الفصل السادس عشر

تركت لي «فادية» في الصندوق عدد صحيفة «الأهرام» المصرية الذي احتوى على نبأ حادث القطار المأساوي.

كانت العناوين مُصاغة بالطريقة المألوفة، فرد فعل رئيس الجمهورية أهم من تفاصيل الكارثة نفسها: «الرئيس يتابع عمليات إنقاذ وعلاج المصابين، ويتلقَّى برقيات التعازي في ضحايا الحادث»، وبعد الرئيس بقية المسئولين: «وزير النقل والمواصلات ينتقل إلى موقع الحادث، ويتفقد سير العمل»، ثم قرار الكوارث التقليدي: «الوزير يصدر تعليمات باتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل». وأخيرًا الحقائق: ٤٨ قتيلًا و۸۰ مصابًا في كارثة قطار «كفر الدوار».

قلبت الصفحات بحثًا عن التفاصيل، حتى وجدتها في صفحة الحوادث: كان القطار متجهًا في الخامسة مساء من «الإسكندرية» إلى «كفر الدوار»، مكتظًّا بالركاب من الطلاب والعمال، عندما توقف فجأةً بين منطقتي «الخورشيد» و«البيضا». وظلَّ متوقفًا لمدة ٦ دقائق، شوهد خلالها مساعد السائق وبعض الكمسارية يهرولون بين العربات، قائلين: إن جهاز الفرامل توقف فجأةً دون سبب. وبعد إصلاح الفرامل واصل القطار سيره، ثم بدأ يزيد من سرعته بشكل ملحوظ، حتى بلغت بين ۹۰ و۱۰۰ كيلو ساعة، وهي السرعة القصوى. وعند دخوله محطة «كفر الدوار» تلقَّى العامل المختص إشارة بتحويله إلى خط التخزين لإخلاء الطريق أمام القطار الفرنسي السريع الذي كان في طريقه من «الإسكندرية» إلى «القاهرة». وعندما حاول السائق (الذي توفِّي في الحادث) إيقاف القطار، فوجئ بعطل جهاز الفرامل. واستمرَّ القطار في سرعته حتى نهاية خط التخزين، فأطاح بالصدامات الأمامية، وقفز فوق الرصيف في طريقه إلى الساحة المواجهة للمحطة، حتى اصطدم بالنصب التذكاري المقام وسطها. هنا انقلبت القاطرة هي والعربتان الخلفيتان المكدستان بالركاب، بينما تداخلت بقيَّة العربات.

قرأت أيضًا أنباء الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي «وليام كوهين» إلى «الرياض»؛ لتفقد عدة آلاف من أفراد القوات الأمريكية في قاعدة الأمير «سلطان» الجوية. وكان قد أعلن أنه تلقى ردودًا إيجابية للغاية حول اقتراح انشاء شبكة صواريخ لحماية المدنيين والعسكريين في منطقة الخليج من الصواريخ الإيرانية. وتجنب الرد على سؤال بشأن خطر صواريخ الدمار الشامل الإسرائيلية التي تهدد المنطقة.

لم يكن هناك شيء آخر في صندوق بريدي فأغلقته، وطويت الصحيفة وغادرت الكهف. ابتسمت لي «فيفيان» ابتسامة عريضة، وهي تلوك قطعة من صندوق الفطائر المعهود. ولمحت «جيني» خلف مكتبها تتبادل حديثًا ضاحكًا مع «مونا».

ولجت غرفتها فاستقبلتني هاتفة: مبروك البريد الإلكتروني.

قلت: وصلتك رسالتي؟

قالت: ووزعت عنوانك على الجميع.

سألتني «مونا» إذا كانت «إستر» في مكتبها، فقلت: إني لا أعرف؛ لأني قادم للتو من الخارج. قالت وهي تتجه نحو الباب: سأقول لها شيئا، وألحق بالدرس على الفور.

وضعت «جيني» يدها على شعرها الذي كان حديث التصفيف، وقالت: يعجبك الشعر الأشقر؟

ابتسمت وقلت: جدًّا.

قالت: أنا متأكدة.

استدرت مغادرًا، وصعدت الدرج على مهل، وأنا أفكر في عبارة «جيني».

كان الجميع متواجدين فيما عدا «مونا». اتجهتُ إلى مكاني تحت السبورة، ووضعت حقيبتي على الطاولة. وسرعان ما وصلت «مونا» واحتلَّت مقعدها المعهود بجوار «فرنون».

مددت يدي بالصحيفة إلى «فادية»، فقالت: حادثة فظيعة يا أستاذ.

تساءلت «مونا» عن الأمر، فذكرت لها «فادية» تفاصيل الحادث. عقَّبت «مونا» بأنها قرأت ذات مرة أن «مصر» فقدت ٦٨ ألف فرد في أربعة حروب مع «إسرائيل» على مدى الخمسين سنة الأخيرة، بينما قتلت حوادث الطرق والقطارات أكثر من ربع مليون مصري في فترة زمنية لا تتجاوز ۲۲ سنة.

لم أدرِ بماذا أعلِّق فاكتفيت بالتعبير عن شكِّي في دقة هذه الأرقام، ثم بدأت محاضرتي على الفور.

قلت: إني توصلت مع الدكتور «بيبة» إلى اختيار فترة الفتح العربي ﻟ «مصر» في منتصف القرن السابع الميلادي إطارًا عامًا لموضوع الماجستير. فكَّرت في أن أتناول بالتحليل ظاهرة فريدة في التاريخ المصري، هي تغيير الشعب لدينه مرتين، في فترة لا تتجاوز خمسة قرون: الأولى في ظلِّ الاحتلال الروماني عندما تحوَّل من الديانة الفرعونية إلى المسيحية، والثانية في ظل الفتح العربي عندما تحوَّل إلى الإسلام. بينما تمسَّك بديانته في ظل الاحتلال الفارسي، ثم اليوناني الذي أعقبه، كما أن اليهودية لم تجذبه.

أردت أن أنطلق من طبيعة الاحتلال الروماني؛ ففي ظله ازداد الاستغلال، وبعد أن كان نهب «مصر» يتم داخلها بواسطة اليونانيين الحاكمين بمعاونة كهنة «آمون»، تحوَّل النهب إلى الخارج لصالح روما. وتضاعفت أشكال التمرد والرفض، وانصرف الناس عن ديانة «آمون»، وزاد الهروب إلى المستنقعات والصحراء فرارًا من الضرائب.

كان اليهود مشاركين في الاستغلال، كما أن إلههم كان قاصرًا عليهم وحدهم، ويبدو متعطشًا للحرب والدماء. في حين أن المسيح ومن بعده «محمد».

قاطعتني «فايدة» بنبرة لوم: صلى الله عليه وسلم.

قلت لها: عليه الصلاة والسلام. بصي. هذه عبارة لازمة في الخطاب الديني، لكن خطابنا هنا علمي بحت، ولا يمس ما يستحقه النبيَّان من احترام وتوقير.

استأنفت الحديث: خاطب المسيح و«محمد» البشرية كافةً، داعيين إلى السلام والمحبة والمساواة. واستهوى المصريين نداء المسيح من «فلسطين»: «بع كل ما تملك ووزِّع على الفقراء»، ولمسوا بأنفسهم كيف عاش المسيحيون الأوائل دون أملاك شخصية، وكيف كانوا يوزِّعون أغذيتهم وثيابهم ولا يتاجرون فيما بينهم.

عنصر آخر جاذب هو اعتقاد المصريين بأن المسيح هو «حورس» الإله الفرعوني، وأن التثليث المسيحي الذي يتجلى في «الأب والابن والروح القدس» هو التثليث الفرعوني الذي تجلَّى في «إيزيس» و«أوزوريس» و«حورس». ولم يغيِّر اعتناق الإمبراطور «قسطنطين» للمسيحية في مستهلِّ القرن الثالث الميلادي من الأمر شيئًا؛ فقد استمرَّ الاستغلال الاستعماري، وانفصلت الكنيسة المصرية عن الرومانية تعبيرًا عن التناقض بين الجانبين. واستمرَّ التناقض ثلاثة قرون أخرى، اشتدَّت خلالها معاناة المصريين، إلى أن ظهر الفرسان العرب على حدود البلاد بدينٍ جديد يقدِّم وعدًا طازجًا بالحرية والمساواة فتقبَّلوه.١

لم يسترح «بيبة» إلى هذا الاختيار. كان وقتها يرأس فرع منظمات الشباب التي شكلتها الحكومة سنة ١٩٦٥م، ويلقي المحاضرات في معهد الدراسات الاشتراكية الذي أنشأته. وصار «حلمي عبد الله» مساعده الرئيسي، وشاع أن الأخير الذي صار معيدًا بالكلية، ويستعدُّ للحصول على الدكتوراه، يكتب تقارير أمنية عن الطلبة. وتلاحقت كتب الاثنين عن «الاشتراكية العربية» وخصائصها الفريدة. وتكرر ظهور اسميهما في الندوات والمؤتمرات والصحف؛ فقد كانت النخبة الحاكمة تلتقط مَن هو قادر على تقديم غطاء نظري لسياستها القومية المعادية للاستعمار، ولسيطرة رأس المال بعيدًا عن الشيوعية والشيوعيين.

لم يكن لموقفه من الموضوع الذي اخترته علاقة بذلك، بقدر ما ارتبط بنزوعاته الشخصية. كان حريصًا على ألا تخرج الأبحاث والرسائل الجديدة عن دائرة تخصُّصه الضيق، وألا يحقق أحد من زملائه أو طلبته اختراقًا ما في البحث. ولم أجسر على معارضته، فقبلت التخلِّي عن هذا الموضوع، واتفقنا في النهاية أن أقوم بتحقيق إحدى المخطوطات كما هو المألوف في أغلب رسائل الماجستير.

وقع اختياري على مخطوطة «المُرْدفات من قريش» «لأبي الحسن على بن محمد المدائني».٢ والمقصود بالمردفات النساء اللاتي لم يكتفين بزوج واحد، وأردفن زوجًا بعد زوج.

قادني إلى هذه المخطوطة غرامي بتتبع أخبار نساء أرستقراطية «قريش» القويات المثقفات، اللاتي تزوج منهن الرسول، وبدأ رسالته في كنَف رائدتهن «خديجة». وهن اللاتي واجهن الرسول مطالبات بحقوقهن، عندما سألنه عن السبب في أن القرآن لم يذكر شيئًا بشأنهن. فاستُجيب لهن، وجاءت «سورة النساء» بقوانين الإرث الجديدة التي جردت الرجال من امتيازاتهم. فلم تعد المرأة تورث كما تورث النياق وأشجار النخيل، وهو الوضع الذي كان سائدًا في الجزيرة العربية بل صار لها الحق في أن ترث. وكان لذلك وقع القنبلة بين سكان المدينة الذكور الذين امتَعَضوا من تناقص أموالهم نتيجة إخراج المرأة من أرصدة التركة، ثم مشاركتها فيها.

تضمنت المخطوطة سيرة ثمانٍ وعشرين امرأةً من القرشيات البارزات، على رأسهن «سكينة» ابنة «الحسين» وحفيدة الرسول، التي ماتت عن عمر يناهز السبعين. تزوجت «سكينة» ست مرات، وكانت تشترط في عقود زواجها عدم طاعة الزوج إلا فيما يقرُّه عقلها، وألا يتزوج زوجها عليها. وقد قاضت أحدهم؛ لأنه انتهك شرعة الزواج الأحادي الذي فرضته عليه في عقد الزواج وتزوج عليها. كما أنها لم تُخفِ عشقها لبعض أزواجها. وكانت تستقبل الشعراء في منزلها وتحضر مجالسهم.

كانت هذه المخطوطة محقَّقة بالفعل بواسطة محقِّق شهير من روَّاد تحقيق النصوص، وأول من كتب عن قواعد هذا العلم هو «عبد السلام هارون» (١٩٠٩–١٩٨٨م)، ونُشرت بالقاهرة سنة ١٩٥٠م. ولم يكن في عزمي أن أعيد تحقيقها؛ فقد قام الأستاذ «هارون» بهذا العمل على أكمل وجه، طبقًا للتقليد السائد في تحقيق النصوص؛ التأكد من صحة النص، وصحة نسبته إلى صاحبه، ومكانة الأخير العلمية، ثم أسباب تأليف النص، وإضاءة بعض الجوانب من مصطلح أو معنى لفظ، أو تعريف بحدث أو واقعة أو مكان، ثم توثيق ما ورد به من أبيات الشعر.

انصرف اهتمامي إلى جانب آخر، هو ما تكشف عنه المخطوطة من تغيرات طرأت على المجتمع القرشي نتيجة الفتوحات. فمثلًا، عندما قُتل «عبد الله» بن «أبي بكر الصديق» في إحدى غزوات الأيام الأولى للإسلام ترك لزوجته «عاتكة» سبعة دنانير مما أثار غضب أبيه، فقال: «كيف يتحمل جزاء ما اكتنز من دنانير وهو سبع كيات بالنار، كية لكل دينار؟» هكذا كانت نظرة المسلمين الأوائل للاكتناز.

ولم تمضِ سنوات قليلة، حتى تغيرت هذه النظرة الزاهدة، وأتخمت «قريش» بثمار الفتوحات، كما اتضح من مثال «عائشة بنت طلحة» التي اشتُهرت بجمال خارق حَدَا بسيدة أخرى من سيدات «قريش» لأن تدفع ألفي درهم لجاريتها؛ كي تمكنها من رؤية سيدتها عارية. وقد خطبها «مصعب بن الزبير» (الذي كان متزوجًا من «سكينة» ابنة «الحسين» السابق الإشارة إليها) بعد أن أصدقها خمسمائة ألف درهم، وأهدى لها مثلها، فعلق الشاعر «أنس بن أبي أنس بن زنيم» على ذلك قائلًا:

يضَعُ الفتاةَ بألفِ ألفٍ كامِلٍ
وتَبيتُ سَاداتُ الجُنودِ جِياعًا.

وكان «مصعب» مغرمًا بها، حتى إنه أراها لأحد معارفه، ثم قال له: بما أنك رأيتها؛ فلا بد لك من هبة، وأعطاه عشرة آلاف درهم وعشرين ثوبًا.

وتقدم «أم كلثوم» ابنة «علي بن أبي طالب» وأرملة «عمر بن الخطاب» مثالًا آخر للترف الذي عاينته «قريش»؛ فعندما أراد «سعيد بن العاص» أن يخطبها بعث إلى أخوَيها «الحسن» و«الحسين» بمائة ألف درهم.

كشفت الرسالة أيضًا عن السلوكيات السائدة. ﻓ «مصعب» المذكور لم يكن يقدر على جماع زوجته «عائشة بنت طلحة» إلا بعد أن يمزِّق ثيابها ويضربها.

ظاهرة أخرى كانت مدار بحثي، هي تتابع حلقة ضيقة من الشخصيات البارزة — من قادة وزعماء ووُلاة بل وخلفاء — على مجموعة محدودة من نساء «قريش». أردت أن أستكشف الدافع: هل هو النخوة (في حالة الأرامل) أو الشهوة أو العصبية أو المظهرية أو القبلية أو المنفعة (في حالة الوارثات). وهو التساؤل الذي يطارد مَن يتتبع مثلًا سيرة واحدة مثل «عاتكة» أرملة «عبد الله بن أبي بكر». فعقب مصرعه ردَّدت شعرًا تعهدت فيه بأن لا تجفَّ دموعها عليه. ثم خطبها «عمر بن الخطاب» فذكرت له الوعد الذي التزمت به، فطلب منها أن تستفتي «علي بن أبي طالب» (وهو في نفس الوقت والد «فاطمة الزهراء زوجة «عمر»)، فأفتى بأن ترد إلى أهل زوجها ما أخذته منهم وتتزوج، ففعلت. لكن «عليًّا» لم يلبث أن مر بخِدرها ليلة زواجها، وردد شعرها التي تعهدت فيه بألا تكفَّ عن البكاء، فبكت وغضب «عمر» من «علي». وعندما قُتل «عمر بن الخطاب» خطبها «طلحة بن عبيد الله»، ثم تزوجها «الزبير بن العوام»، وعندما قُتل هذا خطبها «علي بن أبي طالب»، مما يوحي بأن عينه كانت عليها طول الوقت. فقالت له: أُشفق عليك من القتل، لم أتزوج رجلًا إلا قُتل. فتزوجها «محمد بن أبي بكر»، فخرجت معه إلى «مصر» فقُتل، وانتهى بها المطاف زوجة ﻟ «عمرو بن العاص» فاتح «مصر» وواليها الأشهر.

وهناك «ميمونة» (أم حكيم)، من ذرية «أبي بكر الصديق»، التي كانت زوجة ﻟ «عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك» وتزوجت تباعًا من عمه الخليفة «سليمان بن عبد الملك»، ثم من عمَّيه الآخرين «يزيد بن عبد الملك»، ثم «هشام بن عبد الملك»، اللذين تولَّيا الخلافة فيما بعد.

ومنهن أيضًا «أم سلمة»، وكانت زوجة ﻟ «الحجاج بن يوسف»، فطلقها فتزوجها الخليفة «الوليد بن عبد الملك»، الذي قاسى المصريون في عهده من ولاية أخيه «عبد الله» عليهم؛ إذ اختلس أموال الخراج، وارتشى واضطهد الأقباط، ونفَّذ أوامر أخيه الخليفة بفرض اللغة العربية لغة رسمية ﻟ «مصر».

ويبدو أن «أم سلمة» هذه كانت ذات جاذبية خاصة؛ مما عرضها للاغتصاب على يد أخيه «سليمان»٣ الذي تلاه في الخلافة.

قبِل الدكتور «بيبة» خطتي على مضَض. وفي مطلع سنة ٦۷ أتممت الرسالة، وناقشتها أمام لجنة من ثلاثة أساتذة برئاسته. وكان هو السبب في أنها أُجيزت بتقدير متواضع، رغم إعجاب الأستاذين الآخرين بها. واستجبت لإعلان عن وظيفة تدريس بالكلية، فتقدمت إليها، لكن كل شيء «باظ» عندما شنَّت «إسرائيل» الحرب في «يونيو» من نفس السنة.

سألتني «شرلي»: ألم تكن هناك غراميات في تلك الفترة؟

سقطت عيناي على فمها، ثم تمعَّنت في ملامحها؛ بحثًا عن أي أثر للسخرية، لكن وجهها لم ينطق بشيء. تذكرت تعليق «جيني»، وقدرت أن كل كلمة تبدُر مني هنا تنتقل بسهولة إلى الخارج.

قلت: لم يكن هناك شيء ذو بال.

حقًّا؟

قلت: كانت «نبيلة» سمراء ذات عيون واسعة، تشبه عيون أيقونات «الفيوم» الجاحظة، وساقَين بديعتَين كشفتهما الجوبة القصيرة التي ترتديها دائمًا؛ فقد كنا في عصر الميني جوب. كانت في سنِّي وتعمل في مركز البحوث الاجتماعية. نموذج للفتاة المصرية الجديدة المتحررة والمثقفة التي أبحث عنها. لم تتزوج ولا تؤمن بالزواج. التقينا لدى صديق مشترك، وانصرفنا سويًّا، وقضينا الليلة حتى الصباح في شوارع القاهرة «على أقدامنا». كانت صامتة أغلب الوقت تتطلع إليَّ في فضول، وأنا أتحدث بلا توقف عن نفسي وقراءاتي ومشروعاتي، وعن التاريخ المقارن، وكيف أنوي أن أصير مؤرخًا لا يُشق له غبار، ولا تجيب على أسئلتي عن حياتها الشخصية إلا بمقدار. أبوها مات من زمن وأمها قعيدة إحدى قرى الصعيد، لا أشقاء أو شقيقات. لا تذكر أول رجل في حياتها، حائط من الغموض أثار فضولي، وكان مقر عملها قريبًا من الجامعة، فصرنا نلتقي كل يوم تقريبًا.

توقفت مترددًا وأنا أنقل بصري بين وجوههم المتلهفة. هل أشبع فضولهم وأروي ما حدث؟

كيف استسلمت لإلحاحي ودعتني إلى مسكنها الذي تقيم فيه بمفردها. شقة صغيرة تسودها الفوضى. أطباق متعفنة في حوض المطبخ، قطة حبيسة كشرت عن أنيابها عندما أردت مداعبتها. قالت: إنها لا تغادر الشقة أبدًا. قلت: وماذا تفعل بشأن الذكور؟ قالت: إنها لا تختلط بهم. كيف؟ قالت وهي تضمها إلى صدرها، وتتحسس قمة رأسها دون أن تنظر إليَّ: لأنها لا تريدهم. تركتني أغسل كوبين للنبيذ الذي أحضرته معي، ورفضت أن تشرب. شربت وحدي، وأنا أتكلم وهي تستمع جالسة في مقعد هزاز، وقطتها في حجرها، وثوبها القصير يكشف عن ساقيها حتى منتصف فخذَيها، وهي تتأملني في براءة. بعد كأسين كنت منحنيًا فوقها. أعطتني شفتيها ببساطة، لكن دون انفعال. ثم أعلنت أنها تخشى الذهاب معي إلى الفراش كي لا أُصدم. وجالت برأسي المخمور أغرب الخواطر: هل هي رجل تحت هذه الملابس أم ليست لها فتحة؟ تحديتها بعناد الأطفال. فهزت كتفها مستسلمة، كأنما تحمِّلني مسئولية ما سيقع. تقدمتني إلى غرفة نومها فأشعلت نورها. ووضعت القطة على أرض الصالة، ثم أغلقت الباب دونها. انقضت القطة على الباب تخمشه، وتقدمت هي من الفراش وأعطتني ظهرها، جذبت الجوية إلى أسفل، ورفعت البلوزة إلى أعلى، وبقيت بقميص داخلي أسود. استلقت على الفراش، وهي تتجنب النظر إليَّ. خلعت ملابسي في تردد، وانضممت إليها. وكأنما شعرت القطة بهذا التطور، فبدأت تهاجم الباب بكل جسمها، وترتمي عليه في عنف. أحطتها بذراعي ومددت يدي إلى صدرها. عريت ثديَيها وتحسستهما ثم ضغطت عليهما، وهي تتأمل يدي في فضول. نقلت يدي إلى ساقها، فرفضت أن تفسح لها مجالًا وقالت: أرجوك. لا تحاول، سأرفضك. وتكرر اصطدام القطة بالباب، وتكررت محاولاتي ورفضها. وفي لحظةٍ ما استولى عليَّ اليأس، أو تمكَّن مني النعاس فاستغرقت في النوم. واستيقظت بعد قليل لأجد النور ما زال مضاءً، وهي تقرأ في هدوء كأنما لم يحدث شيء. والقطة متكوِّمة بيننا.

قلت: تعلقت بها، لكن الظروف لم تكن مواتية لعلاقة ناجحة.

ظهرت علامات الاحباط على وجوه طلابي. لكني كنت قد اتعظت فتجنبت التفاصيل.

اللقاءات العقيمة، الساعات الطويلة التي راقبت فيها منزلها لأرى مَن يتردد عليها، الشكوك التي راودتني في أن تكون نسخة من «بربارة»، ثم لم أكتشف ما يبررها. معلومات صديقي التي أطلقتني خلف كل مَن عرفها من الرجال. مَن رفض الإفصاح عن طبيعة العلاقة التي ربطته بها، مَن تحدَّث عنها كامرأة سهلة لفظها في الوقت المناسب وما زالت تطارده، ومَن قال إنها تكره الرجال؛ لأنها تعرضت للاغتصاب في طفولتها. لم أعرف أبدًا ما إذا كانت تستمتع برفض الرجال بعد أن تلوح لهم بأنها صيد سهل، أم تتعذب في محاولة لتجاوز صدمة ما؟

قطعت الطريق على أي أسئلة في هذا الشأن بمواصلة الحديث عن مسيرتي العلمية. فقد تمَّ تجنيدي بعد العدوان الإسرائيلي في ٦٧، وقضيت سنوات حرب الاستنزاف حتى حرب أكتوبر ٧٣ في أحد المكاتب العسكرية ﺑ «القاهرة». كانت فترةً صعبةً للغاية بالنسبة لي على كل المستويات. تخللتها صدمة موت أبي، ثم «موت عبد الناصر». لكن وجودي في «القاهرة» — الذي تحقق للأسف بوساطة — مكنني من العناية بأمي التي أصابها شللٌ تامٌّ، كما أتاح لي مواصلة القراءة. هكذا قرأت «طه حسين» الذي طفر بأصول البحث في التاريخ الإسلامي طفرة هائلة؛ إذ خرج به من نطاق المقدسات والمحظورات والمحرمات إلى موضوع للبحث والتحليل.

انطلق «طه حسين» من مجال الأدب٤ فذهب إلى أن الكثرة المطلقة مما اصطلحنا على اعتباره من الشعر الجاهلي وُضعت بعد ظهور الإسلام بواسطة القبائل والقصاص والرواة والمفسرين والشراح والمؤلفين والخلفاء. بل ذهب إلى التشكيك فيما نُسب إلى شخصيات تاريخية مثل «امرؤ القيس» من سيرة وشعر، معتمدًا التحليل التاريخي واللغوي. وقال: إن الإشارة إلى شخصيات معينة في الكتب المقدسة لا تكفي لإثبات وجودها التاريخي.

وقال «طه حسين»: إن أسباب انتحال الشعر تنطبق على انتحال الأحداث التاريخية؛ من أجل دعم موقف ما. وذهب إلى أن «كل ما يُروى عن «عاد» و«ثمود» و«طسم» «وجديس» و«جرهم»، والعماليق موضوع لا أصل له … وكل ما يُروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها، وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعًا. والكثرة المطلقة منه موضوعة من غير شك …»

وقال: «ويجب حقًّا أن نلغي عقولنا — كما يقول بعض الزعماء السياسيين — لنؤمن بأن كل ما يُروى لنا عن الشعراء والكُتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح؛ لأنه ورد في كتاب» الأغاني»، أو في كتاب «الطبري»، أو في كتاب «المبرد»، أو في سفر من أسفار «الجاحظ».»

واستقى «طه حسين» آراءه في مناهج البحث من مقدمة «ابن خلدون» التي أعد دراسة جامعية حولها، ثم تأثر ﺑ «ديكارت» ومنهجه في الشك، وأفاد منه في مرحلة التحقيق. ثم استفاد من «ماركس» و«فرويد» في مرحلة التفسير. فصار أول مؤرخ عربي يهتم بالعاملين الاقتصادي والنفسي، وتجلَّى ذلك في دراسته الفذَّة عن صدر الإسلام التي صدرت في جزءين: «الفتنة الكبرى»، و«علي وبنوه»؛ فقد اعتبر الصراعات التي نشأت عقب وفاة الرسول نتيجة طبيعية للتطور الاقتصادي والاجتماعي بعد الفتوحات الكبرى؛ إذ تكوَّنت طبقة أرستقراطية ثيوقراطية اقتَنت الضِّياع الواسعة، وتطلَّعت إلى الصدارة السياسية، وفي نفس الوقت لم يهمل دور الطبائع الإنسانية في هذه الصراعات.

عكفت بشغَف على مؤلفات «طه حسين» العديدة التي أضاءت لي حقبة هامة من التاريخ. وأدركت أن ما نعرفه لا يشكِّل كل الحقائق التي حدثت، وما وصل إلينا منها يخضع لاعتبارات خاصة بالمؤرخ والواقع الذي عاشه في أكثر الأحيان.٥

كنت أتردد على الجامعة كثيرًا في تلك الفترة، وكانت تموج بالحركة والاعتصامات التي تطالب بشن الحرب من أجل تحرير أراضينا المحتلة، لكني قبعت في المكتبة نائيًا بنفسي عن كل هذا، فلم أتعرض لأذًى عندما اقتحمت قوات الأمن المركزي الجامعة وفضَّت اعتصامًا بالقوة، ولا عندما طاردت تجمعات الطلاب في ميدان «التحرير» التي ردَّدوا فيها هتافهم الشهير «اصحي يا مصر»، ولا عندما ظهرت جماعات الطلبة المسلحة بالسكاكين والجنازير التي تكوَّنت بتشجيع من «السادات».

وفي أكتوبر ۱۹۷۳م خاض الجيش معركة التحرير، وألحق هزيمة موجعة ﺑ «إسرائيل»، وحانت فرصتي لكي أواصل مسيرتي الأكاديمية.

كان «بيبة» قد ترك الجامعة إلى قيادة الاتحاد الاشتراكي، وبالتحديد أمانة الدعوة والفكر. واختفى أغلب الأساتذة في دول الخليج، ومن بينهم «حلمي» الذي حصل على الدكتوراه في عام ٦۷ برسالة عن «الجذور التاريخية للاشتراكية الناصرية». ولم أجد مشرفًا لرسالتي سوى أحد أساتذة التاريخ الإسلامي البارزين. ودفعني تأثري بمنهاج «طه حسين» — وربما أيضًا بتمرده الذي بدأ برسالته للدكتوراه عن «ذكرى أبي العلاء» — إلى أن أجعل من محاولة نفض الغبار عن إحدى ظواهر التاريخ الإسلامي المجهولة، وأقصد بذلك الحركة القرمطية، موضوعًا لرسالتي. ولم أدرِ أني بذلك كنت أدخل عُش الدبابير.

ألقيت نظرة على ساعتي، وفتحت باب التعليقات والنقاش، ولاحظت نظرة انتصار في عيني «فيرنون»، كأنه قد أمسك بي متلبسًا.

قالت «فادية» وهي تسوي غطاء رأسها الأخضر اللون: إنك تعطي الانطباع بأن التاريخ الإسلامي الذي نعرفه مُلِئ بالأكاذيب. من الممكن أن نقبل هذه المقولة على أساس ضرورة التحقق من تفاصيله. لكن هذا يجب ألا يمتد إلى المقدسات، ليس من الممكن التشكيك في الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن.

قلت: ذلك كان «طه حسين». ونلاحظ أنه قرر في التحقيق الذي جرى معه أنه كمسلم لا يرتاب في وجود النبيين «إبراهيم» و«إسماعيل»، وما يتصل بهما مما جاء في القرآن، لكنَّه كعالم مضطر إلى أن يذعن لمناهج البحث فلا يسلِّم بالوجود العلمي التاريخي لهما. هو يقصد أن ما يرِد في كتاب الله يجب أن يؤخذ في سياق الدعوة، وبالتالي فكثير مما جاء به هو من باب الرمز، وله دلالة دينية أكثر منها تاريخية. وليس من الضروري أن يكون حقائق تاريخية. ولا بد من إعمال العقل للتفرقة بين ما هو حقيقي وما هو رمزي. خذي مثلًا قصة عصا «موسى» وشق البحر، أو «يونس» في بطن الحوت. أمثال هذه القصص تهدف إلى تصوير ما يمكن أن تحققه قوة الإيمان، وليس من الضروري أن تكون قد حدثت بالفعل. هذه قضية قديمة في الفقه الديني تتعلق بمناهج تفسير النصوص وتأويلها.

لم يبدُ عليها الاقتناع، فأضفت: من ناحية أخرى، هناك الكثير مما هو مختلق فيما وصل إلينا. لا بد أنك قرأت في صحيفة «الأهرام» مقالًا لعالم دين يُدعى الدكتور «محمد وهدان»، يزعم فيه أن الرسول نهى عن قتل البراغيث، وينسب إليه أنه قال: «لا تسبوها؛ فنعمت الدابة، فإنها أيقظتكم لذكر الله تعالى.» هل يمكن أن يقول الرسول كلامًا كهذا؟ هل يمكن لأي عاقل بله متعلمًا أن يصدق ذلك؟ هل يعقل أن الدين الوحيد الذي يأمر بالنظافة والاغتسال خمس مرات يوميًّا يحض على عدم التعرض للبراغيث التي تنقل التيفوس والطاعون؟ الواقع أن أحاديث كثيرة نُسبت للرسول وخصوصًا ضد النساء.

علق «لاري» قائلًا: في السنوات الأخيرة اكتشف المؤرخون وعلماء اللاهوت حقائق خاصة بالكتاب المقدس، لم تكن معروفة من قبل. تبيَّنوا مثلًا أن العهد القديم تجميع ملتبس لوثائق مستقلة من مصادر مختلفة، وأن مواد عديدة من التوراة الراهنة مأخوذة من شريعة «حمورابي»، وغيرها من الشرائع القديمة. وأكثر التراتيل والمزامير والأناشيد الدينية مقتبسة من الكنعانيين ومن المصريين: «مزامير داوود» من أناشيد «إخناتون»، وقصة «آدم» و«حواء» وشجرة التفاح تعود جذورها إلى «سومر» وهي مصورة على نقش سومري. وقصص الفردوس و«هابيل وقابيل» و«نوح» والطوفان جاءت في التوراة مشابهة لمدونات السومريين والبابليين. كذلك قصة «يوسف» مع امرأة سيده ووِلادة «موسى» منقولة عما رواه «سرجون الأول» ملك الأكديين (٢٣٨١–٢٣١٦ق.م.) عن نفسه. كما لم ترد أي إشارة مكتوبة أو منقوشة عن المسيح إلا بعد خمسين عامًا من وفاته؛ إذ كُتبت الأناجيل الأربعة بين عامي ۷۰ و۱۱۰. ليس هناك شك في وجود المسيح وفي صلبه، فهذا موجود في التاريخ الروماني، لكن كثير مما نُسب إليه أساطير تناقلتها الشفاه طوال خمسين سنة. لم تكن هناك صحف أو وسائل اتصال أو تسجيلات. لنا أن تتخيل كم المخترعات والتشويهات التي وقعت في تلك الفترة.

تحداه «فيرنون» قائلًا: إذن أنت لا تصدق القصص المروية عن المسيح؟

لم يرتدع «لاري»: بص. المسيح ترك أثره على العالم كما فعل بقية الأنبياء. ومن الواضح أن كل شيء حولنا لم ينشأ صدفةً، وإنما بإرادة إله. لكن لماذا يجب أن ندعم إيماننا بالأساطير؟ ألا يمكن أن نؤمن من غيرها؟ الإيمان الحقيقي لا يحتاج إلى ما يدعمه، لا إلى شيء مادي أو برهان من أي نوع. لقد كُتبت الأناجيل متفرقة لأغراض مختلفة، ولم يتم تجميع «العهد الجديد» إلا في القرن الرابع الميلادي باللغة اليونانية على لفائف البردي. البردي طبعًا كان يُصنع من نبات ينمو على شاطئ «النيل» وهو الورق الوحيد وقتها، لكنَّه يتميز بسرعة التحلل. هكذا اختفى النص الأصلي، لكن صُنعت نسخ. وبالتالي كانت هناك تغييرات، وحدثت تغييرات أخرى في العهدين القديم والجديد أثناء الترجمة من اليونانية والعبرية إلى اللاتينية، ثم إلى اللغات الأخرى. فهل ينتقص هذا من إيمان المؤمن؟

لم يرد أحد، فانتهزت الفرصة لإعلان ختام النقاش.

مضيت إلى غرفتي مباشرة، فوجدت فوق مكتبي باقة من الورد مرفقة بورقة من «فيتز» يذكرني فيها بالجولة التي وعدني بها في المدينة. لم تكن الورود هي المفاجأة الوحيدة في ذلك اليوم، فعندما عدت إلى منزلي وفتحت الكمبيوتر، وجدت رسالة بالبريد الإلكتروني تتألَّف من سطرٍ واحدٍ دون توقيع: «شعري كله بلونٍ واحد.»

١  أضاف «أحمد صادق سعد» إلى ذلك عاملًا هامًّا يرتبط بنمط الإنتاج السائد في كل من «روما» و«مصر» و«الجزيرة العربية»؛ فقد اعتبر الفاتحون العرب «مصر» بأرضها وثرواتها وبشرها، ملكًا لأمة الإسلام أي الدولة الجديدة. وتطابق ذلك مع أساس النمط السائد في الاقتصاد المصري، وهو النمط الآسيوي. ففي حين حاول الإغريق والرومان فرض الملكية الفردية الخاصة لوسائل الإنتاج لم يأتِ العرب بنمط مغاير عن المصري؛ مما ساعد على رفع الحاجز الاقتصادي بين الجانبين.
٢  توفِّي ۹۳۸م، بعد قرنين وربع قرن من الهجرة.
٣  لم تتجاوز مدة خلافة سليمان بن عبد الملك سنتين وعدة أشهر؛ إذ توفِّي سنة ۷۱۸م. وكانت الدولة الأموية قد بلغت ذروتها، وبدأت في الاضمحلال حتى انهارت تمامًا بعد ثلاثين سنة. وقد اشتُهر هذا الخليفة بنهمٍ دائم إلى الطعام سيطر عليه ليلًا ونهارًا، حتى صار مضرب الأمثال في الشرَه. وجاء في كتاب «المردفات من قريش» عن «أم سلمة»: فتزوجها الوليد بن عبد الملك، فأعجلها سليمان وعليها درع فأدخله من وراء الثوب، ثم طلقها فتزوجها «هشام بن عبد الملك».
٤  عرض طه حسين (۱۸۹۸–۱۹۷۲م) الذي عُرف بلقب «عميد الأدب العربي»، أفكاره الثورية في كتاب صغير بعنوان «في الشعر الجاهلي»، أحدث ضجة كبرى عند نشره سنة ١٩٢٦م. فقد أحال شيخ الأزهر إلى النائب العام تقريرًا من علماء الأزهر يتهمون فيه الكتاب بأنه كذَّب القرآن، وطعن على الرسول، ويطالبون باتخاذ الوسائل القانونية ضده. وتقدم أحد نواب البرلمان ببلاغٍ مماثل، وجرى التحقيق معه بواسطة محمد نور، رئيس النيابة الذي أثبت في محضره اعتراضه على النتائج التي توصل إليها طه حسين، وعلى التهمة الموجهة إليه في الوقت نفسه، فقال: إن المؤلف كتب ما كتبه عن اعتقاد تام، وإنه «إذا كان قد أخطأ فيما كتب؛ إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء، وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر»، وخلص إلى «أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه؛ إنما أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر؛ فلذلك تُحفظ الأوراق إداريًّا.»
٥  تناول زميلي الدكتور محمود إسماعيل هذا الموضوع بالتفصيل في كتابه «قضايا في التاريخ الإسلامي»، دار العودة، بيروت ١٩٧٤م، مشيرًا إلى أن الوثائق الخاصة بالتاريخ الإسلامي من اتفاقيات ومعاهدات وعقود ملكية، وأعطيات الجند، ومتحصلات الجباية وغيرها مما كانت تحويه سجلات الدواوين، اختفت من جرَّاء الصراع الداخلي بين القوى السياسية المختلفة التي تولَّت الحكم، أو نتيجة الغزو الخارجي. والقليل الذي وصلنا من وثائق التاريخ الإسلامي عبثت به يد التحريف والتزييف. وحفلت المراجع والحوليات بالخرافات والروايات الأسطورية، فضلًا عن عدم الدقة، ناهيك عما لعبته الأهواء السياسية والدعاوى المذهبية والأوضاع الطبقية والنعرات العصبية والنزعات العنصرية من دور في طمس حقائق هذا التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤