الفصل الثاني

عربُ المدن: طبائعُهم وعاداتهم

(١) المجتمع العربي

إن مما يستوقف النظر ما نراه من التضاد بين ثبات نظم الشرقيين، وتسليمهم بالأمر الواقع الذي ليس له دافع، والإخاء السائد لمختلف طبقاتهم من جهةٍ وثَوْرات الأوربيين الدائمة وهَرْجِهم وتنازعهم الاجتماعي من جهة أخرى.

وأظهر ما يتصف به الشرقيون: هو أدبهم الجَم، وحِلمهم الكبير، وتسامحهم العظيم نحو الناس والأموال، ودَعَتهم ووقارهم في جميع الأحوال، واعتدالهم الكثير في الاحتياج، وقد منحهم إذعانهم الهادئ لمقتضيات الحياة طمأنينةً روحية قريبة من السعادة المنشودة على حين تورثنا أمانينا واحتياجاتُنا المصنوعة قلقًا دائمًا بعيدًا من تلك السعادة.

ومن السهل ذمُّ ذلك التسليم الفلسفي وبيانُ محاذيره، ولا يُنكَر، مع ذلك، أن المفكرين الذين درسوا تقلبات الأمور لم يُوفَّقوا بعد لاكتشاف ما هو أكثر ملاءمةً لحكمة الحياة، فلا يجوز، والحالة هذه، ازدراءُ مزاجٍ نفسي يمنَح المرء سعادة وطمأنينة وإن لم يساعد على تقدم الحضارة في كل وقت.

وليس من الصعب أن نَتَمَثل الحال التي كان عليها المجتمع العربي أيام ازدهار حضارة أتباع النبي بطريق البحث في حالة المجتمع العربي الحاضرة وفي حوادث الماضي، فقد دل وصفنا لحاضر العرب في مختلف الأقطار التي كانوا سادة لها على أن ما يشاهَد من أُنسهم وتسامحهم كان يشاهَد أيام حضارتهم أيضًا، وقد وصفنا طبائعهم النبيلة وفروسيتهم، ورأينا أن أوربة المتبربرة اقتبستهما منهم.

وإن ما نراه خاصًّا بالطبقات الأوربية العليا من الأدب والوقار، هو من الأمور الشائعة بين مختلف طبقات الشرق كما أجمع عليه السياح، وإليك ما قاله الڨيكولت ڨوغيه عندما تكلم عن تزاور أفقر طبقات العرب: «لا يسعني سوى الإعجاب بما يسود اجتماعات أولئك القَرَويين الفقراء من الوقار والأدب، وما أعظم الفرق بين اتزان أقوالهم ونُبْل أوضاعهم ولَغَط بني قومنا ووقاحتهم!»

وأتيح لي، غير مرة، أن أتصل بكثير من العرب في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فقضيت العجب في كل مرة من الوقار والترحاب اللذين كان يستقبلني بهما أناسٌ لا تعلو طبقتهم الاجتماعية طبقة فلاحي أوربة، لا فرق في ذلك بين أن يكون رب البيت فقيرًا أو غنيًّا، وذلك أن الواحد منهم يتقدم نحوك ليُحَيِّيَك على الطريقة الشرقية، أي بوضع يده على صدره وجبينه، وليدعوَك إلى الجلوس على متكأ في صدر البيت المقابل للباب، ثم يعرض عليك سيغارة أو نارجيلة للتدخين وقهوة للشرب، وينتظر منك بأدبٍ أن توضح له سبب زيارتك.

(٢) المدن العربية، البيوت، الأسواق … إلخ

(٢-١) المدن العربية

يكفي كثير من المدن العربية الحاضرة، كدمشق وبعض الأحياء في القاهرة؛ لتَصَوُّر ما كانت عليه المدن العربية في سالف الأزمان، وقد تكلمتُ عن منظر شوارعها الملتوية المشوشة غير مرة، ولا فائدة في الرجوع إلى ذلك الآن، وإذا ما أغضَيْتَ عن المدن الشرقية التي تلمس فيها نفوذ الأوربيين، كالمدن الساحلية السورية مثلًا، رأيت شبهًا عظيمًا بين مدن الشرق قاطبة، فالسائح الذي ينتقل إليها فجأةً بقوة ساحر يَعْلَم من فوره حقيقة الجزء الذي هو فيه من الكرة الأرضية.

وتنقطع الحركة في شوارع جميع المدن العربية مع غروب الشمس، وتُغلق الحوانيت في ذلك الوقت، ويدخل الناس بيوتهم، ولا يخرج الإنسان من بيته ليلًا إلا حاملًا فانوسًا لعدم الإنارة المصنوعة.

ولا عهد للشرقيين بما في مدن أوربة من الحركة الليلية ومن الحوانيت والقهوات المضاءة بأبهى الأنوار، ومع ذلك يجد الشرقيون في حياتهم المنزلية من الروعة ما يستغنون به عن ملاهي الليل، فإذا قُيِّض لأناس منهم أن يزوروا أوربة بهرتهم حركة مدنها الليلية، وقالوا: إن مَلال الغربيين في بيوتهم يدفعهم إلى الخروج منها وملازمتهم الأندية أو القهوات، وقد قال لي تاجرٌ بغدادي وقورٌ زار عواصم أوربة كثيرًا: «إن ذلك من النتائج السيئة للاقتصار على زوجة واحدة لا ريب.»

fig164
شكل ٢-١: شارع قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).

وليست شوارع الشرق موضوع عناية أحد، وترك أمر إزالة ما يُلقَى فيها من الأقذار للكلاب، والكلابُ لا تترك منها شيئًا، ولا صاحب لهذه الكلاب التي تشتمل كل مدينة على الألوف منها فتعيش جماعات يكون في كل حي واحدةٌ منها، ولا يخرُج كلبٌ من حي من غير أن يمزَّق، ولذا ليس من الممكن أن يقتني رجلٌ كلبًا في الشرق، فإذا ما حدث أن كان له كلب وقَطَعَ معه شارعًا مزَّقَته كلاب الأحياء التي يمرُّ منها حتمًا.

ويعامل الشرقيون الكلاب وجميع الحيوانات برفق عظيم، ولا ترى عربيًّا يؤذي حيوانًا، وإيذاء الحيوان من عادة سائقي العربات في أوربة، وليس من الضروري، إذن، أن يؤلِّف العربُ جمعيات رفقٍ بالحيوان.

fig165
شكل ٢-٢: شارع في طنجة (مراكش، من صورة فوتوغرافية).

والحق أن الشرق جنَّة الحيوانات، وفي الشرق تُراعى الكلاب والهِرَرَة والطيور … إلخ، وتحلِّق الطيور في المساجد، وتوكِّر في أطنافها مطمئنة، وتأوي الكَرَاكِيُّ إلى الحقول من غير أن تُؤذَى، ولا تجد صبيًّا يمسُّ وُكْنًا، وقد قيل لي في القاهرة بصيغة التوكيد، وهذا يؤيِّد ما ذكره بعض المؤلفين، إن في القاهرة مسجدًا تأتيه الهررة في ساعاتٍ معينة؛ لتتناول طعامها وَفْقَ شروط أحد الواقفين منذ زمن طويل.

وجزئياتٌ كتلك تدل على طبائع الأمة، وتدل على درجة افتقار الأوربيين إلى تعلُّم الشيء الكثير من حلم الشرقيين وأُنْسِهم.

ولا يعرف الشرق من أمور العربات سوى الشيء اليسير، ولا ترى في الشرق غير طُرُق قليلة صالحة لسير العربات، ولا يعتمد الشرقيون في شؤون النقل إلا على الخيل والجمال والحمير، والناسُ في مصر يستخدمون الحمير على الخصوص، والناس في القاهرة يركبون الحمير في جولاتهم اليومية، والحمير المصرية أجملُ من الحمير الأوربية التي فَقدت صِيتها، ولا يرى عِليَةُ القوم في مصر ولا نساؤهم غضاضةً في امتطائها.

fig166
شكل ٢-٣: دابة في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها سباه).

ولكل حمارٍ في مصر سائقٌ يدفعه إلى العَدْو بصوته أكثر مما بعصاه، ولا يطيع الحمار المصري غير سائقه، ولا يأبه لكلِّ حثٍّ يقوم به أي سائق مؤقت آخر.

(٢-٢) المساكن

يميل سكان المدن من العرب إلى إنشاء مساكنهم على الطراز الأوربي في الوقت الحاضر، ولذلك تصبح القصور العربية القديمة نادرة جدًّا.

وتشاهَد أجمل البيوت المبنية على الطراز العربي في دمشق، وليس في مناظر هذه البيوت الخارجية ما يستوقف النظر على العموم، وفي داخل المنازل، لا في خارجها، تتجلَّى حياة الشرقيين الذين لا يضحون بشيء في سبيل المظاهر، وتُدخل تلك البيوت، على العموم، من مَسلك ضيق مقبَّبٍ يجلس فيه الخدم، وإذا ما انتهيتَ منه دخلتَ ساحةً كبيرة، وإن شئت فَقُل حديقةً مُفَرَّشَة بالرخام ومشتملة في وسطها على حَوض مُحاط بأشجار الصفصاف والبرتقال والليمون والرمان وأنواع الرياحين التي تنشر شذاها داخل البيت، ويحيط بتلك الساحة أقسام البيت الصالحة للسكن، والتي يحتوي داخلها كلَّ زخرف عجيب، والصورة التي التقطناها عن داخل أجمل قصور دمشق فنشرناها في فصل آخر أفصحُ دليل على ذلك، والوصف أعجز من أن يُصوِّر لنا ما لِسُقُفِهِ من الروافد الناتئة والأشكال الهندسية المجوَّفة التي نَقَشَ المتفننون أجمل النقوش العربية على خشبها الأرزي والحماطيِّ،١ والوصف أعجز من أن يصوِّر لنا، كذلك، رسوم قِطعه الزجاجية العجيبة، وجُدُره المكسوة خطوطًا وكتاباتٍ، وأفاريزه المتدلية التي تربط السقف بجوانب حياطه.

وتُقَسَّم الردهة المهمة المرتفعة ارتفاع طبقتين في ذلك القصر إلى ثلاثة أقسام على العموم، وتحيط هذه الأقسام بساحة مُبَلَّطة، وتتوسط هذه الساحة فِسْقِيَّةٌ رُخامية منقوشة مثمَّنَة الزوايا فوَّارة.

ويتألف رياش ذلك القصر من أريكة كبيرة مغطاة بالحرير المطرز بالذهب والفضة حول حياط رَدْهته، وتشتمل بقية أمتعته على مُتَّكآت ومقاعد صَدَفِيَّةٍ ومَشَاكٍ مستورةٍ بالرخام والخشب الثمين والزجاج والميناء الفارسي؛ لتوضَع فيها الأواني الصينية والفضة وفناجين القهوة المستقرة بظروف صغيرة مُخَرَّمة والنارجيلات والمباخر … إلخ.

ويَنشُد العربي الراحة في تلك الملاجئ٢ الهادئة الساحرة العَطِرَة التي يَتَخَلَّلها الرُّخاء٣ ولا ينفُذ من نوافذها سوى ضياء قليل، ولا يُعكِّر صفوَها غيرُ خرير ماء الحياض المرمرية، ويستطيع العربي الذي تحيط نساؤه به هنالك أن يطلق لخياله العنان فيُخيَّل إليه أنه انتقل إلى جنة محمد من خلال دخان نارجيلته.

ويختلف طراز البيوت العربية في الجزائر ومراكش بعض الاختلاف عن طراز بيوت العرب في دمشق، فقد استُبدلت القاعة فيها بالحدائق لضيق الاتساع، وتحيط بالقاعة أجزاء المسكن.

وإذا ما نظر الإنسان إلى تلك البيوت من الخارج رآها مُكعَّباتٍ حجريةً بيضًا كبيرةً تعلوها سطوح، ويَنفُذ النورُ إلى أجزائها من قاعاتٍ محاطة بأقواس تقوم عليها طبقات من الأروقة التي تدخل الغُرف منها، وهي مُبلطة بالآجرِّ المطلي، ويغطي الميناء جدرانها، ويستر الخشب المحفور سقوفها من الداخل، ويتألف أثاثها من الحُصر والبُسُط ومن مُتَّكأٍ يوضع في أقصى الغرفة ويَصلح للجلوس في النهار والنوم في الليل، ومن صناديق خشبية مدهونة لصيانة الثياب والحلي، ويُستر أعلى تلك القاعات بنُسُجٍ ذات حبال مربوطة بكلاليب على السطوح منعًا لحرارة الشمس، والواقع أن البيوت القائمة على هذا الطراز تلائم البلاد الحارة، وأن الناس في المدن العربية القديمة في إسپانية، ولا سيما في أشبيلية، يشيدون بيوتهم على طرازها حتى الآن.

fig167
شكل ٢-٤: باب بيت قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وفنُّ عمارة إحدى الأمم عنوان صادق لاحتياجاتها، وإذا ارتحلت أمة عن قطر إلى آخر حوَّلت فن عمارتها إلى ما يلائم بيئتها الجديدة، ولهذا نرى اختلافًا بين البيوت العربية في القاهرة، مثلًا، والبيوت الموصوفة آنفًا؛ ففي المدن الكبيرة كالقاهرة، حيث تضيق المساحات، تقام البيوت على ثلاث طبقات في الغالب، ولا تكون رداهها مرتفعة كما في دمشق، وتُفتح نوافذها على الشوارع لعدم كفاية قاعاتها الضيقة لتجديد هوائها، ولكن العرب إذ يَرون أن تكون النوافذ مغلقة أمام الغرب لم يُعَتِّموا أن اخترعوا الشبابيك الخشبية ذات التخاريم وسَموها المشربيات.

والآن لا يُرى في القاهرة غير عدد قليل من البيوت القديمة التي أنشئت على طراز العمارة في عصر الخلفاء والتي تنقلب إلى خرائب، وأذكر منها بيت مدير المساجد العام، ويرى أغنياؤها في الوقت الحاضر إنشاء بيوتهم على الطراز الأوربي لما يجدون فيها من الهَيَف! وتمتاز البيوت القديمة في القاهرة من بيوت كثير من المدن الشرقية بأبوابها المزخرفة إلى الغاية.

(٢-٣) الأسواق

الأسواقُ من أهم أجزاء المدن في الشرق، فيُرى في كل مدينة مهمة كثيرٌ من الأبنية التي يتألف من مجموعها حي للتجارة وحدها يُسمى السوق، وتحتوي السوق على أروقة طويلة مغطاة بألواح أو حُصر، وعلى دكاكين متجمعة على حسب أنواع السلع، ويضاف نوع السلع التي تباع في الرواق إلى كلمة السوق فتُعَين بذلك فيقال، مثلًا، سوق الأسلحة وسوق الأزياء وسوق الأبازير … إلخ، وإذا عَدَوْت كُبريات المدن لم تجد غير السوق مكانًا للبيع ولو كانت السلع مما يُستهلك يوميًّا.

ولا شبه بين الدكاكين الشرقية المظلمة والحوانيت الأوربية، ولا عهد للدكاكين الشرقية بفن العرض على الخصوص، وتبدو هذه الدكاكين مُجوفات مظلمة يترجح عَرْضها بين مترين وثلاثة أمتار ولا تزيد على هذا طولًا، وتكون السلع مُنضَّدةً فيها، ويجلس البائع أمامها، وتحتوي على ثروات واسعة أحيانًا مع حقارة منظرها.

والسوق مَلْقَى الناس المفضل في الشرق، وهي المكان الوحيد الذي يكون فيه شيء من النسيم في الغالب، والنساء يقصدنه ليمكثن فيه مدة ساعات.

والرجال وحدهم هم الذين يقومون في الشرق بإدارة شؤون دكاكين الأسواق، ومنها دكاكين النصارى.

وينتظر التاجر المشتري أمام دكانه متزنًا صابرًا، ولا يزعِج أحدًا من المارين ما لم يكن التاجر يهوديًّا، فإذا كان التاجر يهوديًّا ألحف على المشتري بدناءةٍ، فلم يستطع أن يتخلص منه إلا بعد عناء كبير.

ومن عادات التاجر الشرقي، مهما كان جنسه، أن يطلب، أول وهلةٍ، خمسة أمثال ما تساويه سلعته، كما أن من العادات الثابتة ألا تتمَّ الصفقة إلا بعد جدل طويل، وإذا كانت السلعة على شيء من القيمة استمرت المساومة أيامًا كثيرة، وقد اقتضى اشترائي للنارجيلة النحاسية المكفَّتَة بالفضة، والتي نشرتُ صورتها في هذا الكتاب، مساومةً دامت أسبوعًا كاملًا، فكأن الشرقي لا يخرج عما يملِك إلا بعناء، فعلى من يرغب في ابتياع شيء من الشرقي أن يكون صبورًا مثله.

fig168
شكل ٢-٥: سقف بيت عربي قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

(٣) الأعياد والاحتفالات: الولادة، والختان، والزواج، والدفن

(٣-١) الولادة والختان

الولادة من أفراح العرب الخاصة، والختان من أفراحهم العامة، فإذا بلغ الصبي السنة السادسة أو السابعة من عمره خُتِن، ويوم الختان يُسار بالصبي في موكب عظيم في المدينة لابسًا أفخر الثياب، مبرقع الوجه، راكبًا حصانًا مجهزًا بأثمن عُدة، ومخفرًا بأولاد آخرين لابسين مثله، ويتقدم الموكب الحلاق الذي سَيَخْتِنه ورجال الموسيقا، ويعترض النساء بين الفينة والفينة للموكب مُزَغْرِدَات، ثم يصل الموكب إلى المسجد المُنَار بأبهى الأنوار، ثم يسار منه إلى بيت الأبوين؛ ليتناول الناس الطعام من مائدتهما، ثم يُبدأ بالألعاب التمثيلية في الغالب، ويختن الحلاق الصبي عند الانتهاء من الأكل وعلى صوت الصنوج خَنْقًا لصوته، ويُحيي المدعوون الكثيرون ليلتهم بشرب المرطبات والقهوة والنارجيلات.

(٣-٢) الزواج

تُعد حفلات الزواج من الأفراح كحفلات الختان، وأقتصر الآن على بيان الأعراس دراسًا في فصل آخر حال المرأة في الشرق: حينما يرغب الفتى في الزواج يُفوِّض إلى امرأة كبيرة العمر أن تبحث له في الأُسَر عن الفتيات الصالحات للزواج، ويختار واحدة ممن وُصف له جمالهن وكمالهن، ثم يفوِّض إلى شخص أمر خطبها، وتُسأل المخطوبة عن رأيها صورةً، ولا يكون لديها ما يسوغ رفضها تَزَوُّجَه ما دامت لا تراه إلا بعد عقد الزواج، ثم يفاوض الخطيب أباها في مقدار مهرها، وذلك لأن الرجل هنالك، لا المرأة كما في أوربة، هو الذي يدفع المهر، فإذا تمت المفاوضة جاء الخطيب ومعه أصدقاء له إلى بيت حماه حيث يكون منتظرًا إياه هو وبعض الأصدقاء والشهود وأحد الكتبة، وعندئذ يُلفظ بصيغة العقد الشرعية، ويُدوِّن الكاتب ما وقع، وبهذا يكون عقد النكاح قد انتهى شرعًا، ومن هنا ترى أن ذلك الزواج عقدٌ خاصٌّ لا يتطلب تأييدًا دينيًّا أو مراسم مدنية، ولا تُزفُّ العروس إلى زوجها إلا بعد أيام تقام فيها الحفلات، وتُرسَل العروس المبرقعة في موكبٍ مؤلَّف، من الأصحاب والموسيقيين إلى الحمَّام، ثم تعود إلى بيت أبيها حيث الموائد، وتُبعث مبرقعةً في اليوم التالي إلى بيت زوجها المعَدِّ المُنَار بعناية لاستقبالها، وذلك في وسط موكبٍ تتقدمه جماعةٌ من الموسيقيين والمهرِّجين والمصارعين، فإذا ما انصرف الناس أمكنَ الزوجَ أن يرفع النِّقاب عن زوجه وأن يتأمَّلها لأول مرة.

fig169
شكل ٢-٦: نافذة في قاعة الحريم من قصر أسعد باشا بدمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

ولا تقام تلك الحفلاتُ إلا في الأحوال التي يكون فيها عقد نكاح، وعندما لا يُصار إلى طريقة عقد النكاح يذهب المرء إلى أسواق النِّخاسة الكثيرة التي لا تزال موجودة في الشرق، ولا سيما في القاهرة، مع إنكار وجودها في الكتب، ويأخذ واحدةً من الإماء الشركسيات أو الكَرْجِيات الحِسان بمبلغٍ قد يصل أحيانًا إلى ستة آلاف فرنك، وتكون هذه الأَمة من الأسرة، وتكون لأولادها ما لأولاد الزوجات من الحقوق، ويعامَل الإماء برفق ولا يُفكِّرن في التحرر، وإن كان التحرر من الأمور السهلة إلى الغاية، فما عليهن في مدينةٍ كالقاهرة، التي تعاني مناحيَ أوربة، إلا أن يذهبن إلى أولياء السلطة؛ ليُعْرِبْن عن رغبتهن فيه.

(٣-٣) المآتم

مراسم الدفن عند المسلمين فخمةٌ فخامة مراسم الزواج، فالميت يُوضع، بعد أن يُكَفن، في تابوت ويغطَّى التابوت بشالٍ كشميري، ويتناوب حَملَه خمسةٌ أو ستةٌ من أصدقائه، ويتقدم الجنازة فريق من العُميان والمساكين مُرتلين بعض آي القرآن، ويأتي خَلفَها الأقرباء والأصحاب والنائحات، ويصلَّى على الميت في المسجد، ثم يُدفن في المقبرة، ويُوَجَّه وجهه إلى مكة، وإذا كان الميت عظيمًا أقيم حول قبره بنيانٌ مُكعب تعلوه قُبَّة، وإذا حلَّت الأعياد زُيِّنَت القبور بالأزهار، وقضى النساء أيامًا حولها بالدعاء.

(٤) مختلف عادات العرب: الحمامات، القهوات، التدخين، تعاطي الحشيش

(٤-١) الحمَّامات

fig170
شكل ٢-٧: سقف بيت حديث بدمشق (من تصوير بورغوان).

حمَّامات الشرق أفضل من حمَّامات الغرب صحةً وراحةً، وهي، عدا ذلك، محلٌّ للاجتماع والمحادثة، ولا تَقِلُّ شأنًا عما كان لها عند قدماء الرومان.

وتُنْشَأُ حمامات الشرق على نمطٍ واحد، ولا يختلف بعضُها عن بعض في غير الزينة والنفائس.

ويوجد مُتكأٌ كبير، في ردهة الحمام حيث يستريح المُستحم ويخلَع ثيابه وتُحفَظ، وتُرى فِسْقِيَّةٌ من الرخام في الوسط، ويَتَلَفَّف المُستحم بمِنْشَفَة، وينتعل نعلًا من الخشب، ويدخل غرفةً تبلغ حرارتها نحو خمسين درجة، ويستلقي على بَلاطةٍ من الرخام ويُمسَّد، ثم يدخل غرفةً ثالثة ويُدلَّك جسمه، ويُغسَّل بالصابون ويتوضأ، ويُصبُّ الماء الفاتر والبارد عليه غير مرة، ثم يعود إلى تلك الرَّدهة ويستلقي على ذلك المتَّكأ مشتملًا بالمناشف ويشرب النارجيلة والقهوة، ولا شيء يُنعش الإنسان، بعد نَصَبِ النهار، مِثل ذلك الاستحمام، فنتمنى أن يشتمل جميع مدن أوربة المهمة على مثل تلك الحمامات.

(٤-٢) القهوات والتدخين وتعاطي الحشيش

يَتَرَدد الناس هنالك كثيرًا إلى القهوات، ولكن لا عهد لتلك القهوات بما في قهوات أوربة من وسائل الترف، وذلك أن متاع تلك القهوات يتألف من حُصْرٍ وأكواب ونارجيلات في الغالب، ومع ذلك تمتاز القهوة التي تُعْرَض فيها بحُسن الصنع، والأوربي الذي يتعوَّدها في الشرق لا يَعُود إلى نقيع القهوة في بلاده إلا على مَضَض.

fig171
شكل ٢-٨: موكب عرس في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها سباه).

وليس بمجهولٍ أن معرفة الشرقيين للقهوة أمرٌ حديث، وأنهم لم يعرفوها أيام ازدهار حضارة العرب.

ومن العادة في الشرق أن يتناول المرء، في أثناء شرب القهوة، التبغَ الأشقرَ العَطِرَ اللذيذ الذي لا يعرف الغرب غيرَ نوعٍ مقَلَّد منه، وفي الشرق يستعملون ذلك التبغ على العموم في النارجيلات الطويلة الأنابيب وذاتِ النماذج الكثيرة، فيمرُّ الدخان من آنيتها المملوءة بالماء متطهِّرًا بذلك من عناصره السامة قبل أن يصل إلى الأفواه، ويُبَلل التبغُ، ويوضع في أعلى النارجيلات، وتُوضع عليه نُوَيْرَاتٌ تحترق مع التنفس من أطراف تلك الأنابيب الأخرى، وتجد السيغارة شائعةً في الشرق، ويجهل الشرق السيغار.٤
والحشيش، الذي هو مادةٌ مُسكِرة، من أهم وسائل اللهو والتسلية عند أمم الشرق منذ قرون، والفلاحُ الشرقيُّ الحقير يصبح وقتما يتعاطاه سعيدًا حينًا فلا يَرْضَى بحظ أعظم ملوك الأرض بدلًا من حظه، والشرقيون قد حَلُّوا بفضله مشكلة وضع السعادة في الزجاجة التي لا تَعْسُرُ حيازتها، وإذ لا يزال ذا شأن عظيم في حياتهم نرى من المفيد أن نقول كلمةً في خواصه: يُصْنَع الحشيش من القِنَّب الهندي كما يَعلم العالم، ويباع في القاهرة والقسطنطينية على العموم كَمُرَبَّبٍ وحلوى ومعجون ومُلَبَّس … إلخ، ويُمْزَج، لتعديل خواصه، بجَوز القَيْءِ والزنجبيل والقرفة والقرنفل وما إلى ذلك، وكذلك بالذُّرَّاح٥ على ما يقال.

ويظهر أن الحشيش كان معروفًا في القرون القديمة ولم يُستَخْرج التِّرياق، الذي حكى عنه أوميرس والمادة التي رَوَى ديودورس الصِّقِلِّيُّ أن نساء ديوسكوپوليس المصرية كنَّ يُزِلْن بها هموم أزواجهنَّ وغضبهم، من غير القِنَّب الهندي على ما يُظَنُّ، ومما لا ريب فيه أن أمر الحشيش كان شائعًا في سورية أيام الحروب الصليبية.

وللأثر الذي ينشأ عن تناول الحشيش علاقةٌ بحال الإنسان الروحية، وأرى أن أثره النفسي يُلَخَّص بأنه يُجسِّم الخيالات التي تجول في النفس، وأن هذه الخيالات تَشْتَدُّ وتُمزَج بالحقائق، فإذا كانت النفس طيبة غَرِقَت على العموم في بحر من الملاذِّ بما يلائم ما تبالي به من الأعمال عادةً، وعلى هذا الوجه يرى الشرقيون الذين يتناولون الحشيش بين حريمهم أنهم يُنْقَلون إلى ما في جنات محمد من حُور العِين مسحوري العيون برقص نسائهم مُشَنَّفِي الآذان بأغانيهنَّ.٦

ولم يُدْرس تأثير الحشيش، من الناحية العلمية، درسًا كافيًا مع ما يؤدي إليه درسه من النتائج الطريفة في علم النفس، وقد ذكرنا في كتاب نشرناه حديثًا عن تأثير الحشيش النفسي أنه ينشأ عن تعاطيه انفتاقُ شخصية الإنسان كما يحدث للسائر في النوم، فتقوم الذات غير الشاعرة التي تكون راقدةً في الأحوال العادية، والتي هي أساس حركة الإنسان بالحقيقة، مقامَ الذات الشاعرة، فيَفْقِدُ الإنسان كيانه، ويُحدِّث عن نفسه إلى شخص ثالث، ويبدو التغير في قوله وسلوكه وأخلاقه، وتظهر حقيقة أمره، وهنالك يمكن حَمله على إظهار سَرَائِره، وقد يُستعان بالحشيش في الأحوال الخطرة؛ فيعترف به بعض المجرمين بذنوبهم، ويُجتَنَب الخطأُ القضائي بذلك.

(٥) الألعاب والتمثيل والراقصون والقاصُّون … إلخ

تختلف ألعاب العرب قليلًا عما نعرفه في أوربة، فلُعبة الشطرنج ولعبة النرد ولعبة الدامة مما ألِفه العرب، والمصارعة والرماية ولعبة الكرة، والمسايفة ولعبة الصولجان مما هو شائعٌ بين العرب، ولعبة الرمح، وسباق الخيل من أكثر ما يولَع به الأعراب.

والتمثيل من وسائل التسلية عند الشرقيين أيضًا، ولكن الممثلين في الشرق يكونون من اللُّعَب في الغالب، أو، كما رأيتُ بنفسى، من الأشخاص الذين لم يَحذِقوا فن التمثيل أحيانًا فيُلقُون فصولَهَم برصانة كالقارئ من غير أن تَمُتَّ أوضاعهم بصلةٍ إلى حقيقةِ ما يرغبون في الإعراب عنه من العواطف.

ويتذوَّق الشرقيون الموسيقا والأغاني كثيرًا، وقلما تدخل قهوة شرقية من غير أن تسمع فيها ما لا يروق الأوربيين من ألحان الرباب والكمان والمزمار الحادَّة المحزنة.

fig172
شكل ٢-٩: نارجيلة عربية مصنوعة من النحاس المكفت بالفضة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

ويُعَدُّ الرقص في الشرق من الأمور التي يقوم بها أشخاص مأجورون، ويَحْمَرُّ وجه العرب خجلًا من الرقص العلني الذي يشابه رقص الأوربيين في الرِّداه العامة، وليس مما يلائم الذوق السليم عند العرب أن يَرقُص رجل مُتزن في المسرح على أنغام آلات الطرب.

والنساء اللائي يُلَقبن بالعوالم هُن اللاتي يَرقصن في الشرق، والرَّقَصَات التي رأيتها في مدن آسية وإفريقية ومصر العليا أقل من شهرتها، وتتألف هذه الرَّقَصات من حركة البطن والخصر دون بقية البدن، ورقصة السيف التي شاهدتها ليلًا حَولَ وَقْدَةٍ في أريحا من أروع تلك الرَّقَصَات، فقد اشتركت فيها فلاحاتٌ شاهراتٌ سيوفًا رفيعةً كُنَّ يُدِرْنَهَا حول رأسي زاعقاتٍ في أُذُنِي على حين كانت الراقصاتُ الأُخَرُ يغنين أغانٍ يمتدحن فيها ما يَفْتَرِضْنَ وجوده في الضيف من الجاه والصيت والكرم، وكُنَّ يقلنَ مثلًا: إنه قهر أعداءه، وإن ذراعه لا تَنْثَنِي، وإن فرائص أقوى الشجعان ترتعد فَرَقًا حين سماع صوته … إلخ، وتتجلى مهارة الراقصات في مَسِّهِنَّ بالسيوف رأس الضيف الكريم من غير أن يَجْرَحْنه، وقد حاولتُ عَبَثًا أن أحمِل أولئك الفَتَيات الأعرابيات على إبداء ذلك الحِذْق فوق رءوس أبناءِ قومهن، مع أن الشيخ المفوَّض إليه أمرُ حراستي أخبرني بأن من النادر إصابةَ أحدٍ من ذلك بأذى.

fig173
شكل ٢-١٠: نارجيلة فارسية عربية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

ولم يبقَ لعوالم مِصر العليا ما كان لهن في غابر الأزمان من رَوْنَقٍ وبهاء، واللباس الذي يَلْبَسْنَه أمام الجمهور هو جِلبابٌ طويلٌ يَفقِدْن به كلَّ رَوعةٍ، ولكنهن إذا ما كُنَّ بين الخُلَّان خلعنه بسهولةٍ، ورقصن لابساتٍ ثوبًا بسيطًا كالذي تَعزُوه القصة إلى حواء.

fig174
شكل ٢-١١: دكان صانع أسلحة عربي في سورية (من صورة فوتوغرافية).

وأعُدُّ قصص العجائب التي يتلوها القاصُّون المحترفون من أهم وسائل التسلية عند العرب، وهؤلاء القاصون منتشرون في أنحاء الشرق، ولهم حُظوةٌ كبيرة في كل مكان، ويقص القاصون القصص ارتجالًا في بعض الأحيان، ويقتصرون في الغالب على إنشاد قصيدةٍ أو تلاوة قصَّةٍ من رواية ألف ليلة وليلة، ولا أزال أذكر أنني زُرت حيًّا من أحياء يافا الشعبية ذات ليلةٍ، فشاهدتُ فيه جَمعًا عربيًّا من الحمَّالين والنَّواتي والأُجراء … إلخ، يستمعون على نورِ مِصباحٍ إلى قصة عنترة بعناية، فتراني أشكُّ في نَيْلِ قاصٍّ مثل ذلك النجاح لو أَنْشَد جماعةً من فلاحي فرنسة ما تَيَسَّر من شعر لامارتين أو شاتوبريان.

وندرك ناحيةً من أخلاق العرب بما نراه من تأثير القاصِّين في الجمهور العربي الذي نعلَم أنه ذو حيوية مع وَقار، وقوة خيالٍ مع تمثيل، والذي يَبدو أنه يرى ما يَسمع، والذي يبلغ من فَرْطِ التأثُر ما يَظهر أنه يَسْمَعُه حقًّا.

قال أحد السياح صارخًا: «ليَنظر الإنسان إلى أبناء الصحراء أولئك حينما يستمعون إلى قصصهم المفضلة، فهو يرى كيف يضطربون وكيف يهدأون، وكيف تَلْمَع عيونهم في وجوههم السُّمر، وكيف تنقلب دَعَتُهم إلى غضب وبكاؤهم إلى ضحك، وكيف تَقِف أنفاسهم ويستردونها، وكيف يقاسمون الأبطال سرَّاءهم وضراءهم، حقًّا إن تلك لروايات وإن الحاضرين لممثلون أيضًا، وحقًّا إن الشعراء في أوربة، مع نفوذ أشعارهم وسحر بيانهم وجمال وصفهم، لا يؤثِّرون في نفوس الغربيين الفاترة عُشْرَ مِعشار ما يؤَثِّر به في نفوس سامعيه ذلك القاصُّ الذي هو من الأجلاف، فإذا ما أُحيط ببطل الرواية ارتجف السامعون وصَرَخوا قائلين: «لا! لا! حفظه الله!» وإذا ما كان في حَوْمَة الوَغَى محاربًا كتائب أعدائه بسيفه أمسكوا سيوفهم كأنهم يريدون إنجاده، وإذا ما كاد يذهب فريسة الغدر والخيانة قَطَّبوا وصرخوا قائلين: «لعنة الله على الخائنين!»، وإذا ما قَضَى عليه أعداؤه الكثيرون تأَوَّهوا وقالوا: «تَغَمده الله برحمته وفسح له في دار السلام!» وإذا ما كان العكس فرَجَع ظافرًا منصورًا هتفوا قائلين: «المجد لرب الجُنْدِ!» ويكون هتافهم وقتما يذكر القاصُّ محاسن الطبيعة ولا سيما الربيع: طيب! طيب!» ولا شيء يعدل السرور الذي يبدو على ملامحهم عندما يَصِف القاص امرأةً جميلةً، فتراهم ينصتون له إنصات من يكاد لُبُّه يطير من الوَجْد، وإذا ما أَتمَّ وصفَه قائلًا: «الحمد لله الذي خلق المرأة! قالوا قَوْلَ المُعجب الشاكر: «الحمد لله الذي خلق المرأة!

(٦) الرِّقُّ في الشرق

تثير كلمة «الرِّق» في نفس الأوربي، القارئ للقصص الأمريكية منذ ثلاثين سنة، صورة أناس يائسين مُقرَّنين في الأصفاد، مَقُودين بالسياط، رديئي الغذاء، مقيمين بمظلم المحابس.

fig175
شكل ٢-١٢: بائعون جائلون في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها سباه).

ولا أبحث هنا في صحة صورة الرق هذه عند الأنغلو أمريكيين منذ بضع سنين، ولا في صحة تفكير صاحبِ رقيقٍ في إيذاء مالٍ غالٍ كالزنجي والقضاء عليه، وإنما الذي أراه صدقًا هو أن الرق عند المسلمين غيرُه عند النصارى فيما مضى، وأن حال الأرقاء، في الشرق أفضل من حال الخدم في أوربة، فالأرقاء في الشرق يؤلِّفون جزءًا من الأُسر، ويستطيعون الزواج ببنات سادتهم أحيانًا كما رأينا ذلك سابقًا، ويقدِرون أن يَتَسَنَّموا أعلى الرُّتب، وفي الشرق لا يرون في الرق عارًا، والرقيق فيه أكثر صلةً بسيده من صلة الأجير في بلادنا.

fig176
شكل ٢-١٣: كاتب عرائض في القدس (من صورة فوتوغرافية).

قال مسيو أبُو: «لا يكاد المسلمون ينظرون إلى الرِّق بعين الاحتقار، فأمهات سلاطين آل عثمان، وهم زعماء الإسلام المحترمون، من الإماء، ولا يَرَون في ذلك ما يَحُطُّ من قَدْرهم، وكانت أُسر المماليك الذين ملكوا مصر زمنًا طويلًا تلجأ، لِتَدُوم، إلى اشتراء صِغار الموالي من القفقاس وتتبنَّاهم في سن البلوغ، وليس من القليل أن يُرَبِّي أميرٌ مصري أحد صغار الأرقاء، ويعلمه ويدربه، ويزوجه ابنته، ويفوض إليه إدارة شؤونه، وترى في القاهرة أكابر من الوزراء والقادة والقضاة اشتُري الواحد منهم في شبابه بما لا يزيد على ألفٍ وخمسمائة فرنك.»

واعترف جميع السياح الذين درسوا الرق في الشرق درسًا جِديًّا بأن الضجة المُغْرِضَة التي أحدثها حَوْلَه بعض الأوربيين لا تقوم على أساسٍ صحيح، وأحسن دليل يقال تأييدًا لهذا هو أن الموالي الذين يرغبون في التحرر بمصر ينالونه بإبداء رغبتهم فيه أمام أحد القضاة، وأنهم لا يلجأون إلى حقهم هذا، قال مسيو إيبِر مشيرًا إلى ذلك: «يجب عَدُّ الرقيق في بلاد الإسلام مَبْخُوتًا على قدر الإمكان.»

ومن السهل أن أُكثر من اقتباس الشواهد على صحة ذلك، ولكنني أكتفي بذكر الأثر الذي أوجبه الرق في الشرق في نفوس المؤلفين الذين أُتيح لهم دَرسُه في مصر حديثًا، قال مسيو شارم: «يَبدو الرق في مصر أمرًا ليِّنًا هينًا نافعًا منتجًا، ويُعد إلغاؤُه فيها مصيبة حقيقية، ففي اليوم الذي لا يستطيع وحوش إفريقية الوسطى أن يبيعوا فيه أَسْرَى الحرب، ولا يَرَون فيه إطعامهم، لا يُحجِمون عن أكلهم، فالرِّق، وإن كان لطخةَ عارٍ في جبين الإنسانية، أفضلُ من قتل الأَسرى وأكل لحومهم إذا ما نُظِر إليه من وجهة نظر هؤلاء الأسرى، وذلك على الرغم من رأي مُحبي الإنسانية من الإنكليز الذين يقولون: إنه أجدر بكرامة الزنوج أن يأكلهم أمثالهم من أن يسودهم أجنبي!»

وقال مدير مدرسة اللغات في القاهرة مسيو دو ڨوجانى: «ترى الأرقاء الذين يستفيدون من الحرية الممنوحة لهم قليلين إلى الغاية مع أن هذه الحرية تسمح لهم بأن يعيشوا كما يشاءون من غير إزعاج، فالأرقاء يُفَضلون حال الرق السالم من الجَور على حال القلق الذي يكون مصدرَ آلامٍ ومتاعب لهم في الغالب.

«وترى الأرقاء في مصر أحسن حالًا مما كانوا عليه قبل استرقاقهم بدلًا من أن يكونوا من البائسين المناكيد، وبلغ الكثيرون منهم، ولا سيما البيض، أرقى المناصب في مصر، ويُعد ابن الأَمَة في مصر مساويًا لابن الزوجة في الحقوق، وإذا كان ابنُ الأَمَةِ هذا بِكْرَ أبيه تمتع بكل ما تمنحه البِكْرِية من الامتيازات، ولم تكن من غير الأرقاء زُمرة المماليك التي مَلَكَتْ مصر زمنًا طويلًا. وفي أسواق النِّخاسة اشتُري علي بك وإبراهيم بك ومراد بك الجَبَّار الذي هُزم في معركة الأهرام، وليس من النادر أن ترى اليوم قائدًا أو موظفًا كبيرًا في مصر لم يكن في شبابه غير رقيق، وليس من النادر أن ترى رجلًا في مصر كان سيدُه المصري قد تبناه وأحسن تعليمه وزوَّجه ابنته.»

وليست مصر القطرَ الوحيد الذي يُعَامَل فيه الأرقاء برفق عظيم، أي أن ما تراه في مصر تَرَى مثلَه في كل بلد خاضع للإسلام، واسمع ما قالته السيدة الإنكليزية بِلَنْتُ في كتاب رِحلتها في بلاد نجد ذاكرةً محادثتها لعربي:

«إن مما لم يستطع أن يفهمه ذلك العربي هو وجود نفع للإنكليز في تقييد تجارة الرقيق في كل مكان، ولما قلتُ له إن مصلحة الإنسانية اقتضت ذلك» أجابني: «إن تجارة الرقيق لا تنطوي على جَور، ومن ذا الذي رأى إيذاء زِنْجِي؟» والحق أننا لا نزعم أننا رأينا ذلك، ومن الأمور المشهورة أن الأرقاء عند العرب يكونون من الأبناء المُدلَّلين أكثر من أن يكونوا من الأُجَراء.

fig177
شكل ٢-١٤: سقَّاءان في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).

ولا شيء يستحق الذم واللوم كالرق، ولكن المبادئ التي صنعها الإنسان ذات شأن ضعيف في سير الأمور، وإذا ما نظر المرء إلى الرق بمنظار الزنجي المخلوق المنحط وَجَده أمرًا طيبًا، فلا شيء أصلح لهؤلاء المخلوقات الضعيفة الفطرية القليلة الحذر والتبصر من أن يكون لها سيدٌ يرى من مصالحه أن يقوم بشؤونها، ودليلنا على هذا ما أصاب أرقَّاء أمريكة من الانحطاط المُحزِن الذي نشأ عن تحريرهم بعد حرب الانفصال، وإلقاء حِبالهم على غَوَاربهم.

ويتطلب منعُ النِّخاسة منعَ البحث عن الأرقاء كما يزعم الإنكليز أنهم يفعلون، أي تبديلَ طبائع الشرق كله، وتغييرَ بقية العالم بعضَ التغيير، ولم ينشأ عن تدخل الأوربيين القائم على الرياء والمداجاة فيما لا يَعنيهم سوى الفشلِ ومقتِ الشرقيين لهم.

قال المؤلف الإنكليزي «ج. كُوپِر» في كتاب حديث دَرَسَ فيه أمر النخاسة في إفريقية: «لم تكن الحملات التي جُرِّدت على تجار الرقيق في السودان إلا من نوع الغَزَوات التي تُضِيفُ إلى المذابح مذابحَ أخرى، أجل، لقد قَضَتْ تلك الحملات على بعض مراكز أولئك التجار، ولكن هذه المراكز لم تلبث أن أعيد تأسيسُها بعد انصراف تلك الحملات، ولم يَنْجُم عن النفقات العظيمة والدماء المسفوكة فيها كبير طائل، ولم تُؤَدِّ إلى تقييد النِّخاسة.»

ولا ريب في أن الأوربيين الذين يتدخَّلون في أمور الشرق لمنع النِّخاسة قسرًا من محبي الإنسانية الصالحين، ومن ذوي النِّيَّات الطيبة الخالصة، ولكن الشرقيين لا يعتقدون صدقهم، وحُجة الشرقيين في ذلك هو أن أولئك المحبين للإنسانية الصالحين والراحمين للزنوج هم الذين أَكرهوا الصينيين بقوة المدافع على أن يُدخِلوا إلى بلادهم ذلك الأفيون الذي أهلك من الناس في سنة واحدة ما لم تُهلكه تجارة العبيد في عشر سنين.

هوامش

(١) الحماطة: شجرة شبيهة بالتين، وقيل: هي الجميزة.
(٢) زالت تقريبًا القصور العجيبة التي كانت تشتمل كل مدينة عربية على عدد كبير منها أيام ازدهار حضارة العرب، نعم، يقيم مرابو اليهود بيوتًا من نوعها في دمشق، ولكن ما فُطر عليه الشعب اليهودي من الذوق الفاسد والترف المزيف يدفع المرء إلى الأسف على ما ينفقون من المال في تقليد تلك القصور العربية التي هي في طريق الأفول تقليدًا سيئًا، فالمرء يرى في تلك البيوت اليهودية خلطًا كريهًا بين أخس ما صنعه شرقي وأقبح ما أنتجه أوربي، ويشاهد فيها نقوشًا من أحط ما صنعه الرسامون، وتلك البيوت اليهودية وحدها هي التي يستطيع الأجانب أن يدخلوها، وهي التي لا يزورون غيرها، فيخطئون في عدها من أمثلة فن العمارة العربي، وقد أنعمت النظر في بيت اليهودي الذي نشر رسمه المؤلفان الفاضلان مسيو لوته ومسيو غيران والذي هو أشهر تلك البيوت اليهودية، فلم أجد فيه سوى فساد في ذوق صانعيه الذين حاولوا أن يوفقوا في شيده بين مختلف فنون البناء، فضلًا عما رأيت فيه من الأمتعة الأوربية المبتذلة، والشماعد التي لا يساوي بدل الواحد منها سوى بضعة دوانق، والتماثيل الصغيرة لنابليون، والرسوم التي تعد أحط رسوم أپينال الملونة بجانبها آية في الإبداع.
والقصر الذي نُشرت صورة ردهة الحريم منه هو القصر القديم الذي تملكه أسرة أحد ولاة الشام السابقين، أسعد باشا، وهذا القصر من أقدم ما في الشام، وهو أجمل قصورها، ومن دواعي الأسف أن يكون عرضة للخراب وألا يكون أصحابه، الذين هم على جانب قليل من الذوق الفني، من الغنى ما يستطيعون به إصلاحه، وقد رأيت، لعدة أسباب، أن أنشر لردهته صورة فزدت فيها ما ليس فيها الآن من الرياش مستندًا إلى الصحيح من الروايات، وغيرت موضع إحدى حواجزها؛ ليبدو للناظر زخرف ما يقابل مدخلها، وتدل تلك الصورة على ما هو أكثر من ثلث تلك الردهة، والمرء حين يمر من العتبة وينظر إلى الفسقية الرخامية التي تكون أمامه ثم يتلفت يرى عن شماله قسم تلك الردهة القائم الزوايا، ويرى أمامه قسمًا آخر مثله، ويرى عن يمينه قسمًا ثالثًا مثله، ويتألف من مجموع هذا صليب إغريقي حل مدخل الردهة محل شعبته السفلى.
والتقطت أيضًا صورة فوتوغرافية لنافذة في تلك الردهة فنشرتها.
(٣) الرخاء: الريح اللينة التي لا تحرك شيئًا.
(٤) لا يحتوي تبغ الشرق على النيكوتين تقريبًا، والمرء لا يستطيع، مع ذلك، أن يتعاطاه كثيرًا على شكل سغاير من غير أن يشعر بتعب، والتبغ، إذ لا بد من أن يكون لذلك ذا مواد سامة أخرى غير مادة النيكوتين التي ظن أنها المادة السامة الوحيدة فيه، رأيت منذ بضع سنين أن أدرسه، فاكتشفت في دخانة مادة الألكالوئيد التي هي أشد سمًّا من مادة النيكوتين، كما اكتشفت فيه مقدارًا كبيرًا من الحامض الپروسي، وقد دونت ذلك في كتابي «دخان التبغ ومباحث كيماوية وفيزيولوجية» الذي طُبع ثانية مع إضافتي إليه مباحث جديدة في الحامض الپروسي، وأكسيد الفحم، وما في دخان التبغ من مختلف العلل السامة.
(٥) الذُرَّاح: جنس من الحشرات الغمدية الجناح المتعددة المفاصل.
(٦) يحتاج وصف الخيالات التي تدور في رأس من يتعاطى الحشيش إلى قلم شاعر، وإليك ما قاله جيرار دو ثيرڨال: «تتحرر الروح من الجسم وتسبح طليقة جذلة في الفضاء والنور محادثة من تصادف من الملائكة، ويبهرها بوحيه المفاجئ الساحر، فتقطع من فورها جوًّا من السعادة يعجز القلم واللسان عن وصفه، وذلك في دقيقة يلوح أنها أبدية ما تعاقبت هذه الأحاسيس بسرعة، وقد رأيت حلمًا كان يبدو لي ثابتًا متنوعًا عندما ركبت قاربي المتمايل تحت روعة أخيلتي مغمضًا عيني على نهر جارٍ دائم من العقيق والياقوت والزمرد، وما إلى ذلك مما يصور الحشيش عليه أعجب الخواطر، ورأيت في سواء الفضاء حورية، لا يرقى إليها خيال شاعر، قد ابتسمت لي بما أخذ بمجامع قلبي، وهبطت إليَّ من عليائها، وهل كانت من الملائكة أو من الجن؟ ذلك ما لا أعرفه، وإنما استلقت بجانبي في ذلك القارب الذي تحولت ألواحه آنئذ إلى صدف ولؤلؤ وصار يجري في بحر فضي بقوة نسيم عَطِر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤