الفصل الثالث

العرب في بلاد فارس والهند

(١) العرب في بلاد فارس

تختلف بقايا حضارة العرب باختلاف البلدان التي استولَوا عليها، وإذ كان درسُ هذه الحضارة يقوم على البحث في آثار العرب العلمية أو الأدبية أو الفنية أو الصناعية، فإننا لا نستطيع أن نسير في فصول هذا الكتاب على نهج واحد، وقد رأيت أننا اعتمدنا في كلامنا عن سورية على الآثار الماثلة، وأننا سلكنا طريقًا آخر حينما بحثنا في أمر بغداد التي لا تَجد فيها آثارًا شاخصة، فاقتصرنا حين الكلام عنها على التنويه بتنظيم العرب السياسي والمالي والإداري وما إلى ذلك، فإذا ما وَصَلنا تلك العناصر المختلفة بعضها ببعض أمكَننا أن نرسم صورةً جامعةً لحضارة العرب في مختلف الأزمنة.

ولا نعرف إلا القليل عن آثار العرب في بعض البلدان التي دانت لهم، كبلاد فارس على الخصوص، فترانا مضطرين إلى الإيجاز في ذلك، ومع ذلك يُثبت علمنا القليل عنها أن ذلك الشأن كان عظيمًا جدًّا.

رأى العرب أنفسهم، حين هدموا دولة بني ساسان الفارسية، تجاه حضارةٍ قديمة قويمة، فاقتبسوا الشيء الكثير من فنونها على الخصوص.

وتَمَّ النصر للعرب على بلاد فارس في الدور الأول من الإسلام، كما اتفق لهم في سورية، واستولَوا على أصبهان في خلافة عمر بن الخطاب (٦٤٥م)، ودام السلطان للخلفاء في بلاد فارس مدة ثلاثة قرون، وكان تاريخ بلاد فارس مرتبطًا في تاريخ بغداد بعض الارتباط، ثم تداولت حُكْمَ بلاد فارس دولٌ مستقلةٌ مؤقتة كان يُدَالُ منها، ونَعُدُّ من تلك الدول دولة الترك السلجوقيين الذين قضى المغول على سلطانهم في القرن الثالث عشر، ثم دولة التركمان الذين طَرَدوا المغول من بلاد فارس في سنة ١٤٠٣م.

ونشأ عن تتابع الغزو هدمُ المباني القديمة التي شادها العرب وبنو ساسان في بلاد الفرس وزوال ما كان منها في مدينة أصبهان، على الخصوص، زوالًا تامًّا، وما نراه الآن في أصبهان هو من صنع الشاه الفارسي الشهير عباس الذي اتخذها قاعدة مُلكه في سنة (٩٩٨ﻫ / ١٥٨٩م) والذي استردَّ من الترك معظم بلاد فارس، ويظهر أن ذلك القطر استرد رخاءه القديم لمدة قرن، فقد قاتل الفرسُ منصورين دولة المغول في الهند سنة ١٥٣٩م، وانتزعوا منها ولاياتٍ كثيرةً واقعة غرب نهر السند، ثم سادت الفوضى والانحطاط بلاد فارس، ونرى اليوم بلاد فارس، الواقعة بين الروس الذين يرغبون في التقدم نحو بلاد الهند والإنكليز الذين يمانعون في ذلك، مهدَّدةً بأن تكون ميدان قتال لهذين الفريقين، وأن تقع فريسةً للغالب منهما، فكأنه كُتِب على بلاد فارس أن تكون مسرح حروب تمهيدًا لإقامة الأجنبي الغالب دولةً عالمية كما تمَّ في القرون الغابرة.

وثَبَت تأثير العرب في الفرس من اعتناق الفرس لدين العرب ونُظُمهم، ومن شيوع اللغة العربية بينهم شيوع اللغة اللاتينية في أوربة في القرون الوسطى، وذلك من غير أن تكون لغة البلاد الدارجة كما ثَبَت من استمرار الفرس إلى الوقت الحاضر على تلقِّي علم التوحيد والتاريخ والعلوم الأخرى من كتب العرب.

وتبدو بقايا ما تركه العرب من الآثار الماثلة في بلاد فارس من القِلَّة ما لا تكفي معه لبيان تأثير هاتين الأمتين إحداهما في الأخرى، ولا نعرف حال فن العمارة الفارسي قبل الإسلام بالضبط وفي ظل العرب، وما بحث فيه بعض الرواد من المباني لم يخرج عن حد الأنقاض التي يصعب معها بيان الحالة التي كانت عليها فيما مضى، ونقول مع ذلك، وبعد إنعام النظر في تلك البقايا وفيما رواه المؤرخون: إن قصور أكاسرة الفرس قبل الفتح العربي كانت على جانب عظيم من الزُّخرف والزينة، وإن الفرس كانوا يعرِفون إقامة القباب، وإنهم كانوا يعلمون كيف يكسون المباني بالميناء، وإن العرب رَضُوا في دور الفتح بفن العِمارة الفارسي مع قليل من التبديل، وإن أهمَّ ما اقتبسه العرب من مُتَفَنِّني الفرس في ذلك الدور الأول هو جزئيات الزخرف واستعمال الميناء على الخصوص، لا طراز البناء الذي استعاروه في البُداءة، من البزنطيين في سورية ومصر على الأقل.

ثم تغيرت الأوضاع مع الزمن، فصار العرب يُؤَثِّرون في الفرس، فاقتبس الفرس من العرب شكل قبابهم والنقوش المتدلِّية (المقرنصات) وضروب الزينة كالكتابات، وسنعود إلى هذه المسائل في الفصول التي خصصناها للبحث في فنون العرب.

fig68
شكل ٣-١: جوسق چهل ستون في أصبهان (من تصوير كوست).

ولم يبقَ في بلاد فارس من مباني دور خلفاء العرب الأولين سوى عدد قليل، كبقايا مسجد همذان التي نشرنا صورتها في فصل آخر، ويظهر أن في مدينة مشهد بقايا من مباني ذلك الدور امتزج فيها الطراز العربي بالطراز الفارسي، وهي التي تكلم عنها مسيو دوكانيكوف، فتجلى الطراز الفارسي في أقواسها ومينائها ومآذنها المخروطة الشكل التي لا رُواق لها في غير رأسها، وتجلى الطراز العربي في خطوطها المزخرفة وأعمدتها الهِيفِ ومُتدلِّياتها … إلخ.

fig69
شكل ٣-٢: داخل مسجد في أصبهان (من تصوير كوست).
fig70
شكل ٣-٣: جامع أصبهان الكبير (من تصوير كوست).

وما بين بقايا مباني عصر الخلفاء في بلاد فارس والمباني التي أقامها الشاه عباس في أصبهان مؤخرًا من التقارب يُثبت لنا سير المهندسين على نمط قديم واحد، وسنرى في الفصل الذي ندرس فيه تاريخ فن العمارة العربية، أنه طرأ على ذلك النمط القديم بعض التغيير في الجزئيات المهمة مع الزمن ولا سيما في شكل القباب، فبعد أن كانت القِباب منخفضة، ثم ذاتَ نصفِ كُرَة، صارت مخصَّرَةً بصَلِيَّة الشكل.

ومهما يكن من أمرٍ فإن لفن العمارة الفارسي طابعًا خاصًّا، ونَعُدُّ المآذن المخروطة الشكل

والأبواب العظيمة المفرطحة القناطر والجدران المزيَّنة بالميناء الملوَّن من أهم ما اختص به فن العمارة الفارسي ذو التأثير في مباني الهند كما نقطع في ذلك.

وانتحل المغول، بعد أن قهروا العرب، دين العرب وحضارتهم، واستخدموا في بلاد فارس والهند التي استولَوا عليها مهندسين من الهندوس والفرس، فمزج هؤلاء المهندسون مختلف الفنون في المباني التي أقاموها كما تراه بعد قليل، وتدلُّ بقايا الآثار في مدينة سمرقند العظيمة، التي اتخذها تيمورلنك عاصمةً لدولته سنة ١٤٠٤م، فأصبحت نصف متداعيةٍ اليوم — على المُؤَثِّرات الفارسية في فن العمارة، وأعظم من ذلك ما كان للعرب من التأثير في الهند في بدء الأمر على الأقل.

ويظهر أنه صار للمغول فن عمارة خاص، مع أنهم لم يُبْدِعوا أيَّ عنصر في هذا الفن الخاص، وقد قام هذا الفن على مَزج فنون مختلف الأمم التي خضعت لحكمهم فيما شادوا من المباني كما تدل عليه الصور التي نشرناها.

والخلاصةُ هي أن تأثير العرب في بلاد فارس كان كبيرًا في أمور الدين والعلوم واللغة، وأنه كان ضعيفًا بعض الضعف في العادات وفن العمارة، وأن الفرس، خلافًا للمصريين، حافظوا على أقسام حضارتهم القديمة الأساسية مع صلتها بحضارة الغالبين، وذلك خلافًا للمصريين.

(٢) العرب في بلاد الهند

لم يتَّفق للعرب في بلاد الهند شأنٌ سياسي أعظم مما كان لهم في بلاد فارس، وللعرب، مع ذلك، تأثير ديني قوي ونفوذ مدني كبير في بلاد الهند منذ القديم، ففي الهند يخضع نحو خمسين مليون نفسٍ لشريعة النبي في الوقت الحاضر.

وبدأ ظهور العرب في الهند منذ السنة الأولى من الهجرة (٦٣٧م)، فقد خرجت أساطيل عربية من عُمان والبحرين، وتقدمت إلى مَصابِّ السند، ثم أدى ملك كابُلَ الجزية إلى العرب في سنة ٦٦٤م، وفتح جيش العرب في سنة ٧١١م مملكة السند التي كانت تمتد إلى كشمير من الشرق ونهر السند والبحر من الغرب.

ولم يكن لاستقرار العرب هنالك أهمية كبيرة، فقد انتهى في سنة ٧٥٠م، فآل الحُكم فيها إلى ملوكٍ من الهندوس، فإلى الترك والمغول الذين اعتنقوا الإسلام.

fig71
شكل ٣-٤: جوسق المرايا في أصبهان (من تصوير كوست).

وملوكُ غَزْنة أَهَمُّ أولئك وأقدمهم. والغزنويون أخذوا يفتحون بلاد الهند حوالي سنة ١٠٠٠م، وانتهى قتالهم في هذه السبيل بعد إحدى عشرة معركة قاموا بها في خمس وعشرين سنة، واستولوا نهائيًّا على ضَفَّة السند الشرقية وعلى كشمير والپنجاب ولاهور وأجمير، وأعلن الغزنويون عن أنفسهم في كل مكان أنهم دعاة دين العرب وحضارتهم، ومنحهم خلفاء بغداد لقب أيامِنِ المؤمنين، وهكذا خضعت الهند للفاتحين من الأجانب للمرة الأولى منذ زمن الإسكندر.

وكان سلطان الإسلام السياسي والديني قويًّا في بلاد الهند، ورسخ فيها ثمانية قرون بفضل ملوك الإسلام الذين تداولوا حكمها، ولا يزال سلطان الإسلام الديني قائمًا في بلاد الهند، وإن توارى سلطانه السياسي عنها، وهو يمضي قُدُمًا نحو الاتساع.

ووجد المسلمون، حين أوغَلُوا في الهند، حضارةً قديمة أرقى من حضارتهم، وعرفوا كيف يمزجونها بها، ومما يستوقف النظر ما استطاعوه في زمن قصير من نشرهم لمعتقداتهم في قسم كبير من هذا القطر الواسع.

fig72
شكل ٣-٥: باب مسجد قطب وعمود الملك دهاوا المصنوع من الحديد «بالقرب من دهلي» (من تصوير فريث الفوتوغرافي).
وأُعجِبَ غُزاة المسلمين بمباني الهندوس المغلوبين، واسمع ما قاله محمود الغزنوي في كتابٍ أرسله إلى أحد قُواده عن مدينة مترا، التي كانت مشهورة أيضًا، في القرن الخامس عشر قبل الميلاد:

تحتوي مدينة مترا العجيبة على أكثر من ألف من المباني المتينة متانة أهل الإيمان، والمصنوع أكثرها من الرخام، ولا يشتمل هذا العدد على معابد الكافرين، وإذا عُدَّ المال الذي أُنفق على إنشاء هذه المباني بلغ ألوف الألوف من الدنانير، فضلًا عن أنه لن يقام مثل هذه المدينة في أقلَّ من قرنين، ووَجَد جنودي في معابد المشركين خمسة أصنام من الذهب ذواتِ عيونٍ من ياقوتٍ أحمرَ تساوي قيمتُه خمسين ألف دينار، ووَجَدوا فيها صنمًا آخر من الذهب مزخرفًا بما زِنَتُه أربعمائة مثقال من الياقوت الأزرق، وذا نَصَمَةٍ بلغ وزنها عند الصهر ثمانية وتسعين مثقالًا من الذهب الخالص، ووجدوا فيها، فضلًا عن ذلك، نحو مائة صنم من الفضة يعدل وزنها حمل مائة بعير.

وقام ملوكٌ جُدُدٌ مقام أصحاب غزنة، ثم جاء المغول فحلُّو محلَّهم، وهنا نرى تنبيه القارئ إلى أن الذين تم لهم السلطان على الهند لم يكونوا عربًا بدمائهم، وإنما كانوا من دُعاة دين العرب وحضارتهم.

ويصِلُ الباحث، حين يدرس تأثير العرب في الأمم التي اختلطوا بها، إلى إحدى النتيجتين الآتيتين، وهما: إما أن تكون حضارة العرب قد حَلَّت محل حضارة الأمة المقهورة كما حدث في مصر، وإما أن تكون قد امتزجت بحضارة الأمة المغلوبة كما حدث في بلاد فارس والهند، وفي بلاد الهند بلغ امتزاج حضارة العرب بحضارة الهند مبلغًا بدت علائمه حتى على المذاهب الدينية، ثم حدث أن أتى بعدئذ عنصر الحضارة الفارسية، فاشترك هذا العنصر أيضًا في ذلك الامتزاج.

ويدلُّ درس المباني في بلاد الهند على درجة تأثير العرب فيها في مختلف الأدوار، وعلى درجة تمازج تلك العناصر الثلاثة، وكان تأثير العرب سائدًا لمباني الدور الأول، كباب علاء الدين الذي يكاد يكون أثرُ الفن الفارسي فيه غيرَ موجود، والذي لا يبدو أثر الفن الهندي في غير تفرعاته؛ لعدم ملاءمة معابد الهند القديمة لمناحي الحضارة الجديدة، فاقتصر أتباع النبي على الانتفاع ببعض أجزاء هذه المعابد.

وظل تأثير الفن العربي في تلك المباني واضحًا بضعة قرون أخرى وإن توارى العرب عن مسرح العالم بالتدريج، ثم أخذ المجال يتسع للفن الفارسي فتمَّ له النفوذ على حساب الفن العربي والفن الهندوسي اللذين أخذ نطاقهما يضيق.

fig73
شكل ٣-٦: منارة قطب بالقرب من دهلي (من صورة فوتوغرافية).

وكان دور تحول مباني الهند بعد الإسلام طويلًا، وتأخر زمن ظهور المباني التي كان للعبقرية العربية أثرٌ فيها، ويرجع سبب هذا إلى أن دعاة شريعة الرسول لم يكونوا من العرب، بل من الترك والمغول المشابهين للبرابرة الذين استولَوا على العالم الروماني، والذين لم يهضموا حضارة المغلوبين إلا بعد انقضاء زمن طويل.

حقًّا إنهم لم يهضموها إلا بعد زمن طويل، وبهذا البطء يبدو لنا الفرق الأساسي بين الأمم التي تكون على جانبٍ كبير من الذكاء فتتطور بسرعة، كالأمة العربية، والأمم المنحطة التي تتطور ببطء كبرابرة القرون الوسطى الذين قَضَوا على دولة الرومان، وكأجلاف الآسيويين الذين غمر طوفانُهم دولة محمد.

ولقد أبدع العرب من فورهم تقريبًا، حضارةً جديدة أفضل من الحضارات التي جاءت قبلها، وذلك بعد أن استعانوا بحضارة اليونان وحضارة الرومان وحضارة الفرس، وكانت عقولُ البرابرة عاجزةً عن إدراك كنه الحضارة التي قهروا أهلها، وكان انتفاعهم بها ممسوخًا في بدء الأمر، وهم لم يسيروا بها نحو الرقي إلا بعد أن صُقِلَت أدمغتهم، وصارت قادرةً على إدراك معانيها بعد زمن طويل.

والواقعُ أن تقدم أولئك البرابرة الذين هدموا الدولة الرومانية لم يحدُث إلا بتوالي الأجيال، وأنهم، لبطء تقدُّمهم، لم يستطيعوا إقامة حضارة جديدة على أنقاض حضارة العالم السابق إلا بعد جهود استمرت قرونًا كثيرة.

ودام سلطان أصحاب غزنة حتى سنة ١١٨٦م وحل الغوريُّون، الذين هم من التركمان، محلهم، ونذكر من ملوكهم المشهورين قطب الدين الذي تُوفي سنة ١٢١٠م، والذي أقام في بلاد الهند مباني ذات قيمة كما سيأتي بيان ذلك.

fig74
شكل ٣-٧: باب علاء الدين بالقرب من دهلي (من تصوير فريث الفوتوغرافي).

وأصبحت مدينة دهلي، في سنة ١٢٥٠م، ملجأً لرجال العلم والفن من الغرباء، وصارت تحدَب عليهم حَدَبَ بغداد فيما مضى، ثم أتى المغول، وصاروا يغزون الدولة الجديدة، ونازلهم علاء الدين تحت أسوار دهلي في سنة ١٢٩٧م فوَجَدَ أمامه خمسمائة ألف رجل، على ما يُروَى، فدَحَرهم.

وفتح تيمور لنك مدينة دهلي عَنوَةً في سنة ١٣٧٨م، ولم يكن أمره غير عابر سبيل، فقد نشأ عن الفوضى التي أسفرت عنها فتوحه قيام دولة مستقلة مؤقتة هنا وهنالك، ولما حلَّت سنة ١٥١٧م استولى ملك كابل، الذي هو من ذرية تيمورلنك، على مدينة دهلي، وأسس دولة المغول الكبرى التي كُتب لها البقاء مدة ثلاثة قرون، ثم قضى عليها الإنكليز.

والآن ندرس على طريقتنا أهم ما في الهند من المباني العربية أو المباني التي كان للفن العربي أثرٌ واضح فيها، فما نُقش على الحجارة أفصح مما جاء في الكتب.

fig75
شكل ٣-٨: مزار أكبر في سكندرا (من صورة فوتوغرافية).

(٢-١) منارة قطب

يرجِع أقدم ما انتهى إلينا من المباني العربية في الهند إلى أواخر القرن الثاني عشر من الميلاد، ونَعُدُّ مسجد قطب — الذي أقيم في سنة ١١٩٠م بالقرب من دهلي — ومنارة قطب من أهم تلك المباني.

ومنارة قطب، ذات الشرف الكثيرة المُخَرَّمة، برجٌ طويلٌ مخطط ذو نقوش عربية مخروط الشكل مشدود بنُطُق مُزينة بالكتابة.

ولا نرى ما هو عربي في منارة قطب سوى زخارفها وأروقتها، وقد أقامها، أو أتم إنشاءها، قطب الدين، فأضيف اسمها إلى اسمه مع الاختصار، فعُرفت في أوربة باسم منارة قطب.

ويدل شكل منارة قطب الخاص على أن مهندسيها من الهندوس، ويعدونها في الهند من العجائب، قال السيد أحمد خان، الذي عَرَف عنه مسيو غراسين دوتاسي مخطوطًا هندوسيًّا مهمًّا خاصًّا بدهلي: «إن عظمة هذه المنارة وجمالها مما لا يمكن وصفه كما يجب، فهي مما لا نظير له على وجه الأرض»، ويرى ذلك المؤلف أن الملك الهندوسي پيثوره هو الذي بدأ بإنشائها في سنة ١١٤٣م فأتمها قطب الدين.

ويشاهد بالقرب من منارة قطب الدين أنقاض معبد هندوسي قديم حُوِّل إلى مسجد، ويَرجع تاريخ إنشائه إلى (سنة ٥٨٧ﻫ / ١١٩١م).

(٢-٢) باب علاء الدين

يشتمل ذلك النطاق الذي يحوي مسجد قطب ومنارتَه على كثير من الآثار المهمة الأخرى كمعبد پيثوره، وأهم تلك الآثار الباب العظيم الشهير الذي أنشأه علاء الدين في سنة ١٣١٠م، والذي يستوقف النظر بجماله الرائع من حيث تاريخ الفن عند المسلمين، والذي هو من أهم آثار الفن العربي التي انتهت إلينا، ولم أشاهد بين الأبواب ما يماثله سوى بعض أبواب الحمراء الداخلية مع ما بينها وبينه من التفاوت في الاتساع كالذي بين الفسطاط والكتدرائية.

وإن القارئ الذي يتأمل صورة ذلك الباب الصادقة التي نشرناها في هذا الكتاب ليَعْجَب من عبقرية المهندسين الذين استطاعوا أن يمزجوا مختلف الفنون، فأقاموا باب علاء الدين المبتكر المنسجم الذي تبدو أعمدة أطره هندوسيةً، وتبدو قناطره ومعظم دقائق زخارفه عربية، ويكاد باب علاء الدين يذكِّرنا في مجموعه بالأبواب الفارسية الضخمة.

fig76
شكل ٣-٩: معبد بندرابن بالقرب من متره (من صورة فوتوغرافية).

وتُناسِب متانة باب علاء الدين ضخامتَه، فقد قامت حجارته مقام الآجُرِّ الذي شِيدت به قصور العرب في الأندلس، وحلَّت نقوش حجارته محل نقوشُ قوالب الحمراء السهلة.

(٢-٣) مزار ألتمش

نجد بالقرب من مسجد قطب مزار الملك ألتمش الذي أُنشئ في سنة (٦٣٣ﻫ / ١٢٣٥م) على طراز البناء المذكور آنفًا، فيُعد من أقدم المباني العربية في الهند.

(٢-٤) معبد بندرابن

كان أول ما تجلَّى به تأثير العرب في الهند تطعيم مبانيها القديمة بالفن العربي.

وأقتصر، لبيان ذلك، على نشر صورة لقسم من معبد بندرابن الذي بُني على طراز شمال الهند، وأقيمت قنطرة بابه على الطراز الفارسي العربي.

(٢-٥) مزار أكبر في سكندرا

fig77
شكل ٣-١٠: تاج محل في أغرا (من صورة فوتوغرافية).

قامت المباني التي نذكرها الآن أيام سلطان المغول، وكان قد انتهى شأن العرب السياسي في الهند، فحُصر نفوذهم في العلوم والفنون والدين، وقد أشال نفوذ الفرس والهندوس كِفَّةَ فن العرب، فنشأ عن ذلك امتزاجه بالفنون الأخرى، فصرِتْ َلا ترى التأثير البالغ لطراز العرب في مباني الهند كما كان مع بقائه حيًّا فيها.

fig78
شكل ٣-١١: قاعة تاج محل المثمنة الكبرى وقبته من الداخل.

ويعد مزار الملك أكبر — الذي أقيم حوالَي سنة ١٦٠٠م في سِكندرا الواقعة بالقرب من دهلي — من أهم مباني ذلك الدور الجديد، وهذا المزارُ شُرِع بناؤه في زمن الملك أكبر، وانتهى في زمن شاهجهان.

وكان أكبر — الذي هو من حَفَدَة تيمورلنك — من أعظم من عَرَفَتهم بلاد الهند، فقد بلغت بلاد الهند في عهده، الذي دام من سنة ١٥٥٠م إلى سنة ١٦٠٥م، ما لم تعرفه من الرخاء قبله، وكان عصره عصر فن العمارة الذهبي في الهند.

حقًّا لقد كان أكبرُ راغبًا في شَيْد المباني، فقد أقام في عشر سنين، بدأت من سنة ١٥٦٠م، وعلى الصحراء القريبة من أغرا، مدينة فتح پور وقصورها التي تُذَكرنا أنقاضها العجيبة بمدن رواية ألف ليلة وليلة البائدة، ولما أعياه جَوُّ هذه المدينة بعد قليل، وهي التي يتمنَّى بعض الدول الأوربية العظمى أن تكون عاصمةً لها، ارتحل عنها هو وسكانها هاجرًا لها ولقصورها ومساجدها التي أصبحت مأوى للنُّمُر وبعض الزُّهَاد بعدئذ.

ولم يقتصر أكبر على إقامة المباني، بل كان يُعنى بشؤون الفلسفة أيضًا، فقد عَنَّ له ذات يوم وهو الذي كان متسامحًا غير متين العقيدة، أن يَصهر جميع الأديان في دين واحد، فعقد مؤتمرًا من رجال الأديان المعروفة، ومنها النصرانية؛ ليَبْسُط لهم خِطته.

ومن دواعي الأسف أن نسي أكبرُ أن كل واحد من مستمعيه كان يعتقد أنه على الحق الواضح وأن الآخرين على الضلال المبين، وأن التوفيق بين المؤتمرين من المستحيل، فلم يُسفِر ذلك المؤتمر عن غير تشاتم هؤلاء وتلاعنهم.

وأيقن أكبر بذلك أن الملوك، وإن قَدَروا مثلَه على بناء المدن والقصور في الصحراء، لأعجزُ من أن يُبَدُّدوا الأوهام القوية التي تسيطر على قلوب الناس، فالتاريخ لم يعرف ديانةً قامت على مناقشات باردة أملاها العقل.

(٢-٦) تاج محل في أغرا

fig79
شكل ٣-١٢: حاجز من الرخام الأبيض المنقوش المحيط بقبر شاهجهان وزوجه في تاج محل.

يُرى في مدينة أغرا عدةُ أبنيةٍ مهمةٍ قامت على الطراز الهندوسي الفارسي العربي، ولا سيما مزارُ تاج محل الشهير الذي يتطلب وصفه الكامل أكثر من مجلد. بدأ الملك شاهجهان ببناء تاج محل في سنة ١٦٣١م ليكون ضريحًا لزوجه التي لم يقدر على سَلْوها، فعزم على إقامة أثر لها أجملَ من كلِّ ما عَرَفَه بنو الإنسان، ودعا الملك شاهجهان مهندسي الشرق إلى التسابق في وضع رسمه، وحَمَل أقصى البلاد على جلب أغلى الحجارة وأعزها لرفعه، وأنفق، على ما يقال، ستين مليونًا في سبيل إنشاء ذلك الأثر العظيم، خلا عِوَض أعمال الفَعَلة الذين كانوا يُسخرون، ورأى تاڨرنيه أن إقامة تاج محل اقتضت جهود عشرين ألفًا من العمال في اثنتين وعشرين سنة، فبناء مثل تاج محل لا يقام في أوربة بثلاثة أمثال هذا المبلغ.

بُني تاج محل الذي نشرنا بعضَ صوره الصادقة في هذا الكتاب، مع عدم كفايتها لإظهار جماله، من المرمر الأبيض في وَسَط قاعدة فسيحةٍ رخامية تعلو خمسة أمتار عن وجه الأرض، وتمتد مائة متر من كل جانب، ويقوم على زوايا تلك القاعدة الأربع أربعُ مَنَاوِرَ، ويلمس ماء النهر أسفل إحدى جنباتها، وتحيط الحدائق ذات النبات الجميل بجنباتها الثلاث الأخرى إحاطةً تأخذ بمجامع القلوب، ويحف حول تلك الحدائق سورٌ ذو شرفات، وتُدخَل من باب كبير أُنشئ على الطراز الفارسي.

ولتاج محل أبعادٌ كبيرة، فترتفع قبته عن سطح الأرض أكثر من ثمانين مترًا، ويُدخَل من أربعة أبواب يبلغ ارتفاع كل واحد منها عشرين مترًا، ويرى في وسط تاج محل ضريح شاهجهان وضريح زوجته المحبوبة.

ويَعُدُّ السياح تاج محل من عجائب الدنيا، وإليك ما قاله كاتبٌ لم يصرح باسمه في مجلة المصوَّر مع صورة مقتبسة من ميناء هندي صحيحةٍ صحةَ الصور الفوتوغرافية تقريبًا:

إن تاج محل مصنوع من المرمر الناصع المصقول، ويكاد البصر يخطف من نور هذا البناء العجيب حينما تُلقي الشمس أشعتها عليه، ولذا تجد نور القمر الشاحب أليَق بتاج محل الأنيق، وإن كلَّ ما يمكن الفن أن يجود به من الكمال صبُّه في تاج محل الساحر، فترى فيه الجدران المرمرية المنقوشة بما لا يتصوره الإنسان من الأزهار والأوراق والورد والزخارف العربية الزاهية، وترى فيه الأعمدة الصغيرة الهيفَ والأُطُرَ الغانية والأورقة النَّيِّرة والنقوش المتدلِّية والفسيفساء المتقنة الثمينة الباهرة، تَرَى فيه كتاباتٍ جميلة من الرُّخام الأسود، وترى في ذلك المكان الساحر جميع ما يسمح به الفن على الوجه الفيَّاض الأكمل.

fig80
شكل ٣-١٣: المسجد الكبير في دهلي (من صورة فوتوغرافية).
fig81
شكل ٣-١٤: داخل ردهة في قصر ملوك المغول بدهلي (من صورة فوتوغرافية).

وإذا نظرت إلى الضريحين المصنوعين من المرمر الناصع رأيتهما مُثْقَلَيْن بالكتابات والزينة الغنية مع عظيم إتقان وظَرْف، وعلمت أن أزهارهما المرصعة بالفسيفساء، والتي تطفح بها من الأسفل إلى الأعلى، من أجمل ما صنع الإنسان، فتتألف كلُّ زهرة من مائةٍ من الحجارة الصقيلة الملونة المتنوعة التي جَمَع ما بينها صانع ماهر فأكسبها الصورة التي أرادها، وتلك الحجارة الملونة هي من اللَّازَوَرْد والزبرجد والعقيق واليَصْب والرُّخام السُّماقيِّ والمرمر الأصفر الذهبي … إلخ، وزُيِّنَ أسفل الإطار المثمَّن والغُرَفُ القريبة منه بما ارتفاعه مترٌ و٣٠ سنتيمترًا من الألواح الرخامية الناصعة الكبيرة ذات النقوش البارزة من الفسيفساء على شكل الأزهار وأواني الأزهار، ومثل تلك الألواح مما يشاهَد أيضًا في أسفل القباب التي تعلو مداخل تاج محل المزيَّنة بالخطوط العربية المكتوبة بالرخام الأسود.

وتاج محل هو من المباني الإسلامية النادرة التي تَفَلَّتت من يد التخريب الإنكليزية المنظمة، والمصادفة هي التي أنقذت تاج محل من عُدوان الإنكليز، فقد رأى الحاكم الإنكليزي لورد بِنْتِنك أن تاج محل لا يُدِرُّ شيئًا، فاقترح أن يُهدم وتنزع فضته وتباع قطعه في الأسواق، ولولا ما لتاج محل، الذي هو من أعظم المباني التي شادها الإنسان، من الأهمية العالمية الكبرى التي تكفي وحدها لزيارة الهند لنُكِبَ العالم بهدمه، والحق أن الذوق الفني مما لا يلائم الطبائع التجارية التي قد يؤدي طغيُها على العالم إلى دخوله في دور يُسْتَباح فيه تحطيمُ تمثال كتمثال أفروديت (ڨينوس دوميلو) لتُصْنَع منه أجرانٌ وهواوين!

(٢-٧) مسجد المعطي أو مسجد اللؤلؤ في أغرا

ومن بين مباني أغرا المهمة أذكر أيضًا «مسجد المعطي» الذي أمر بإنشائه شاهجهان في سنة ١٦٥٨م وَفْق طراز عهده، وهذا هو المسجد الذي صاح الأُسَقُفُ إيبرت حين رآه قائلًا: إن الخزي ليعتريه وقتما يفكر في عجز أبناء دينه عن إقامة مثل بيت الله هذا.

(٢-٨) المسجد الكبير في دهلي

تشتمل مدينة دهلي على كثيرٍ من المباني التي أقيمت على الطراز الإسلامي في زمن المغول، والتي نَعدُّ بعضَها باختصار، والمسجد الكبير الذي أقيم في سنة (١٠٦٠ﻫ / ١٦٥٠م)، هو أول ما نذكُر منها.

بُني هذا المسجد الضخم على ذُرْوَة ساحة فسيحة يُوصَل إليها بدرجات عظيمة مؤدية إلى مدخل هائل أُنشئ على الطِّراز الفارسي، وبُني من حجارة رملية حُمْر، ويستر مقدَّمه رخام أبيض ورخامٌ أسود متداخلان تداخلًا بديعًا، ولم يَشِذَّ عن طِراز تلك المباني التي تمازج فيها الفن العربي والفن الفارسي والفن الهندي، وتجِد في الصورة التي نشرناها ما يكفي للوقوف على شكله الخاص.

(٢-٩) قصر المغول في دهلي (أو قلعة شاهجهان)

تمَّ بناء هذا القصر، الذي أنشأه شاهجهان، في سنة (١٠٥٨ﻫ / ١٦٤٨م) وهذا القصر هو أجمل القصور الإسلامية التي أقيمت في بلاد الهند وفارس، وما في رِداهه من الفسيفساء يجعلُها قطعًا من الحلي.

ولم ينل هذا القصرُ الشهير (الذي هو من أعجب ما شاده البشر، والذي ضنَّ به البرابرة الذين دَوَّخوا دهلي غير مرة ونهبوها فلم يُخَرِّبوه) من الإنكليز ما يستحق من العناية، فقد هدموا جميع أجزائه التي رأوا أنهم لا ينتفعون بها، وأقاموا في مكانها ومن أنقاضها ثُكَنًا، ولم يحترموا سوى الرِّداه التي رأوا فيها بعض النفع لهم، وذلك مع علمنا أن الإنكليز، الذين حَسَبُوا مقدَّمًا نفقةَ تنظيف تلك الرِّداه من فسيفسائها وزخارفها الجميلة عند تحويلها إلى إسطبلات ومراقد للجنود، لم يَرَوا للخلاص من تلك النفقة ما هو أسهل من تكليسها، فسَخِط العالَم على هذا العمل الهمجي الذي تحمَرُّ منه وجوه وحوش البرابرة خجلًا، فاضطُرَّ الإنكليز إلى كَشط ما جَنَت أيديهم من عمل حقير، وما أبقاه الإنكليز من ذلك القصر يكفي، مع ذلك، لبيان ما كانت عليه حاله قبل أن تُصِيبَه يدُهم الهَدَّامة، ويمكن القارئ أن يتمثله بسهولةٍ عند نظره إلى الصورة التي نشرناها في هذا الكتاب عن إحدى رِداهه.

قال مسيو روسله: «إن أُبَّهة داخل ذلك القصر مما لم تسمعه أذن، فقد زُيِّنَت أساطينه وحناياه وأُطُرُقُبَّته بالنقوش العربية العجيبة التي رُسِمت بالحجارة الكريمة المرصعة في الرُّخام، وتَهَب الشمس وقتما تُلقي أشعتها على فُسيفساء ذلك القصر من خلال حناياه، الحياةَ لطاقاتِ زهوره المصنوعة من الَّلازَوَرد والعقيق واليَصْب، وما لا يُحصَى من أنواع الحجارة الثمينة.»

وزار هذا القصر الشهير في إبان عظمته فرنسيان، أحدهما: طبيبٌ اسمه بيرنيه، والآخر: صائغ اسمه تاڨرنيه، ووصفا دقائقَ كنوزه في سنة ١٦٧٠م وسنة ١٦٧٧م، وأُذِنَ للصائغ تاڨرنيه في فحص حجارته الكريمة ورسمها، وتجد في كتابه تقديرًا ورسومًا لأهمها، ومما جاء فيه أن في القصر سبعةَ تيجانٍ مُرصعة بالألماس، وأن ثمن أهمِّ هذه التيجان السبعة يُقَدَّر ﺑ ١٦٠٥٠٠٠٠٠ فرنك.

وليس من الصعب أن نستعين بما ذكرناه آنفًا، وبما جاء في كتب المتقدمين من الوصف، فنتصور الحال التي كان عليها بلاط ملوك الهند المعاصرين لملك فرنسة لويسَ الثالثَ عشرَ تقريبًا، فالسائحُ الذي يقترب من دهلي يُشاهد في الأفق غابة من القباب والمناور التي تناطح السماء، ثم يمتِّع — بعد أن يدخل دهلي — نظره بمئات القصور والمباني الساحرة المكسوة بالميناء الملون الذي لا يَقدِر على الإعراب عن جماله غيرُ التصوير، ويجب عليه، إذا ما رَغِب في اجتلاء طلعة سيد تلك العجائب، أن يسأل عن الساعة التي يذهب فيها إلى المسجد، وهو يشاهد، في أثناء انتظاره صابرًا أُزُوفَ تلك الساعة، الرِّياض الغُنَّ ذات الجواسق المُخَرَّمة المغطاة بالفسيفساء والمنعكِس رُخامها في مياه الفساقي والحِياضِ العميقة والبارزة من بين أزهار الجُلول١ والياسمين وشجر البرتقال والليمون والأشجار العَطِرة الطيبةِ الرائحة التي لا تَعرِف بلادنا مثلها.

وبينما يقضي السائح العَجَب من تلك العجائب، فيقول في نفسه: إن ملائكة رواية ألف ليلة وليلة لا تستطيع أن تُبْدِع ما هو أروع منها، يَسمعُ ألوفَ الصُّنُوج تدُقُّ إيذانًا بمجيء الملك، ويرى أنه يَخرج من باب القصر الهائل جمعٌ كبير من الخَدَم المتسربلين بسرابيل برَّاقةٍ، ومن الجنود المدججين بالسلاح اللامع، ومن العبيد السُّمر ذوي الخلاخل الفِضية، والحاملين للمحامل الزاهية ذات المِظلَّات المخملية، ويرى، في وسط موكبٍ من فرسان الهندوس والفرس والتركمان الحاملين سيوف الهند المرهَفة، ومن أكابر الأمراء والأعيان اللابسين أفخر الثياب المُطرزة بالذهب والفضة والحجارة الكريمة، صاحب الجلالة الملكَ الراكب فيلًا ضخمًا مُتَّزن الخُطا، والذي تُظلِّله مِظلَّةٌ من الحرير المطرز بالألماس والزمرد، ويرى الجمهور وهو يخرُّ ساجدًا لذلك الملك المطلق الذي هو سيد الهند، وظلُّ الله الحي المرهوب في الأرض، والمالك لخمس عشرة مملكة، والذي هو مَلِك أغرا ودهلي وكابل ولاهور وكجرات ومالوا وبنغال وأجمير، ويرى على جوانبه فريقًا من حاشية الملك يُحَرِّك مراوح من ريش الطاووس ذواتِ أهدابٍ مرصعة بالحجارة الكريمة على حين تُلقي الشمس أشعتها الذهبية على ذلك الموكب الملكيِّ الشرقيِّ الباهر.

هوامش

(١) الجلول: جمع الجل، وهو الورد أبيضه وأحمره وأصفره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤