الفصل الثاني عشر

أجلت البصر بينهم متسائلًا في سرِّي: «أيكم؟»

كانوا جميعًا حاضرين باستثناء «روزيتا» بالطبع و«فرناندو» الذي اختفى معها، «فادية» بملامحها المتعَبة وجسَدها المائل على الطاولة، «فرنون» بطيف ابتسامة غامضة في عينيه، في مكانه الدائم إلى جوار «مونا» التي تمضغ شيئًا. «سابك» بوجهه الحجري الجامد في المقعد المواجه ﻟ «فرنون»، والوحيد بيننا الذي ارتدى بزة كاملة؛ «شرلي» بملامحها المصمتة وشفتها السفلى الممتلئة، «دوريس» ببثور وجهها ونظرتها الحالمة، «ميجان» بعينيها الضيقتين المسحوبتين اللتين تحولان دون قراءة تعبيرهما، «لاري» ببشرته المستعدَّة للاحمرار عند أي كلمة توجَّه إليه.

كان «فرنون» قد انتهى من عرضٍ ناقش فيه كتابًا حديثًا صدر للتوِّ عن جامعة «هارفارد» بعنوان «آلاف من السنين التي انصرمت: القرنان الأولان للعبودية في أمريكا الشمالية»، واختتم حديثه قائلًا: إن الكتاب يعتبر العرق أمرًا مصطنعًا، ويؤكد أن الديموقراطية الأمريكية أوفَت بالوعود التي وردت في إعلان الاستقلال.

أعرب «لاري» عن دهشته وقال: إن رئيس المحكمة العليا حكم عام ١٨٥٧م بأن إعلان الاستقلال الأمريكي الذي يؤكد المساواة بين الجميع لا ينطبق على السود، وأضاف: إن الكتاب في رأيي يدين «أمريكا» البيضاء. وقد ذكر بالتحديد أنه إذا كانت «أمريكا» البيضاء قد بدأت تسمح بحرية «أمريكا» السوداء؛ فإنها خَلقت في نفس الوقت نظامًا محكمًا من التمييز ضدهم.

أجاب «فيرنون» في تردُّد أثار حيرتي: هذا صحيح؛ فبعد مضي ۱۳۰ عامًا على إلغاء العبودية ما زال السود معزولين في أحياء خاصة بهم، تشكو الفقر والبطالة والمرض والعنف، وهم معزولون أيضًا في أعمال الخدمات والتمريض والتنظيف، ومكاتب البريد، ومخازن البيع والنقل وخدمات التليفون، ولا تكاد تجد إلا قلة منهم بين الأطباء والمحامين والمهندسين، كما أنهم يحصلون على أجور أقل من التي يحصل عليها نظراؤهم البِيض.

أضاف «لاري» مستخدمًا صيغة الثلث: وهم في نفس الوقت يشكلون ثلث الجيش.

تدخلت قائلًا: لقد شاهدت بضع حلقات من مسلسل «كوسبي شو»، وأعطاني انطباعًا بأنه لم تعُد هناك مشكلة خاصة بوضع السود، كما أني رأيتهم يتحركون في كل مكان بحرية وكبرياء.

أمَّنت «شرلي» على ملاحظتي: بل هناك عنصرية معاكسة؛ فبعضهم يزعم أن العرق الأسود يتفوَّق على الأبيض الذي يعجز عن توليد الكروموسومات الملونة للجلد، وأن هذا العجز يؤثر سلبيًّا على النمو الدماغي للبيض!

لوح «لاري» بيده في استهانة قائلًا: إذا كان بعض السود يحتلون مكانة مرموقة في المجتمع؛ فهم في الحقيقة مَن وقع عليهم الاختيار من البيض وفق شروط محددة، كما أنهم يمتلكون مواهب متميزة، وجاءت تصرفاتهم على حساب إنسانيتهم الكاملة؛ فقد تكيَّفوا مع الصورة التي رسمها لهم البيض. السينما قدمت لنا «سامبو» المسلي، والزنجي المخيف، والفتاة الداعرة، والمربية السمينة التي لا توحي بأنوثة من أي نوع. وفي ميداني الموسيقى والرياضة حولت العقلية الرأسمالية السود إلى سلعة حققت المليارات.

خاطبت «مونا» «فرنون» قائلة: إن عرضه يميل إلى اعتبار الغرب الاستعماري وَحده المسئول عن تجارة الرقيق، في حين أن ممالك وإمارات غرب ووسط أفريقيا تتحمَّل نفس القدر من المسئولية، القبائل المحلية وشيوخها كانوا يختطفون أبناء جلدتهم، ويسلمونهم لتجار العبيد.

تحولت إليَّ وأضافت: ثم هناك العرب، لم تلغِ «السعودية» الرق إلا عام ١٩٦١م، وألغته «موريتانيا» في ١٩٨٠م.

تصدت لها «فادية» في انفعالٍ بعد أن اعتدلت في جلستها: الرق ما زال موجودًا في أماكن كثيرة. ما رأيك في السويسريين الذين يذهبون إلى «أمريكا اللاتينية»، ويشترون زوجات يحتجزونهن في المنازل؟ أو في تجارة الأطفال الجنسية التي تُدار من الغرب؟

عقَّب «لاري»: المثير في الأمر أن رجال دين ومفكرين كبارًا في عصر التنوير أيدوا تجارة العبيد، بل قال بعضهم: إنه إذا كان كل البشر حقًّا قد خُلقوا متساوين وخُلق البعض عبيدًا، فمعنى ذلك أن الأخيرين ليسوا إذن من البشر! والواقع أن عمل العبيد كان مربحًا، فلم يجد فيه أحد غضاضة. وبحلول عام ۱۷۸۰م كانت كل من «بريطانيا» و«فرنسا» تشحنان ٤٠ ألف أفريقي سنويًّا لأسواق العبيد، وتحققان من ذلك أرباحًا طائلة؛ ولهذا قيل عن حقٍّ: إن أرباح تجارة العبيد وعائد عملهم في المزارع قاما بري حديقة الرأسمالية الناشئة، وأصبحت «بريطانيا» بالذات أول أمة صناعية ترتفع فوق ظهور عبيدها السود التي مزقتها السياط، ثم قادت الاتجاه العالمي لتحرير العبيد منذ مطلع القرن التاسع عشر، عندما وجدت أنها يمكن أن تستفيد منهم أكثر في المصانع.

أزاحت «شرلي» خصلة الشعر التي تسقط دائمًا فوق عينها اليسرى، وهو ما كنت أشك أنها تتعمده، وقالت: أعتقد أن الثورة الصناعية اعتمدت على عوامل أخرى خاصة بمصادر الطاقة وتوسيع السوق وغير ذلك. كانت الصناعة ستتطور بالتأكيد بدون الرق، وإن كان هذا لا يعني أن أرباحه لم تكن بلا أثر عليها.

أنهيت النقاش عندما وجدته قد استنفد أغراضه، وعمَّق الدروب التي يمكن أن يؤدي إليها البحث في الموضوع. وقبل أن أشير ﻟ «فادية» كي تبدأ عرضها، نهضت «ميجان» وتقدمت من ستارة النافذة وأزاحتها. كانت ترتدي نفس الثوب المشقوق من الجانب، والتقت عينانا للحظة خاطفة وهي تعود إلى مقعدها.

ركزت «فادية» بحثها على كتاب «جمال حمدان» الرئيسي «شخصية مصر/عبقرية المكان» (طبعة سنة١٩٧٠م). لم يكن الكتاب متوفرًا بالإنجليزية؛ ولهذا تضاءلت فرصة متابعة بقية الطلاب للعرض ومناقشته، لكن ما دفعني إلى اقتراح هذا الموضوع هو أن أفكار «جمال حمدان» تخدم الخط العام الذي حددته للسمينار، كما أنها تتيح لي فرصة استكشاف إمكانياتها في التحليل والعرض.

بدأت بعبارة لأحد زملائي١ لخص فيها عمل «حمدان» بأنه اعتبر الموقع الجغرافي بمثابة الفرضية الفلسفية التي تفسر تاريخ مصر الطويل اجتماعيًّا وسياسيًّا، وتحدد ملامح الشخصية المصرية في أخلاقها وسلوكها.

وقالت: إن «حمدان» حدد مفهوم البيئة النهرية الفيضية التي يسود فيها النظام بسلطة مستمدة من المركز، وتتخلق الحضارة بتكوين مجتمع مستقر، وثقافة خاصة بشعب واحد في وطن واحد.

واعتبرت أن من أهم ما توصَّل إليه «جمال حمدان» هو تحليله للشخصية المصرية، وتعدد أبعادها.

امتدحت كتابًا آخر له هو «استراتيجية الاستعمار والتحرير»، صدر بعد عام من العدوان الإسرائيلي في ١٩٦٧م؛ لأنه يرفض وضع الفتح الإسلامي والغزو العثماني في نفس المستوى مع الحروب الصليبية وغزو التتار والمغول؛ فقد وصف الدولة العربية بأنها كانت إمبراطورية تحريرية غير استعمارية، حررت المنطقة من ربقة الاستعمار الروماني والفارسي، ومن الاضطهاد الوثني وابتزازه المادي، وأن السلطة فيها كانت مشاعًا للجميع، لا فضل لعربي على أعجمي أو لجنس على آخر.

واختتمت عرضها بالمقارنة التي عقدها «حمدان» بين العروبة والأمريكية، عندما قال إنهما نقيضان في الأصول؛ فالأخيرة نشأت من هجرة حديثة قامت بها أجزاء من شعوب متنافرة لتتصاهر، وتنصهر معًا في بوتقة وطن جديد عبر المحيط، بينما العروبة التي جمعتها أربعة عشر قرنًا، قامت من هجرة جزء من شعب واحد؛ لتتصاهر وتنصهر مع شعوب متباينة في أوطان قديمة متلاصقة.

وأثارت الابتسامات عندما ذكرت الرأي الذي أفضَى به «حمدان» في أعقاب الانتصار المصري في حرب أكتوبر ۱۹۷۳م التي ساندت فيها «الولايات المتحدة» «إسرائيل»؛ فقد قال: إن القطبين النهائيين في الصراع بين الإمبريالية، والعالم الثالث هما على الترتيب: «الولايات المتحدة» و«مصر».

ووصف الصراع بأنه عداء بين أقدم دولة في التاريخ وأحدث دولة هامة فيه.

علَّقت «مونا» متعجبةً من وصف الإمبراطورية العربية بأنها تحريرية؛ فما يسمى بالفتح العربي هو في رأيها الحرب الصليبية الأولى.

وقال «لاري» إنه يَشتَمُّ من العرض رائحة تعصبٍ قومي مبالغ فيه لدى «حمدان».

قلت: إن عمل «حمدان» يتميز بلغة خاصَّةٍ حيَّة مفتوحة على التناقضات والبدائل، وتوصَّل من خلالها إلى صياغات فذَّة مثل قوله: إن الاستغلال المستمر قد امتصَّ من المصري الروح كما امتصت منه الطفيليات المصاحبة لبيئة الري دمه وحيويته.

ومع ذلك شابت هذه اللغة مسحة رومانسية بتأثير المد القومي وشعاراته في الستينيات؛ فهو يستخدم عبارات من قبيل «رسالة مصر التاريخية»، و«الإمبراطورية التي ضاعت» و«تشرنق مصر داخل حدودها في فترات الضعف!» وأحيانًا ما يكشف عن تطرُّف في الشعور القومي يصل إلى درجة التعصب عندما يصف مثلًا احتلال «مصر» الفرعونية لأراضي بعض جيرانها بأنه ليس استعمارًا بالمعنى المفهوم، وإنما لنشر السلام المصري، «باكس إجيبتيانا»، على طريقة «باكس رومانا»، أو عندما يردد الصياغات الساذجة التي راجت في فترة الخمسينيات وبداية الستينيات عن خصوصية الثورة المصرية، وكيف أنها تختلف عن الفرنسية التي ظلت طبقية رأسمالية، والروسية التي أخذت بديكتاتورية الطبقة العاملة، وأنها، أي المصرية، ثورة كل فئات الشعب العاملة ضد كل من الإقطاع والبورجوازية على حدٍّ سواء، وهي لا طبقية تذيب الفوارق بين الطبقات، وتأخذ بالديموقراطية الثورية ولا تنكر الرأسمالية الفردية.

غادرت مقعدي وأنا أواصل الحديث: يمكننا أن نعود في تفسير ذلك التطرف إلى حديثه عن تناقضات الشخصية المصرية، بل وربما يكتمل فهمنا لعمل «حمدان» بإلقاء الضوء على تكوينه النفسي؛ فقد كان وسيمًا شديد الاعتداد بنفسه لدرجة العصابية، وليس مصادفة أنه هاجم — عند استقالته من الجامعة — المجتمع الذي يسمح فقط للرجل المتوسط بالوصول، ويضيق بالرجل الممتاز.

وأضفت أن هذا الجانب يمثل إحدى روافد السمينار، والسبب في التفاصيل الشخصية التي أشرت إليها عند تناولي لرحلتي كمؤرخ؛ فهناك علاقة بين المضاعفات العصابية للشخصية، وهاجس التكريس للعمل، والنتائج التي يتوصل إليها الباحث/المؤرخ.

اعترضت «فادية» على حديثي قائلة: ما هي إذن الرؤية المغايرة غير الرومانسية؟

قلت: يمكن الاستعانة بباحث آخر هو «أحمد صادق سعد»٢ تناول نفس الموضوعات بتحليل علمي واقعي يستند إلى عوامل محددة متنوعة حسب كل عصر.

فهو يضع مصر في إطار ما أسماه بالتكوينات الشرقية المبنية على النمط الآسيوي للإنتاج، مثل «الصين» و«الهند» و«العراق» و«كوريا»، وفي رأيه أن هذه المجتمعات تتميز بصفات خاصة هي التي تصورها «حمدان» قاصرة على «مصر». في مقدمة هذه الخصائص خاصية الاستقرار والاستمرار والثبات خلال التغيرات المنتظمة الموسمية. لهذه الخاصية ناحيتان: فمنها تنبع الثقة في الحضارة القديمةِ الجذورِ وتراثها الطويل، ومنها أيضًا تنبع القدرة العجيبة لهذه المجتمعات على استيعاب الغُزاة ووضع خاتمها عليهم؛ فرغم كل شيء أصبح فاتحو «الصين» صينيين في نهاية الأمر، و«المغول» و«العرب» الذين استولوا على «الهند» هنودًا، والأحباش والليبيون والإغريق والرومان والأتراك … إلخ — الذين حكموا «مصر» — أصبحوا مصريين. ومن ناحية أخري يوجد وجه آخر لذلك الاستقرار والثبات يتمثل في بطء التطور، بل الركود، وأحيانًا العودة إلى الوراء تدريجيًّا.

عدت إلى مقعدي وأفرغت كوبًا من الماء من زجاجتي وأردفت: أما عروبة «مصر» فيتناولها «سعد» بطريقة مختلفة، فيلاحظ أن «مصر» تعرضت لاحتلال جيوش عديدة قبل الغزو العربي وبعده. لكنها لم تصبح فارسية أو إغريقية ولا رومانية أو بيزنطية من قبل، ولا أصبحت تركية أو فرنسية أو إنجليزية من بعد. وفي هذا الطابع القومي الصلد استثناء هو استعرابها. وقد وقف «حمدان» حائرًا أمام هذه الظاهرة، وفسرها في البداية بأن «مصر» القبطية أدركت بسرعة أن العرب أتوا بجديد، لكنه لم يلبث أن استدرك قائلًا: إن العرب لم يأتوا معهم بحضارة ذات بالٍ، ومع ذلك بُعثت الحضارة على أيديهم حيثما دخلوا، فدَورهم كان دَور الشَّرارة التي ألهبت الوقود الحضاري الخامل في «مصر».

أما «صادق سعد»؛ فيقول: إن الدين الإسلامي لعب دورًا، ولا شك، في استيعاب «مصر» للعرب الذين سكنوها، وفي تحويل المصريين إلى اللغة العربية والكثير من عادات أهل الجزيرة، لكن عوامل اقتصادية اجتماعية خاصةً كانت العنصر الرئيسي في هذا التحول.

شعرت بالإرهاق، فاقترحت أن نستريح قليلًا في الكافيتريا، وبينما كنا نغادر القاعة اقتربت مني «شرلي».

كانت ترتدي بلوزة حمراء بلا أكمام فوق شورت أبيض مشجَّر كشف عن ساقين مليئتين قويتين، قالت: إذن نحن قطبان متعاديان طبقًا ﻟ «جمال حمدان»؟ لن أسمح بهذا أبدًا. وابتسمت ابتسامةً غامضة قبل أن تبتعد.

هبطنا إلى الكافيتريا، وحملنا أكواب القهوة إلى ساحتها الخارجية. لم تكن هناك مقاعد خالية تكفينا جميعًا، فجلستُ بجوار «فادية» فوق حاجز حجري.

أعربت عن إعجابي بعرضها، وأبديت لها بعض الملاحظات، ثم سألتها عن الكيفية التي تنظم بها وقتها.

ضحكت وقالت: أنت ظننت أني أتهرب من الدراسة عندما اعترضت على «بروديل»، لكن بص معي: المنبه يدق الساعة الثامنة صباحًا، تدخل «سارة» الحمام مع دب وكتاب، ثم تناديني لأقرأ لها ولدُبها من الكتاب، أبذل مجهودًا خرافيًّا لأنهض من الفراش، وأقول لها: إن الدب يفضل الإفطار أوَّلًا. في المطبخ تقول: إن الدب لا يريد بيضة، وإنما فطيرة. من نظرتها أعرف أنها ستخرج بمعدة فارغة إن لم تأكل فطيرة، أقوم بإعداد الفطيرة، الساعة التاسعة إلا ربع. أمي في الحمام وأنا و«سارة» أمام التليفزيون نشاهد «شارع سمسم»، بينما أساعدها على تناول فطورها. بعد ذلك نخرج وأحملها إلى الحضانة، ثم آتي إلى الجامعة ثم آخذها من الحضانة مرةً أخرى، وأشتري احتياجات العشاء ثم أتولى إعداده. وتتكرر قصة الصباح؛ فلا بدَّ أن أقرأ لها ولدُبها قبل النوم، وبعد كل ذلك عندما يسود الهدوء أخيرًا يمكنني أن أجلس إلى المكتب.

اختفت الشمس فجأةً خلف سحب كثيفة، فنهضت واقفًا معلنًا انتهاء الاستراحة، وعدنا إلى القاعة.

كان الدور على «سابك» فاستهلَّ عرضه مشيرًا إلى كلمة سابقة لي مؤداها أن الأدب غالبًا ما يكون أكثر صدقًا في التعبير عن التحولات التاريخية؛ ولهذا اختار — طِبقًا لدراسته الأساسية في مجال الأدب — أن يعرض لنا رواية من تأليف الكاتب الأمريكي المعاصر «المور ليونارد»، عنوانها: «أربعون جلدةً إلا واحدة»، صدرت عام ۱۹۷۲م.

تجري أحداث الرواية في «فبراير» ۱۹۰۹م، وفي سجن معزول بصحراء «أريزونا» قرب الحدود المكسيكية، حيث يصل مدير جديد هو واعظ سابق أبيض طيب القلب، حسن النوايا، مؤمن بتفوق الرجل الأبيض وواجبه في هداية الأجناس الأخرى، أو «الأطفال» كما يسميهم. أحضر معه تحت الحراسة سجينين جديدين في العشرينيات محكومين بالمؤبد؛ هما الأسود والهندي الأحمر «الآباش» الذي انتحل لنفسه اسمًا مكسيكيًّا ليتجنَّب الهزء به. خدم الأسود في الجيش، واشترك في الحملة الأمريكية على «كوبا» ثم ضرب رجلًا أبيض بماسورة فقتله ودخل الليمان، واستقبله قائد الحراس قائلًا: سنعطيك شيئًا يبعدك عن المتاعب.

كان هذا الشيء عبارة عن سلسلة حديدية تنتهي بكُرةٍ ثقيلة. قال المدير الطيب للحارس: لكنه لم يفعل شيئًا بعد. فقال رئيس الحراس: هذا صحيح، لكنه لن يفعل عندما تقيده السلاسل. أما الآباش الأمي؛ فكان يعمل في إحدى المزارع، وتعرض لسخرية رُعاة البقر البِيض. لم يبالِ في البداية وظلَّ يردد لهم إنه أمريكي مثلهم، ثم فقدَ أعصابه في يوم، وأطلق على أحدهم النار فقتله.

وُضع الاثنان في زنزانة تضم عدة أشرار، يتزعمهم «فرانك». في الصباح عندما همَّ الأسود بالتبول صرخ أحدهم مستدعيًا الحراس: عندنا زنجي يتبوَّل في مرحاضنا! ثم فرضوا على الهندي الأحمر أن يتولى إفراغ جردل البول والبراز، بينما رفض الأسود ذلك في إباء، فقرر «فرانك» تأديبه.

استغلَّ «فرانك» طيبة الهندي أو خضوعه، فأرغمه على الاحتكاك بالأسود وافتعال شجار معه، انتهى بوضع الاثنين في زنزانة التأديب، لكنهما استأنفا شجارهما وتبادلا الإهانات الموجهة إلى جنس كل منهما وتقاتلا رغم قيودهما؛ إلا أن سخرية النُّزلاء واستفزازهم المتواصل تجرهما إلى معركة مشتركة ضد الأشرار الخمسة.

هنا يقرر المدير الطيب أن يتحدَّث إليهما، ويبدأ حديثه مستشهدًا بآيات من الإنجيل قائلًا: إن البشر جميعا إخوة. يسأله الهندي: إذا كنا جميعًا قد جئنا من نفس الناس؛ فمن أين أتي الزنوج؟ ويسأله الزنجي: أين ذكر الإنجيل المكان الذي أتى منه الهنود الحمر؟ ثم يعلق على قصة «نوح» وأولاده الثلاثة، و«حام» الذي ذهب إلى «أفريقيا» لينسل الزنوج: كيف عرف الإنجيل أن الناس كلهم كانوا بيضًا قبل ذلك؟ وهو سؤال يحير الواعظ فيقول: في الغالب لأن «آدم» و«حواء» كانا أبيضين. ويضيف: ليس هناك عيبٌ في أن يكون الواحد زنجيًّا، الرب جعلك كذلك لحكمة؛ أعني أنه من الضروري أن يكون البعض زنجيًّا، والبعض الآخر هنديًّا، والثالث أبيض، لكننا جميعًا إخوة.

ويقول المدير للهندي الأحمر: هناك شيء نبيل في قومك المتوحشين غير المتعلمين، لا تجده لدى الكثيرين من البيض، فلم يُعرف أبدًا عنكم الكذب أو النَّكث بالوعد، بل إن كلمة الكذب نفسها لا توجد في لغاتكم.

يضع المدير خطة لإصلاحهما بتنظيم مسابقة للجري بينهما، ويشرح الأمر لرئيس الحراس المستخف: هدفي هو إيقاظ الكبرياء لديهما، ودفعهما إلى أن يصنعا شيئًا من نفسيهما.

يستغل «فرانك» السباق في تنظيم رهان بين السجناء عليهما، وفي نهايته يأمرهما المدير بالتصافح، ثم يتبادلان الحديث ويتصادقان. ويقول المدير لرئيس الحراس المتشكِّك: إنهما طفلان، وهما يتعلمان الآن العيش مع الرجل الأبيض والتفاهم معه، نحن لن نحولهما إلى بيض، لن نقول لهما إنهما صارا مثل الرجل الأبيض، سنقول لهما إن الزنوج والهنود أفضل عدَّائين في العالم، وندربهما جيدًا.

هكذا بدأ تدريب الأسود والهندي وتحويلهما إلى عدَّائين قادرين على الجري عشرين ميلًا، خارج السجن في فضاء أوحى إليهما برياح الحرية وأمل الهرب. ولم يلبث المدير أن زودهما برمحين من البوص جعلا يتدربان على قذفهما، وأحدث الأسود ندوبًا في وجهه وصَفَها بأنها علامات «الزولو»، ولون الهندي وجهه بألوان القتال التقليدية لدى الآباش.

خلال ذلك وضع «فرانك» ورفاقه الأربعة خطَّة للهرب، وفرَّ الخمسة إلى الصحراء فوق الجياد، فأرسل المدير الاثنين خلفهم عدْوًا. ومضت عدة أيام ظن المدير خلالها أنهما انتهزا الفرصة للهرب، وفي اليوم الخامس ظَهَرا فوق جوادين، وهما يسحبان «فرانك» خلفهما.

ولم يصدق المدير عينيه وقال: أحب أن أقول الآتي؛ لقاء ما فعلتماه ولقاء إخلاصكما وشجاعتكما ومخاطرتكما بحياتكما للقبض على هذا المجرم، سأعمل شخصيًّا على أن تُعاملا مثل الرجل الأبيض في السجن الجديد.

ظل الأسود والهندي فوق جوادَيهما يتأملان المدير، دون أن يظهر تعبير ما على وجهيهما المدهونين. واستطرد المدير: سأقول لكما شيئًا آخر. إذا حافظتما على سجلِّكما نظيفًا، فسأطلب تخفيض مدة سجنكما. ما رأيكما؟

انحنى «الزولو» فوق جواده، وقال للمدير الكلمة الأمريكية المألوفة المؤلفة من أربعة حروف، ثم استدارا بجوادَيهما، وانطلقا إلى الصحراء تاركين خلفهما ضبابًا من الرمال الناعمة في الهواء.

كفَّ «سابك» عن الحديث، وساد الصمت، وظلت الكلمة الأمريكية المألوفة تتردد في الغرفة، كأنما علقت بالهواء، جلت بعيني بين الوجوه حتى استقرَّتا على وجه «فرنون»، كانت نظرة عينيه الساخرة قد اختفت، واكتسى وجهه جمودًا كاملًا.

قلت: هذا كل شي؟ الدلالة واضحة، لكن العرض ناقص؛ ربما كان يجب استكماله بالإشارة إلى طبيعة العلاقة الراهنة بين السود والهنود الحمر.

وقبل أن يتمكن «سابك» من الرد دوَّت عدة طرقات على الباب، ثم انفرج كاشفًا عن طلاب حان موعد درسهم. كنَّا قد تجاوزنا الوقت المحدَّد لنا بعشر دقائق، فأعلنت ختام الدرس وغادرنا الغرفة على عجَل، ومضيت برفقة «فادية» و«مونا» إلى مكتبة الجامعة الواقعة في الطرف الآخر من الكامبوس.

اخترقنا عدة ممرات بين مساحات العشب الممتدة التي تمرح بها السناجب، وأشرفنا على مبنًى ضخم يرتفع عدة طوابق، وَلَجنا مدخلًا رحبًا، ومررنا بعدة قاعات مخصصة للدوريات، تناثرت بها مقاعد وثيرة، ثم انتقلنا إلى باحة واسعة عالية السَّقف، غُلِّفت جدرانها بالخشَب، انتشر بها موظفو المكتبة خلف كاونترات متعددة، عبرنا منفذًا إلكترونيًّا للتفتيش وآخر للتسجيل في ركن تغطَّت جدرانه بلوحات زيتية تصور غزو الغرب الأمريكي، وجدت نفسي أمام درج رخامي عريض يُشرف على بئر واسعة، انحنيت فوق السياج فتبيَّنت عدة طوابق سفلية يشع منها الضوء الساطع.

صعدنا إلى الطابق الأول، ووقفت على عتبته أتملَّى النظر من قاعة بالغة الاتساع، تُضيئُها أنوار قوية، تحيط بها نوافذ زجاجية عريضة، وتتميَّز بالنظافة والهدوء التامَّين.

همست ﻟ «فادية» مستوضحًا أمر فتاة نائمة فوق أريكة. قالت هامسة: إن الطلبة يعسكرون بالمكتبة في موسم الامتحانات، وتُخصَّص لهم أماكن للدراسة، وأشارت إلى صف من الغُرف الصغيرة يحيط بالقاعة، ويبدو شاغلوها من خلال جدرانها الزجاجية.

قادَتْني إلى خزائن الكتب، بينما اتجهت «مونا» إلى طرف القاعة. وقفت بين صفين من هياكل معدنية رُصت المجلدات فوق رفوفها، وأوضحت ﻟ «فادية» أن الهياكل تتحرك فوق قضبان بواسطة مقبض يدوي.

اختفت «فادية» بين الصفين التاليين، تبحث عن بعض المراجع. التقطت مجلد «هاوبسباوم» الأخير٣ الذي يقدم موجزًا لتاريخ القرن العشرين. قلبت صفحاته، ووقفت عند الفصل الخاص بنهاية الإمبراطوريات. استغرقت في القراءة، فلم أشعر بحركة الصف الخلفي الذي انزلق فوق قضبانه مقتربًا مني حتى أوشك أن يلمسني.

قفزت مرعوبًا من الفرجة الضيقة، قبل أن ينسحق جسدي بين الهيكلين المعدنيين الضخمين. وطالعني وجه «مونا». كانت يدها على المقبض الخاص بالصف المتحرك تديره في الاتجاه العكسي لتعيده إلى وضعه الأصلي.

تركت المقبض وأسرعت نحوي، وهي تعتذر بأنها أخطأت تقدير اتجاه حركة المقبض. وقادَتْني إلى أريكة جلدية تهالكت فوقها، وقلبي ما زال يدقُّ في عنف.

١  هو «عاصم الدسوقي»، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة «حلوان».
٢  (۱۹۸۸–۱۹۱۹م) مصري من أبوين يهوديين، تركي وإسبانية، أجاد عدة لغات وتمكَّن من العربية، وجمع بين النشاط السياسي في قيادة الحركة الشيوعية والبحث النظري. عمل سنوات طويلة في مؤلَّفه الموسوعي: تاريخ مصر الاجتماعي الاقتصادي، دار ابن خلدون، بيروت، ۱۹۷۹م، الذي غطى فيه نحو أربعين قرنًا من تاريخ «مصر».
٣  عصر النهايات القصوى، وصدر في ١٩٩٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤