الفصل الخامس

الفيزياء وتطبيقاتها

(١) الفيزياء والميكانيكا

  • الفيزياء: ضاعت كتب العرب المهمة في الفيزياء، ولم يبقَ منها غير أسمائها ككتاب الحسن بن الهيثم في الرؤية المستقيمة والمنعكسة والمنعطفة، وفي المرايا المحرقة، ومع ذلك فإننا نستدل على أهمية كتب العرب في الفيزياء من العدد القليل الذي وصل إلينا منها، ولا سيما كتابُ الحسن في البَصَريات الذي نُقل إلى اللغة اللاتينية واللغة الإيطالية؛ فاستعان كيپلر به كثيرًا في كتابه عن البَصَريات، ويرى القارئ في كتاب الحسن فصولًا دقيقة عن حرارة المرايا ومحلِّ الصور الظاهر في المرايا، وانحراف الأشياء، وجسامتها الظاهرة … إلخ، ويرى فيه، على الخصوص، حلًّا هندسيًّا للمسألة الآتية التي تتعلق بمعادلة من الدرجة الرابعة، وهي: إذا عُلِمَ موضعُ نقطةٍ مضيئة ووَضْعُ العين، فكيف تَجِدُ على المرايا الكُرِيَّةِ والأسطوانية النقطة التي تتجمَّع فيها الأشعة بعد انعكاسها؟ فعدَّ مسيو شال، الذي هو حُجة في هذه الموضوعات، هذا الكتابَ «مصدر معارفنا للبصريات.»
  • الميكانيكا: معارف العرب الميكانيكية العملية واسعةٌ جدًّا، ويُستدل على مهارتهم في الميكانيكا من بقايا آلاتهم التي انتهت إلينا، ومن وصفهم لها في مؤلفاتهم.

    ورأى الدكتور إ. برناردُ الأكسفورديُّ أن العرب هم الذين طبقوا الرَّقاص على الساعة، غير أن ما أبداه من الأسباب لا يكفي، على ما يظهر، لإسناد هذا الاختراع المهم إلى العرب، والذي نرجحه هو أن الساعة الدقاقة التي أرسلها هارون الرشيد إلى شارلمان هي ساعةٌ مائيةٌ تدق في كل ساعة بسقوط كُراتها النحاسية على قُرص معدني.

    ولكن الذي لا ريب فيه هو أن العرب عرفوا الساعات ذات الأثقال التي تختلف كثيرًا عن الساعات المائية، ودليلنا على ذلك: ما وُصِفت به ساعة الجامع الأموي الشهيرة في كتب كثير من المؤلفين، ولا سيما بنيامين التُّطيليُّ الذي زار فلسطين في القرن الثاني عشر من الميلاد، وقد اقتطفنا الوصف الآتي من ترجمة مسيو سلڨستر دوساسي لابن جُبير، قال ابن جُبَيْر:

    وعن يمين الخارج من باب جيرون في جِوار البلاط الذي أمامه غرفةٌ لها هيئة طاقٍ كبير مستدير فيه طِيَانُ صُفْرٍ قد فُتِّحت أبوابًا صغارًا على عدد ساعات النهار، ودُبِّرت تدبيرًا هندسيًّا، فعند انقضاء ساعة من النهار تَسقط صنجتان من صُفْر من فَمَيْ بازَيْن مُصَوَّرين من صُفْر قائمين على طاستين من صُفْرٍ تحت كل واحد منهما، أحدهما: تحت أوَّل باب من تلك الأبواب، والثاني: تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقيتين فيهما تَعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازَين يَمُدَّان عنقيهما بالبندقيتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرًا، وعند وقوع البندقيتين في الطاستين يُسمع لهما دويٌّ، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلَوْحٍ من الصُّفر، لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار، حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات، ثم تعود إلى حالها الأول، ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطفة على الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرةً من النحاس مُخرَّمةً تعترض في كل دائرة زجاجةٌ من داخل الجدار في الغرفة، يُدير ذلك كله منها خلف الطِّيقان المذكورة وخلفَ الزجاجة مصباحٌ يدور به الماءُ على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمَّ الزجاجة ضَوءُ المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاع، فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وُكِّل بها في الغرفة مُتَفقِّدٌ لحالها، دَرِبٌ بشأنها وانتقالها، ويُعيدُ فتحَ الأبواب، وصَرْف الصنُوج إلى مواضعها.

(٢) الكيمياء

كيمياء العرب مشوبةٌ بالسيمياء، كما كان علم الفلك عندهم مشوبًا بفنِّ التنجيم، ولكن مزج العلم المثبَتِ بالخيال لم يمنع العرب من الوصول إلى اكتشافات مهمة.

والمعارف التي انتقلت من اليونان إلى العرب في الكيمياء ضعيفةٌ، ولم يكن لليونان علمٌ بما اكتشفه العرب من المركبات المهمة كالكحول وزيت الزاج (الحامض الكبريتي) وماء الفضة (الحامض النتري) وماء الذهب … وما إلى ذلك، وقد اكتشف العرب أهمَّ أسس الكيمياء كالتقطير.

قال بعض المؤلفين: «إن لاڨوازيه واضعُ علم الكيمياء، وقد نَسُوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم، ومنها علم الكيمياء، صار ابتداعه دفعةً واحدة، وأنه وُجِد عند العرب من المختبرات ما وَصلوا به إلى اكتشافاتٍ لم يكن لاڨوازيه ليستطيع أن ينتهي إلى اكتشافاته بغيرها.»

fig227
شكل ٥-١: فرسان من العرب يقذفون بالنار اليونانية كما جاء في مخطوط عربي قديم محفوظ في المكتبة الوطنية بباريس.

وأقدم علماء العرب في الكيمياء وأكثرهم شهرةً هو جابر الذي عاش في أواخر القرن الثامن من الميلاد، والذي ألَّف كتبًا كثيرة فيها، ولكنه نشأ عن كثرة من تَسَمَّوا باسمه من معاصريه صعوبةُ تمييز ما يجب نسبته إليه منها، ونُقِل عدد غير قليل من كتبه إلى اللغة اللاتينية، وقد نُقِل كتابه «الاستتمام»، الذي هو من أهم كتبه، إلى اللغة الفرنسية في سنة ١٦٧٢م، فدل هذا على دوام نفوذه العلمي في أوربة مدةً طويلة.

ويتألف من كتب جابر موسوعةٌ علمية حاوية خلاصةَ ما وَصل إليه علم كيمياء العرب في عصره، وتشتمل هذه الكتب على وصف كثير من المركبات الكيماوية التي لم تُذكَر قبله، كماء الفضة (الحامض النتري) وماء المُهِمَّيْن اللذين لا نتصور علم الكيمياء بغيرهما.

ويظهر أن جابر بن حيان عَرَف خواصَّ بعض الأرواح، فقد ذكر: «أن الأرواح حينما تستقر بالأجسام تَفْقِد شكلها وطبيعتها، وتصبح غير ما كانت عليه، وأنها في حالة التحليل إما أن تَطِير وحدها وتبقى الأجسام التي امتزجت بها، وإما أن تطير مع ما امتزجت به من الأجسام في آن واحد.»

وكان جابر يعتقد، كجميع السيماويين، أن المعادن مركبةٌ من عناصر كثيرةٍ غير معروفة، فيسمِّي هؤلاء هذه العناصر، على حسب الأحوال، ببعض الأسماء، كالكبريت والزئبق والزرنيخ … إلخ.

ولكن هذه الأسماء لم تَدُلُّ على خواصِّ العناصر المفترضة التي أُطلقت عليها، وإلى هذا الأمر أشار السيماويون، غير مرةٍ، فيجب الانتباه إليه خوفًا من الوقوع في مثل ما اقترفه مؤلفون كثيرون من الوِزْر نحوهم.

ويرى علماء الكيمياء من العرب أن جميع المعادن مؤلفةٌ من عناصرَ واحدةٍ، وأن بعض المعادن لا يختلف عن بعضٍ إلا بسبب اختلاف نِسَب هذه العناصر، وأنه في حالة حل هذه العناصر، وإعادة تركيبها مرةً أخرى على نسب ملائمة يُظفر، كما هو ظاهر، بأي معدن آخر كما يُراد، كالذهب مثلًا. ورَانَت مسألة تحويل المعادن على قلوب سيماويي العرب قرونًا كثيرة كما هو معلوم، فنشأ عن نظرياتهم، البعيدة من الذهنية الحاضرة بعضَ البعد، خِدَمٌ للعلم حقيقةٌ عند قيامهم بمباحثهم التي ما كانت لتقع بغيرها، أَجَلْ، إنه لا يُكْتَشَف ما يُبحث عنه، ولكنه يُكتشف ما لا يُعْثَر عليه بغير طلب تحويل المعادن زمنًا طويلًا.

واشتملت كتب جابر على بيان كثير من المركبات الكيماوية التي كانت مجهولة قبله، كماء الفضة (الحامض النتري) وماء الذهب والپوتاس وملح النشادر وحجر جهنم (نترات الفضة) والسليماني والراسب الأحمر، وكان جابر أولَ من وَصَف في كتبه أعمالًا أساسية كالتقطير والتصعيد والتبلور والتذيب والتحويل … إلخ.

واكتشف العرب، أيضًا، مركبات أخرى لا غُنْيَة للكيمياء والصناعة عنها، كزيت الزاج (الحامض الكبريتي) والكحول، وكان الرازي المتوفى سنة ٩٤٠م أول من وَصفها فقال: إن زيت الزاج يُستخرج بتقطير كبريت الحديد، وإن الكحول تُستخرج بتقطير المواد اللُّبِّيَّة أو السكرية المختمرة.

fig228
شكل ٥-٢: قذائف محرقة استعملها العرب في القرن الثالث عشر من الميلاد (ترى في هذه الصورة فارسًا حاملًا رمحًا ناريًّا، ولابسًا كخادميه قميصًا صفيقًا من صوف ذي دسر معدًّا ليبلل بنفط يُشعل فيما بعد، وذلك لإلقاء الرعب في الأعداء) من مخطوط عربي قديم محفوظ في بطرسبرغ.

ودرس أكثر علماء العرب الذين ألَّفوا في مختلف العلوم مسائلَ الكيمياء، وضاع أهم كتب الكيمياء العربية، خلا مؤلفات جابر والرازي، فنأسف على ذلك بعد أن تجلَّت لنا قيمة ما هو بين أيدينا منها.

ويظهر لنا مدى اكتشافات العرب الكيماوية من كَثْرَة ما كان مجهولًا قبلهم من المركبات التي ذكروها في مؤلفاتهم الطبية، وابتدع العربُ فنَّ الصيدلة، ويبدو لنا مقدارُ معارفهم في الكيمياء الصناعية من حِذقهم لفنِّ الصباغة، واستخراج المعادن، وصنع الفولاذ، ودِباغة الجلود … إلخ.

(٣) العلوم التطبيقية: الاكتشافات

(٣-١) المعارف الصناعية

لم يُهمل العربُ أمر التطبيقات الصناعية مع قيامهم بمباحثهم النظرية، وكان لصناعات العرب تفوُّقٌ عظيم بفضل معارفهم العلمية، ونعلم ما أدت إليه صناعاتهم من النتائج، وإن جَهِلنا أكثر طرقها، فنعرف، مثلًا، أنهم كانوا يعلمون استغلال مناجم الكبريت والنحاس والزئبق والحديد والذهب، وأنهم كانوا ماهرين في الدِّباغة، وفي فن تسقية الفولاذ، كما تشهد بذلك نصال طليطلة، وأنه كان لنسائجهم وأسلحتهم وجلودهم وورقهم شهرةٌ عالمية، وأنه لم يسبقهم أحد في كثير من فروع الصِّناعة إلى عصرهم.

ونرى، بين اختراعات العرب، ما لا يجوز الاكتفاء بذكره لأهميته، كاختراعهم للبارود مثلًا، ولذا فإننا نقول بضعَ كلماتٍ فيه:

بارود الحرب والأسلحة النارية

استعملت أممُ آسية أنواعَ المركبات المُحرقة في حروبها منذ القرون القديمة، ولكن أوربة لم تَعرِف هذه المركَّبات إلا في القرن السابع من الميلاد، ويُظَنُّ أن الذي نقلها من آسية هو مهندس معماريٌّ اسمه كالينيك، واستفاد البزنطيون استفادةً عظيمة من هذه المركبات في دحْر العرب حينما وضعوا نطاقًا أمام القسطنطينية، وأمر القيصر قسطنطين بورْفِيرُو جِينيت بعَدِّها من أسرار الدولة وإن لم تَلْبَث أن كُشِفَت، وأسفرت مباحث رينو وفاڨيه عن القَطْع بأن هذه المركبات التي وُصِفَت في كثير من المخطوطات القديمة مؤلفةٌ من الكبريت، وبعض المواد الملتهبة كبعض الراتنجات والأدهان.

ولَسُرعان ما عَرَف العرب تركيب النار اليونانية، وبلغت هذه النار من الانتشار عندهم ما صارت معه «عامل الهجوم المهِمَّ» كما قال ذانك المؤلفان، وتَفَنَّنَ العرب في استخدامها، والقذف بها بشتى الطرق، وليس بمجهولٍ خبرُ الرُّعب الذي ألقته في قلوب الصليبيين فوَرَدَ ذكره في أحاديثهم، ومن ذلك أن أعلن جوَانڨِيلُ أنها أفظع شيء رآه في حياته، وأنها ضربٌ من التَّنانِين الكبيرة الطائرة في الهواء، ولما أصبح جوانڨيل في جوار الملك سان لويس: «رَكَع ورفع يديْه إلى السماء وقال باكيًا: أي ربنا يسوع احفظنا واحفظ قومنا!»

fig229
شكل ٥-٣: أسلحة نارية استعملها العرب في القرن الثالث عشر من الميلاد (ترى في هذه الصورة مدفعيًّا حاملًا بيده مدفعًا صغيرًا مقربًا إياه من لهب لإشعال النار وقذف القنبلة، من ذلك المخطوط العربي القديم المحفوظ في بطرسبرغ).

ولا يخلو هذا الفزع من وهم، أي أن النار اليونانية إذا كانت نافعةً في المعارك البحرية للقضاء على سفن العدو فإنها لم تكن كذلك في البر، ولم يَرْوِ أحدٌ من المؤرخين أنها أَوْدَت بحياة أحدٍ من رجال سان لويس أو غيرهم في البر، وأطبقت النار اليونانية على سان لويس، وكثير من فرسانه من غير أن تصيبهم بأذى، فالنار اليونانية، وإن كان من طبيعتها التحريق، لم تصلُح للرَّشق، وهي، وإن كان يُقذَف بها، لم تنفع لرَمْي القذائف، وهي، وإن كانت من المحترقات، لم تكن لها خواص البارود في الانفجار.

وعُزِيَ اختراعُ البارود إلى روجر بيكن زمنًا طويلًا، مع أن روجر بيكن لم يفعل غير ما فعله ألبرت الكبير من اقتباس المركَّبات القديمة، ولا سيما ما وصفه منها مَرْكُوس غَراكُوس في مخطوط كُتِبَ في سنة ١٢٣٠م بعنوان «كتاب النار لإحراق الأعداء، والحقُّ أن كثيرًا من هذه المركبات يشابه تركيب البارود، ولكنه كان يُستعمل في الأسهم النارية فقط، وهو مقتبس من العرب، لا ريب، كجميع المُرَكَّبات الكيماوية في القرون الوسطى. والعرب هؤلاء قد عَرَفوا الأسلحة النارية قبل النصارى بزمن طويل كما يأتي بيانه.

وأثبتت مباحث مسيو رينو ومسيو فاڨية، وقد سبقهما إليها الغزيريُّ وأنْدرِه وڨيَارْدُو، أن العرب هم الذين اخترعوا بارود المدافع السهل الانفجار الدافعَ للقذائف، وبيان ذلك: أن ذينك المؤلفين رَأيا في بدء الأمر كما رأى غيرُهُما، أن أمر هذا الاختراع يعود إلى الصينيين، وأنهما رَجَعا في مذكرة ثانيةٍ نشراها سنة ١٨٥٠م، وذلك بعدما اطلعا على ما جاء في بعض المخطوطات التي عُثِر عليها حديثًا، عن رأيهما مُعْلِنَين أن العرب هم أصحاب هذا الاختراع العظيم الذي قَلَبَ نظام الحرب رأسًا على عَقِب، ومما قاله ذانك المؤلفان: «إن الصينيين هم الذين اكتشفوا ملح البارود واستعملوه في النار الصناعية … وأن العرب هم الذين استخرجوا قوة البارود الدافعة، أي أن العرب هم الذين اخترعوا الأسلحة النارية.»

وجرى المؤرخون على الرأي القائل: إن المعركة الأولى التي استُعملت فيها المدافع هي معركة كريسي التي حدثت سنة ١٣٤٦م، والحقيقة هي ما أثبته مؤرخو العرب في مؤلفاتهم من النصوص الكثيرة التي تدل على أن استعمال المدافع وقع قبل تلك السنة بزمن طويل، ومن ينظر إلى المختارات المقتطفة من المخطوطات التي ترجمها كونده يَجِدْ، على الخصوص، أن الأمير يعقوب حاصر زعيم ثُوَّار في مدينة المهدية بإفريقية في سنة ١٢٠٥، وأنه ضرب أسوارها بمختلف الآلات والقنابل … أي ضربها بآلات لم يَرَها الناس قبل ذلك … فكانت كل واحدة منها تَرمِي قذائفَ كبيرةً من الحجارة وقنابلَ من الحديد، فتسقط في وسط المدينة.»

fig230
شكل ٥-٤: قطعة من نسيج عربي قديم (من تصوير إيبر).

ونرى ذلك صريحًا في تاريخ ابن خلدون عن البربر حيث ذَكَر استعمال المدافع في الحِصار بقوله: «ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب وجَّه عزمه إلى افتتاح سجلماسة (٦٧٢ﻫ / ١٢٧٣م) من أيدي بني عبد الواد المتغلبين عليها، وإدالةِ دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجبٍ من سنة اثنتين وسبعين، فنَازَلها وقد حَشَد إليها أهلَ المغرب أجمع من زناتةَ والعربِ والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونَصَبَ عليها آلات الحصار من المجانيق والعَرَّادَات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خِزانةٍ أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترُدُّ الأفعال إلى قدرة بارئها، فأقام عليها حَوْلًا يغاديها القتال ويراوحها إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلةٍ طائفةٌ من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد فدخلوه عَنوةً من تلك الفُرجة.»

وتُثْبِت مخطوطاتُ ذلك الزمن أن الأسلحة النارية شاعت بين العرب بسرعة، وأنهم استخدموها للدفاع عن مدينة الجزيرة التي هاجمها الأذفونش الحادي عشر سنة ١٣٤٢م.

fig231
شكل ٥-٥: قطعة من نسيج عربي قديم.

وجاء في تاريخ الأذفونش الحادي عشر: «أن مغاربة المدينة كانوا يقذفون كثيرًا من الصواعق على الجيش فيرمون عليه عِدَّة قنابل كبيرة من الحديد كالتفاح الكبير، وذلك إلى مسافة بعيدة من المدينة، فيمرُّ بعضها من فوق الجيش، ويسقط بعضها عليه.»

وحضر كونت دربي وكونت سالسبري الإنكليزيان ذلك الحصار، وشاهدا نتائج استخدام البارود، ونقلا ذلك الاختراع إلى بلادهم من فَوْرِهم، واستخدمه الإنكليز في معركة كريسي بعد ذلك بأربع سنين.

وتجد في المخطوطات العربية بيانًا لتركيب ما كان العرب يستخدمونه من البارود والأسلحة النارية، وإليك النص الطريف الذي ورد في مخطوطٍ كُتِبَ في أواخر القرن الثالث عشر من الميلاد فترجمه رينو:

وصفٌ للذخيرة التي تُدَكُّ في المِدفع مع بيان نسبتها: تؤخذ عشرة دراهم من ملح البارود ودرهمان من الفحم ودرهم ونصف درهم من الكبريت، وتُسحَق حتى تصبح كالغُبار، ويُملأ منها ثلث المدفع فقط خوفًا من انفزاره، ويصنع الخرَّاط من أجل ذلك مِدفعًا من خشبٍ تناسب جسامتُه فَوْهَتَه، وتُدكُّ الذخيرة فيه بشدة، ويُضاف إليها إما بندقٌ، وإما نَبْلٌ، ثم تُشعَل، ويكون قياس المدفع مناسبًا لثقبه، فإذا كان عميقًا أكثر من اتساع الفَوْهَة بدا ناقصًا.

fig232
شكل ٥-٦: قطعة من نسيج عربي قديم (من تصوير پريس الأڨيني).

الوِراقة

كان الأوربيون في القرون الوسطى يكتبون على الرُّقوق لزمن طويل، وكان غلاء أسعارها مانعًا من توافر المخطوطات فيها، ونشأ عن ندرتها أن تَعَوَّد الرهبان حكَّ كتب كبار المؤلفين من اليونان والرومان؛ ليستبدلوا بها مواعظهم الدينية، ولولا العرب لضاع أكثر هذه الكتب الرائعة القديمة التي زُعم أنها حُفظت في أروقة الأديار باعتناء.

وكان اكتشاف مادةٍ تقوم مقام الرَّقِّ، وتُشابه بَرديَّ قدماء المصريين يُعَدُّ من أعظم العوامل في نشر المعارف.

وتُثبِت المخطوطة التي عَثَرَ عليها الغزيري في مكتبة الإسكوريال والمكتوبة في سنة ١٠٠٩م على ورق مصنوع من القطن، والتي هي أقدم من جميع المخطوطات الموجودة في مكتبات أوربة، أن العرب أول من أحلَّ الورقَ محل الرَّقِّ.

fig233
شكل ٥-٧: قطعة من نسيج عربي قديم (من رسم پريس الأڨيني).

وليس من الصعب أن يصل الباحث في الوقت الحاضر إلى تاريخ اختراع الورق، فمن الثابت أن الصينيين كانوا يَعلَمون منذ أقدم الأزمان صناعة الورق من شَرانِق الحرير، وأن هذه الصناعة أُدخلت إلى مدينة سمرقند في أوائل التاريخ الهجري، فلما فتحها العرب وجدوا فيها مصنعًا للورق الحريري، ولكن اختراعًا مهمًّا كهذا لم يكن لينفع في أوربة، التي لم تَعرف الحرير تقريبًا، إلا باستبدال مادة أخرى بالحرير، وهذا ما أتاه العرب حين أقاموا القطن مقامه، ولم يَلبث العرب أن بلغوا في إتقان صناعة الورق من القطن شأوًا لم يُسبق، كما دل عليه البحث في مخطوطات العرب القديمة.

ومن الثابت أيضًا أن العرب اخترعوا من الأسمال صِناعة الورق الصعبة الكثيرة التراكيب، ويُستند في هذا الرأي إلى أن العرب استخدموا هذا النوع من الورق في زمن أقدم من الزمن الذي استخدمته فيه الأمم النصرانية بمدة طويلة، فأقدمُ ورق موجود في أوربة من هذا النوع هو ورق الكتاب الذي أرسله جوانڨيل إلى الملك سان لويس قُبيل وفاته في سنة ١٢٧٠م، أي بعد حملته الصليبية المصرية الأولى، مع أن لدينا ورقًا عربيًّا صُنِع من الأسمال قبل هذا التاريخ بنحو قرن، كالورق المحفوظ بين مخطوطات برشلونة، والمكتوبة عليه معاهدة السَّلْم بين ملك أرغونة الأذفونش الثاني وملك قشتالة الأذفونش الرابع في سنة ١١٨٧م، والمصنوع في مصنع شاطبة العربيِّ الشهير الذي امتدحه العالم الجغرافيُّ الإدريسيُّ في النصف الأول من القرن الثاني عشر من الميلاد.

fig234
شكل ٥-٨: سرج عربي قديم (المتحف الملكي بمدريد، من صورة فوتوغرافية التقطها لوران).

ونشأ عن كثرة المكتبات العامة والخاصة في الأندلس أيام سلطان العرب، بما لم تَعرِفه أوربة في ذلك الزمن أن اضطُرَّ العرب إلى زيادة مصانع الورق، فانتهَوا إلى صنعه، بإتقان عظيم، من القِنَّب والكتان الوافرين في الحقول في ذلك الحين.

استخدام البوصلة في الملاحة

البوصلة من اختراع الصينيين، ولكنه لم يقُم دليل على استخدامهم لها في الملاحة.

وكان الصينيون من ضِعاف الملاحين، ولم يبتعدوا في أسفارهم البحرية عن الشواطئ، فكانت البوصلة قليلةَ النفع لهم.

وغير ذلك كان شأن العرب الذين هم من أعاظم الملاحين، والذين كانت صلاتهم ببلاد الصين الواسعة كثيرةً أيام شكَّ الأوربيون في وجودها، فكان من الراجح أن يكونوا أولَ من استخدم البوصلة في الملاحة، ولكن هذا لا يخرج عن حدِّ الافتراض الذي لا يجوز الإصرار عليه؛ لعدم قيامه على دليل.

وإنما الذي لا ريب فيه هو أن الأوربيين أخذوا هذا الاختراع المهم عن العرب الذين كانوا وحدهم ذوي صلات بالصين، والذين كانوا وحدهم قادرين على إطلاع الغرب عليه لهذا السبب، ومع ذلك فقد مَرَّ بعض الزمن على الأوربيين قبل إدراك فائدته، فالأوربيون لم يستخدموه قبل القرن الثالث عشر من الميلاد، مع أن الإدريسي الذي تكلم عنه في أواسط القرن الثاني عشر من الميلاد ذكره على أنه كثير الشيوع بين بني قومه.

ثبت مما تقدم أن اكتشافات العرب في الطبيعيات ليست أقل أهمية منها في الرياضيات وعلم الفلك، وأن معارف العرب كانت عاليةً في الفيزياء النظرية، ولا سيما البَصَريَّات، وأن العرب اخترعوا من الآلات الميكانيكية ما هو على جانب عظيم من الدقة، وأنهم اكتشفوا أهمَّ المركبات الكيماوية كالكحول وماء الفضة (الحامض النتري) وزيت الزاج (الحامض الكبريتي)، وأنهم أبدعوا ألزم الأعمال كأصول التقطير، وأنهم طبقوا الكيمياء على الصيدلة والصناعة، ولا سيما استخراج المعادن وصنع الفولاذ والدباغة … إلخ، وأنهم اخترعوا البارود والأسلحة النارية، وصنعوا الورق من الأسمال، وطبقوا البوصلة على الملاحة كما هو الراجح، وأدخلوا هذا الاختراع المهم إلى أوربة، وما يأتي يدل على مقدار فضلهم في الطبيعيات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤