الفصل السادس والعشرون

وجدت خمس رسائل جديدة في بريدي الإلكتروني.

كانت الرسالة الأولى محولة إلى من «إستر»، وتتضمن مقالًا معدًّا للنشر في إحدى الصحف الإنجليزية١ جاء فيه أن علماء المعهد البيولوجي في «نيس تزيونا»، مركز بحوث الترسانة الإسرائيلية السرية من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، عاكفون على إنتاج سلاح بيولوجي يصيب العرب، ولا يؤذي اليهود؛ وذلك عن طريق تحديد الجينات المميزة التي يحملها العرب، ثم إنتاج بكتريا دقيقة مميتة يقتصر أذاها على مَن يحملون هذه الجينات.

ونسب المقال لأحد علماء المعهد قوله: «إن المهمة صعبة؛ لأن العرب واليهود يشتركون في الأصل السامي.»

وأكدت لي الرسالة الثانية أن هناك شخصًا معينًا يرى فيَّ إنسانًا غير عادي، ويتطلع إلى التعرف بي. كل ما عليَّ هو أن أنقر على السهم، وأسجل رقم بطاقتي الائتمانية.

وكانت الرسالة الثالثة من «دوريس» تنصحني فيها بألا أرد على مَن يناديني باسمي؛ إلا عندما يكرر النداء ثلاث مرات، وخاصة بالليل؛ لأن مصاصي الدماء يخرجون من قبورهم في «الهالووين»، وينادون الناس بأسمائهم، ولحسن الحظ أنهم لا يتمكنون من تكرار النداء سوى مرتين.

وحثتني رسالة من أحد زملائي في «القاهرة» على عدم العودة، والتماس أية وسيلة تبقيني بعيدًا عن جو البلاد الملبَّد بالصراعات والأخطار.

أما الرسالة الأخيرة فكانت من xxx ونصها: «أمس ابتعت بعض الملابس الداخلية، وتخيلتك أمامي وأنا أجربها. لو رأيتني في مايوه من قطعتين لفقدتَ عقلك؛ فما بالك إذا رأيتني عارية؟»

أزلت الرسالة التي تطلب رقم بطاقتي الائتمانية، وقرأت رسالة «إكس» مرة أخرى، ثم أغلقت الجهاز. قمت إلى المطبخ فوضعت إناء المياه على النار. وذهبت إلى غرفة النوم، ووقفت خلف المصراع الزجاجي أتأمل الظلام الدامس والمطر الذي يتساقط في هدوء. عدت إلى المطبخ، وأعددت كوبًا من الشاي حملته إلى مائدة التليفزيون، ووضعت الشريط الذي أعطتنيه «شادويك» في جهاز الفيديو.

شاهدت فيلمًا مثيرًا يستعرض — من خلال كمٍّ وافر من اللقطات الوثائقية — تطور الحركة الطلابية والاحتجاجية الأمريكية منذ بداية الستينيات، وخاصة في جامعة «بيركلي»،٢ مستعينًا بمقابلات مع خمسة عشر من قادَتِها. وتقاطع حديث أولهم مع لقطات من مظاهرة قام بها طلاب الجامعة في مايو ١٩٦٠م، أمام المبني الذي اجتمعت فيه لجنة النشاط المعادي لأمريكا برئاسة السناتور «مكارثي» الشهير، والتي استدعت خيرة الكتَّاب والفنانين للمُثول أمامها بتهمة ميولهم الشيوعية.

كان ذلك حدثًا فارقًا؛ لأن «بيركلي» هي الجامعة التي يتخرَّج منها رجال المؤسسة. وتغير كل شيءٍ من لحظتها. فتوافد طلاب الجامعات الأخرى على «بيركلي»، وملئُوا فنادق «سان فرنسيسكو»، وتظاهروا ضد التمييز العنصري.

تعددت الاعتصامات والتظاهرات، حتى منعت إدارة الجامعة الموائد السياسية في الشوارع المحيطة بالكامبوس في سنة ١٩٦٤م، فاعتصم الطلبة في ممرات الجامعة.

ووصف «جون جاجر»، الذي صار الآن من مديري الشركات في وادي «السيليكون» الشهير، موطن الصناعات الإلكترونية في «كاليفورنيا»، وارتدى بزة كاملة بربطة عنق وصدرية، وصف تلك الأيام بأنها كانت «صحوة سياسية». فلأول مرة يتفق الطلبة من تيارات مختلفة. وتواصلت اجتماعاتهم بالأيام حتى شكلوا لجنة توصلت إلى اتفاق مع إدارة الجامعة، لكن الأخيرة لم تلبث أن أحالت ثمانية طلاب للجنة تأديب، فبدأت الاعتصامات من جديد.

تتابعت اللقطات التسجيلية للاعتصام في طرقات مبنى الجامعة الرئيسي. ظهر الطلاب وهم يدرسون ويغنون ويرقصون وينامون على الأرض. بدا الأمر مثل حفل هائل، وأحاطت الشرطة بالمبنى فتسلق الطلبة الحبال؛ لينضموا إلى المعتصمين، ثم بدأ البوليس يخرجهم بالقوة وهم يقاومون، فيجرهم فوق السلالم ويقبض عليهم.

وجرى تنظيم اجتماع حاشد في المسرح الروماني بالجامعة تحدَّث فيه مدير الجامعة، وعندما أراد أحد قادة الطلاب المسمى «ماريوسافيو» أن يتحدث منعوه.

كتب الطلاب مشروع قرار، وحملوه إلى مجلس الأساتذة الذي أقرَّه بالأغلبية. وخرج المجلس وسط الطلبة، فأكد انتصارهم وأقام الطلبة احتفالًا بهذه المناسبة. وعندما انتهى الحفل صاح فيهم «ماريو»: لا تذهبوا، أمامنا حرب يجب أن نوقفها.

أدلى «ماريو» أكبر سنًّا وأكثر امتلاء بشهادته عن تلك الأيام: «في مايو ١٩٦٥م، احتفلنا بيوم «فيتنام». الحرب فضحت لا أخلاقية بلدنا … لقد شاهدنا صور المذابح التي يرتكبها جنودنا، وقررنا إيقاف قطار من المجندين المتجهين للقتال لكننا لم نتمكن.»

وفي ١٥ أكتوبر نظموا مسيرة ليلية في شارع «تلغراف» الرئيسي، وضع البوليس العوائق في طريقها. بعد شهر تمكنت مسيرة جديدة من عبور العوائق، وانتقل الاحتجاج إلى «سان فرنسيسكو» ذاتها؛ حيث خرج الناس إلى الشوارع يعزفون الموسيقي ويرسمون على الأرض.

تحدث «ماريو» في هدوء، ودون انفعال على عكس اللقطات التاريخية المشحونة بمشاعر الغضب والسخط: «بدأنا نرى المشكلة أكبر من حرب فيتنام أو حركة الحقوق المدنية … الثقافة مريضة ونظرة «أمريكا» للأمور مريضة … وبدلًا من المعارضة، بدأنا ننفصل ونعيش بطريقة مختلفة … أصبحنا مغتربين عن المجتمع الأمريكي، فحاولنا أن نصل إلى الأغلبية … في أكتوبر ۹۷ قررنا أن نغلق مركز التجنيد المجاور.»

اعترض المتظاهرون باصات المجندين المتجهة إلى المركز، وهم يصيحون في ركابها: «قل لا. لست مضطرًّا للذهاب.» وقامت الشرطة بحماية السيارات، ومحاولة إبعاد المتظاهرين بالقوة.

ختم «ماريو» ذكرى ذلك اليوم بنبرة فخار: «سيطرنا على وسط «أوكلاند» معظم اليوم، وكان البوليس مضطربًا ومذعورًا.»

بدت كلمات مدير «السيليكون» التالية كردٍّ على «ماريو»: «فكرت أن هذا لا يمكن أن يؤدي إلى التغيير … المتظاهرون انتزعوا أسيجة حدائق أهالٍ لا تزيد دخولهم عن خمسة آلاف دولار في السنة ليصنعوا منها متاريس … هل هذا سيوقف الحرب؟»

أغلقت الباب بعد انصرافهم، وعُدت إلى مكاني أمام التليفزيون. ضقت به بعد قليل، فوضعت فيلم «مسز براون» في جهاز الفيديو.

تابعت في استغراقٍ أحداثَ الفيلم الذي يروي الجانب الخفي من حياة الملكة «فكتوريا»، التي حكمت الإمبراطورية البريطانية في أزهى عصورها، عندما لم تكُنِ الشمس تغيب عنها، وصارت رمزًا لها وللأخلاق المتشددة، بينما كانت على علاقة سرية مع خادم أميٍّ في الإسطبل تمخضت عن طفلة.

انتهى الفيلم فقمت أتمطَّى وأتثاءب، وتناولت إعلان الحفل الراقص من فوق مكتبي. تأملت الصورة بإمعان باحثًا عما جذَبني إليها، كان هناك شيء حميم ومثير في تقارب الوجهين والأنفَين اللذين أوشكا على التَّماس، وفي النظرات الموجهة إلى الشفاه، والاستسلام البادي في ملامح البيضاء. أغمضت عيني وتصورتهما وقد تلاقت عيونهما بدلًا من تركيزهما على الشفاه. بحثت عن الكلمة التي يمكن أن تعبر عن هذا المشهد: التلاحم. التوحد …

الذوبان؟

يبدو أني غَفَوت بعض الوقت؛ فقد انتبهت على صوت الجرس. كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، فأسرعت إلى الباب، وفتحته ﻟ «ماهر» و«مروان».

قُدتهما إلى الصالة، ووضعت المياه على النار. أعطاني «ماهر» آخر ملف من أوراق مؤتمر المثقفين المزمع، ولاحظت أن ملابس «مروان» فقدت الأناقة التي ميَّزتها في أول لقاء بيننا.

تصفحت محتويات الملف التي لم تتجاوز ورَقتين. كان نصًّا مصورًا عن مقال في إحدى المجلات ﻟ «فريد عظمي»، الأكاديمي المعروف، الأمريكي من أصل لبناني، المتخصص في تطور الفكر العربي.٣ مررت بعيني على بعض العناوين الداخلية للمقال، ولا بد أن شيئًا من الامتعاض ظهر على وجهي؛ إذ قال «ماهر» بحماس: اقرأه جيدًا. ستجد أنه يبرز وجهًا مشرقًا لانخراط الفكر النقدي. ماذا قررت بشأن ورقتك؟

قلت: ما زلت حائرًا.

قال وهو يرتشف الشاي: ما رأيك في أن تكتب عن محنتك؟

أجبت بسرعة: لا تذكرني.

قال: فكر.

ترددت ثم قلت: سأحاول.

تحولت إلى «مروان» وقلت: رأيتك في مظاهرة المشرَّدين.

ضحك، وقال: أصبحت منهم.

شرح لي أنه انفصل عن زوجته، وكاد يصبح في الشارع لولا أن استضافَه أحد أصدقائه.

تذكرت «فيتز»، فقلت: استولت زوجتك على المنزل، وعلى رصيدك في البنك؟

سألته عن ابنه فقال إنه مع أمه.

نظر «ماهر» في ساعته، وقال: يجب أن نذهب.

استمهلتهم حتى ارتديت كلسونًا طويلًا من الصوف فوق الكيلوت القطني، وغادرنا المنزل إلى سيارته. قال بمجرد أن جلست إلى جواره: ما هي أخبار «شرلي»؟

قلت مندهشًا: ما لها؟

قال وهو يدير الموتور: لا شيء. أريد فقط أن أحذِّرك؛ فهي تأكل الرجال أكلًا.

كانت واجهات المنازل مزدانة بالمصابيح الكهربائية. وانعكست أضواؤها على ثمرات كبيرة الحجم من نبات القرع البرتقالي اللون، وضعت أسفل نماذج ورقية من الهيكل العظمي البشري، وزين أحد المنازل نوافذه بنسيج العنكبوت.

أخذنا «ماهر» إلى دار قريبة للسينما، تعودَّت منذ عشرين عامًا أن تقدِّم في منتصف ليلة «الهالووين» كل عام عرضًا خاصًّا بالمناسبة.

كان هناك طابور طويل يمتد من أول الشارع الذي تقع فيه الدار. وتجمَّع أمامها حشد من الشباب في أشكال غريبة من الملابس، وأصباغ ثقيلة وشعور ملوَّنة. ورغم برودة الجو ظهرت بعض الفتيات بقمصان داخلية سوداء، تكشف عن سوتيانات حمراء. أما الرجال فكانوا في بزات سوداء كاملة أو ملابس نسائية شبه عارية، وتنكر البعض الآخر في هيئة الوحوش ومصَّاصي الدماء.

دخلنا بسهولة؛ لأن «ماهر» سبق أن حجز لنا أماكننا. وفوجئت بالشباب الذين تركناهم في الخارج يعتلون خشبة المسرح، ويتحركون فوقها جيئة وذهابًا مستعرضين أرديتهم. ثم بدأ الفيلم وتتابعت العناوين، وإذا بالفتيات يشرعن في نزع ملابسهن، وهن يتعانقن ويتلوين، حتى أصبحن في السوتيانات والكيلوتات. ثم انطلقن في الغناء مع اللقطات الأولى من الفيلم التي صورت حفل زواج. وتساقط شيء فوق رءوسنا تبينت فيه حبات أرز.

قام الواقفون على خشبة المسرح بتمثيل ما يجري على الشاشة، وشاركهم الجمهور. فعندما دار رقص على الشاشة قلَّده الواقفون فوق الخشبة، ووقف المتفرجون ورقصوا بدورهم. وعندما هطل المطر على الشاشة، وغطَّت البطلة شعرها بصحيفة قلدها الجميع، وهكذا.

كانت الضجة فظيعة قادها أحد المغنِّيين، وبلغت أقصاها عندما دخل الزوجان — البطل والبطلة — قلعة غريبة. وسرعان ما وُضع المغني تحت مقصلة ملوَّثة بالدماء، فصلت رأسه عن جسده. وحملت الجثة إلى مائدة مغطَّاة بقماش أبيض، فعكف الزوجان على تقطيعها، ووضعِ أجزائها في أطباق مستطيلة وبرطمانات زجاجية، ثم أخذا يلتهمان السواعد والأيدي، وقد تناثرت الدماء فوق ملابسهما ومن حولهما.

لم يمانع رفيقاي عندما اقترحت الانصراف قبل نهاية العرض. وحكَيت لهما، ونحن نتجه إلى السيارة عن رسالة «دوريس» ومصاصي الدماء الذين يخرجون من قبورهم في «الهالووين».

ضحك «مروان»، وقال: اطمئن! لن يكون هناك مصاصو دماء هذا العام؛ لأن أحدًا لا يستطيع الخروج من قبره في ليلة السبت.

١  نشر بالفعل يوم ١٥ نوفمبر ۱۹۹۸م في «السانداي تايمز»، تحت عنوان إسرائيل تعد قنبلة إثنية بقلم: «أوزي ماهنايمي» و«ماري كولفين».
٢  حمل الفيلم اسم «بيركلي في الستينيات»، وهو من إخراج مارك كيتشيل في ۱۹۹۰م.
٣  كنت قد قرأت له مقالًا ردَّد فيه أفكار زميله ومواطنه «فؤاد عجمي» الذي صكَّ مصطلح «الإسلامية المتوحشة» و«إغراء العروبة المدمر»، وأعلن فيه نهاية القومية العربية قائلًا: إن «السادات» وضع قدمه على الطريق الصحيح؛ لأن توقيع اتفاق منفصل مع «إسرائيل» في كامب ديفيد جسَّد الوطنية المصرية، وأعاد «مصر» إلى روحها الحقيقية، ورأى أن العالم العربي وصل إلى حالة من التردِّي تستوجب إنقاذه من نفسه الضائعة وثقافته المتخلفة بعملية تحديث كبرى لن تتم إلا بضغطٍ هائلٍ من الخارج يخلصه من إغراء العروبة المدمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤