم، ولهذا لا يعول إلا على بعض رسائل إخوانية، وقد رأيته في هذه ينحو نحو الخوري الصائغ؛ كتب كرامة يجيب الشاعر الناثر فتح الله الطرابلسي:

غير أنه لما عاندني الدهر «برؤياكم»، واعدني وانتحل مذهب عرقوب بلقياكم. ونأت «أفعال مقاربة» وتدانت «المعمولات» بعوامل «عطف» الفؤاد عليه «عطف نسق» المحتاج إليه …

إلى أن يقول: وانتصب القلب «بالاختصاص لحبكم»، «وجزم» أن لا يحله غيركم.

ولم يقف عند هذا الحد بل شاء أن يزيد على من تقدموه، فهرع إلى علم العروض فقال: وتحقق أن «طويل» البعاد «بالسريع متقارب»، ولم يزل يعري «الأسباب مقتضبًا متدارك». ثم لا يكفي الصرف شره فيقول: ففؤادي «الأجوف بلفيف» حبكم «مقرون»، وشوقي «المتضاعف مزيد غير مهموز» ولا «معلول» إلخ.

ولم يهمل هؤلاء الرواد الموشحات، فلبطرس والأنسي وغيرهما موشحات، وتشطيرات وتخميسات وبديعيات، وهكذا خاضوا غبار كل ما سبقهم إليه «إمامهم» صفي الدين الحلي، ومن جاء بعده من شعراء عصر الانحطاط.

ولست أقول لك، كما قال القدماء: وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، فليس في شعر هؤلاء لآلئ، وإن كانوا جهابذة زمانهم، وشعراء عصرهم.

(٢-٣) ناصيف اليازجي

الشيخ ناصيف اليازجي هو شاعر الأمير الثالث أو آخر شاعر «رسمي» دخل القصر، ولا شك أنه أفيضهم قريحة وأنقاهم ديباجة. دخل قصر بتدين حين اعتدل ميزان نهار العهد البشيري، فقرب الأمير شاعره الجديد وأدناه. جعله كاتب سره، فاتبع في رسائله بروتوكول القصر، يكتب إلى هذا «محبنا» فيظل كما هو … وإلى ذاك «أخونا» فيصير شيخًا مكرمًا يتوارث بنوه هذا اللقب. وعلى هذا النسق جرت عادة الوزراء في الكتابة إلى سعادة المير؛ تفتتح مراسيمهم بهذه التوطئة: «افتخار الأمراء الكرام، مرجع الكبراء الفخام، ولدنا الأمير بشير الشهابي الجزيل الإكرام، دام مجده على الدوام، بحفظ الملك العلام.»

لا بد من أن يكون القارئ، بعدما قرأ ما قرأ عن شعراء الأمير؛ مشتاقًا إلى التعرف بسعادته خَلقًا وخُلقًا. اسمه يملأ الأذهان حتى الساعة، وهناك قصص تروى وحكايات تسرد، فتقوم إلى جانبها صور عنه فيها الخطأ وفيها الصواب، أما معاصروه فرسموه في التاريخ هكذا: أشقر اللون، معتدل القامة، طويل اللحية كثها، نحيف، أقنى الأنف طويله، أشهل العينين. أما صفاته فقالوا فيها: جامع كامل الصفات الحميدة، عاقل، عادل، حليم، شجاع، فاضل، كريم، ديِّن، عفيف، مهاب، شهم، يقظ، فطن، صادق، رزين، حزوم، جبار، فتاك، صبور، غيور.

أما سلسلة نسبه فيرويها صاحب كتاب أعيان لبنان — كما ذكر صفاته — مبتدئًا بإبراهيم وسام بن نوح فآدم حتى يمرَّ المؤرخ، أو صائغ تلك السلسلة، بموسى وعيسى ومحمد — عليهم السلام …

أما «أيام» الأمير فكانت شغل شعرائه الشاغل، تفتق وقعاته قرائحهم، وتخلق لهم كل يوم موضوعًا جديد. «وسعادته» يسمع ما يقال مغتبطًا، يهب مما نهب، وكذلك هي الحرب خيرها لناس وشرها لآخرين. ينظر الشعراء إلى حصة الأسد فيسيل لعابهم، وأميرهم جواد لا يبخل عليهم بما يسند قلبهم، فلا يبقون على الريق.

وهذا شاعره وكاتب ديوانه ناصيف اليازجي يرفع عقيرته ضامًّا صوته إلى صوت شاعر الأمير الكبير وغيره، فتتألف من هؤلاء جميعًا «جوقة» لم يشهد مثلها بلاط من بلاطات ملوك ذلك العصر؛ لأن أكثر من وظف لهم الأمير كانوا يقولون الشعر، بل خير أهل زمانهم علمًا وأدبًا، فيكونون كتَّابًا في الديوان أيام العمل، ومداحين وصافين لأيامه المشهورة في أعدائه.

على هذا كان أبو سعدى البعيد الأماني، الذهبي الأحلام، ولكن النعم تأبى التأبيد، والكلمةُ المأثورة: «توقَّعْ زوالًا إذا قيل تمَّ» صادقةٌ دائمًا، فهؤلاء مناظرو الأمير وخصومه ينصبون للأسد الشباك في الخفاء، ويحفرون دائمًا في أساس ولايته ليدكوها، فما مرت سنوات حتى قام قائمهم؛ كانت الثورات تلي الثورات «والعاميات» تلي العاميات، فمن عامية أنطلياس إلى عامية لحفد، حيث لا تزال «قلاعي لحفد»، التي حن إليها ابن القلاعي في شعره، تخبر عن بطش الأمير، وأشهر تلك القلع لا يزال يطلق عليه اسم «شير العمِّية».

أسكت الأمير تلك العاميَّات؛ فسكنت الأرض بين يديه زمنًا إلى أن كان آخر العهد، ولكل أجلٍ كتاب، فظهرت عاميَّة حرش بيروت، وتلتها عاميَّة سن الفيل، فأوفد الأمير من استخلصهم لينصحوا الثوار، فإذا بهم يشددونهم، فوجَّه إليهم بعض بني عمه فعادوا إليه حاملين خمسة شروط، فلم يقبل بها الأمير، وأرسل إليهم البطرك يوحنا الحاج الذي كان يومئذ كاهنًا يدرس الفقه في بيت الدين على فقيه عصره الشيخ بشاره الخوري، فوجدهم قد أجمعوا أمرهم في أنطلياس، فلم يصغوا له وأظهروا العصيان.

وازدادت الثورة اشتعالًا، فلجأ الأمير إلى البطرك الحبيشي فانتدب للمداولة معهم أحد مطارينه — بطرس كرم مطران بيروت — فسلمه الأمير بشير أحمد اللمعي شروط الثوار وهي:
  • (١)

    عزل بطرس كرامة من ديوانه، وتعيين كاتبين من كل طائفة.

  • (٢)

    رفع السخرة بنقل الفحم الحجري من قرنايل إلى بيروت.

  • (٣)

    إبقاء السلاح الكامل للبنانيين.

  • (٤)

    تخفيف الإعانة.

  • (٥)

    رفع الاحتكار عن الصابون؛ لأنه كان للأمير «مصبنة» في دير القمر، وكان عمَّاله في البلاد يعاقبون ويغرِّمون من يشتري الصابون من غيرها.

وأرسلت هذه الشروط إلى بحري بك — معتمد الدولة المصرية — فشكر ووعد، وكان على أثر ذلك مد وجزر في خضم السياسة؛ إبراهيم باشا من جهة والدول من جهة، فجرف التيار أمير لبنان فترك عرينه في العاشر من تشرين الأول سنة ١٨٤٠ وغادره معه أولاده الثلاثة، وزوجته، ومدبره، ومعه ماله وكنوزه. قال المؤرخون إن خزنة الأمير كانت ١٨٠٠٠ كيس من النقود الذهبية القديمة.

وبعد خروج الأسد من عرينه نهبت سراي بتدين، ونزل الشيخ ناصيف بعياله إلى بيروت، وهناك انقطع إلى المطالعة والتأليف والتدريس ومراسلة الشعراء؛ يمدحهم ويمدحونه. شاع هذا الصنف من بضاعة الأدب لأن الشعراء لم يجدوا من يمدحونه، كما قلنا في غير هذا المقام، ومن شاء نموذجًا من هذا النوع فليفتش عن الجزء الثالث والرابع من منتخبات الجوائب، إذا تعذرت عليه مطالعة دواوين شعراء القرن التاسع عشر كلها.

وكان لانقضاء عهد الأمير — كما كان لوجوده — فضل على الأدب العربي في لبنان؛ إذ استراح الشيخ ناصيف من مشاكل الديوان ومشاغله، فانصرف إلى التأليف طابعًا على غرار القدماء، فدنا من الحريري في مقاماته، وضارع ابن مالك في أرجوزته «نار القرى»، ولم يُعْفِ من نظمه الطب والبيان والمنطق … فكان لنا منه شاعر يخوض وسط المعمعة … ولا يقصر في جميع الميادين.

أجل كان شيخنا دلَّال القريض؛ فخاض سوقه وشرى وباع … فها هو قابع في بيروت يرسل عرائس الشعراء بشرًا بين يدي رحمته … تهمي ديمته على هذا الباشا، ويسحُّ وابله على ذاك الوالي، ثم لا يبخل بهذه الدرر على قائمقام أو شاعر أو أديب أو وجيه ففي مخزنه بضاعة لكل بندر ترضي أنانية محبي الثناء. وهو في كل هذا المنظوم راضٍ عن نفسه، يرسل الشعر سهلًا هينًا لينا فيدخل الآذان بلا استئذان.

ولم ينس ناصيف أميره المالطي؛١١ فأرسل إليه قصيدة ننقل بعضها؛ لنري القارئ نموذجًا من شعر الشاعر المدحي:
طال شوقي لطول هذا البعادِ
فترى هل لذاك من ميعاد
كلما أقبل الرجاء ثناه الدْ
دَهر عنا، فكلنا في الطراد
خمدت نار ذلك الحي، ويلا
ه، ومن لي من جمرها برماد
واستقرت تلك الأباطح من ركـ
ـض المطايا، ومن صهيل الجياد
لم تصبنا أيدي العداة بسهمٍ
فرمانا بأعين الحساد
أيها الراحل الذي ضرب الأطـْ
ـنَاب بين القلوب والأكباد
ما سمعنا براحل أوحش الأحـْ
ـباب عند ارتحاله والأعادي
ربما أنكر العدى منك أمرًا
يتمنَّون هل له من معاد
علموا أن ذاك قد كان تأديـ
ـب أبٍ فانثنوا عن الأحقاد
ضاق ذرع البلاد بعدك حتى
لا مناخٌ لناقة في البلاد
فكأن البلاد جسم بدون الرْ
رُوح، أو مقلة بدون السواد
أوقدت يا كليب بعدك نار
سال منها في الحي قلب الجماد
وانقضى القرم بعدكم كل سيف
كان في عهد سيفكم كالنجاد
كنت دهرًا فبنت لم تغننا منـْ
ـكَ ولا عنك كثرة الأعداد
لك خوف لو صادف العين في الحلـْ
ـمِ لصارت تخاف طيب الرقاد
تفخر الناس بالجدود ولكن
أنت فخر الآباء والأجداد
وبك المنتمي يباهي ولو بابـْ
ـنِ أبيه يدعى كمثل زياد

إن في هذه الأبيات أصدق وصف للحال بعد نفي الأمير، ولو كان للأمير تشاؤم ابن مروان؛ لتطير من شعرها الناعي إليه نفسه، ولاشمأز ذلك الأسد فراسه عند ذكر كليب، ولكن شيخنا — رحمه الله — كان يستوحي الكتب القديمة ولا يستلهم غيرها، فهو في كل ما نظم وما كتب زعيم المقلدين في عصره، لا ينازعه هذه الزعامة أحد. فكأنه ذات مجردة عن المكان والزمان، فما علق بشعره ونثره شيء منهما. فمن لا يعرف أنه نشأ في كفر شيما وشب واكتهل في بتدين، وشاخ في بيروت؛ خاله من مواليد نجد واليمن، وحسبك برهانًا على هذا الزعم أنه كتب في «مجمع البحرين» مقامة سماها «المقامة اللبنانية» وليس فيها شيء من ريحة لبنان، إلا وصفًا فضفاضًا يصلح لكل أرض جبلية؛ فالمتنبي الذي مر عرضًا من وراء لبنان، فشاهد قفاه، أو رأى قممه من حمص، قد تأثر به أكثر من شيخنا اليازجي.

أما ما يعجبني من شيخنا فهو أن معجزاته اللفظية أربت على شيخ ربيعة الفرس. ما ترك في «مجمع البحرين» شيئًا لم ينظمه شعرًا، فمن أسماء الرياح حتى جراء الكلاب وخنانيص الخنازير، وهاك من هذا نموذجًا بلا قيمة؛ قال — عظم الله أجره وشكر سعيه:

للخيل مهرٌ، وحوارٌ للجمل
والجدي للمعزى، وللشاء الحمل
والعجل للثور، وللحمير
عفوٌ، كذا الخنوص للخنزير
وشبل ليث، ولضبع فرعل
وجرو كلب، ولفيل دغفل
وخرنق لأرنبٍ، وتتفل
لثعلبٍ، ولابن آوى نوفل

وكل ذلك بالسهولة التي اتسم بها شيخنا، وخصوصًا في غزله الذي عليه دلٌّ الحاضر المتنعم كما ترى:

أتظنُّ هذا الخال فوق المبسم
إلا عُبيدًا حارسًا درَّ الفمِ

•••

أخاف إذا أشار براحتيه
لعلمي أنَّ روحي في يديه

وللشيخ — ككرامة وغيره من أدباء وكتاب هذا العصر — وثبات موفقة على «العلوم» حتى في الشعر الغزلي كما ترى عند شيخنا:

ما بين أعطاف القدود الهيف
«سبب ثقيلٌ» قام فوق «خفيف»
من كان كاتب «نون» هذا الحاجب
هيهات ليست من بضاعة كاتب

•••

مليح شهدنا أن نارًا بخده
لأنَّا وجدنا بينها فحم خاله

حقًّا إن غزل الشيخ ناصيف اليازجي أدقُّ وأحلى من «غزل البنات» وهو رقيق كنسيم لبنان العليل، والشيخ فيه مبدع وإن كان الإبداع في الغزل يكاد يكون مستحيلًا. أما في غير هذا فمشى على سنن من كانوا قبله، واقتفى أثرهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع …

كان ناصيف يظلع في سيره خلف القدماء، وصديقه الشدياق يصيح به: وراءك، حنانيك، والشيخ هاجم مشمر الأردان لا يلوي على شيء، يعنيه أن يكون له في كل معركة غبار، وحسبه ذلك. وكان له من يوحيه فيجدُّ، ولا يلهث، ولا يتعب، ولا سيما حين يأتيه ثناء طيب من شاعر كابن الصباغ العراقي، الذي قال فيه:

كبش الكتائب والكتاب وإنه
بالنحو ينطح هامة «ابن خروف»
متوقد الأفكار يوشك في الدجى
يبدو له المستور كالمكشوف
فطن تمنطق بالفصاحة، وارتدى
جلباب علم النحو والتصريف

وكان «التاريخ الشعري» — وهو من معجزات دهر الشيخ — رائج السوق في ذلك الزمان، فملأت «تواريخ» شيخنا المقابر والقصور، واغتبط بها الأزواج والمواليد، حيا بها الباشوات والسلاطين بالمئات في القصيدة الواحدة، فتوالدت في قصائده وتكاثرت «كالآميب» التي يسميها العوام «حبل القر»، ولم يبزه أحد إلا معلمنا عبد الله البستاني كما مر بك.

(٢-٤) الحكم في شعره

إن قريحة الشيخ فوارة، أجاد المدح وتفوق على شعراء عصره بالرثاء المملوء حكمة، وقد يرثي من لا يعرفه، كالمتنبي في اللاذقية، فيتوسل إلى رثائه بوصف زوال الدنيا، والحكمة التي نحبها نحن، فيخرجها إخراجًا بطيئًا كأنه مشي الشيوخ الأجلاء، إنه لا يقذفها قنابل كالتي كان يرمي بها المتنبي الناس؛ فهو يقول مثلًا:

للموت يولد منا كل مولود
يا أيها الأم ربي الطفل للدود

ويقول في مقام آخر، ونعم القول:

متى تر الكلب في أيام دولته
فاجعل لرجليك أطواقًا من الزرد
لا ترتج الخير من ذي نعمة حدثت
فهو الحريص على أثوابه الجدد

ألا ترى مثلي أنه شعر طلي، غير أنه محتاج إلى شيء لا أدري ما أسميه ليذهب إلى مدى أبعد من النفس. إني أحس بتكسره على أبواب الحواس فيقف عندها. لست تهابه كما تهاب شعر المتنبي وغيره ممن أرسلوا الشعر حكمة، فهو وشوقي ينظمان الحكمة نظمًا، والفكرة إن لم تنبثق من أعماق نفس صاحبها فلا تبلغ الأعماق، اسمع قوله:

وما للميت إلا قيد باع
ولو كانت له أرض العراق
إذا حُمل النضارُ على نياقٍ
فأي الفضل يحسب للنياق
وأقبح ما يكون غنى بخيل
يغصُّ وماؤه ملء الزقاق
إذا أحرزت مال الأرض طرًّا
فمالك فوق عيشك من تراق
أتأكل كلَّ يوم ألف كبش!
وتلبس ألف طاق فوق طاق
فضول المال ذاهبة جزافًا
كماء صُبَّ في كأس دهاق

•••

إذا هلكت رجال الحي أضحى
صبيُّ القوم يحلف بالطلاق
أسَرُّ الناس في الدنيا جهول
يفكر في اصطباح واغتباق
وأتعبهم رئيس كلَّ يوم
يكون لكل ملسوعٍ كراق

ويقول أيضًا في الحكمة التي نجد أكثرها في شعره الرثائي:

تكثر الخيل في المرابض إن عدْ
دَتْ ولكن تقل عند السباق

المعنى شريف — هكذا عبر السلف الصالح — ولكنه يصل إلينا فاترًا ينقصه «الزخم» الذي هو من مقومات الشعر.

أما رثاء الشيخ فهو عندي في المحل إلا رفع من شعره، إنه كلام يلطف من حرقة الجرح، وإذا كان لا يرضينا اليوم فقد كان في عصره يستحلى ويستلمح ويحتل صاحبه صدر المحفل، هاك نموذجًا من الكلام الذي درج عليه الشاعر في مواقف النوح:

ماذا التعلل في دنياك بالأمل
هل في يمينك ميثاق من الأجل
إن كنت تعلم أن النفس خادعة
فحبذا لو قرنت القول بالعمل

إلى أن يقول في رثاء هذا الشاب الذي اسمه خليل مسدية:

بني مسدية أسدى الإله لكم
صبرًا على هول هذا الحادث الجلل
كن يا أباه كإبراهيم حين سخا
لربه بابنه في ذلك الجبل
يا ليت هذا بنفسٍ مِن أحبَّتِه
يفدى، كما قد فُدي إسحاق بالحمل
لسنا نعزيك يا من لا عزاء له
وإن سكتنا وقفنا موقف الخجل
إن الحزين إذا هونت فجعته
زادت فكنت كمطفي النار بالشعل
فاعذره فيما تراه منه وادع له
بالصبر فهو له من أنفع الحيل

وشعر الشيخ كله هذا الطراز المهلهل، وما أراه في هذه السهولة إلا ضريب أبي العتاهية؛ اسمع كيف يعزي صديقًا كان تاجرًا كبيرًا وأفلس:

يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري
فدرهم الصبر يسوي ألف دينار
لا شيء كالصبر يشفي جرح صاحبه
ولا حوى مثله حانوت عطار
إن السلامة كنز كل خردلة
منه تقوِّم من مال بقنطار
والمال يدعى صديقًا عند صاحبه
وقد يكون عدوًّا داخل الدار
يا من حزنت لفقد المال إنك قد
خلقت١٢ عارٍ وما في ذاك من عار

فيا له شعرًا كان فراج الأزمات، وبلسم الجروح، ينتظر شيء منه في الخطوب الجسام ليكسر من حدتها، والشيخ جواد رحيم.

أما في المدح فقد شرَّق شعر الشيخ وغرب، فأصحابنا شعراء هذه الحقبة، وبخاصة الشدياق والشيخ ناصيف قد زينوا نحور الملوك والسلاطين والأباطرة بعقود شعرهم الضادي. فاز الشدياق بالحظوة والجوائز الضخمة، أما ناصيف فناجاهم من بعيد. إن شعر هذين الشاعرين مختلف جدًّا، نفسًا وتعبيرًا وتفكيرًا ولغة؛ الشدياق صلب وناصيف رخو ولكنه غير هشٍّ. وبعد فليس هنا موضع الكلام على شاعريتهما، فلنقل كلمة في أسلوب الشيخ ناصيف: قد يكون لمزاج ناصيف أكبر عمل في إخراج شعره على هذا النسق، فهو في جميع أغراضه يمشي على مهل، وفي التأني السلامة.

أجزل الله أجره. لقد عمل جهده في زمن كانت روح الشعر فيه تنازع، فحسبه أنه كان خير شعراء زمانه تقليدًا، فالتجديد في ذلك الزمان لم يكن في الحساب.

١  تاريخ المير حيدر «مغبغب» ص٧٦٥.
٢  راجع حاشيته في كتاب الإتقان ص١٤٣ وعنوانها: في أصل وضع الأرقام العربية المعروفة.
٣  مورد التحقيق في أصول الغراماطيق، طبعة دير قزحيا سنة ١٨٧٣ ص٢٠٢ و٣٠٢.
٤  تاريخ المير حيدر ص٧٦٠، طبعة مغبغب.
٥  أتحفني بهذا صديقي الأديب البحاثة الأستاذ نور الدين بيهم أمين المكتبة الوطنية.
٦  دائرة المعارف للبستاني ص٢٤١٩.
٧  النبذة الأولى من ديوان اليازجي س ٢١-٢٢ المطبعة الشرقية، الحدث.
٨  لهجة الحق ص٧٩ وهذا الكتاب مجموعة ضخمة لقصائد الشعراء الذين امتدحوا البطرك وهنئوه.
٩  وهذه أيضًا من الظواهر الجوية في القرن التاسع عشر.
١٠  أي الكفن.
١١  عرف الأمير بشير بالمالطي بعد تلك الكنية — أبو سعدى — الكلية المهابة. وهذا مصير من يؤخره الدهر، فإنه يخسر كنيته أولًا، ثم يعري من لقبه …
١٢  يريد: إنك عار قد خلقت، على أن عار خبر إن، ولكن هذا تعسف شنيع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤