الحكاية الأولى

بمَ يعيش الناس؟

كان سيمون صانع أحذية لا يملك من الأرض قيد شبر، وكان يقطن كوخًا لأحد الفلاحين ويعيش من كسب يده، لقد كان العمل إذ ذاك كاسدًا وحركته خامدة، وزاد الطينَ بلةً أنَّ سُبُل العيش كانت مجهِدة، ونار الغلاء متأججة في كل حاجيات الحياة؛ لذلك كان كل ما يقبضه سيمون ثمنًا لعرق جبينه ينفقه في سبيل الحصول على قوت يتبلغان به هو وزوجه.

لم يكن لذلك الشيخ وزوجه إلا غطاء جلدي يتقاسمانه سويًّا؛ ليدفع عنهما قرَّ الشتاء، ولقد استنهرت فتوق ذلك الغطاء فكان هذا هو العام الثاني الذي احتاجا فيه إلى شراء غطاء آخر، لذلك خرج سيمون متوكئًا على عصاه موليًا وجهه شطر القرية؛ حيث يمكنه أن يجمع من بعض القرويين ما هم مدينون به من النقود، فوفى له بعضهم، وأمهله البعض، ونقده أحدهم عشرين كوبكًا،١ فلم يكن ذلك المبلغ كافيًا لشراء الغطاء، ولكنه كاف لأن يدفعه سيمون ثمنًا لبعض كئوس من الفوتكا،٢ بعدئذ قفل راجعًا إلى منزله كسير القلب، وأخذ يهذي في طريقه؛ تارة عن غضب زوجه وسخطها عليه، وآونة يخاطب القروي الذي أعطاه عشرين (كوبكًا) قائلًا: «قف قليلًا! وانقدني كل ما أنت مدين به. إنك أعطيتني عشرين (كوبكًا) فقط وادعيت الفاقة، ولكن ماذا يهمني؟ وماذا عساي أن أفعل بهذا المبلغ؟! إنك تملك دورًا وماشية، وأما أنا فلا أملك إلا ما أسدُّ به الرمق، إنك تملك الحقول الغنية بالحب والثمر، وأما أنا فأشتري كل حبة من قوت يومي، إنك تستزيد من كل شيء وأما أنا فأحتاج إلى أقل شيء؛ فأنت مترف ذو نعمة، وأنا شقي ذو متربة، إذن يجب أن تدفع، هلمَّ لا تتردد.»

وما وصل من هذيانه إلى هذا الحد حتى كان قد انتهى إلى معبد مُقام عند منعطف الطريق، فنظر وإذا به يرى شبحًا أبيضَ يلوح وراء المعبد، فلم يتبينه تمامًا؛ لأن طلائع الليل أخذت تطرد جيوش النهار من تلك البطاح والوديان ثم أخذ يسائل نفسه: «ما عسى أن يكون هذا الشبح؟ إنه حجر أبيض، ولكني لم أشاهد هنا حجرًا قبل الآن، ألا يكون نورا إذًا؟ ولكن لا، فإن رأسه تماثل رأس الإنسان إلا أنها ناصعة البياض، وما عسى أن يفعل الإنسان هناك؟» ثم اقترب من الشبح قليلًا قليلًا حتى تجلت أمامه حقيقته، وزال ما خامر فؤاده من الريب.

ماذا رأى؟ رأى رجلًا عاري الجسد جالسًا بانحناء وراء المعبد لا حراك به، فتوجس سيمون من نفسه خيفة، وهاله ذلك المنظر، وظن أن أحد القرويين ظفر به فقتله ثم تركه في تلك البقعة، فأوسع خطاه، وسار من أمام المعبد حتى لا يمر بالشبح، ثم حانت منه التفاتة إلى الوراء فرأى الرجل يتبعه بنظراته فدب في قلبه دبيبٌ من الرعب والإشفاق، وأخذ يفكر فيما إذا كان يرجع إليه ليستقصي خبره ويستفسر عن حاله، أو يستمر في طريقه، فآثر الأخرى، وظن أنه إن دنا منه فهو ليس بناجٍ من شروره، وأيضًا فهو غير قادر على إغاثة رجل عاري الجسد!

ما خطا سيمون بضع خطوات حتى شعر بتقريع الضمير، وأخذ يسائل نفسه: «ماذا أنت فاعل يا سيمون؟! أتهرب من إغاثة ملهوف ربما كان على شفا الموت؟! أتعدو خوفًا من أن تساعد نفسًا ربما كانت تلفظ آخر أنفاسها؟! إنه من العار أن يقال عن سيمون إنه مر في طريقه ببائس فلم ينجده، وملهوف فلم يغثه.» ثم قفل راجعًا نحو ذلك الغريب المسكين واقترب منه فلم ينتبه إليه كأنما بلغ به الضعف إلى درجة لم يمْكنه معها أن يرفع جفنيه أو يدير عينيه، وتأمله فرآه فتى في مقتبل العمر صحيح الجسم لا تشوبه الكلوم ولا تشوهه القروح، ثم اقترب منه ثانية فتحرك الغريب وأدار رأسه الأبيض وفتح عينيه الفاترتين وألقى نظرة على وجه سيمون فكانت كافية لأن تبعث في قلبه الرحمة على ذلك الغريب، وتملأ فؤاده رفقًا وحنانًا على هذا البائس المسكين.

ثم ألبسه بعض ثيابه وأمره بالحركة حتى يتمشى الدم بين أعضائه، وبدأ في المسير فأخذ سيمون يسأله: «من أين أنت؟ وما الذي حدا بك إلى هذا المكان؟ أطرقتك بوائق الأحداث، أم هل وصلت إليك أيدي المسيئين حتى دفنت حيًّا بين طبقات الجليد المتجمدة؟» فأجابه قائلًا: «إني غريب عن هذه الديار، ولم يسئ إليَّ أحد ما، ولكنه عقاب الله حق علي.» فأجاب سيمون: «يجب أيها الصديق أن تقابل ذلك بالرضاء والتسليم؛ فالله رب الكل، بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير، والآن أي جهة تقصد؟»

– «كل الجهات عندي سواء.»

فبدرت على سيمون علامات الاندهاش؛ لأن الرجل لم تكن هيئته تشفُّ عن خبث، ولم يدل مظهره على أنه من السفلة. واستمر سيمون في حديثه قائلًا: «هلم معي إذًا إلى المنزل؛ ريثما تدفئ نفسك قليلًا.» ثم سارا سويًّا وأخذ سيمون يهينم قائلًا: «إني ذهبت لشراء الغطاء فعدت إلى منزلي بدونه؛ وزيادة على ذلك أحضرت معي رجلًا عاري الجسد؛ إن ماتروينا٣ ليغلي مرجل حقدها عندما تعلم ذلك.» وكان كلما عاودته ذكرى زوجته يطرق برأسه عابسًا، ولكنه كلما تذكر حالة ذلك المسكين ونظراته المؤلمة عاودته بشاشته، وطفح ثغره فرحًا وسرورًا.

أما (ماتروينا) فقد أنهت كل واجباتها المنزلية في ذلك الصباح، وجلست تفكر في زوجها، وما عسى أن يكون قد فعل، وإذا بها ترى رجلين مقبلين: أحدهما سيمون، والآخر غريب لم تعرفه، فدار بخلدها لأول وهلة أن زوجها احتسى بعض كئوس من الخمر، وما الآخر إلا من أعوانه السكِّيرين، ثم بدأت تصخب، ولكنها انتظرت ريثما ترى ماذا يصنعان. دخل سيمون منكس الرأس خجلًا، ثم تبعه صديقه الذي ظل واقفًا صامتًا لا يبدي حراكًا، فلم تتردد ماتروينا في أنه من السفلة الأشرار، أما سيمون فقد خلع قبعته واستوى جالسًا على أحد المقاعد كأن المياه ما زالت جارية في مجاريها ولم يحدث شيء يثير غضب زوجه، ثم دعا صديقه ليجلس بقربه ففعل، ثم خاطبها قائلًا: «الآن يا ماتروينا قدمي لنا ما عندك من العشاء.» فنظرت إليه شررًا، وازداد حنقها وأجابته: «إني أعددت كل شيء، ولكن ليس للسكارى الذين تلعب برءوسهم الخمر فتخرجهم عن المألوف.»

– «ماتروينا! لا تكثري من تهدجك، وضعي حدًّا لثرثرتك، يجب أن تعرفي أولًا من هو هذا الرجل.»

فأجابته: «إني لا أشك في أنه من أبناء الشريرين.» فقال: «كلا، فأنت مخطئة.» فقاطعته قائلة: «وأين النقود؟» فصمت سيمون فكان ذلك برهانًا زاد اعتقادها فيهما، وداعيًا قويًّا حرك فيها عوامل السخط، فأخذت تقدح من عينيها شررًا، وتلفظ مِن فيها كلماتٍ كلها مقت وغضب، وحاولت الخروج، إلا أنها كانت تود أن تقف على حقيقة أمر الغريب، فخففت من حدتها قليلًا وانتظرت … ثم ابتدرته قائلة: «إذا لم يكن هذا الرجل كما أعتقد، فمن يكون؟!»

– «هذا ما أردت أن أوقفك على حقيقته من بادئ الأمر، فاعلمي أنني عندما وصلت إلى المعبد في رجوعي من القرية رأيت هذا الرجل جالسًا بين طبقات الجليد المتجمدة؛ لا ثوب يكسيه، ولا دثار يدفع عنه غائلة البرد، فأشفقت عليه ودثرته كما ترين ثم آويته إلى هنا، ولو لم يرسلني الله في تلك الآونة لكان قضى نحبه لوقته؛ فخففي من وطأة حدتك، واعلمي أنها خطيئة كبرى يا ماتروينا، وتذكري أننا سنموت جميعًا يومًا من الأيام.»

فتمتمت ماتروينا ببعض كلمات يُشتَمُّ منها رائحة الغضب، وألقت نظرة على الغريب، وظلت صامتة.

– «ماتروينا! ألا توجد في قلبكِ عاطفة المحبة — محبة الله؟!»

وما سمعتْ هذه الكلمات من زوجها حتى نظرت إلى ذلك الضيف الغريب ثانية فشعرت بعاطفة الرحمة نحوه، وقامت لوقتها وأحضرت البقية الباقية مما عندها من الطعام، وقدمته لذلك المسكين الذي دفع ثمنه نظرة فاترة وابتسامة لطيفة عبرت عما في نفسه من الشكر والثناء، وبعد الانتهاء من أكله أخذت ماتروينا تعيد إلى مسامعه نفس الأسئلة التي سأله إياها زوجها من قبل، فأجابها بمثل ما أجاب زوجها، وختم إجابته بقوله: «إن زوجك دثرني وآواني، وأنت أسقيتني وأطعمتني، فالله يؤتيكما خيرًا.» ثم باتا وأصبحا فسأله سيمون: «ما الذي يمكنك أن تباشره من الأعمال؟» فأجابه: «ليس بيدي صنعة ما.» فاستمرَّ سيمون في كلامه: «إن من يريد أن يعمل فليس من الصعب عليه ذلك.» فأجابه: «سأتعلم.» فبدأ سيمون يعلمه كل يوم درسًا من صناعته، وكان ميكائيل٤ سريع البديهة، فما مر ثلاثة أيام إلا وكان يباشر العمل كأنه به منذ سنين عديدة، وبعد الانتهاء من شغله كان يجلس وعيناه للسماء لا يتكلم إلا عند الحاجة، ولا يميل قط إلى المجون والمزاح، قليل الابتسام، فلم يروه يبتسم إلا مرة واحدة، عندما قدمت إليه ماتروينا العشاء في أول ليلة من ليالي حياته الجديدة!

كرت الأيام ومرت الأعوام وميكائيل يثابر على العمل مواصلًا ليله بنهاره، حتى ذاع صيته وعلت شهرته بين القرى والربوع المجاورة، وفي ذات يوم بينما هم جالسون في كوخهم وإذا بعربة يجرها ثلاثة من الصافنات الجياد تنهب الأرض نهبًا وتتقدم نحو كوخهم الحقير، وما هي إلا بضع ثوانٍ حتى رأوا العربة قد وقفت أمام الكوخ، وقفز منها سيد تلوح عليه أمارات الشرف، ومخايل النبل، ضخم الجسم، أحمر الوجه، طويل القامة، فقام سيمون لوقته وفتح باب كوخه على سعته، ثم وقف محييًا ذلك الزائر العظيم منحنيًا أمامه بكل تؤدة واحترام.

فقال السيد بكبْر: «من رئيس العمل في هذا الكوخ؟» فأجابه سيمون: «أنا يا صاحب العظمة.» ثم أمر الشريف خادمه أن يحضر الجلد، فأتى به ووضعه على خوان في وسط الكوخ، وبعدئذ وجه السيد كلامه إلى سيمون قائلًا: «ألا ترى هذا الجلد؟» فأجاب: «نعم يا صاحب الشرف، إنه في غاية الجودة.» فقال الشريف بحدة: «يا لك من أبله أحمق! أوتشك في ذلك؟! إنه ذو قيمة عالية وأريد أن تصنع لي منه حذاءً على شرط أن يمكث حولًا كاملًا حافظًا لرونقه وشكله، أتقدر؟» فاضطرب سيمون قائلًا: «نعم يمكنني يا صاحب النبل.» فصاح في وجهه ذلك السيد: «يمكنك؟ تدبر! يجب أن تعلم لمن ستصنع الحذاء؛ فإن لم يكن كما أمرت فسأودعك غيابة السجن!» فانتفض سيمون فرقًا وخوفًا وتلعثم لسانه وهمس إلى ميكائيل يطلب مساعدته في ذلك المأزق فأومأ إليه برأسه علامة للرضاء؛ فقبل سيمون العمل، ثم همَّ الشريف بالانصراف فودعه سيمون بمثل ما قابله به من التجلة والاحترام، ومما يجدر بالذكر ما لاحظه سيمون أثناء وجود الشريف بالكوخ من أن وجه ميكائيل كان يتهلل بشرًا وعينيه تتطلعان إلى ما وراء السيد، شاخصتين كأن أمامه شبحًا أو طيف خيال، فكان ذلك موضع دهشة سيمون وعجب ماتروينا!

ثم قال سيمون لصديقه: «هيا ابدأ في العمل أيها الصديق، وحذارِ من الوقوع في الخطأ فإن السيد كما رأيت سريع الغضب.» فبدأ ميكائيل في صنع الحذاء، ولكنه أدهش بعمله ماتروينا؛ إذ رأته يهيئ الجلد ويخيطه لا على شكل باقي الأحذية، ولكنه على شكل خفاف رقيقة، فأسرت ذلك لزوجها الذي ما كاد يراه حتى استولى عليه الذهول وابتدره قائلًا: «ماذا تصنع أيها الرفيق؟! أنت يا من مكثت معي حولًا كاملًا بدون أن تزل أو تخطئ، أتقترف في دقيقة واحدة أعظم الأغلاط؟!» وأراد أن يستمر في تأنيبه، وإذا به يسمع وقع حوافر جواد، فصمت ورأى القادم فإذا هو خادم السيد يقول: «عموا صباحًا أيها الرفاق، إني أتيت لأجل الحذاء.» فدهش سيمون واستمر الخادم في حديثه: «نعم الحذاء! فإن سيدي ما كاد يفارقكم حتى فارقته الحياة وأخرجناه من العربة جثة هامدة، والآن فقد جئت لأعلمكم أن تصنعوا هذا الجلد خفافًا للسيدة.» فبهت سيمون، ثم تهلل وجهه، وأقبل على ميكائيل يقبله فرحًا مسرورًا، ثم أعطياه الخفاف فانصرف.

مر العام إثر العام وميكائيل عائش الآن في السنة السادسة من حياته الجديدة لا ينطق إلا عند الضرورة، ولم تعلُ الابتسامة شفتيه إلا مرتين في خلال هذه المدة الطويلة، وفي ذات يوم بينما هم قعود يشتغلون، كلٌّ في عمله، وإذا بأحد أولاد سيمون صرخ مخاطبًا ميكائيل: «عماه! هيا انظر فإن امرأة معها طفلتان مقبلة نحونا.» فنظر ميكائيل من إحدى شرفات الكوخ فرأى سيدة معتدلة القوام حسنة الهندام يرافقها طفلتان — تتقدم نحو الكوخ.

دخلت السيدة فقام سيمون مستقبلًا إياها ومرحِّبًا بها، ثم سألها الجلوس ففعلت، وقال لها: «إن السرور ليشملني إذا أمكنني القيام بما تأمرينني به.» فأمرت بعمل حذاءين للطفلتين، فأجابها سيمون إلى طلبها، وفي تلك الآونة نظر سيمون إلى ميكائيل فرأى عينيه محدقتين بالطفلتين لا يحول عنهما نظره كأنه يعرفهما من قبل؛ فدهش، ولكنه لزم الصمت.

ثم ابتدأت ماتروينا تسأل تلك السيدة قائلة: «يظهر أن ابنتيك توأمتان.» فأجابتها: «أجل إنهما لكذلك، ولكنهما ليستا طفلتيَّ، ولا يربطني بهما رباط صلة أو قرابة.» فتعجبت ماتروينا وقالت: «عجبًا! إنهما ليستا طفلتيك، ثم مع ذلك تشفقين عليهما هذه الشفقة وتظللينهما بأجنحة عطفك وحنانك؟!» فقالت السيدة: «وكيف لا أشفق عليهما وقد أرضعتهما من ثدييَّ؟!» ثم استمرت المرأة في الحديث وأخذت تسرد مجمل حكاية هاتين الطفلتين فقالت: «لقد اختطفت يد المنون روح والديهما منذ ست سنين في أسبوع واحد، فأودع الأب رمسه يوم الثلاثاء، وعلى أثره بثلاثة أيام فاضت روح تلك الأم وانتقلت إلى دار الخلود، أما هاتان الطفلتان فقد ولدتا يوم الخميس الموافق لليوم الثالث من موت والدهما، ولليوم الأول من أيام الأسبوع الذي تركتهما فيه أمهما وديعة عند رب العالمين، مسكينة أمهما! فقد كانت فقيرة وحيدة ليس لها في الحياة من يأخذ بناصرها، ويقاسمها عزلتها وشقاءها، ومن ذلك اليوم — يوم الخميس — أصبحت هاتان الطفلتان اليتيمتان غريبتين عن العالم أجمع لا تربطهما بأهله أواصر الصلة أو القرابة.

لقد كنتُ أنا وزوجي مقيمين في ذلك الحين في القرية، وكانت تربطنا بوالديِ الطفلتين رابطة الجِوار، وقد ذهبْت لأزور تلك المسكينة في صباح أحد الأيام، فما كدت أخطو بضع خطوات حتى وجمت ذعرًا وهالني ما رأيت، نعم إنها لساعة رهيبة مخيفة! رأيت الأم ملقاة على الأرض، فدنوت منها، فإذا هي جثة هامدة تعلو وجهها صفرة الموت، وحولها طفلتان في المهد تصيحان وتعولان كأنهما علمتا برزئهما، فأخذتا تناديان أمهما النداء الأخير، وتسمعانها صوت بكائهما قبل فراقها الأبدي … وهكذا في ساعة وَلَدَتْهما، وفي ساعة فَقَدَاها.

بعد ذلك انتشر الخبر فتقاطر القرويون إلى ذلك الكوخ المشئوم، وعنوا بجثة الفقيدة ووضعوها في الكفن، ثم واروها في التراب؛ وعيونهم دامعة، وقلوبهم يدميها الحزن والأسى — إنهم لقوم محسنون.

لم يكن للطفلتين نصير كما ذكرتُ، فتكفلت بهما وتعهدت بتربيتهما، ولم يكن لي في الحياة سوى طفل صغير اعتبطه الموت، فكم كنت أشعر بالوحدة لو لم يكن هاتان الطفلتان بجانبي! وكم يزداد حبي لهما! فهما زهرة حياتي ونضرتها.»

وبعد أن انتهت من حديثها ضمت إليها بيمينها إحدى الطفلتين ومسحت بيسارها عبراتها المنسجمة، فتنهدت ماتروينا وقالت: «حقًّا؛ لقد صدق المثل القائل: «إن الإنسان يمكنه أن يعيش بلا أب أو أم، ولكنه لا يمكنه ذلك بدون رحمة الله».»

ثم ساد السكوت، وانبثق نور وضَّاء من الركن الذي كان فيه ميكائيل، وأنار كأنه ضوء الشمس القوي في الصيف، فنظروا إليه فإذا هو جالس، ويداه على منكبيه، وعيناه تتطلعان إلى السماء، ووجهه يتلألأ، وثغره يبتسم.

ما ذهبت المرأة بطفلتيها حتى قام ميكائيل وانحنى أمام سيمون وقال: «الوداع! الوداع! لقد غفر لي ربي، ولم يبقَ إلا أن أسألك عفوك إن كنت هفوت أو أذنبت.» ثم تلألأت غرته وعلا وجهه غطاء نوري فانحنى أمامه سيمون قائلًا: «عفوًا يا ميكائيل، فإنك لست بشرًا سويًّا، وأنا ليس في قدرتي أن أرغمك على القيام عندي، أو أتجاسر أن أسألك أكثر مما أريد أن تجيبني عنه الآن، إنك ابتسمت ثلاث ابتسامات فأشرق النور من محياك، فخبرني أيها الصديق عن سر ذلك الابتسام، ومبعث هذا النور الوهاج.» فأجاب ميكائيل: «إن الله أرسلني لأتعلم ثلاث حقائق، وقد أتممتها؛ فابتساماتي الثلاث مظاهر الفرح الذي ملأ قلبي، أما النور فينبعث مني؛ لأن الله غفر ذنبي وسامحني.»

فقال سيمون: «ولمَ عاقبك الله؟ وما هي تلك الحقائق التي بعثت لمعرفتها؟!» فأجابه: «إني كنت ملكًا في السماء فخالفت أمر ربي؛ إذ أرسلني لأقبض روح امرأة من عباده، فهبطت إلى الأرض وإذا بي أراها مسكينة هزيلة، قد وضعت لوقتها توأمتين؛ فلما رأتني فقهتْ كُنْهَ حقيقتي، وعرفت أنني أتيت في طلب روحها، فأجهشت بالبكاء، وبصوت تقطعه الغصات العميقة توسلت قائلة: «أيها الملاك الطاهر؛ رفقًا بامرأة ضعيفة كسيرة القلب قتل زوجها وحرمت من كل نصير لها في الحياة، أنا غريبة عن العالم أجمع، فأمهلني ريثما تترعرع هاتان اليتيمتان، وبعدها أموت راضية مطمئنة، بربك لا تعجل ساعة يتمهما؛ فحياة الطفل بأمه.» فرجعتُ إلى ربي وبلغته رسالتها، فأمرني أن أهبط ثانية وأستل روحها، وبعد أن أديت ما أمرت به أردت الصعود، وإذا بأجنحتي تسقط، وريح شديدة تصدني، فوقعت بجانب الطريق.»

فعلم سيمون وماتروينا حقيقة هذا المخلوق الذي شملاه بعطفهما وحنانهما طول هذه المدة، ثم بكيا روعة وجلالًا، أما الملَك فأخذ يقص قصته وهو يقول: «لقد هبطت إلى الأرض وأنا لا أعرف ما يعتري الإنسان من حر وبرد، فكدت أموت جوعًا، وكادت أعضائي تصير قطعة من الجليد، ولكني لم أدرِ ماذا أفعل؟ ذهبت إلى المعبد لآوي إليه فوجدته موصدًا، فجلست بجانبه، واتكأت على جدرانه؛ اتقاء من العاصفة الشديدة، وبينا أنا كذلك أشعر بألم الجوع والبرد؛ إذ مر عليَّ أول مخلوق أرضي وقعت عليه عيني منذ صرت رجلًا أشعر وأتألم، تمثلت أمامي صورته فرأيت فيها قبح النظر متجسمًا، وظننت أن الله لم يخلق أفظع منه شكلًا، فحولت بصري عنه، وأما الرجل فما كاد يراني حتى استولى عليه الرعب، وسار من طريق آخر حتى لا يمر بي، فملأ اليأس قلبي، ولكني ما لبثت أن رأيته راجعًا نحوي، ونظراته تنم عن حب كامن وعطف مستتر، فدثرني بثيابه وآواني إلى منزله؛ حيث قابلتنا زوجته وعيناها تقدحان شررًا وغضبًا، ولكنها ما لبثت أن خففت من حدتها وعطفت علي فقدمت لي الطعام وكئوس الشراب، وإذ ذاك أتممت الدرس الأول من دروسي، وتعلمت إحدى الحقائق الثلاث؛ وهي: ماذا يكمن في الإنسان؟ فعلمت أنها «الرحمة» وحدها.

جاء السيد بعد ذلك بعام واحد فأمر بعمل حذاء لا يبلى قبل مرور حول كامل، ورأيت وراءه رفيقي ملك الموت، فعلمت أن الشمس لا تغرب حتى تغرب حياة ذلك السيد، وإذ ذاك وقفت على سر الحقيقة الثانية؛ وهي: «ما الذي لم يحطْ به الإنسان علمًا؟» فعلمت أنها «حاجيات نفسه» وهنا ابتسمت ابتسامتي الثانية؛ إذ لم يبق أمامي إلا الدرس الأخير، وليس بيني وبين ملكوت السموات إلا فرج الله النهائي، ظللت عائشًا معكم أنتظر مشيئة الله إلى أن أتت التوأمتان فعرفت الطفلتين، ولما سمعت كيف عاشا إلى هذا الوقت وتذكرت قول أمهما: (إن الطفل لا يعيش بدون رحمة أمه وعطفها عليه) تحققتُ بطلان هذه الدعوى، ولما تساقطت الدموع من عينَي تلك المرأة — دموع الرأفة والرحمة — وضمتهما إلى صدرها الممتلئ عطفًا وحنانًا عرفت أن في قلبها عاطفة سامية هي عاطفة (الرحمة) التي هي سر الحقيقة الأخيرة؛ وهي: (بمَ يعيش الناس؟)

إني لم أظل حيًّا لأني أخذت الحيطة لنفسي؛ بل لأن الله قيض لي إنسانًا منحني بعض ما في نفسه من (الرحمة) فشملاني هو وزوجه بعطفهما وحنانهما، كذلك اليتيمتان بقيتا تستنشقان نسمات الحياة إلى هذا الوقت لا باعتناء أمهما، ولكن لأن عاطفة الرحمة تحركت في قلب امرأة غريبة عنهما؛ فعنيت بأمرهما، وبكت من أجلهما، فالعالم كله والناس أجمعون لا يعيشون في هذا الكون بمحض تدبيرهم وإرادتهم وبما يعملون لحفظ كيانهم فحسب، ولكنهم يعيشون بعاطفة الرحمة التي أودعها الله في الإنسان؛ فهي التي تحفظ فيهم حرارة الحياة، «إن من يرحم فقد تقرب إلى الله؛ لأنه هو الذي خلق فيه الرحمة».»

وبعد أن أتم ميكائيل قوله غنى أنشودة إلهية؛ فاضطرب الكوخ، وخر سيمون وأهله مغشيًّا عليهم، ثم فتح السقف من فوقهم، وظهرت الأجنحة على ذراعي الملَك، ثم صعد عمود من الدخان إلى السماء، وهكذا ارتفع الملَك إلى عرش ربه، ولما ثاب سيمون إلى رشده وجد كوخه كما كان، والتفت يمنة ويسرة فلم يرَ إلا أسرته الأولى.

هوامش

(١) الكوبك عملة روسية قيمتها من الروبيل الروسي؛ أي إنها تساوي مليمًا.
(٢) شراب روسي.
(٣) زوجة سيمون.
(٤) اسم الغريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤