الفصل السادس

العرب في إسپانية

(١) إسپانية قبل العرب

فكر العرب في فتح إسپانية بعد أن طردوا الروم من شمال إفريقية، وردُّوا جِماح البربر، وتمَّ لهم، بصعوبة، فتحُ الأقطار الإفريقية التي كانت مسرحًا لحروب رومة وقرطاجة ولمغازي ماسينيسه وجوغورته … وغيرهما من القادة المشهورين.

ولم يكن حب التوسع وحده هو الذي حَفَز العرب، الذين ترامت أطراف دولتهم، إلى فتح إسپانية، وإنما دفعهم إلى ذلك رغبتُهم في إلهاء البربر الذين كانوا أشدَّ من حاربهم العرب من الأعداء، والذين ظلوا مرهوبين؛ لشجاعتهم، وميلهم إلى الاستقلال، وحبهم للقتال على الرغم من قهر العرب لهم، فكان من السياسة الرشيدة إرواءُ غرائزهم الحربية في الغارة على البلدان الأجنبية.

وروى ابن خلدون أن الجيش الأول الذي عبر مضيق جبل طارق، ودخل بلاد إسپانية كان مؤلفًا من اثني عشر ألف مقاتل، وأن هذا الجيش كان من البربر تقريبًا.

ونرى قبل أن نَقُصَّ خبر ذلك الفتح الإسلامي، أن نُوجِز تاريخ إسپانية قبله؛ ففي ماضي الأمم سرُّ حوادثها الحاضرة، وبماضي إسپانية يُفسر سبب السرعة في فتح أتباع الرسول لها.

كان للفنيقيين والأغارقة والقرطاجيين مستعمراتٌ في إسپانية التي يسكنها السِّلت الغوليُّون، ومن لم يُعْلَم أصلُهم جيدًا من الإيبريين والليغوريين، وأنشأ القرطاجيون مدينة قرطاجنة في إسپانية بعد أن فتحوها؛ لتكون تابعة لقرطاجة، ثم فتح الرومان بلاد إسپانية على أثر الحروب اليونانية، وذلك قبل الميلاد بقرنين.

وملك الرومان بلاد إسپانية حتى القرن الخامس من الميلاد، وازدهرت مدنٌ فيها أيام حكمهم، ووهبت لرومة رجالًا مشهورين مثل سينيك ولوكن ومَرسيال، ووهبت لها قياصرةً مثل تراجان وأدريان ومَرك أوريل وثيُودُوز … إلخ.

وكان لإسپانية نصيبٌ من إدبار رومة بعد أن كان لها حظٌّ من إقبالها، فقد انقض الوندال والألين والسويف الذين هم من برابرة الشمال على إسپانية بعد أن خرَّبوا بلاد الغول، ولم يلبث القوط، الذين هم من البرابرة أيضًا، أن قهروهم، واستولوا على إسپانية في القرن السادس من الميلاد، وظلوا سادة لها تمامًا إلى أن جاء العرب.

fig119
شكل ٦-١: ذراعا صليب ذهبي قوطي طليطلي مرصع بالحجارة الثمينة (القرن السابع، من صورة فوتوغرافية).

ولسُرعان ما اختلط القوط البرابرةُ باللاتين في إسپانية، فاتخذوا اللاتينية لغةً لهم، وانتحلوا النصرانية التي كانت دين الدولة الرسمي بدلًا من عبادة الأصنام، وخضعوا بذلك لسلطان الحضارة اللاتينية، وحاولوا كغيرهم من قاهري الدولة الرومانية أن يهضِموها على قدرِ عقولهم.

وبقيت شريعة القوط دستورَ إسپانية النصرانية إلى منتصف القرن الثالث عشر، ودلت الحوادثُ على أنهم امتزجوا بالعنصر اللاتيني الذي كان مالكًا لقسم من البلاد، وتم اختلاطهم بنصارى الشمال بعد أن دحرهم المسلمون إلى جبال أشتورش، وظلَّ لقب «ابن القوطي» من ألقاب الشرف حتى بعد أن استردوا إسپانية بزمن طويل، وعندي أن من مظاهر الدم القوطي ما نجد الآن في إسپانية من أصحاب الشعور الشُّقر الكثيرين.

وكان اختلاط القوط باللاتين، قبل الفتح العربي، مقتصرًا على عِلْيَة القوم، وكان سكان البلاد الأصليون من الأرقَّاء الذين ليس لديهم شيء يدافعون عنه، والذين كانوا مستعدين لقبول أي سلطان عليهم، فلم يكن الجيشُ المؤلف من أمثال هؤلاء مما يعتمد عليه.

ومن سوء حظ المملكة القوطية أن كان النظام الملكيُّ القوطي قائمًا على الانتخاب، وأن كان المرشحون للعرش كثيرين، فيقتتل أنصار هؤلاء المرشحين على الدوام، ويُمزِّقون باقتتالهم المملكة القوطية، ولذا لم يكن الأشراف ممن يُركَن إليهم.

نزاعٌ اجتماعي، وفتن داخلية، وفُقدان للروح العسكرية، وفتور عن الدفاع بين الأهلين المستعبدين، هذه هي الحال التي كانت عليها مملكة القوط حين ظهور العرب، وكان من المنافسات التي تُمزِّق الدولة القوطية أن سَهَّل الأمير يُليان ورئيس أساقفة أشبيلية، وهما من علية الإسپان، فتح إسپانية على العرب.

(٢) استقرار العرب بإسپانية

دخل جيشٌ إسلامي مؤلَّف من اثني عشر ألف جندي بلادَ إسپانية في سنة ٧١١م، أي في زمن الخليفة العاشر الذي كانت دمشقُ عاصمتَه.

ومن يقطع القسم الجنوبيَّ الخصب من بلاد إسپانية يعلمْ مقدار التأثير الذي أثَّر به في نفوس العرب حينما استولَوا عليه؛ فقد بهرتهم تربته وهواؤه ومُدنه ومبانيه.

ووُصفت إسپانية في كتابٍ أرسله قائد الجيش العربي إلى الخليفة الأمويِّ بأنها: «شاميةٌ في طيبها وهوائها، يَمَنِيةٌ في اعتدالها واستوائها، هنديةٌ في عطرها وذكائها، أَهْوَازِيةٌ في عِظَم جباياتها، صينيةٌ في معادن جواهرها، عَدَنِيةٌ في منافع سواحلها.»

واستولى المسلمون على ساحل إسپانية مبتدئين بجبل طارق الذي اقتُبِس اسمه من اسم طارق بن زياد البربري الذي هو من رجال القائد العربي موسى بن نُصير.

وكان العرب قد قَضَوا خمسين سنة في فتح إفريقية البربرية، ولم يَقضُوا سوى بضعة أشهر في فتح جميع إسپانية النصرانية، وتَقَرَّر مصير مملكة القوط في المعركة الأولى المهمة التي خاض المسلمون غمارها، والتي كان رئيس أساقفة أشبيلية حليفًا لهم فيها، والتي خَسِر القوط فيها مُلْكَهم وخسروا إسپانية.

وعَجِبَ موسى بن نصير من ذلك النصر السريع الذي لم يتوقعه، ولا غَروَ، فقد كان يتصور ما لاقاه من الشدائد في فتح إفريقية، وكان يعتقد أنه سيَلْقَى في أوربة من الشجاعة وحب الاستقلال ما لقيه في البربر، فلما تَبيَّن له خطؤه أراد أن يشارك طارق بن زياد في مجد الفتح؛ فعبر البحر بجيش مؤلَّف من اثني عشر ألف جندي عربي وثمانية آلاف جندي بربري؛ ليواصل فتح إسپانية.

أتمَّ العرب فتح إسپانية بسرعة مدهشة، وذلك أن المدن الكبيرة سارعت إلى فتح أبوابها للغزاة، فدخل الغزاة قرطبة ومالقة وغرناطة وطُليطلة صلحًا تقريبًا، ووجد العرب في طليطلة التي كانت عاصمة النصارى تيجانَ خمسة وعشرين ملكًا قوطيًّا، وأَسَرُوا أرملة للملك القوطي، رودريك، التي تزوجها ابن القائد موسى بن نُصير فيما بعد.

fig120
شكل ٦-٢: داخل جامع قرطبة.

وأحسن العربُ سياسةَ سكان إسپانية كما أحسنوا سياسة أهل سورية ومصر، فقد تركوا لهم أموالهم وكنائسهم وقوانينهم وحقَّ المقاضاة إلى قضاة منهم، ولم يَفرضوا سوى جزية سنوية تبلغ دينارًا (١٥ فرنكًا) عن كل شريف ونصفَ دينار عن كل مملوك، فرَضَي سكان إسپانية بذلك طائعين، وخضعوا للعرب من غير مقاومة، ولم يبقَ على العرب إلا أن يقاتلوا الطبقة الأريستوقراطية المالكة للأرضين.

ولم يَدُم القتال طويلًا، وذلك أن العرب كسروا كلَّ مقاومة، ودانت لهم جميعُ إسپانية في سنتين، ولكن لا إلى الأبد، فقد استرد النصارى ما خَسِروه بعد جهاد ثمانية قرون.

ويُروَى، مع التوكيد، أن موسى بن نصير فكَّر، بعد فتح إسپانية، في العودة إلى سورية من بلاد الغول وألمانية، وفي الاستيلاء على القسطنطينية، وفي إخضاع العالم القديم لأحكام القرآن، وأنه لم يعُقْه عن ذلك العمل العظيم سوى أمر الخليفة إياه بأن يعود إلى دمشق، فلو وفِّق موسى بن نصير لذلك؛ لجعل أوربة مسلمةً، ولحقَّق للأمم المتمدنة وَحْدَتها الدينية، ولأنقذ أوربة، على ما يحتمل، من دَور القرون الوسطى الذي لم تعرفه إسپانية بفضل العرب.

ولنتكلم، أولًا، عن امتزاج أهل البلاد بسادتهم الجُدد قبل أن نَقُصَّ عليك ماذا تم للعرب في إسپانية: كان أوائل الغزاة لإسپانية من العرب والبربر، وكان يوجد بضعُ قبائل سوريةٍ في الجيوش التي استولت عليها بعدئذ، ولم يكن عدد ما اشتملت عليه هذه القبائل كثيرًا، ولم يظهر أمرُها إلا في دور الفتح الأول، فماذا كان شأن العرب والبربر وأهل إسپانية بعد ما دانت إسپانية للعرب؟

يرى المحقق البصير في تاريخ المسلمين بإسپانية أن الإمامة الثقافية ورسالة التمدن كان يقوم بهما العرب، وأن البربر اختلطوا بطبقات الأهلين الوسطى والدنيا، وأن العرب حافظوا على شرفهم الثقافي حتى بعد أن قَبَضَ البربر على زمام الحكم.

وليس لدينا من الوثائق ما نتمكن به من تقدير نسبة العرب والبربر في مئات السنين الثماني التي دام فيها سلطانُ الإسلام بإسپانية، ولكنَّ سير الأمور يدل على أن العنصر البربري أخذ يزيد بعد انفصال إسپانية عن خلافة المشرق، ولا سيما بعد توالي غارات بربر مراكش التي كانوا يشنونها عليها.

والحق أن العرب، بعد ذلك الانفصال، كانوا يعتمدون في بقائهم في إسپانية على تناسلهم، وأن البربر كانوا يزيدون فيها بمن يَعْبُر جبلَ طارق من إخوانهم المراكشيين طلبًا للثراء.

ويظهر أن التوالد لم يقتصر على العرب والبربر وحدهم، بل توالد العرب والبربر وسكان إسپانية الأصليون أيضًا، فكان العرب يتزوجون النصرانيات على الخصوص، فيُمِدُّون بذلك دوائر حريمهم ويُديمون بذلك نسلهم.

fig121
شكل ٦-٣: محراب جامع قرطبة (من تصوير مورفي).

وروى مؤرخو العرب أن العرب تزوَّجوا في بدء الفتح ثلاثين ألف نصرانية، ولا يزال يُرى في قصر أشبيلية رَدْهَةٌ تُدعى ردهة الصبايا اللائي كان النصارى يُلزمون بتقديم مائةٍ منهن إلى أحد ملوك العرب في كل سنة كجزية، فنحن إذا ما رأينا أن هؤلاء النصرانيات كُنَّ من مختلف الأجناس، وأنه كان يجري في عروقهن الدم الإيبري واللاتيني واليوناني والقوطي … وغير ذلك، علمنا أنه نشأ عن توالد النصارى والبربر والعرب، الذي دام في بيئةٍ واحدة قرونًا كثيرة، عِرقٌ جديد مختلف عن العروق التي فتحت إسپانية اختلافًا بَيِّنًا، وأن العناصر الكثيرة التي أدى تمازجها إلى ظهور ذلك العِرق كانت في أحوال تؤدِّي إلى تكوينه تكوينًا مطابقًا لما ذكرناه في فصل سابق عن فعل البيئة والتوالد.

ولا أبحث هنا في تاريخ ملوك العرب أو البربر الذين ملكوا إسپانية ثمانمائة سنة، وإنما أُوجِز أهم الحوادث السياسية التي وقعت في تلك المدة الطويلة إيجازًا يكفي لفهم هذا الفصل: كانت إسپانية، التي تم فتحها في سنة ٧١١م، تابعة لخلفاء دمشق حتى سنة ٧٥٦م، وكان ينوب عن هؤلاء الخلفاء أمراء في شؤون حكمها، فلما كانت سنة ٧٥٦م انفصلت إسپانية عن خلافة المشرق، وقامت فيها دولةٌ مستقلة عُرِفَت في التاريخ بخلافة قرطبة التي أصبحت عاصمةً لها.

fig122
شكل ٦-٤: رسم جامع قرطبة (كما جاء في كتب العرب القديمة).

وأخذ نجم العرب السياسي في إسپانية يأفُل بعد أن مضى على سلطانهم ثلاثةُ قرون بلغت الحضارة العربية فيها ذُروتها، وشرع النصارى الذين دحرهم العرب إلى الشمال يستفيدون مما كان يقع بين المسلمين من الفساد والفتن، وصاروا يُغيرون عليهم.

واستغاث عرب إسپانية ببربر مراكش في سنة ١٠٨٥م، ليَحُولوا دون توالي انتصارات ملك قشتالة وليون: الأذفونش السادس، ولم يلبث هؤلاء البربر الذين جاءوا إلى إسپانية حلفاء للعرب أن ظهروا لهم بمظهر السيد، وأسفر تنازع العرب والبربر عن انقسام دولة العرب إلى عشرين دُويلة، وعن قبض المرابطين والموحدين وغيرهم من البربر على زمام الأمور، وعن تكمُّش العرب إزاء البربر، وعن تدرُّج الحضارة العربية إلى الانزواء.

واهتبل النصارى تلك الفُرَصَ، فوَسَّعُوا دائرتهم على حساب المسلمين، وأقاموا دُويلاتٍ كثيرةً كبلَنْسِيَة وقشتَالة ومُرْسِيَة وغيرها مما انتهى إلى أربع دول، وهي: البرتغال ونَبَرَّة وأَرغُونة وقَشتَالة.

fig123
شكل ٦-٥: باب الشمس في طليطلة (من صورة فوتوغرافية).

ولم يبقَ للعرب في أواخر القرن الثالث عشر سوى مملكة غرناطة، ولما تزوَّج ملك أرغونة فرديناند الكاثوليكي ملكة قتشالة إيزابلا، وتمت بذلك وحدة تينك الدولتين، حاصر في سنة ١٤٩٢ غَرناطة، التي كانت آخر معقِل للإسلام في إسپانية، وفَتَحَها، ثم ضم إليه مملكة نَبَرَّة، فأصبحت جميع إسپانية، خلا البرتغال، تابعةً لعرش واحد.

fig124
شكل ٦-٦: مقدم القصر في أشبيلية (من صورة فوتوغرافية).

ودامت دولة العرب في إسپانية نحو ثمانية قرون، أي ما يقرب من مدة سلطان الروم، وأدى انقسامها إلى زوالها أكثر مما أدت إليه الغارات الأجنبية، فالعرب، وإن كانت عبقريتهم الثقافية من الطراز الأول، لم يَبْدُ نبوغهم السياسيُّ غير ضعيف.

fig125
شكل ٦-٧: سقف محراب جامع قرطبة القديم (طراز بزنطي عربي، آثار إسپانية المعمارية).

وعاهد فرديناند العرب على منحهم حرية الدين واللغة، ولكن سنة ١٤٩٩م لم تكد تَحِلُّ حتى حلَّ بالعرب دور الاضطهاد والتعذيب الذي دام قرونًا، والذي لم ينتهِ إلا بطرد العرب من إسپانية، وكان تعميد العرب كَرْهًا فاتحةَ ذلك الدور، ثم صارت محاكم التفتيش تأمر بإحراق كثير من المُعَمَّدين على أنهم من النصارى، ولم تَتمَّ عملية التطهير بالنار إلا بالتدريج؛ لتعذر إحراق الملايين من العرب دفعة واحدة، ونصح كردينالُ طليطلة التقيُّ، الذي كان رئيسًا لمحاكم التفتيش، بقطع رءوس جميع من لم يتنَصَّر من العرب رجالًا ونساء وشيوخًا وولدانًا، ولم يرَ الراهب الدومينيكي، بلِيدًا، الكفايةَ في ذلك؛ فأشار بضرب رقاب من تَنَصَّر من العرب ومن بَقِي على دينه منهم، وحجتُه في ذلك أن من المستحيل معرفة صدق إيمان من تنصر من العرب، فمن المستحب، إذن، قتلُ جميع العرب بحد السيف؛ لكي يحكُم الرب بينهم في الحياة الأخرى، ويُدخِلَ النار من لم يكن صادق النصرانية منهم، ولم ترَ الحكومة الإسپانية أن تعمل بما أشار به هذا الدومينيكي الذي أيَّده الإكليروس في رأيه لما قد يُبدِيهِ الضحايا من مقاومة، وإنما أمرت، في سنة ١٦١٠م، بإجلاء العرب عن إسپانية، فقُتل أكثر مهاجري العرب في الطريق، وأبدى ذلك الراهب البارع، بليدا، ارتياحَه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين في أثناء هجرتهم، وهو الذي قَتَل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة كانت مؤلفة من ١٤٠٠٠٠ مهاجر مسلم حينما كانت مُتَّجِهةً إلى إفريقية.

وخَسِرَت إسپانية بذلك مليون مسلم من رعاياها في بضعة أشهر، ويُقَدِّر كثيرٌ من العلماء، ومنهم سيديو، عددَ المسلمين الذين خسِرَتهم إسپانية، منذ أن فتح فرديناند غرناطة حتى إجلائهم الأخير، بثلاثة ملايين، ولا تُعدُّ ملحمةُ سان بارتلمي إزاء تلك المذابح سوى حادث تافه لا يُؤبَه له، ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يُؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقتُرِفت ضد المسلمين.

ومما يُرثى له أن حُرِمت إسپانية عمدًا هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية.

ثم رأت محاكم التفتيش أن تُبيد كل نصراني ترى فيه شيئًا من النباهة والفضل، فكان من نتائج هذه المظالم المزدوجة أن هبطت إسپانية إلى أسفل دركات الانحطاط بعد أن بلغت قمة المجد، وأن انهار معًا كل ما كان فيها من الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والآداب والسكان.

وها هي ذي عِدَّة قرون مضت على ذلك الدور من غير أن تستطيع إسپانية أن تنهض من هبوطها مع ما بُذِل من الجهود، وقد صار عدد سكان طُليطلة في الوقت الحاضر ١٧٠٠٠ بعد أن كان ٢٠٠٠٠٠ أيام الحكم العربي، وقد أصبح عدد سكان قرطبة في الوقت الحاضر ٤٢٠٠٠ بعد أن كان مليونًا أيام الحكم العربي؛ ولم يبقَ من مدن ولاية شَلَمَنْقَة، التي كان عددها أيام الحكم العربي ١٢٥ مدينة، سوى ١٣ مدينة.

وسيرى القارئ في الفصل الذي خصَّصناه للبحث في وارثي العرب مقدار الانحطاط الذي أسفر عن إبادة العرب، وإذا كنتُ قد أشرت إلى هذا هنا فلأن شأن العرب المدني لم يَبْدُ في قطر ملكوه كما بدا في إسپانية التي لم تكن ذات حضارة تُذكر قبل الفتح العربيِّ؛ فصارت ذات حضارة ناضرة في زمن العرب، ثم هَبَطت إلى الدَّرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب، وهذا مثالٌ بارزٌ على ما يمكن أن يتَّفق لعِرق من التأثير.

(٣) حضارة العرب في إسپانية

كانت إسپانية النصرانية ذات رَخاء قليل وثقافة لا تلائم غير الأجلاف في زمن ملوك القوط، ولم يَكَد العرب يُتِمُّون فتح إسپانية حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويَعْمُروا خَرِب المدن، ويقيموا فَخْمَ المباني، ويُوطِّدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، ويُنشؤون الجامعاتِ التي ظلَّت وحدَها ملجأ للثقافة في أوربة زمنًا طويلًا.

fig126
شكل ٦-٨: داخل ردهة في القصر بإشبيلية (من صورة فوتوغرافية).

وأخذت حضارة العرب تنهض منذ ارتقاء عبد الرحمن إلى العرش على الخصوص، أي منذ انفصال إسپانية عن المشرق بإعلان خلافة قرطبة في سنة ٧٥٦م، فَغَدَت قرطبة، بالحقيقة، أرقى مُدُن العالم القديم مُدةَ ثلاثة قرون.

ولم يَكَد عبد الرحمن يَقبض على زمام الحكم في إسپانية حتى أخذ يسعى في حمل العرب على عدِّ إسپانية وطنًا حقيقيًّا لهم، فأنشأ جامع قرطبة الشهير الذي هو من عجائب الدنيا؛ لتحويل أنظار العرب عن مكة، وصار يُنفق دخلَ بيت المال في إصلاح البلاد وعمرانها بدلًا من إنفاقه في الغزوات البعيدة، ثم سار خلفاؤه على سنته في ذلك.

وامتازت حضارة العرب في إسپانية في ذلك الدور بمَيل العرب الشديد إلى الفنون والآداب والعلوم على الخصوص، وأنشأ العرب في كل ناحية مدارس ومكتبات ومختبرات، وترجموا كتب اليونان، ودرسوا العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والكيماوية والطبية بنجاح، وسنرى في فصول أخرى أهمية اكتشافاتهم في هذه العلوم المختلفة.

ولم يكن نشاطهم في الصناعة والتجارة أقل من ذلك، فكانوا يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة ومصانع النسائج والجلود والسكر إلى إفريقية والشرق بواسطة تُجار من اليهود والبربر.

وبرع العرب في الزراعة براعتهم في العلوم والصناعات، ولا يوجد في إسپانية الحاضرة من أعمال الري خلا ما أتمَّه العرب، وأدخل العرب إلى حقول الأندلس الخصبة زراعة قصب السكر والتوت والأرز والقطن والموز … إلخ، وأصبحت إسپانية، التي هي صحراء حقيقية في الوقت الحاضر، عدا بعض أقسامٍ في جنوبها، جنةً واسعة بفضل أساليب العرب الزراعية الفنية.

ووجَّه العرب نشاطهم إلى كل فرع من فروع العلوم والصناعة والفنون، ولم تَقِلَّ أشغالهم العامة عن أشغال الرومان أهميةً، فأكثروا من إنشاء الطرق والجسور والفنادق والمشافي والمساجد في كل مكان.

وظن رئيس الأساقفة الإسپاني أكزيمينيس أنه، بإحراقه مؤخرًا ما قَدَر على جمعه من مخطوطات أعداء دينه العرب (أي ثمانين ألف كتاب)، مَحَا ذكرهم من صفحات التاريخ إلى الأبد، وما دَرَى أن ما تركه العرب من الآثار التي تملأ بلاد إسپانية، خلا مؤلفاتهم، يكفي لتخليد اسمهم إلى الأبد.

وكانت عاصمة الخلافة، قرطبة، دارًا للعلوم والفنون والصناعة والتجارة، وتستطيع أن تقابلها بعواصم دول أوربة العظمي الحديثة، وهي على خلاف قرطبة الحاضرة التي أضحت مقرًّا للأموات، ومن المؤلم أن كنتُ أسير عدة ساعات في هذه المدينة الواسعة، التي كان يقم بها مليون شخص، قبل أن أصادف مارًّا نشيطًا …

fig127
شكل ٦-٩: داخل ردهة في منصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية).

أجل، كان من النصر العظيم أن أَحلَّ النصارى الصليب محل الهلال في قرطبة، ولكن الهلال كان يُهيمن على أغنى مدن العالم وأجملها وأكثرها أهلًا، فيُشرف الصليب اليوم على بقايا تلك الحضارة القويمة التي قَوَّضها عُبَّادُه من غير أن يقيموا حضارةً أخرى مقامها.

وكان نظام الحكم العربي في إسپانية مشابهًا لنظام الحكم الذي تكلمنا عنه في فصل «العرب في بغداد» أي كان الخليفة، وهو وكيل الله في الأرض، حاكما مطلقًا جامعًا لجميع السلطات المدنية والدينية والحربية مع اختياره مجلسًا لإسداء النصح إليه في جميع أمور الدولة.

وكان يقوم بحكم الولايات ولاةٌ يَنْصِبهم الخليفة جامعون لمثل سُلُطاته كلها.

وكان قانون الدولة المدني يستند في نصوصه إلى القرآن وتفسير القرآن، كما نوضح ذلك في فصل آخر؛ فيتخذ القضاة القرآن دستورًا في أحكامهم، وكانت المحاكم على درجتين؛ فتقوم محاكم الدرجة الثانية (الاستئناف) بإصلاح ما تُصدره محاكم الدرجة الأولى من الأحكام.

وكان الخليفة، كملوك ذلك العصر، غير ذي جيش دائم، وكانت الكتيبة الوحيدة المسلحة على الدوام مؤلفة من حَرَس وليِّ الأمر الشخصيِّ الذي يبلغ عدده عشرة رجال أو اثني عشر رجلًا،١ وإن كان يستطيع أن يجند كلَّ شخص قادرٍ على حمل السلاح من أبناء الدولة.

وكانت البحرية قوية جدًّا، وكانت تَتمُّ بفضلها صلات العرب التجارية بجميع مرافئ أوربة وآسية وإفريقية، وظل العرب وحدهم سادة البحر المتوسط زمنًا طويلًا.

وكان دخل بيت المال يقوم على الضرائب والمناجم، كما في بغداد، وكانت مناجم الفضة والذهب والزئبق غنيةً في ذلك الزمن، وكانت الضرائب تتألف من العُشر العيني لمحاصيل أراضي المسلمين، ومن الجِزْية التي يُعطيها النصارى واليهود، ومن الجمارك والمُكوس، فبلغ دَخل دولة الخلافة في إسپانية ثلاثمائة مليون في إبَّان عظمتها، أي في عهد الحكم الثاني.

وقلنا: إن الإمامة الثقافية كانت للعرب في البلاد، وأما العوامُّ فكانوا من البربر، ومن سكان البلاد القدماء على الخصوص، وكان باب المناصب مفتوحًا للنصارى، وكان النصارى يُستخدمون في الجيش غالبًا، ولم يكن توالد المسلمين والنصارى غيرَ قليل، وكانت أم الخليفة عبد الرحمن الثالث نصرانيةً.

واستطاع العرب أن يحوِّلوا إسپانية ماديًّا وثقافيًّا في بضعة قرون، وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوربية، ولم يقتصر تحويل العرب لإسپانية على هذين الأمرين؛ بل أثَّروا في أخلاق الناس أيضًا، فهم الذين عَلَّموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يُعلِّموها، التسامحَ الذي هو أثمن صفات الإنسان، وبلغ حِلْم عرب إسپانية نحو الأهلين المغلوبين مبلغًا كانوا يسمحون به لأساقفهم أن يَعقِدوا مؤتمراتهم الدينية، كمؤتمر أشبيلية النصراني، الذي عُقد في سنة ٧٨٢م ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عُقِد في سنة ٨٥٢م، وتُعد كنائس النصارى الكثيرة التي بَنَوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم.

fig128
شكل ٦-١٠: بهو ملوك المغاربة في القصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية).

وأسلم كثيرٌ من النصارى، ولكنهم لم يُسلموا طمعًا في كبير شيء، وهم الذين استعربوا فغَدَوْا هم واليهود مساوين للمسلمين قادرين مِثلهم على تقلد مناصب الدولة، وكانت إسپانية العربيةُ بلدَ أوربة الوحيد الذي تمتع اليهود فيه بحماية الدولة ورعايتها، فصار عددهم فيه كثيرًا جدًّا.

وكان عربُ إسپانية يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظم، وكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفُقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم … وما إلى هذا من الخِلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخرًا، فتؤثِّر في نفوس الناس تأثيرًا لا تؤثره الديانة.

وللفروسية العربية شروطُها كما للفروسية الأوربية التي ظهرت بعدها، فلم يكن المرء ليصير فارسًا إلا إذا تحلَّى بهذه الخصال العشر: «الصلاح، والكرامة، ورقَّة الشمائل، والقريحة الشعرية، والفصاحة، والقوة، والمهارة في ركوب الخيل، والقدرة على استعمال السيف، والرمح، والنُّشَّاب.»

ونرى تاريخ العرب في إسپانية حافلًا بالأنباء الدالة على كثرة انتشار تلك الخصال، ومن ذلك أن والي قرطبة لمَّا حاصر، في سنة ١١٣٩م مدينة طيطلة التي كانت بيد النصارى أرسلت إليه الملكة بِيرِنْجِر التي كانت فيها من بَلَّغه أنه لا يليق بفارسٍ بطلٍ شهمٍ كريمٍ أن يحاصر امرأةً، فارتد القائدُ العربيُّ من فَوره محييًا الملكة.

وذاعت خصال الفروسية تلك بين النصارى، ولكن ببطء، ويمكننا أن نتمثل ما كانت عليه الفروسية النصرانية في القرن الحادي عشر عند النظر إلى أمر السيد الكنبيطور رودريك الڨيڨاري.

لم يكن هذا البطل الشهير الذي تَغَنَّى به الشعراء كثيرًا سوى رئيس عصابة بالحقيقة، أي كان محل مزايدة، فيبيعُ نفسه من العرب تارة ويبيعها من النصارى تارة أخرى، ومما حدث أن دخل مدينة بَلَنْسِيَة صُلحًا فلم يُحجم عن شَيِّ حاكمها الهَرِم على النار؛ ليُكرهه على كشف ما كان يَظنُّ وجوده في القصر من الكنوز.

قال مسيو ڨيارْدُو: إن ذلك الفارس الشهير الذي يُثير اسمه ذكريات البطولة هو البطل الشعبي الذي اقتحم المخاطر والأهوال أكثرَ مما اقتحمه هركول وثيزه وقدماء أنصاف الآلهة مجتمعين.

بَيد أنه، وإن كان من المؤلم تجريدُ اسمِ عظيمٍ من بعض ما أسبَغْته القرون عليه، لم يُوضَع التاريخ ليؤيد بأحكامه أقاصيص الأدباء وخيالات الشعراء.

لم يحُزْ رودريك، أو روِي دياز الڨيڨاري، غيرَ صفات الجندي، أي كان رئيس عصابة من المرتزقة قاسيًا جشعًا حقودًا شديدًا في قوله وعمله كثير الجلف مستخفًا بالعدل والإنصاف.

fig129
شكل ٦-١١: برج لاجيرالده (برج لعبة الهواء) في أشبيلية (من تصوير جيرول دوپرانجه).

وكان نصارى أرغونة أولَ من أعمل السلاح فيهم لحساب المسلمين الذين منحوه لقب «السيد» فعُرف به، ثم باع سيفه من شانشه القوي؛ ليساعده على تجريد ما لإخوته وأخواته من المقاطعات، ثم حالف هذا وذاك محالفة الغادرين، ولم يُبالِ بعهد الأمان الذي قَطَعَه لمدينة ساغُونتة ومدينة بَلَنْسَيَة؛ فأطعم الكلابَ بعضَ الأسرى، ونكَّل ببعضهم، وحرَّق بعضًا آخر منهم إكراهًا لهم على كشف كنوزهم.

«حقًّا إنه أطفأ ما تمَّ له من مجد النصر بما قام به من أعمال الختر٢ والخسة والإجرام، وإني أحيل القارئ الذي يريد التثبت في مصداق قولي إلى ما قاله مسيو دوزي في مباحثه عن تاريخ عرب إسپانية السياسي والأدبي في القرون الوسطى.»
fig130
شكل ٦-١٢: محراب مسجد قصر الحمراء (من تصوير جونس).

وليس من الإنصاف أن نقسو على السيد الذي لم يعمَل بغير ما كانت تُبيحه طبائع زمنه، ولكن من الواجب أن نشير إلى تلك الطبائع؛ ليتجلى لنا مقدارُ ما أسدت به الأمة التي عَمِلت على زوال تلك الطبائع من خدمة عظيمة بتأثير تعاليمها التي لا مؤيِّد لها سوى الرأي.

ويقولون: إن الدين يهذب الطبائع، وأذهب إلى هذا الرأي أحيانًا وإن لم يكن في التاريخ سوى أدلة قليلة على ذلك، وإنما الذي لا ريب فيه هو أن قواعد الفروسية التي جاء بها العرب أدَّت إلى إصلاح تلك الطبائع أكثر من جميع التعاليم الدينية.

نعم، إن إحراق السيد شيخًا ليَسْلُب ماله يُبديه لنا وحشًا، غير أن طبائع أهل ذلك الزمن كانت تُبيح ذلك، وأن كل أمير نصراني كان يقترف مثلَ ذلك.

ومن ذلك أن دعا الطاغيةُ بِطْرُه ملك غرناطة، أبا سعيد، إلى قصره فأعجبه ما كان يَتَحَلَّى به الملك أبو سعيد من الجواهر، فلم يَرَ غير سلبه إياها بقتله غدرًا.٣

فآثامٌ مثل هذه مما لم يقترفه العرب قط. والعرب أحسنوا كثيرًا إلى الحضارة بنشرهم من المشاعر في أنحاء العالم ما يَحُول دون ارتكابها.

واعترف الكتَّابُ القليلون الذين درسوا تاريخ العرب بفضلهم الخُلُقي، وإليك ما قاله العالمُ الثَّبَتُ مسيو سيديُّو: «كان العرب يفوقون النصارى كثيرًا في الأخلاق والعلوم والصناعات، وكان من طبائع العرب ما لا تراه في غيرهم من الكرم والإخلاص والرحمة، وكان من طبائعهم التي امتازوا بها في المحافظة على الكرامة ما يؤدي الإفراط فيه إلى المبارزة والشحناء.

وكان ملوك قشتالة وَنَبَرَّة على علم من صدق العرب وقِرَاهم، ولم يتردد الكثير منهم في المجيء إلى قرطبة؛ ليعالجهم أطباؤها المشهورون.

وكان أفقر المسلمين يحافظ على شَرَف أسرته محافظة أشد الرؤساء صَلَفًا.»

(٤) مباني العرب في إسپانية

استخدم العرب، في بدء إقامتهم بإسپانية، مهندسين من الروم، ولكن العرب لم يلبثوا أن أثَّروا بعبقريتهم الفنية في أولئك المهندسين، وبَلَغ إيحاؤهم في أمور الزينة مبلغًا صار يتعذر معه على أقل الناس دقةً أن يخلط مبانيهم بالمباني البزنطية.

ولم يلبث العرب في إسپانية أن تحرروا من النفوذ البزنطي كإخوانهم في مصر، فاستبدلوا النقوش العربية الممزوجة بالكتابة بالزخرفة الذهبية، وأكثروا، كما في المشرق، من المتدليات المؤلفة من الأقواس الصغيرة التي يعلو بعضُها بعضًا على شكل نخاريب النخل، فيكون منظرها ساحرًا عجيبًا حينما يُزيَّن بها داخلُ إحدى القباب كما في الحمراء، وكانت هذه الأقواس على شكل نعل الفرس الظاهر في البُداءة، ثم اختلطت بأنواع الأقواس الأخرى البسيطة المصنوعة على رسم البيكارين، والأقواس المفلوقة المصنوعة على رسم البيكارين، والأقواس المنقوشة على شكل الأزهار والأغصان المصنوعة على رسم البيكارين … إلخ، وأما الأقواس المجاوِزة فقد أهملها العرب تقريبًا.

ونَعُدُّ جامع قرطبة الذي بُني في القرن الثامن من الميلاد وبعضَ المباني في طليطلة من آثار الدور الأول لفن العمارة العربي بإسپانية، ونعدُّ منارة لاجيرالدة (لعبة الهواء) الأشبيلية، التي أقيمت في القرن الثاني عشر من الميلاد، والقصر الأشبيلي من آثار الدور الأوسط لفن العمارة العربي، ونَعُد قصر الحمراء الغَرناطي الذي شيد في القرن الرابع عشر من الميلاد عُنوانًا لما انتهى إليه فنُّ العمارة العربي.

fig131
شكل ٦-١٣: مقدم مسجد قصر الحمراء في غرناطة.

وعلى ما في هذه المباني التي أُنشئت في إسپانية في مختلف الأدوار من التباين في الطُّرُز نرى لها طابعًا خاصًّا يدل على أصلها أول وهلة.

ويرى مثل هذا الطابع الخاص في مختلف المباني التي شادها العرب في مختلف الأقطار، فقصر الحمراء في غرناطة أو جامع السلطان حسن في القاهرة أو باب علاء الدين في دهلي أو غيره، وإن بدا عليه تأثير البيئة التي كان يعيش فيها المهندسون الذين رسموه، جَمَعَت بينه وبين المباني الأخرى التي شادها العرب في الأقطار الأخرى صفاتُ فنِّ العمارة العربي العامةُ، وتَنِمُّ هذه على مهارة صانعيها في إبداع الآثار الجديدة بالمواد القديمة، ولا جَرَمَ أن باب علاء الدين الذي أُلِّفَ فيه بين عناصر الفن العربية والفارسية والهندوسية هو من الأمثلة المهمة لتأثير الفن العربي العجيب الذي طبع سِمَتَه على كل ما مسَّه، والذي ظل عربيًّا مع ما اقتبسه من الهندوس في الهند ومن الفرس في بلاد فارس ومن البزنطيين في إسپانية.

ولنتكلم الآن بإيجاز عن المباني المهمة التي تركها المسلمون في إسپانية، وسنتبع طريقتنا في نشر صور صادقة عنها نشرًا يُغنينا عن الوصف المفصل، وذلك على أن نعود إلى الكثير منها في الفصل الذي ندرس فيه تاريخ فنِّ العمارة العربي.

(٤-١) المباني العربية في قرطبة

إن جامع قرطبة الشهير الذي بدأ عبد الرحمن بإنشائه في سنة ٧٨٠م، والذي يعده علماء المسلمين قبلة أنظار المغرب، من أجمل المباني التي شادها العرب في إسپانية، قال كونده: بُنِيَ ذلك المسجد الجامع في أواخر القرن الثامن من الميلاد بأمر عبد الرحمن الأول وإشرافه، ورُوي أن عبد الرحمن الأول هذا أراد أن يجعله مماثلًا لجامع دمشق على أوسع نطاق، ومُذكرًا الناس بفيض زخارفه، بعجائب هيكل سليمان القدسي المجيد الذي هدمه الرومان.

«وكان جامع قرطبة يفوق معابد الشرق قاطبة بعظمته وروعته، وترى ارتفاع مئذنته أربعين ذراعًا، وترى قُبته الهيفاء تقوم على روافد من الخشب المحفور وتستند إلى ١٠٩٣ عمودًا مصنوعًا من مختلف الرخام على شكل رقعة الشطرنج، فيتألف منها تسعة عشر صحنًا واسعًا طولًا وثمانية وثلاثون صحنًا ضَيِّقًا عرضًا، وترى في وجهه الجنوبي المقابل للوادي الكبير تسعة عشر بابًا مُصفَّحًا بصفائح برونزية عجيبة الصنع خلا الباب المتوسط الذي كان مصفحًا بألواح من الذهب، وترى في كل من وجهه الشرقي الجانبي ووجهه الغربي الجانبي تسعة أبواب مشابهة لتلك الأبواب.»

ولا يزال جامع قرطبة من المباني المهمة مع ما أحدثه الإسپان فيه من التلف والفساد، ومع تلك الكنيسة الواسعة التي أقاموها فيه لتطهيره، ومما صنعه الإسپان أن كلَّسوا زخارف جُدُره وكتاباته، ونزعوا منه فسيفساء أرضه، وباعوا تُحف سقفه الخشبية المحفورة المُزَوَّقة، فيجب على من يرغب في تمثل شيء مما كان عليه جامع قرطبة أن ينظر إلى محرابه الذي تَفَلَّت وحدَه من التخريب.

fig132
شكل ٦-١٤: قاعة البركة في قصر الحمراء (من تصوير جونس).

ويقوم سقف جامع قرطبة على أعمدة، ويتكون من اجتماع هذه الأعمدة صفوفٌ من الصحون الكبيرة المتوازية المؤدية إلى باحته، وتتقاطع هذه الصحون وصحونٌ أخرى كتقاطع الأضلاع الذي ينشأ عنه زوايا قائمة، ويتألف من مجموع تلك الأعمدة غابة من الرخام واليَصْب والغرانيت، وتعلو تلك الأعمدةَ أقواسٌ رائعة مُنَضَّدة مصنوعة على شكل نعل الفرس.

ولا يؤدي ارتفاع سقف جامع قرطبة الذي لا يزيد على عشرة أمتار إلى ما نراه في الكتدرائيات القديمة، التي أقيمت على الطراز القوطي في القرون الوسطى، من الجلال الأدْجَن ككتدرائية كولونية وستراسبرغ، وإنما ينشأ عن تنضُّد أقواسه وتنوع زخارفه منظرٌ مبتكرٌ بديع قلما تجد مثله في مبانٍ أخرى.

وأما محراب جامع قرطبة فإننا، من غير أن نُجاري جيرول دوپرانجه في قوله: «إنك لا ترى أحسنَ من زُخرفه وسَنائِه في أي أثرٍ قديم أو حديث مماثل»، نعترف بأنه من أجمل ما تقع عليه عَينُ بَشَر.

وأقيم جامع قرطبة أيام كان الفنُّ العربي في فجره، وتدرَّج الفن العربي إلى الكمال، فأقيمت على الطراز العربي الكامل مبانٍ عجيبةٌ كالحمراء تُخبر، بما لها من الروعة والجلال قادمَ الأجيال بما كان للقوم الذين شادوها من الذوق الفني وحب كل ما هو ساطع بديع عجيب.

fig133
شكل ٦-١٥: منظر التُقط في قاعة الأختين بقصر الحمراء (من تصوير جونس).
fig134
شكل ٦-١٦: قاعة بني سراج في قصر الحمراء (من تصوير مورفي).
fig135
شكل ٦-١٧: ليوان في قصر الحمراء بغرناطة.
fig136
شكل ٦-١٨: داخل قاعة لندرجة في قصر الحمراء.
وأرى، قبل أن أغادر قرطبة، أن أذكر، أيضًا، قصر الزهراء الساحر الذي بناه عبد الرحمن في القرن العاشر بعيدًا بضعة فراسخ من قرطبة، والذي دَرَس رسمُه وقَصَّ التاريخ نبأه، وإن الضبط الذي وَصَف به كُتَّاب العرب جامع قرطبة لدليل على صدق ما وصفوا به قصر الزهراء من الأوصاف التي أوجَزَها جيرول دوپرانجه فيما يأتي:

كان يُزيِّن ذلك القصر ٤٣٠٠ عمود من الرُّخام الثمين الكامل الصنع، وكانت رِدَاهَه مبلطةً بِقطع من الرُّخام المنقوش بمهارة على ألف شكل، وكانت حواجز هذه الرِّدَاه مغطاةً بالمرمر ومزخرفة بالأفاريز ذات الألوان الباهرة، وكانت سقوفه ذات نقوش ذهبية لَازَوَرْدِيَّة متشابكة، وكانت جسور هذه السقوف وترابيعها الأَرْزِيَّة دقيقةً متقنة الصنع، وكان في بعض رِداهه عيون عجيبة تَصُبُّ مياهها الصافية في صهاريج رخامية ذات أشكالٍ منوعة أنيقة، وكان في رَدْهَة الخليفة عين مصنوعة من اليَصب ومزينةٌ بإوزَّةٍ عجيبة من الذهب عُملت في القسطنطينية، وكانت الدرة الشهيرة، التي أتْحَف قيصرُ الروم عبدَ الرحمن الناصر بها، تَعلُو هذه العين، وكانت الحدائق العظيمة ذات الأشجار المثمرة والرياحين قريبة من القصر، وكان في وسط هذه الحدائق، وعلى مكان مُشرف منها، قُبةُ الخليفة القائمة على أعمدةٍ رُخاميةٍ بيضٍ ذات تيجان مُذهَّبة، وكان في وسط هذه القبة حوض كبير من الرخام السماقيِّ مملوءٌ بالزئبق الذي كان يَتَدَفَّق بشكل عجيب تدفقًا مستمرًّا، فكانت أشعة الشمس تنعكس عليه بما يأخذ بمجامع القلوب، وكان في هذه الحدائق الجميلة حماماتٌ ذاتُ صهاريج رخاميةٍ وبُسُطٍ ورياشٍ حريري ذهبي مُوَشَّى بصور غريبة طبيعية من الأزهار والغاب والحيوانات، وجُلِب الرخام الأبيض إلى قصر الزهراء من المرية، والورديُّ والأخضر من قرطاجة وتونس، وصُنعت في سورية، وفي القسطنطينية على روايةٍ، عينُه الذهبية المنقوشة، وكان يُرى هنالك ما جَلَبه أحمد الرومي من الصور البشرية المنقوشة، وأمر الخليفة بأن تُنصب هنالك صورٌ من الذهب والحجارة الثمينة لاثني عشر حيوانًا مصنوعةٌ في المعمل الملكي بقرطبة، فكانت المياه تتدفق من أفواهها تدفقًا مستمرًا، وكان سقف ردهة الخليفة مُذهبًا مؤلفًا من قطع رخامية لامعة مختلفة الألوان، وكانت جُدُره مزخرفةً مثل سقفه، وكان في وسط هذه الردهة حوضٌ رخاميٌّ عظيم مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذه الردهة ثمانية أبواب معقودة على حنايا من العاج والأبنوس مزينةٍ بالذهب والحجارة الثمينة، قائمةٍ على أعمدة من الرخام المنوَّع والبلور الصافي، وروى ابن حيان أن قصر الزهراء اشتمل على ٤٣١٢ سارية مختلفة الحجوم، وأنه جُلِب ١٠١٣ سارية منها من إفريقية و١٩ سارية منها من رومة، وأن قيصر الروم أتحف عبد الرحمن ﺑ ١٤٠ سارية منها، وأن بقية السواري أُخذت من مختلف بقاع الأندلس وطَرَّكُونة وغيرها، وصُنِعَت أبواب قصر الزهراء من الحديد أو من النحاس المُمَوَّه بالذهب والفضة.

(٤-٢) المباني العربية في طليطلة

مدينة طليطلة القديمة الحاضرة صورةٌ صادقةٌ لما كانت عليه المدن الأوربية في القرون الوسطى، وما هو ماثل فيها الآن من الكتدرائية الفخمة ودير سان جوان دولوس ريس يكفي لشهرتها، فإذا استثنيت هذين الأثرين رأيت في كل خطوة منها ما يساعد على درس تأثير العرب في الأمم التي حلَّت محلهم.

ولا يزال يُحيط بطليطلة حصونُها وأبراجها العربية، ونذكر من أبوابها القديمة بابَ بيزاغرَة (باب شقرة) الشهير الذي أُنشئ في القرن التاسع من الميلاد، وباب الشمس الشهير الذي أُنشئ في القرن العاشر من الميلاد فيَصعُب عليَّ أن أَعدَّه، كما عَدَّه غيري، من الآثار التي شِيدت على الطراز البزنطي، وذلك لشكله العربي العام، ولما يُرى فيه من الأقواس والزخارف العربية.

وأذكر من المباني العربية في طليطلة، أو المباني العربية اليهودية فيها، سنتا ماريا لا بلانكا، أي الكنيس القديم الذي بُني في القرن التاسع.

ويُعدُّ بالألوف ما تم في طليطلة من ضروب الزخارف على يد عمالٍ من العرب كانوا من رعايا النصارى قبل إجلاء العرب العام الذي حدث بعد فتح النصارى لجميع بلاد إسپانية، وإلى هؤلاء العمال العرب يعود الفضل فيما ترى من دقائق النقوش والزينة في مباني طليطلة التي شيدت على الطراز الرُّومني أو الطراز القوطي، وقد نشأ عن هذا المزج بين الطراز العربي والطراز النصراني ذلك الطراز الذي يُسمَّى المدَجَّن، والذي اتصل أمره في إسپانية زمنًا طويلًا، والذي لم يَعْفُ أثره فيها كما تشهد بذلك بعض الأبنية التي شِيدت في أشبيلية حديثًا.

(٤-٣) المباني العربية في أشبيلية

يُرى في أشبيلية، كما يُرى في طليطلة، أثرٌ للعرب في كل خطوة، وإن كان ذلك بمعنًى آخر، فإذا نظرتَ إلى أكثر بيوت أشبيلية العربية العصرية رأيته مبنيًّا على الطراز العربي، وإذا نظرت إلى الرقص البلدي والموسيقا المحلية في أشبيلية رأيتهما على النَّهج العربي، وإذا نظرت إلى نسوة أشبيلية، على الخصوص، رأيت الدم العربي يجري في عروقهنَّ.

وإن البرج المسمى لاجيرالدة (برج لُعبَة الهواء) هو أقدم المباني العربية في أشبيلية، وهو بناءٌ جميل مربَّعٌ مبنيٌّ من الآجُر الوردي، وهو يشابه بُرج مار مرقس في البندقية وأكثر مناور إفريقية، وإنني أرجح أن يكون قد بُني مئذنةً للمسجد الجامع الذي أقامه المنصور في سنة ١١٩٥م.

ووجوه برج لاجيرالدة الخارجية مستورةٌ بشبكة من النقوش المحفورة، ومن النوافذ ذات الأقواس المصنوع بعضها على شكل نعل الفرس، والمصنوع بعضها الآخر على رسم البيكارين، وكان يعلو ذلك البرج كرةٌ معدنية مذهَبة فأزالها الإسپان وبنوا في محلها برجًا للناقوس، ثم وَضعوا فوق هذا البرج تمثالًا؛ ليكون رمزًا للإيمان.

والقصر الأشبيلي قصرٌ عربي قديم يرجع إنشاؤه إلى أدوار مختلفة، وقد بُدئ بإنشائه في القرن الحادي عشر، وشِيد معظمه في القرن الثالث عشر، وبنى مقدَّمَه عمالٌ من العرب في عهد الطاغية بِطْرُه، ثم حاول شارلكن أن يُزَوِّقه فأضاف إليه من الزخارف الإغريقية الرومية ما دلَّ على فساد ذوق الصانع.

fig137
شكل ٦-١٩: قاعة الأسود في قصر الحمراء (من صورة فوتوغرافية).

واتخذ ملوك النصارى قصر أشبيلية منزلًا لهم، ويُعَدُّ البناء الوحيد الذي حُفِظ من نوعه في إسپانية، وإن الناظر إلى رِدَاه هذا القصر المزخرفة بشتى الألوان، والتي أزال الكلس عنها دوك مُونْپَانْسِه بعد أن كلَّسها الإسپان وَفْقَ عاداتهم، ليَتَمثَّل ما كانت عليه رِداه الحمراء قبل أن يُكلِّسها الإسپان أيضًا، وإن رَدهة الصبايا اللائي كان النصارى يقدمون مائةً منهنَّ كجزية إلى ملوك المغاربة في أشبلية في كل سنة، كما رُوي، وكذلك رَدهة السفراء، هما من أروع رِداه القصر الأشبيلي، وتُعد ردهة السفراء هذه من العجائب بغير ما أضيف إليها من الزُّخرف الرخيص، وإذا استثنينا مبانيَ دمشق العربية وبعض مساجد القاهرة العربية لم نرَ في غير القصر الأشبيلي تلك السقوف المغطاة بالخُشبان المحفورة المطلِية المذهبة التي يفتخر أثمنُ قصورنا باشتماله على مثلها.

والحقُّ أن أشبيلية أكثر مدن إسپانية حياةً وتمدنًا، وهي نقيض غرناطة التي حافظت على توحش القرون الوسطى، وعلى كرهها الشديد للأجانب.

(٤-٤) المباني العربية في غَرناطة

تتجلى عظمة فن العمارة العربي الأندلسي في قصر الحمراء الذي أنشئ في القرن الرابع عشر من الميلاد.

أُقيم قصر الحمراء على منحدر جبل شلير الذي يُشرف على مدينة غرناطة وعلى المروج الواسعة الخصيبة، والذي يُعَدُّ من أجمل أمكنة العالم.

fig138
شكل ٦-٢٠: جزئيات نافذة في قصر الحمراء.
وإذا ما نظر المرء إلى الحمراء من أسفل الصخور التي تُتوِّجها رآها أبراجًا مربعةً ذات ألوان قِرمزية يناطح أعلاها السحاب، ويسفر أدناها عن نبات أخضر كثيف، وإذا ما مرَّ المرء من تحت الأشجار التي تَحُفُّ بها وسَمِع تغريد الطيور التي عليها وخرير الماء الذي يجري في السواقي والقنوات القريبة منها، فدخل ذلك القصر الشهير رأى ما تغنَّى به الشعراء، ولا سيما صاحب المشرقِيات (ڨكتورهُوغُو) الذي أنشد قائلًا:

أيتها الحمراء! أيها القصر الذي زيَّنتك الملائكة كما شاء الخيال، وجعلتك آية الانسجام! أيتها القلعة ذات الشُّرف المزخرفة بنقوش كالزهور والأغصان والمائلة إلى الانهدام! حينما تنعكس أشعة القمر الفضية على جُدُرِك من خلال قناطرك العربية يُسمَع لكِ في الليل صوتٌ يَسْحَر الألباب.

ويتعذَّر وصفُ الحمراء بوصف دقيق، وقلم الرسم وحدَه هو الذي يستطيع ذلك، وهو ما نستعين به، وما نشرنا في هذا الكتاب من صور للحمراء يُغني عن كل ما يمكن قوله.

وكل ما في قصر الحمراء عجيب، والمرء يقضي العجب من جُدرانه المزيَّنة بالنقوش العربية الأنيقة المحفورة المُفَرَّضة وأقواسه المصنوعة على رسم البيكارين، وقِبابه ذات الزخارف الساحرة المتدلِّية (المقرنصات) المطلية فيما مضى باللازورد والأُرجوان والإبريز.

ولا تشابه الحمراء قصور أوربة مطلقًا، شأنُ كثيرٍ من القصور العربية، فهي عاطلةٌ من المقدَّم، وتنحصر زخارفها في داخلها الذي نرى كل شيء فيه عجيبًا، وإن كان صغيرًا، وليس فيها رِداهٌ فخمةٌ مملَّة باردة مثل رِداه قصورنا الأوربية رُسِمَت ليعجَب بها الزائرون، لا لتلائم ساكنيها.

ويمكننا أن نتمثَّل حياة ملوك العرب عند النظر إلى الحمراء؛ فالعين لا ترى من نوافذها غير آفاقٍ لا نهاية لها، وهي تثير ذكريات ما كان يحدث في رياضها الغُنِّ التي كانت حظايا ملوك غرناطة، وقد كنَّ من أجمل غواني الغرب والشرق، يتفيَّأْن في غِياضها ويتنسَّمْن شذا أزاهرها النادرة.

وكان يحفُّ بصاحب تلك العجائب جمعٌ من المتفننين والعلماء والأدباء الذين كانوا أعلام ذلك العصر، وكان لذلك الصاحب أن يَعُدَّ الملوك الآخرين من الحاسدين له، وكان له أن يكتب على باب قصره كما صنع ذلك الملك الهندي الذي حَكَتْ عنه القصة: «إن كان في الأرض فردوسٌ فهو هذا!»

واشتهر أهمُّ أقسام قصر الحمراء بفضل الفوتوغرافية والرسم، فذاع صيت قاعة الأسود وغرفة الأختين وحجرة بني سراج ورَدهة العدل، والقارئُ الذي يُنْعِم النظر في الصور التي نشرناها عن تلك الأقسام في هذا الكتاب يرى أنها ليست دون شهرتها، وانتهت الشهرة إلى قاعة الأسود على الخصوص، قال جِيرُول دُوپرَانجه: «يَعجَز الإنسان عن بيان ما يشعر به حين يمرُّ من قاعة البركة، ويدخل قاعة الأسود فيرى فيها الأروقة التي تُزيِّنها الأقواس المُنوَّعة المزخرفة بالنقوش المزهِرة والزخارف المتدلية والتخاريم التي كانت ذهبيةً ملوَّنةً، وتقعُ عينه على غابة من الأعمدة الهيف التي وُضِع بعضُها منفردًا وبعضها مزدوجًا وبعضها مجتمعًا على شكلٍ بديعٍ، فيُبصِرُ من خِلالها التماعَ مياه فِسْقِيَّة الأسود المتدفِّقة.»

وتقول القصةُ: إن رقاب بني سراج الستة والثلاثين ضُربت على تلك الفِسْقِية، وتقول العامة: إنه يُشاهد في كل ليلة طيفُ أولئك القتلى متوعِّدًا متهدِّدًا.

ولا تَمُتُّ أسود تلك الفسقية إلى أيِّ حيوان بوجه شبهٍ حقيقيٍّ، فهي ناقصة الشكل نقصًا قصده المثَّالون الذين أرادوا بها نوعًا من الزينة.

ويكاد زائرو الحمراء لا يُصَدِّقون، أولَ وهلة، أن زخارف جُدرانها منقوشةٌ على الجِصِّ، لا على الحجارة، كما هو الأمر في القاهرة والهند، ويرى أولئك الزائرون الذين يتأملون قُرَن تلك الزخارف وسطها الأملس المصقول أن من المستحيل ألا تكون منقوشةً على الرخام، ولم أرَ أنها من الجصِّ إلا بعد أن حلَّل لي أحد أعضاء المجمع العلمي، مسيو فريدِل، قطعةً صغيرة منها.

والجِصُّ الممزوج بقليل من المواد العضوية هو، إذن، ما صُنِعَت منه جميعُ نقوش الحمراء، ولا نستطيع سوى الاعتراف بإتقان صُنع ذلك الجِصِّ الذي قاوم تقلبات الجو خمسمائة سنة من غير أن يَفْسُد، ولا أعتقد أن مهندسًا أوربيًّا في الوقت الحاضر يمكنه أن يعاهد على صنع نوعٍ من الجص يستطيع أن يدوم مثل هذا الزمن الطويل بلا عَطَب.

ولا يُستَدَل على بقاء جُدُر الحمراء بملاءمة جوِّ إسپانية لها ما تطرَّق الفساد إلى أجزائها التي رُمِّمت بعد إجلاء العرب بزمن طويل، ويُعرف هذا الفساد، بسهولة، من انثلام تلك الأجزاء المرممة وانخفاضها وانتفاخها.

وقص جميع رجال الفن الذين زاروا قصر الحمراء العجيب، والألمُ مِلء قلوبهم، ما لا يكاد العقل يُصدِّقه من أنباء التخريب الفظيع الذي أحدثه الإسپان فيه، فقد هَدَمَ شارلكن قسمًا مهمًّا منه ليُنشئ في مكانه بناءً ثقيلًا، وعدَّته جميع الحكومات الإسپانية مجموعة من الخرائب القديمة التي لا تنفع لغير الاستفادة من موادها، قال مسيو دَڨِلْيه في كتابه عن إسپانية: «لقد بيعت ألواح الميناء التي كانت تُزيِّن رداه الحمراء منذ بضع سنين لصنع المِلاط، وبِيع باب مسجدها البرونزي كنحاس عتيق، وحُرِّقت منها أبواب ردهة بني سراج الخشبية الأنيقة كما يُحرَق الحطب، ثم اتُّخذ من رداهها الجميلة سجونٌ للمجرمين ومخازن للميرة بعد أن بِيعَ ما أمكن نزعه منها.»

وأراد الإسپان تطهير جدران الحمراء المزينة بالنقوش العربية الجميلة، فكسوها طبقةً كثيفةً من الكلس، ويظهر أن التكليس الذي تساوى في حُبِّه الإسپان والإنكليز هو مما يرغب فيه بعض الشعوب المتمدنة التي لا ترى ما هو أطيب منه للزينة،٤ وهو مما يروق بالتدريج أولئك الأوربيين الذين يَرَون فيه مظهرًا للمساواة ووحدة الشكل المبتذلة.
fig139
شكل ٦-٢١: قصر شقوبية (من صورة فوتوغرافية).

ولمَّا يَمضِ زمنٌ طويل على تذمر المتفنين من تخريب قصر الحمراء، ونزع أولو الأمر من الإسپان إلى المحافظة على ما بَقِيَ من هذا القصر الساحر بعد أن قيل لأهل غرناطة، غير مرةٍ، إنهم يملكون به إحدى العجائب التي تجلب إليهم السياح من كل جانب، فأزيل شيءٌ من الكلس الذي سُتِرَت به تلك النقوش العربية، وبُدئ بالترميم، والإسپان عاملون على ذلك ببطء لعدم وجود عمال في إسپانية قادرين على إنجاز هذا الترميم الذي يَسهُل أمره عند النظر إلى النماذج.

ويُرى بجانب الحمراء قصرٌ عربيٌّ آخر يُسمى جنَّةَ العريف، وقد بالغ الإسپان في تكليس جدران هذا القصر، فصِرتَ لا تستطيع أن تتمثل حالته الأولى، وصار لا يستحق الحماسة التي يصفه بها مُطَوِّفو السياح خلا روضته.

وأما مدينة غرناطة فلا أنصح أحدًا بأن يزورها بعد أن وصفها شعراء العرب بأنها أنضر مدينة تنالها أشعةُ الشمس وبأنها دمشق الأندلس.

fig140
شكل ٦-٢٢: قصر شقوبية (من صورة فوتوغرافية).

ولا أقدر أن أصِف الحال التي كانت عليها غرناطة فيما مضى، ولكن غرناطة الحديثة لم تكن سوى قريةٍ كبيرة كئيبة قذرة ليس فيها ما يَجُدر ذكره غيرُ كتدرائيتها الفخمة وحمرائها، فضلًا عن أنها قائمةٌ على مكان يُعد من أجمل أمكنة العالم، ولم تُبْنَ بيوتُها الحديثة على طراز معروف، وأمعَنْتُ في البحث عن زخارفها التي قصَّ أدباء معاصرون مشهورون علينا خبرها فلم أجد لها أثرًا.

حقًّا لم تكن غرناطة الجديدة سوى مدينة ميتة، ويُعرَف أهلها بأنهم من الجهلة الثقلاء البعيدين من القِرَى، وهي نقيض مدينة أشبيلية التي تُشاهَد فيها مسحةٌ من الحياة، والتي تجِدُ فيها من بائعي الكتب ما لا تجد في غرناطة.

أكتفي بذكر ما تقدَّم من مباني العرب، فإذا أضفنا إليه قصرَ شقوبية وبعض الأبنية التي نتكلم عنها في الفصل الذي خصَّصْناه للبحث في تأثير العرب في أوربة كانت لدينا صورةٌ كافية للآثار العربية الماثلة الآن في إسپانية والتي هي بقايا عصر زاهر، والتي تكفي وحدها للدلالة على عظمة العرب ولو لم يَنْتَهِ إلينا شيءٌ من علومهم وآدابهم.

هوامش

(١) لعل المؤلف قصد عشرة آلاف أو اثني عشر ألفًا؛ فسقطت كلمة «آلاف أو ألف» عند طبع الأصل الفرنسي (المترجم).
(٢) ختره يختره خترًا: غدره أقبح الغدر.
(٣) أهدى ملك إسپانية إلى أحد أمراء الإنكليز ياقوتة حمراء من تلك الجواهر التي سُرقت من الملك العربي، وهي الآن من الجواهر التي يُزين بها تاج ملكة إنكلترا المصون مع الجواهر الملكية الأخرى في «غرفة حل التاج» بلندن، فأتيح لي أن أشاهدها.
(٤) من المفيد أن نذكر الفرق العظيم بين عدم اكتراث الإسپان لما في بلادهم من التحف الفنية وعبادة الإيطاليين لما احتوت بلادهم من نظائرها، فالسياح الذين زاروا فلورنسة يعلمون أن سكانها يحترمون ما اشتملت عليه من التماثيل، كتمثال بيرسة وتمثال اختطاف بنات سابين وغيرهما من التماثيل الفريدة القائمة في أحد الميادين العامة. وشاهدت الناس في غرناطة يلتهون يوم الأحد بتكسير نقوش بقايا قصر شارلكن بما كانوا يرمون عليها من الحجارة، ولما زرت قصر الإسكوريال القائم الذي بناه فليب الثاني، والذي تجلت فيه روح إسپان ذلك الزمن الكئيبة كتجلي روح العرب في الحمراء، استوقف نظري ما رأيت من الكشط في زخارف رواقه، وأنبأني حارس القصر أن الناس يصنعون ذلك في كل يوم أحد بعصيهم ومدياتهم. وأعتقد أن الذي يقترف مثل هذا العمل في قصر پيتي الفلورنسي يجازى بسلخ جلده حيًّا أو رجمه بلا رحمة مع ما اتصف به أهل فلورنسة من دماثة الخلق. ومن دواعي السرور أن أصبحت طبقة الإسپان الراقية، على الأقل، تتذوق قليلًا ما في تحف الفن من المعاني، وذلك كما هو واضح من الكتابين المهمين اللذين نُشرا حديثًا في إسپانية عما فيها من الآثار القديمة، التي يمكن أن تثير حسد جميع الأمم، وقد أشرت إليهما في مقدمة هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤