الفصل السادس عشر

المعزُّ لدين الله

واحتاجت الدولة إلى التوطيد بعد التأسيس فقام بالقسط الأوفى من هذه المهمة ابن حفيده الملقب بالمعز لدين الله، وهو الخليفة الذي فتحت مصر وبنيت القاهرة في عهده، ونقل مقر الملك إليها بعد انقضاء أربعين سنة على وفاة جده الكبير، وقيل: إنها كانت نبوءة ممن يحسبون الأوقات في مراحل التاريخ بالأربعينات.

تولى الملك بعد المهدي ابنه «القائم بأمر الله» ثم المنصور بأمر الله، وكلاهما جدير بأمانة ميراثه وإن لم يبلغ من العظمة مبلغ المؤسس من قبله أو مبلغ الموطد من بعده، فعزز القائم الأسطول واحتل الشواطئ الإيطالية حتى ثغر جنوة؛ حماية لبلده من غارة القراصنة، ومات قبل التمكن من صدِّ الخوارج الذين أطمعهم فيه موت أبيه، ولولا اعتصامه بالمهدية لدالت الدولة كلها في عشرة أعوام. وارتقى ابنه المنصور إلى العرش فاجتاح الخوارج أمامه وأسر زعيمهم القوي ابن كنداد وشتت جموعه، ثم تردد بين صد الأمويين الذي أغاروا على مراكش في هذه الأثناء وبين صد الإفرنج الذين خيف منهم على شواطئه، فوزع قواه بين هؤلاء وهؤلاء ليقف زحفهم ولا يخلي الطريق أمام أحدهم. ومات مجهدًا في سنة (٣٤١ للهجرة)، فارتقى العرش ابنه «معد أبو تميم» المعز لدين الله الذي كان بحق صاحب دور التوطيد بعد انتهاء دور التأسيس.

•••

قلنا في كتاب «عبقرية خالد»: «إن ولاية أبي عبيدة على الشام كانت لازمة بعد ولاية خالد؛ لأن الدول تحتاج بعد دور الفتح إلى غصن الزيتون مع السيف.»

وقد كان هذا شأن المعز في المغرب بعد جده. فإنه كان يحسن المجاملة إلى جانب البأس والصرامة، وكانت نشأته نشأة علم وفروسية أو نشأة غلبة بالبرهان وغلبة بالسيف والصولجان.

كان المعز يحضر دروسه على أساتذته والحرب قائمة والمهدية محصورة، فكان يتلقى دروس الفروسية علمًا وعملًا ولما يفرغ من مراجعة الطروس والأسفار، وتعلم لغات الأمم التي تتصل بالخلافة الفاطمية جميعًا، فكان يحسن البربرية والرومية والإيطالية والنوبية، ويتوسع في علوم العربية، وكان له شعر ونثر يميل فيهما إلى المحسنات؛ لانتشارها على الألسنة والأقلام في تلك الأيام.

ويروى عن أنفته من الجهل أنه سمع من بعض خدمه كلمة صقلية لا يعرفها واعتقد أنها كلمة شتم ومهانة فحفظها، وأنف أن يسأل عن معناها ولم يبرح حتى أتقن علم تلك اللهجة فإذا بالكلمة من أرذل شتائمها، وقد أنف من جهلها فأصبح يأنف من أن يواجهه أحد بمثلها.

وبويع له بالخلافة وهو في الرابعة والعشرين، فهمَّه أول الأمر أن يستوثق من أمنع المعاقل التي يعتصم بها الخارجون على الدولة، فصعد إلى جبل أوراس وفيه من القبائل من لم يكن قد دخل في طاعة آبائه فبايعوه، وأسرع إليه المخالفون يتقربون إليه لما أنسوه من مودته وكرمه.

وأظهر ما ظهر من خصال المعز التي يتصف بها بناة الدول أنه كان حريصًا على الانتفاع بالتجارب والعبر، وأنه كان يحسن اصطناع الرجال، وأنه كان يجيد الفراسة في أحوال الأمم واغتنام الفرصة من بينها لما يترقبه ويعقد العزيمة عليه.

فلم ينس هزيمة الأسطول في الحملة على مصر، ولم يزل حتى أمن على شواطئه واستطاع بقوته البحرية أن يرد أساطيل الروم عن بلاده وعن جزر البحر الخاضعة لحكمه. ثم جدَّد حفر الآبار في الطريق إلى مصر؛ ليأمن قطع الزاد والماء عن جيشه.

ومن اصطناعه للرجال أنه كان يستخلص الخدام والأعوان ولا يغار من تعظيمهم بين يديه، بل يأمر الشعراء أن ينظموا القصائد في مدحهم ويأذن لهم أن يخاطبوهم بها في حضرته. وكذلك أمر شعراءه أن يمدحوا قائده جوهر الصقلي، وأمر العظماء والكبراء أن يترجلوا عند توديعه، ولما تم لجوهر فتح مصر وأرسل وكيله الكتامي جعفر بن فلاح لفتح الشام تخطى الوكيل جوهرًا عند تبليغ بشارة الفتح إلى المعز، فلم يبدأ بإبلاغه إلى رئيسه «المباشر» ليبلغها من جانبه إلى الخليفة، فغضب المعز على جعفر بن فلاح ورد إليه كتبه ليعيدها من طريق جوهر إليه.

ومن اصطناعه للرجال أنه كان يعفو عن الشجعان من أعدائه ويوقع في نفوسهم الأمن والطمأنينة بالتجربة بعد التجربة؛ حتى يمحضوه الطاعة خالصة بغير ريبة. ومن المشهور عنه أنه كان إذا لقى أحدًا من مخالفيه تركه ينصرف وهو يحسبه من حزبه ورأيه، ولعل هذا كان سبب الإشاعة التي تواترت بين الرهبان والقسوس بتنصره وبقائه على النصرانية، فإن الخبر الذي جاء في كتاب «الخريدة١ النفيسة في تاريخ الكنيسة»، لأحد الرهبان يقول: إنه اعتزل المُلك وترهَّب ومات فدفن في مقبرة أبي سيفين، ويقال في سر ذلك: إنه تحدى البطرق إيرام أن يزحزح الجبل فجاءه بمن زحزحه على ملأ من الأمراء والكبراء وقادة الجند ورؤساء الدواوين.
والثابت من الأخبار يغني عن هذه الإشاعات، فإن الخليفة المعز أمر قائده جوهرًا ألا يتعرض لمخالف في الدين ولا في المذهب بما يعطل شعائر دينه أو مذهبه، وأطاع جوهر مولاه، فبنى الدير الذي عرف بدير الخندق بديلًا من الدير الذي أصابه الهدم عند تمهيد الأرض لبناء القاهرة، وجاء المعز فجدد كل ما تهدم من الصوامع والبِيَع٢ وجدد كنيسة «مركوريوس» التي تسمى بكنيسة أبي سيفين؛ (لأن القديس كان يرسم على صهوة جواد وفي يديه سيفان). وقيل: إنه أمر بإقامة البناء على المجذوب الذي أثار الدهماء استنكارًا لبنائها وآلى ليبقين في حفرة الأساس حتى يقام عليه، فلم ينقذه من مصيره إلا شفاعة البطرق له عند الخليفة.

فهذا وما جبل عليه المعز من المجاملة وما تعوده من الترحيب في مجلسه بالمتناظرين في الأديان والمذاهب هو على التحقيق أصل تلك الإشاعة عن مدفنه في مقبرة الكنيسة، ولعلها إشاعة نبتت بعد عصر المعز بعدة سنين، يوم كانت هذه الإشاعة وما إليها موئل العزاء في أيام الخليفة الحاكم المخبول، لمن كان يضطدهم من المخالفين وبينهم مسيحيون ومسلمون من الشيعة والسنيين.

•••

ومن تفرسه في استطلاع أحوال الأمم واغتنام الفرص أنه عول من اللحظة الأولى على فتح مصر ونشر فيها العيون والدعاة. وجاءه من مصر وزراء يستعجلونه ويستحثونه، وتلاحقت الأنباء بسوء الحال واشتداد الغلاء وفتك الوباء، فلم يعجله ذلك كله كما أعجله ما سمعه عن تدهور الأخلاق بين ولاة الأمر. ومنه في رواية المقريزي أن صبية عرضت في مصر للبيع وطلب فيها البائع ألف دينار، «فحضر إليه في بعض الأيام امرأة شابة على حمار لتطلب الصبية فساومته فيها وابتاعتها منه بستمائة دينار، فإذا هي ابنة الإخشيد محمد بن طغج وقد بلغها خبر هذه الصبية، فلما رأتها شغفتها حبًّا فاشترتها لتستمتع بها.»

قال المقريزي: «فعاد الوكيل إلى المغرب وحدث المعز بذلك فأحضر الشيوخ وأمر الوكيل فقصَّ عليهم خبر ابنة الإخشيد مع الصبية إلى آخره، فقال المعز: يا إخواننا! انهضوا لمصر فلن يحول بينكم وبينها شيء، فإن القوم قد بلغ بهم الترف إلى ان صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها وتشتري جارية لتتمتع بها، وما هذا إلا من ضعف نفوس رجالهم وذهاب غيرتهم، فانهضوا لمسيرنا إليهم.»

وقد كان الفاطميون يحبون المواسم والمواكب ويبتدعونها ويشجعون الرعية عليها، ولكن المعز — على خلاف المعهود من سياسة أسرته — حظر الاحتفال بالنوروز بعد وصوله إلى مصر منعًا للتبذل الذي شاع فيه على آخر أيام الإخشيديين؛ وتطهيرًا للأخلاق مما أصابها في تلك الأيام وأدرك منه المعز أنه نذير بزوال ملك بني الإخشيد.

وقدم جوهر إلى مصر في سنة (٣٥٨ للهجرة)، فاشترط عليه وجُوه الأمة ورؤساؤها قبل التسليم أن يؤمنهم على عقائدهم ومألوفاتهم، فكتب لهم عهد أمانه الذي قال فيه: «ذكرتم وجوهًا التمستم ذكرها في كتاب أمانكم، فذكرتها إجابة لكم وتطمينًا لأنفسكم، فلم يكن في ذكرها معنى ولا في نشرها فائدة؛ إذ كان الإسلام سنة واحدة وشريعة متبعة، وهي إقامتكم على مذهبكم وأن تتركوا على ما كنتم عليه من أداء المفروض في العلم والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة — رضي الله عنهم — والتابعين بعدهم. ولكم عليَّ أمان الله التام العام الدائم المتصل الشامل الكامل المتجدد المتأكد على الأيام وكرور الأعوام.»

ووضع جوهر أساس القاهرة، ولم يشأ المؤرخون أن ينسوا شهرة الفاطميين برصد النجوم — وهي شهرة صحيحة — فقالوا: إنها سميت بالقاهرة؛ لأن المهندسين أقاموا على أسسها حبالًا وعلقوا في الحبال أجراسًا ليسمعها العمال عند حلول الرصد المطلوب، وإن غرابًا وقع على الحبال والمريخ في الفلك فاهتزت الحبال وأخذ العمال في وضع الحجارة، فسميت المدينة باسم القاهر الذي يطلقه المنجمون على المريخ؛ لأنه كان في معتقد الأولين إله الحروب!

•••

هذه القصة «أولًا» تروى عن بناء الإسكندرية.

وهي «ثانيًا» لا تعقل؛ لأن النجوم ترصد ليلًا والغربان لا تطير بالليل، ولو طارت ليلًا أو نهارًا لما كانت وقعة غراب على حبل كافية لدق الأجراس على جميع الأسوار، ولو كانت الأجراس تدق بهذه السهولة لدقت قبل وقوع الغراب على الحبل لأسباب كثيرة تحرك الحبال كما تحركها هزة الغراب، ولو كان تحقيق الرصد مبنيًّا على العلم لا على الرؤية لأمكن أن يبدأ التأسيس في ساعة معلومة بغير حاجة إلى الأجراس.

ثم من قال: إنه غراب وهو مجهول؟ وكيف عرفوه، والمظنون أن المهندسين هم الذين حركوا الحبال؟ ولم لا يكون طيرًا آخر أو جملة من الطير؟

وقد رويت القصة وتناقلها المؤرخون وتقبلها الكثيرون، وفي التنبيه إلى ما فيها من الإحالة٣ عبرة لمن يصدق السمعة التي تخلقها الأقاويل من هذا القبيل.

واتبع جوهر سُنَّة دولته في تخطيط المدن وتشييد العمائر، فإنهم تعودوا أن يبدأوا بتجديد المعالم والشارات؛ ليستشعر الناس ألفة العهد الجديد بالنظر والسمع شيئًا فشيئًا قبل مطالبتهم بتغيير ما توارثوه وثبتوا عليه، فشرع جوهر في بناء مسجد العاصمة الجديدة (٣٥٩ للهجرة)، وسماه الجامع الأزهر على اسم الزهراء في أرجح الأقوال، وكأنه أراد أن يستغني بالعاصمة الجديدة ومسجدها عن القطائع عاصمة الطولونيين ومسجدها المشهور بمسجد ابن طولون، وعن الفسطاط ومسجدها المشهور بالمسجد العتيق، وكلتاهما — أي القطائع والفسطاط — كانت عاصمة للقطر في أوانها، واستحدث الأمراء بعد خراب القطائع عاصمة خارج الفسطاط سموها العسكر، ثم أنشأ الفاطميون القاهرة معقلًا ومقامًا كدأبهم في تجديد المعالم والشارات على ما ألمعنا إليه.

•••

وبعد فراغ جوهر من بناء القصور التي أعدت لإقامة الخلفاء أُبْلِغ المعز فقدم إلى الإسكندرية (شعبان ٣٦٢ للهجرة)، وجلس لاستقبال رؤساء المدينة والوافدين إليها للتسليم عليه، ثم خطبهم قائلًا: إنه لم يقصد إلى مصر طمعًا في زيادة مُلك أو مال؛ وإنما قصد إليها لتأمين الأنفس وحماية طريق الحج ودرء الغارة عن ديار الإسلام، وهو كلام يقول مثله كل فاتح، ولكنه كان في برنامج المعز خطة تمليها الضرورة عليه؛ لأن تأمين الطريق إلى الحجاز كان ضمانًا لاستقرار الدولة الفاطمية ودفع الشبهات عنها؛ إذ كان القرامطة يعملون باسمها وكان أعداء الدعوة الفاطمية يشيعون عن القوم أنهم يقطعون طريق الحج عملًا بمذهب الإسماعيليين ويزعمون أن الإسماعيليين يسقطون الحج من الفرائض، فكان تأمين طريق الحجاز من قبل مصر والشام خطة تقضي بها مصلحة الحاكم والمحكوم، ولم يلبث المعز في القاهرة سنة واحدة حتى تفاقم خطب النزاع بينه وبين القرامطة، وأعلن البراءة منهم وأعلنوا الخروج عليه، وزحفت جموعهم إلى مصر ومعها قبائل البادية التي تطلب الغنيمة وتخشى من عواقب تأمين الطريق، فاستعد لهم المعز بعدة الحيلة حقنًا للدماء، وأرسل إلى زعيم القبائل البدوية حسان بن الدراج الطائي من يطمعه بالمال إذا تراجع وتنحى عن أصحابه، ووعده بمائة ألف دينار، فقبل الصفقة، وخرج المعز للقتال على اتفاق بينه وبين ابن الجراح أن ينهزم هذا بجموعه عند التقاء الصفوف، وقد فعل وحمل معه أكياس الدنانير، ولكنها لم تحو من الدنانير الصحاح غير مئات تبدو على وجه الأكياس ومن تحتها قطع النحاس المذهبة يخفيها الزعيم المخدوع جميعًا عن شركائه، ودارت الدائرة على القرامطة في ذلك اليوم فقنعوا من الغنيمة بالإياب، ودبت المخاوف والشكوك بينهم وبين أصحابهم فلم يرجعوا بعدها إلى غاراتهم على مصر.

ولم ينته عهد التوطيد بانتهاء عهد المعز (في سنة ٣٦٥ للهجرة)، فإن ابنه العزيز الذي تولى الملك بعده كان من كفاة الملوك، وكانت طاعته غالبة على المغرب ومصر وجزيرة العرب، لا تخرج عليه خارجة فيها إلا عجل بقمعها وأعاد الأمور في أرجاء الدولة إلى نصابها، ولكنه مات (سنة ٣٨٦). وقد بدأت في أيامه دسائس القصور وسياسة الحريم، وتناثرت هنا وهناك بذور الانحلال التي اختفت إلى حين في إبان نضرة الدولة وزهوها، ثم برزت وتفرعت مع إدبار الأمور وتعاقب الضعفاء من الأمراء.

الحاكم بأمر الله

قام بعد العزيز على سرير مصر أسطورة في شخص إنسان، لو لم يكن تاريخه خبرًا يقينًا لشك فيه المؤرخون أو جزموا بإنكاره؛ إذ كان مجموعة من النقائض والغرائب يكذب بعضها بعضًا ولا يتصور العقل لأول وهلة أنها تصدر من إنسان واحد.

ذلك هو الحاكم بأمر الله.

كان يعمر ويخرب، وكان يلين ويقسو، وكان ينهي عن المراسم ثم يفرض منها ما يشبه العبادة، وكان يجيز شعائر أهل السنة وأهل الذمة ثم يمنعها ويبطش بمن يعلنها. وكان يحرِّم المباح ويبيح الكفر البواح، وكان يبدل الليل بالنهار والنهار بالليل، فمن فتح دكانًا بالنهار جلده ومن أغلق دكانًا بالليل رماه بالعصيان، وكان يعتق العبيد والإماء ويفرق عليهم الهبات والأرزاق ثم يستعبد الأحرار ويدينهم بما يأنف منه الأرقَّاء، كان يخرج إلى غيران الجبل في الظلام ويختبئ في حجرات قصره منذ مشرق الشمس إلى المغيب، وكان يدعي علم الغيب ويعاقب من يحرس ماله ومتاعه كأنه يشك فيه، ثم يحاسب على الصغائر التي يغفرها المتنطسون.

قال ابن خلدون: «إن حاله كان مضطربًا في الجور والعدل، والإخافة والأمن، والنسك والبدعة». وقال ابن خلكان: «إنه كان جوادًا سمحًا، خبيثًا ماكرًا، رديء الاعتقاد، سفاكًا للدماء، قتل عددًا من كبراء دولته صبرًا، وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورًا وأحكامًا يحمل الرعية عليها.»

ولم يذكر عن ملك في أحوال العقيدة ما ذكر عن هذا الحاكم بأمر الله، وبأمره، وبأمر المأمورين والأمراء.

فمن مؤرخي القبط من يقول: إنه مات على النصرانية، ومنهم من يقول: إنه كان يعبد المريخ ويتوهم أنه يراه ويتحدث إليه، ومن مؤرخي السنة من يقول: إنه ادعى الربوبية، ومن أتباعه اليوم من ينفي الموت عنه ويزعم أنه صعد إلى السماء ليعود إلى الأرض في آخر الزمان، وأطبقت النقائض على تاريخ حياته بتاريخ وفاته، فلم يعلم أحد متى مات وكيف مات.

وفي رأينا بعد هذا أن سيرة الحاكم هي أعجب السير وأوضح السير في وقت واحد.

هي أعجبها في موازين النصوص والأوراق، وهي أقلها عجبًا في ميزان علم النفس الذي لم ينفصل عن التاريخ قط في الكلام عن دولة كما انفصل عنه في الكلام على ملوك هذه الدولة.

واضح من تطبيق علم النفس على أعراض هذا الرجل أنها حالة من حالات الهوس بالأسرار أو الحالات التي تعرف بهوس الغموض Mystic Hallucinosis.

وأصحاب هذه الحالة مستغمضون مولعون بالأسرار، يفرطون في التفاؤل والتشاؤم لإيمانهم بالرموز، واعتقادهم أن الغيب يتحدث إليهم عن مكنوناته بتلميحات من الحوادث والمعاني المزدوجة التي تحمل في أطوائها ما ينم عليه ظاهرها للعارفين، وإذا غلا الظن بأصحاب هذه الحالة كانت من الحالات التي تختلط بمرض الاضطهاد، فيقع في روع المريض أن الناس يضمرون له الشر، ويتعقبهم بالتجسس والاستطلاع، وينتقم منهم للوهم العارض والشبهة الكاذبة؛ لأنه يصدق كل خبر عنهم غير الخبر الصراح.

ويسكن المتهوسون بالأسرار إلى مناظر الظلام، ويستهويهم الليل بخفاياه، وتروقهم الوحدة في الخلوات.

وليس المصاب بهذه الحالة مجنونًا ذاهل الحس عما حوله في جميع الأوقات؛ بل هي نوبات تعتريه ولا تمنعه أن يبدع إبداع العباقرة والموهوبين في بعض الفنون.

أما علة هذا المرض فأنصار فرويد يرجعون بها كعادتهم إلى صدمات الطفولة وأزماتها التي ترتبط بالجنس على الخصوص، فتكمن في الوعي الباطن وتتمكن منه على غير علم من ضحيتها، حتى تنفجر دفعة واحدة أو رويدًا رويدًا في مقتبل الشباب.

وغير «الفرويديين» يعللونها باضطراب الحواس ولا سيما حاسة السمع وحاسة البصر، فيتوهم المريض أنه يرى ويسمع ما ليس يراه الأصحاء ولا يسمعونه، ويحدث أحيانًا أن ينظر إلى الشيء الماثل فلا يراه، ويصغي إلى الصوت البين فلا يسمعه، وقد يتفقون مع جماعة فرويد في الرجوع بالعلة إلى صدمات الطفولة وأزماتها دون أن يربطوها بالمسائل الجنسية.

هذه الأعراض كلها ظاهرة فيما روي عن الحاكم من شتى المصادر، ولم يكن الحاكم بمعزل عن البيئة التي تندس فيها الآفات إلى نفس الطفل الناشئ؛ فقد نشأ الحاكم كما أسلفنا في عهد دسائس القصور وسياسة الحريم، وتركه أبوه وهو في الحادية عشرة من عمره، وأقام على وصايته ثلاثة متنافسين هم المملوك برجوان والقاضي محمد بن النعمان والحسن بن عمار زعيم قبائل البربر من كتامة، وأول هؤلاء برجوان كان غارقًا في دسائس القصور وسياسة الحريم.

وقد أحاطت هذه الدسائس بالحاكم وهو في سن الخطر؛ لأنه لم يكن من الطفولة بحيث يجهل ما حوله، ولم يكن من الفتوة بحيث يدرك ما يحاط به ويملك الوسائل إلى استطلاعه. كان في الحادية عشرة، وكانت كل خفية من خفايا الدسائس تغريه بالتطلع وتوسوس له بالريبة والتساؤل. فإذا كان مع هذا قد نشأ في بيئة التنجيم وكبر وهو يصغي إلى أحاديث الباطن والظاهر وأسرار الغيوب التي تنكشف للواصلين من الأئمة، فلا عجب في ابتلائه بتلك الآفة، آفة الهوس بالأسرار أو الولع بوساوس الغموض، ثم يجهز على البقية الباقية من عقله أولئك الوزراء والعشراء الذين يتلمسون مواطن الضعف في نفوس الأمراء الناشئين فيمعنون في استغلالها ويبالغون في تحسينها وتزيينها، كما فعل الدرزي والأخرم من حاشية الحاكم المقربين؛ إذ قيل: إنهم وسوسوا له بمذهب الحلول وخاطبوه مخاطبة الأرباب، وأطبقت آفة الاطلاع المضلل على آفة الاستطلاع المكبوت.

ولم يكن الحاكم من المسرفين في الشهوات فتختل أعصابه من قبل الإسراف، ولم يكن يعاقر الخمر أو يستطيبها بل كان يحرمها وينهى عنها، ولم يشرب النبيذ إلا بإلحاح طبيبه الذي خطر له أن يعالجه بإدخال السرور إلى نفسه في مجالس الغناء مع يسير من الشراب، وإنما «عرض له — كما قال الطبيب يحيى الأنطاكي في تاريخه — تشنج من سوء مزاج يابس في دماغه، وهو مزاج المرضى الذي يحدث في المالنخوليات، واحتاج في مداواته منه إلى جلوسه في دهن البنفسج وترطيبه به، وإن كثرة سهره أيضًا وشغفه بمواصلة الركوب والهيمان الدائم مما يقتضيه هذا السوء المتقدم ذكره، وإن أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن أنسطاس لما خدمه استماله إلى أن تسامح في شرب النبيذ وسماع الأغاني بعد هجره لها ومنع الكافة منها، فانصلحت أخلاقه وترطب مزاج دماغه واستقام أمر جسمه، ولما مات أبو يعقوب وعاد إلى الامتناع عن شرب النبيذ ومن سماع الغناء رجع إلى ما كان عليه.»

تلك هي خلائق الحاكم كما يصورها علم النفس، ولا يصور لنا فيها شيئًا من تلك الأعاجيب التي يستغربها مؤرخو النصوص والأوراق؛ فإن طفلًا يصاب بالتشنج وتحيط به في سن المراهقة دسائس القصور التي تحيط بالملوك الصغار، وينشأ وهو يسمع الأحاديث عن التنجيم وأسرار البواطن والغيوب، ثم يبتلى من حوله بالمتزلفين والمنقبين عن مواطن الضعف في نفسه الحائرة — غير بِدْعٍ أن يصاب بهوس الأسرار، وأن تصدر منه تلك النقائص التي ينساق فيها على الرغم منه، أو التي ينساق فيها مختارًا؛ لأنه يتوهم أنه يروض نفسه بالتقشف والتهجد،٤ وحمل الناس عليها، والتقرب إلى الله بعقاب من ينحرف عنها، فتنكشف له الحجب التي لا تزال مسدلة دونه، ويتهم نفسه كلما خفيت عليه مساتيرها بنقص في الرياضة وقصور في العبادة، فلا يزال دهره بين خشوع العابد ومحاولة اليائس، وقلق الحائر وإيمان المستريح إلى الظنون، ودعوى المصدق لما يلقى عليه مما يستريح إليه.
وسواء صح أن نكبة الحاكم كانت إحدى جرائر «الحريم» ودسائس القصور، أو كانت نكبته جريرة المرض وحده؛ فقد صدقت فراسة المعز في عاقبة التكثر من الزوجات والجواري، وأخذت سياسة القصور تتشعب وتستشري٥ حتى تناولت كل شيء في الدولة والمجتمع، وكانت جرائرها آخر الأمر شرًّا قائمًا بذاته وشرًّا محسوبًا عليه سائر الشرور؛ لأنه كان حائلًا دون اتقائها ومنعها، كما كان حائلًا دون معالجتها بعد وقوعها.
فمن جراء دسائس القصور تعددت قوى الجيش وشجرت٦ بينها نوازع الشقاق تبعًا لاختلاف الأحزاب في كل حريم، فكان للدولة قوة من الترك وقوة من السودان إلى جانب القوة التي كانت لها من البربر والعرب، وأصبح حراس الأمن أول المزعجين للآمنين ولأنفسهم وللقادة والحكام.

ولم يمض غير جيل واحد على قيام الدولة في مصر حتى ابتليت بسياسة «البيروقراطية» أو تحكم الدواوين، فوق ما ابتليت به من سياسة الحريم.

وسبب هذه الآفة ولاية بعض الخلفاء في سن الطفولة وولاية خلفاء آخرين كالأطفال وإن بلغوا مبلغ الرجال؛ فقد ركنوا إلى ترف القصور وقنعوا من الوزراء بجلب المال إليهم كلما طلبوه، فقبض الجباة ورؤساء الدواوين والوزراء على أزِمَّة الثروة وعلى أزِمَّة السياسة، وطمعوا لأنفسهم ولسادتهم فاستباحوا المصادرة وجمع الإتاوات من الرشوة والإرهاب؛ عدا ما يجمعون من الضرائب في غير موعد.

والمصائب لا تأتي فرادى كما يقال؛ فإن المجاعة من الداخل وهجوم الصليبيين وغير الصليبيين من الخارج قد أصاب الدولة بعجز فوق عجز حتى تعذر عليها التماسك والدفاع، فحَقَّ عليها القول.

وقد سمي عصر الخليفة «المستنصر» بالعصر الذهبي في الدولة الفاطمية مع ما كان يتخلله من القحط والمجاعة والوباء، وما سمي عصره بهذا الاسم لأنه صنع فيه شيئًا خلال ستين سنة قضاها على العرش منذ جلس عليه وهو في السابعة (سنة ٤٢٧ هجرية) إلى أن مات وهو يدلف٧ إلى السبعين، ولكنه كان عصرًا كموسم الحصاد الذي تبرز فيه الثمرات والأشواك، وتنضج فيه السنابل وما يحملها من الهشيم الذي ستذروه الرياح عما قريب أو تطعمه النار ذات الوقود.

فلما مات تعاقب بعده على الخلافة من لا يحسب من البناة ولا من الهادمين، وإنما هو مهدوم تتداعى تحته قواعد الملك، وقد يفارقها وهو قتيل.

وكان بنو أيوب قد أخذوا بزمام السلطان في مصر قبيل انتهاء الدولة الفاطمية، فلما استقر الرأي في أيام صلاح الدين على الدعاء للخليفة العباسي بدلًا من الخليفة الفاطمي الملقب بالعاضد، تجاوبت المنابر بالدعاء الجديد، ولم يعلم به الخليفة الذي تحول عنه الدعاء؛ لأنه كان يجود بنفسه في مرض الوفاة، فكانت سنة سبع وستين وخمسمائة للهجرة هي خاتمة الأجلين: أجل الخليفة الذي عمَّر إحدى وعشرين سنة، وأجل الدولة التي عمرت بين المغرب ومصر مائتي سنة وسبعين.

وقد عزل أمراء الدولة بعد موت عميدها منفردين لينقرضوا بغير عقب، وقال المقريزي عن صلاح الدين والخليفة الأخير: «وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من الأموال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان. ومنع العاضد من التصرف حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة. فلم يبق للعاضد سوى إقامة ذكره في الخطبة. هذا وصلاح الدين يوالي الطلب منه كل يوم ليضعفه، فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك حتى لم يبق عند العاضد غير فرس واحد فطلبه منه وألجأه إلى إرساله، وأبطل ركوبه من ذلك الوقت وصار لا يخرج من القصر.»

هذه قسوة لم يحسبها التاريخ على صلاح الدين؛ لأنها من قسوة الزمن وجناية الأسلاف على الأخلاف، أو هو قد حسبها في حساب الموازنة بين المناقب والمعائب، وبين حكم المروءة وحكم السياسة المشنوءة٨ وبين القضاء الذي يجريه صاحبه، والقضاء الذي يجري على قاضيه فيجزيه وكأنه يعاقبه، فرجحت كفة الإقبال وهو دائم الرجحان، ودالت دولة الزوال فشالت٩ كفتها في ميزان الزمان.
١  الخريدة: المرأة الحيية الطويلة السكوت. والعذراء.
٢  البيع: جمع بيعة بكسر الباء. كنيسة المسيحيين.
٣  الإحالة: أحال الرجل: أتى بالمحال وتكلم به.
٤  التهجد: القيام في الليل للصلاة.
٥  تستشري: تشتد.
٦  شجرت: تشابكت.
٧  يدلف: دلف الشيخ: مشى وقارب الخطو.
٨  المشنوءة: المكروهة.
٩  فشالت كفتها: شال الميزان: ارتفعت إحدى كفتيه على الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤