الفصل السابع عشر

تباطأت السيارة أمام بوابة حديدية في سور ارتفاعه ثمانية أقدام. وتبينت في ضوء الغسق مساحة هائلة من الخضرة تتخللها عدة نخلات، ويقبع في نهايتها قصر تشع منه الأضواء الكهربية. وكان ثمة ملعب للتنس قرب المدخل، ثم عدة مبانٍ صغيرة متناثرة ميَّزْت بينها بيتًا للنباتات، وعدة أكواخ ومساحة لامعة السطح، قدرت أنها حوض سباحة. تصوَّرت أن هذه وجهتنا، لكن «إستر» تجاوزت السور، وولجت شارعًا جانبيًّا غير ممهد، وتوقفت في مكان انتظار ضيق تطل عليه مخازن متعددة الطوابق. غادرنا السيارة الصغيرة فلفحنا الهواء البارد. تقدمتني إلى مبنًى معدني، من النوع الذي يمكن فكه ونقله إلى أي مكان، طُليت جوانبه المتعرجة بلون أبيض، وتوَّجته لافتة من النيون تمثل رجلين في الملابس المكسيكية المألوفة.

ولَجنا قاعة مزدحمة برواد يغلب الطابع اللاتيني على أغلبهم، وتشي سماتهم بأنهم من الطبقات العاملة. كان المكان نظيفًا عابقًا برائحة «الشيلي» وزيت الطهي ودخان السجائر. وأجبرتني الحرارة على خلع معطفي.

قادتنا نادلة بدينة قصيرة متجهمة، ذات ملامح مكسيكية، إلى مائدة في المنتصف ثم مضت إلى مطبخ مكشوف في طرف القاعة يتولَّاه رجل ضخم في مريلة بيضاء منشاة فوق «تي شيرت». تناولت منه صينية حملتها إلينا. كانت تضم صحنًا من فطائر الذرة المحمرة قليلًا، «تورتيلا»، وطبقًا على شكل القارب به قطعتان من الزبد، ودورقًا من الماء وكوبين.

أخذت «إستر» قطعة «تورتيلا» ودهنتها بالزبد، وطوتها ومضغتها بسرعة ثم شربت ماء، وفعلت مثلها.

رويت لها ما ذكره لي أستاذ الدراسات التوراتية من عدم الخلط بين اللحوم ومنتجات الألبان.

قالت وهي تقضم: أنا آكل كل شيء. وأنت؟

قلت: مثلك.

بعد قليل أحضرت النادلة حساء من كرات اللحم تصاعد منه البخار، واشتدت الحرارة، فخلعت «إستر» سترتها الصوفية كاشفةً عن بلوزة سوداء بلا أكمام. ألقت السترة فوق ظهر مقعدها، وهي تتجنب النظر ناحيتي كأنما شعرت بوقع عيني على ذراعَيها العاريتين.

قالت: هل ذقت «البورنيتو»؟

أبديت جهلي فاستطردت: الكلمة تصغير للبغل بالإسبانية. ساندويتش من الخبز الرقيق يحتوي على فول وأرز وزبادي و«أفوكاتو» ولبنة. يمكن أن تأكله مسطحًا أو ملفوفًا. هناك حانوت خاص به في «ميشان». أنا أعشقه، فهو يذكرني بساندويتشات «الفلافل» الإسرائيلية.

رفعت إصبعي في وجهها قائلًا: العربية.

قطَّبت جبينها وأوشكَت أن تحتد، ثم تمالكت نفسها وانفرجت أساريرها. مدت يدها ولمست يدي ثم أبعدتها.

قالت: لا داعي لأن نختلف حول ساندويتش.

قلت: المسألة ليست مجرد ساندويتش، إنها حقائق التاريخ.

وضع الطعام حدًّا للنقاش؛ إذ أحضرت النادلة لكل منا صَحنا من الخزف بقطع من اللحم، وخضراوات متنوعة ميزت بينها حبَّات الذرة والفلفل الأخضر، وأضافت صحنًا صغيرًا من خليط عصير الليمون والفلفل والزيت.

بدأنا نأكل في صمت، وقد خيَّم علينا جوٌّ من التوتر.

حانت مني نظرة إلى شعرها الأشقر وهي محنية برأسها. كانت بعض جذوره تميل إلى الدكنة.

مصبوغ؟

لم يكن برسالة الكمبيوتر اعتذار عن عدم الحضور في موعد «فخ السائح»، كما حدث مع الموعد السابق في «جولدن جيت بارك». ولا ورد بالطبع. الورد جاء منفصلًا من «فيتز». ولم تضم خانة الراسل سوى حرف «إكس» الإنجليزي مكررًا ثلاث مرات؛ ولهذا ظننت للوهلة الأولى أنها من أحد مواقع البورنو التي تغير دائمًا على بريد الشبكة.

شخص آخر؟

المؤكد أن كاتبة الرسالة أو كاتبها قد سمعت أو سمع بقصتي مع «باربارة».

قالت فجأةً: وقعت اليوم مشادة بيني وبين تلميذتك «مونا».

رفعت حاجبي ولم أعلق.

استطردت: غضبت بسبب الملصقات التي أعلقها في الغرفة.

«موساد» أو «سي آي إيه»؟ وما هو الهدف؟ توريطي في شيء ما؟ التمهيد لفضيحة عن التحرش الجنسي؟ وهل أنا مهم إلى هذه الدرجة؟ أم مجرد مزحة ثقيلة من عابثٍ أو مخبول؟ تبدو عاقلة ورزينة وحصيفة. لكن المسلسلات التليفزيونية الأمريكية حافلة بالشخصيات التي تبدو طبيعية تمامًا، ثم تتكشف عن أهواء وأعماق غريبة.

رفعت إصبعها إلى فمها، وأزالت نسيلة من اللحم علِقت بشفتها السفلى.

قالت: هل تعرف أنها تضع باروكة؟

لم أعنَ بالتعليق على ما اعتبرته من قبيل النميمة النسائية.

أصرت: واضح أنك لم تفهم.

تطلعت إليها متسائلًا.

ابتسمت وقالت: اليهوديات المتعصبات مثل المسلمات يعتبرن شعر الرأس عورة، ولا بد من إخفائه تمامًا عن الأنظار. هن يستخدمن الحجاب مثل المسلمات تمامًا. ومَن لا تحبه تغطى رأسها بالشعر المستعار.

انهمكت في الأكل، بينما كنت أتخيل «مونا» في ملابس الحجاب السابغة.

قالت بعد لحظة: بين طلابي يهود أمريكيون لا يعرفون شيئًا، يعترضون إذا ما استشهدت بكتابات «إدوار سعيد»، ولا يحبون الحديث في السياسة، فأتعمد الإشارة إلى دراسات المؤرخين الجدد.

حكيت لها عن «لاري» والصعاب التي يواجهها، فلم تعلق.

قالت: مرة كنت أتحدث عن مذبحة قرية «كفر قاسم» سنة ٥٦. هل تعرف القصة؟

قلت: لا أذكر التفاصيل.

بدا عليها الانبساط؛ لأنها ستتولى تنويري.

– فرض الجيش الإسرائيلي حظر التجول على سكَّان القرية. لكن مائتين من مزارعيها العرب كانوا في الحقول ولم يعلموا بالقرار. وذهب الجندي المكلَّف بمدخلها إلى قائده يطلب منه الرأي فيما يفعل عند عودتهم؛ فقال له القائد: «يرحمهم الله.» واعتبر الجندي هذا التصريح تفويضًا بالقتل.

– قتلهم؟

– عن آخرهم.

مددت يدي والْتقطت ملعقة صغيرة ملأتها بخليط الليمون والزيت، ووزعته فوق محتويات طبقي من الخضراوات.

انزعج الطلاب من القصة، وبعضهم تأثروا وبكوا، والبعض الآخر اعترض على كلامي وشكك في صحته. لم يتصوروا أن «إسرائيل» يمكن أن تقوم بعمل غير أخلاقي.

رويت لها تعليق «مونا» على مذبحة «دير ياسين».

تابعت: وفي مرة كنت أحدثهم عن توزيع المياه في «المناطق»، أقصد الأرض المحتلة (وابتسمت). هناك منطقة لا تختلف عن «بيفرلي هيلز»، مجموعة من المنازل المستقلة لسكان من الطبقة الوسطى في مشهد طبيعي بديع في ظل التلال العربية. كل منزل به مرج من الحشائش، وحمام سباحة يستلقي حوله المستوطن الإسرائيلي وأسرته. بينما يسير الفلسطينيون عدة كيلومترات حاملين مياه شربهم في علب الصفيح الرخيصة. في قلب المنطقة الفلسطينية ٥٢١ مستوطنًا يهوديًّا يقوم على حمايتهم ٤٠٠٠ جندي إسرائيلي. أيُعقل هذا؟ إنه سلوك غير يهودي، ومع ذلك يقره كثيرون من اليهود.

لم أفهم ما تعنيه بإشارتها المتكررة إلى السلوك اليهودي، أو بالأحرى غير اليهودي.

أنهت طبقها وتراجعت إلى الخلف في مقعدها، واختفت يدها أسفل سطح المائدة، وشككت في أنها تفك الزرارين الأخيرين من بلوزتها.

قالت وهي تتحاشى النظر إليَّ: حتى زوجي وهو من أصل عربي، عراقي.

لم أشأ أن أستفسر وتركتها موقنًا أنها راغبة في الفضفضة.

– دبت بيننا الخلافات ثم جاءت «الانتفاضة» التي أصابتني بالاكتئاب.

أومأت برأسي متصورًا مشاهد القتلى من الأطفال الذين يدافعون عن أنفسهم بالحجارة.

لكنها أوضحت الأمر بقولها: كانت صدمة قاسية لي عندما اشترك بها عرب «إسرائيل».

أشعلت سيجارة، ورفعت النادلة محتويات المائدة فطلبنا قهوة.

سألتها: أين وُلدت؟

لم يعجبها السؤال لكنها أجابت: وُلدت ونشأت في «إسرائيل»، أهلي بولنديون نزلوا «فلسطين» في العشرينيات أو الثلاثينيات. هم الرواد: «الصابرا» أو «خالوتسین».

– تعيشين هناك؟

– لأ، هنا.

أحضرت لنا النادلة كوبين من القهوة، وارتشفت قهوتي الخفيفة في غير حماس، وأنا أتأمل وجهها المستدير وعينيها الزرقاوين اللتين تزحَف الدهون نحوهما.

لماذا وضعونا معًا في غرفة واحدة؟ ولماذا علقت الملصق الجريء؟

سألتني: هل تتابع «نيويورك تايمز»؟

أجبت: أحيانًا.

قالت: منذ أيام قليلة تصدَّرت صفحتها الأولى أنباء مباحثات … «عرفات» و«نتينياهو» في «ميريلاند». وظهر «عرفات» في صورة وإلى يساره «نتينياهو»، وإلى يمينه مترجم ثم «دنيس روس» المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، و«أولبرايت» وزيرة الخارجية. هل تعرف أن كلهم يهود؟ حتى المترجم.

قلت: رأيت الصورة، لكني لم أنتبه لذلك.

– كان «عرفات» يبتسم ابتسامة عريضة، وفي حالة انبساط تام. إنه يتصور أنه سيحصل على حقوقه، لكن ليست لديه فرصة.

سألتها عن الحل.

قالت: يجب أن تأخذ «إسرائيل» ما أعطته لها الأمم المتحدة في ٤۸؛ لأنه تم بتراضي دول العالم. أما ما أخذته في ٦٧ في حرب غير أخلاقية، فيجب أن يعود بالكامل إلى أصحابه.

قلت: موقف أخلاقي.

قالت: وعمليٌّ أيضًا. مصلحتي هي السلام مقابل الأرض.

تابعت النادلة وهي تقترب، وفي يدها ما قدرت أنه ورقة الحساب. وضعتها على سطح المائدة مقلوبة على ظهرها، وفي مكان محايد وإن كان أقرب مني، ثم انصرفت.

مددت يدي إلى الورقة، فوضعت يدها فوقها.

قالت: أنا الداعية.

تمسكت بالورقة وأنا أقول: تعرفين العرب؟

هزت رأسها عدة مرات: سيكون سلوكًا غير يهودي.

قلت وأنا أسحب يدي: الدفع؟

وانفجرنا ضاحكين.

أضافت: ثم إني أحتفل بالعيد.

– أي عيد؟

– العيد القومي، خمسون سنة على قيام «إسرائيل».

نهضت واقفًا استعدادًا للمغادرة. ارتديت معطفي وجذبت هي سترتها، وعندما دست فيها ذراعًا لمحت خصلة من الشعر الأشقر أسفل إبطها.

التقت عيوننا فقالت بخبث: عندك اعتراض؟

ارتبكت وقلت: على ماذا؟

– على احتفالي بالعيد؟

هززت كتفي، وأنا أتحرك في اتجاه الخروج: هذا شأنك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤