صراع في البحر الهائج

في قلب السفينة التي اجتازت النفق السِّري في الطابية إلى «البحر المتوسط» كان «تختخ» يُفكِّر فيما حدث … لقد تطوَّرت الأمور بأسرع وأسوأ مما قدَّر لها … فهو الآن يتجه إلى مصير مجهول دون أن يعرف أحد أين هو، وفكَّر أنَّ «بسارية» قد ينتبَّه لما حدث وأنْ يذهب إلى المغامرين ليقول لهم إنَّ «تختخ» تم خطْفُه … وسوف يتصل المغامرون بالرائد «زياد» أو المفتش «سامي» ليطلبوا إنقاذ «تختخ»، ولكن مَنْ يعلم مكان «تختخ» الآن، وأين سيكون بعد بضع ساعات؟!

كانت القَمْرة ضيقة … فلا بُدَّ أنها سفينة صغيرة أُعِدَّت لحمل الزعيم ولا بُدَّ أنها سريعة جدًّا وهو يحسُّ بها تكاد تقفز فوق مياه البحر … حاول أن يفتح الباب، ولكنه كان مُحْكَم الإغلاق، وعليه حارس متوحِّش لن يرحمه.

الشيء الغريب أنَّ «تختخ» في هذا الموقف الخطير كان يُفكِّر في الطعام … فقد أخذت معدته تشكو لأن موعد الغداء قد فات … وقال «تختخ» في نفسه إنه إذا كان سيموت فليَمُتْ شبعانَ وليس جائعًا … وأخذ يفتِّش في القَمْرة، ولدهشته وجد حقيبة أنيقة لم يتردَّد في فتحها، وكانت دهشته الأكثر أنْ وجد بها كميةً رائعةً من «السالمون فيميه» و«الكافيار» … وأنواعًا من الجُبن الفاخر وخبزًا مُحمَّصًا … ولم يتردَّد لحظةً واحدةً، وانقضَّ على الطعام وأخذ يأكل، ولكنه لم يهنأ بالطعام كثيرًا فقد فتح الباب ودخل الحارس العملاق … وأخذ ينظر إلى «تختخ» وقد أصابته الدهشة … فكيف يفكِّر أيُّ شخصٍ في الطعام وهو أسير بين أيدي عصابة رهيبة، هو بالنسبة لها مجرَّدُ نملةٍ صغيرةٍ تحاول قتالَ فيلٍ ضخم.

لم يلتفت «تختخ» إلى الحارس وظلَّ مُنهمكًا في الأكل، وعندها صاح الحارس: ماذا تفعل؟!

ردَّ «تختخ» من فمٍ مَحْشوٍّ بالطعام: كما ترى … أتناول غدائي … تفضَّلْ معي.

مدَّ الحارس يده الضخمة وجذب «تختخ» قائلًا: أنت الذي ستتفضَّل معي!

جذب الحارس العملاق «تختخ» من يده، وكانت يده الأخرى تضع قطعة أخرى من الكافيار في فمه …

صعِدا السلالم الضيقة والسفينة تتأرجح في المياه حتى وصلا إلى السطح حيث قَمْرةُ القبطان، ودفع الحارس العملاق «تختخ» إلى القَمْرة الزجاجية، وكانت الأمواج تضرب نوافذها المغلقة ويعلو صوت ارتطامها بالزجاج كأنه دوي القنابل.

قال القبطان على الفور: اسمع يا بني … كلَّفني الزعيم أنْ أُلقيَ بك في البحر.

ونظر القبطان بعينيه النافذتين إلى وجه «تختخ»: ولكن كي تُنقذ حياتَك فعليك أن تقول لنا مَن الذي أرسلك للتجسُّس علينا.

ردَّ تختخ: لا أحد.

القبطان: كيف هذا؟ هل تعمل لحساب نفسك؟

ردَّ تختخ: لا … أنا وبقية المغامرين.

صاح القبطان منفعلًا: أي مغامرين؟!

تختخ: المغامرون الخمسة.

انفعل القبطان ويريد «الضمان» الذي يوجه السفينة محاولًا تجاوز الأمواج العالية: من هم المغامرون؟

تختخ: المغامرون الخمسة مجموعة من الأولاد والبنات يساعدون العدالة.

القبطان: إذن أنت تعمل مع الشرطة؟

تختخ: أنا لا أعمل مع الشرطة … ولكن أساعدهم.

القبطان: أنت غلباوي … إذا لم تتحدث بصراحة فسأُلقيك في الماء حالًا!

تختخ: إنني صادق في كل ما قلت.

قال القبطان: خذ هذا الولد للزعيم … إنه غلباوي … ولعلَّ الزعيم يتمكَّن من فَهْم ما يقول.

جذب الحارس المُتوحِّش «تختخ» من ذراعه، وعاد إلى السلالم الضيقة … وفجأة مالت السفينة ميلًا شديدًا، ووجد «تختخ» نفسه يقع من على السلالم الأخيرة، وقد انطفأت أنوار السلالم والممر الذي يؤدِّي إليها، وارتفعت صيحات من هنا وهناك، الماكينات توقَّفت عن العمل.

كان الظلام في قلب السفينة دامسًا … ورغم الآلام التي أحسَّها «تختخ» فقد أخذ يحبو مُسرِعًا وهو يسمع الحارس يسبُّ ويلعن ويصيح: أين أنت أيها الولد؟

كان «تختخ» يتحسَّس جدران الممر، ووجد بابًا مفتوحًا فدخل وأغلق الباب … لم يكن يرى شيئًا ولا يعرف أين هو.

استند إلى جدار السفينة التي أخذت تترنَّح في سيرها، وهو يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال وقد بدأ الخوف يتسرَّب إلى نفسه … ثم جاءت مشكلة أخرى فقد أحسَّ بفأرٍ يسير على ساقه ويصعد فدفعه بشدَّة فهو يكره الفئران والصراصير … وعادة ما يكون قاع السفينة حافلًا بهما.

فجأة شاهد ضوءًا خافتًا يمرُّ بجواره بسرعة ثم يذهب ويعود مرةً أخرى، وكانت السفينة الصغيرة تترنَّح في الظلام مُطفأة الأنوار، فمن أين أتى هذا الضوء؟!

مرةً أخرى مسح الضوء السفينة واختفى، وسمِع ضجَّةً في الممرِّ وأقدامًا تجري وصيحات خوف واضطراب … وظهر الضوء مرةً أخرى، ولكن هذه المرة كان من ثلاثة اتجاهات وثبت فوق السفينة، وخُيِّلَ إليه أنه سمِعَ أصواتًا قويةً تنطلق في الظلام … ثم استطاع أن يسمع فوق صوت الأمواج العاتية … صوتَ بوقٍ ضخمٍ يُصدر أوامره … قف … قف مكانك … أنت مُحاصَر … ثم سمع دويَّ قذيفةِ مدفعٍ قويةٍ تمرُّ فوق السفينة فترجُّها رجًّا.

دارت السفينة حول نفسها … كان من الواضح أنها تريد الدوران والابتعاد عن الضوء القوي الذي يُحاصرها من ثلاث جهات … وفعلًا استطاعت الإفلات في الظلام بعد أن ابتعدت عنها الأنوار.

سمع «تختخ» صوت الباب الذي يختفي خلفه يُفتَح … ثم سمع أصواتًا مُسرِعةً تمرُّ به … وأصواتًا تقول: ألقوا الشحنة في البحر!

أدرك أنَّه في مخزن السفينة وأنَّ مَنْ بها يحاولون إخراج الشحنة التي تحملها، وأخذت الأقدام تمرُّ به في الظلام دون أن يراه أحد … وخطر بباله خاطر جريء … مدَّ ساقه أمام الشخص الذي كان يمرُّ به يحمل صُندوقًا فسقط على الأرض وهو يسبُّ ويلعن … وتبعه الآخرون ووقعوا جميعًا على الأرض ومعهم الصناديق التي يحملونها … وفجأة عاد الضوء إلى السفينة … ووقف الذي يبحث عنه الزعيم.

لم ينتظر «تختخ» لحظةً أخرى وانطلق يغادر المخزن ويصعد إلى السلالم … وكانت المفاجأة أنْ وجد السفينة محاصرةً بثلاثةِ أضواءٍ قويةٍ تأتي من سفن ضخمة أحاطت بالسفينة، ثم سمع صوت بوق عاليًا تصدر منه الأوامر: خفر السواحل تُحيط بكم … أوقفوا السفينة!

ثم انطلقت ثلاثُ قذائفَ متقاطعة مرَّت فوق السفينة الصغيرة فزادت من اضطرابها فوق الأمواج العالية.

عاد الصوت يقول: خفر السواحل … أوقفوا السفينة!

على الفور سكتت الماكينات … وتوقَّفت السفينة …

•••

في تلك الأثناء كان «عاطف» و«لوزة» و«محب» و«نوسة» وصديقهم «سامي» الذي دعاهم للزيارة ومعهم «زنجر» يقفون في شرفة الفيلَّا، وقد أصابهم القلق على مصير «تختخ» الذي لم يَعُدْ وقد أسدل الظلام أستاره على «أبو قير»، وهبَّت عاصفة رفعت الأمواج إلى ارتفاعات رهيبة … لم يكن في إمكانهم أن يعرفوا أن المفتش «سامي» بعد أن تركهم وضع خطةً مُحْكَمة لمراقبة المزرعة ومتابعة كل من يخرج منها أو يدخل فيها … وأنه بالتنسيق مع الرائد «زياد» التقوا «بسارية» الذي روى لهم ما جرى في المزرعة … واختطاف «تختخ»، فطلب منه المفتش «سامي» ألَّا يُخبر أحدًا بما شاهد وأن يعود إلى منزله فورًا … وهكذا ظلَّ الأصدقاء نَهْبًا للقلق وهم يحاولون الاتصال بالرائد «زياد»، والمفتش «سامي» دون جدوى.

ومرَّت ساعات الليل دون طعام ولا نوم، فهذه أول مرة يغيب عنهم «تختخ» كلَّ هذا الوقت.

وأشرفت الساعة على السادسة صباحًا، وبدأ النور يتسلل إلى شوارع «أبو قير» وبيوتها … وكان ثمة صوت سيارة تقطع الطريق وفيها المفتش «سامي» والرائد «زياد» و«تختخ».

كان «تختخ» شبه نائم وهو يستمع إلى المفتش «سامي» وهو يقول للرائد «زياد»: لقد قامت القوات البَحْرية بواجبها خير قيام … وسقطت في أيدينا أكبرُ عصابةِ تهريب في العالم.

ابتسم الرائد «زياد» وهو يقول: الفضل الأول في كل ما حدث يعود إلى هذا المغامر الذي غلبه النوم.

ابتسم المفتش وهو يقول: لقد كان كل ما شكا منه هو الفأر الذي كان يزحف على ساقه؛ فهو لا يحبُّ الفئران.

•••

دقَّ جرس باب الفيلَّا؛ فقفز المغامرون جميعًا إلى الباب وأمامهم «زنجر» ينبح ويقفز ويهزُّ ذيله، فعرفوا أنَّ هناك أخبارًا سارَّةً قادمة … وفعلًا عندما فتحوا الباب وجدوا «تختخ» يبتسم أمامهم وقد غطَّته الأتربة وآثار جِراح خفيفة في وجهه، وملابسه الرَّثَّة ازدادت تمزيقًا … وبعد ترحيبٍ حارٍّ من المغامرين للقادمين الثلاثة، قامت «نوسة» و«محب» وأعدُّوا إفطارًا شهيًّا من الفول والبَيْض والجُبن … بينما أخذ «تختخ» يروي للمغامرين ما مرَّ به من أحداث … وكيف وضع المفتش «سامي» مع الرائد «زياد» خطة الإيقاع بالعصابة، وكيف تركوا أفرادها وزعيمهم يركبون السفينة حتى يقبضوا عليهم معًا ولا يفر منهم أحد.

فجأة قالت «لوزة»: ولكن ما مصير «أبو شلبي» صديقنا الصغير؟

أجاب «تختخ» مبتسمًا: لقد عثرنا عليه في السفينة ضمن عدد من البحَّارة كانوا ممنوعين من النزول إلى البحر.

نوسة: وهل عاد إلى منزله؟

تختخ: نعم … أوصلناه بالسيارة، وقد دعانا لزيارته اليوم …

بعد الإفطار قام المفتش «سامي» والرائد «زياد» بتوديع المغامرين، وقال المفتش مبتسمًا: الآن يمكنكم بَدْء الإجازة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤