الفصل التاسع والعشرون

حلمت بأن «ماهر» يصفعني، وأني قررت ألا أقبل المهانة بعد الآن وأن أغادر المنزل. ثم فكرت في إمكانياتي المالية وما إذا كانت تسمح بالحياة المستقلة. وبدا الأمر كأنما أعيش في منزل الأسرة، وكأن «ماهر» هو أبي. وعندئذٍ استيقظت، ورقدت أتطلَّع في الظلام. ولم يلبث أن تناهى إلى سمعي دقُّ الطبول الخفيف عند جيراني.

غادرت الفراش ومضيت إلى المطبخ، وشربت مباشرة من زجاجة مياه. عُدت إلى الفراش ووضعت وسادة فوق رأسي، لكن صوت الطبول استمر. وتراءت لي شفة «شرلي» الممتلئة. تخيَّلت أني أعضها، فتئن أنينًا خفيفًا مستسلمًا. تذكرت مذيعة مطار «القاهرة» التي تردِّد بين الحين والآخر: «النداء الأخير على رحلة «مصر للطيران» رقم …» وقررت أن أشارك بورقة في مؤتمر «ماهر»، وأن أطلب منه تجديد عقدي لفصل دراسي ثانٍ.

انقلبت على وجهي ثم جانبي، لكن النوم استعصَى عليَّ، تذكرت الفتاة التي استسلمت لي يائسة بعد أن فقَد صاحبها رغبته فيها، والخجولة التي كانت تبحث عن درجة فريدة من الافتتان، والطالبة التي أرادت استغلالي، والمرَّات التي ورَّطني فيها يأسي، ثم هاجرت إلى عالم الخيالات المطواعة. استعدت قصة أمريكية عن زوجة تتفنَّن في إبراز صَدْرها بلبس البلوزات الضيِّقة، ويتعرض لها صبيان مراهقان في مدخل المنزل، فتصيح بهما أن يبتعدا عنها، ويسمع زوجها صِياحها، فينادي عليها وتصعد متورِّدة الوجه، ولا تذكر له شيئًا، لكنها عندما تستعدُّ للنوم تخلع بلوزتها وسوتيانها في مواجهة النافذة. ويرتب الزوج وجود أحد الصبيين معهما في كوخ عطلة، ويقضيان المساء في لعب الورق، والصبي لا يرفع عينَيه عن صدرها ووجهها يتضرَّج حمرة. وفي الصباح يخرج الزوج ثم يعود ليسمع ضجَّة في غرفة النوم، ويشاهد زوجته في الفراش تقاوم الصبيَّ العاري. وكان يعرف أن مقاومتها قصيرة الأمد، وبالفعل ما إن وضع الصبي يدَيه على ثدييها حتى تلاشت واستسلمت.

تنقلت بين قصص مماثلة، واجتاحني الشوق إلى اندفاع الدم ونشوة التحسُّس. وأخيرًا استأنفت نومًا متقطعًا حتى الصباح، ونهضت منحرف المزاج.

لم تفلح الطقوس اليومية من إفطار وحمام في تحسين مزاجي، فارتديت ملابسي وخرجت إلى السوبر ماركت. اشتريت «التايمز» و«الكرونيكل»، والتقطت «ديلي كاليفورنيان»، وعُدت بأُذن مسدودة من جرَّاء البرد. استخدمت رشَّاش الأنف، ثم أعددت قهوة وبدأت ﺑ «التايمز».

قرأت أن «كلينتون» ألغى هجومًا مقرَّرًا على «بغداد» بالصواريخ قبل ربع ساعة من انطلاق ۳۰۰ صاروخ «كروز» نحوها، وأن «نتنياهو» رئيس وزراء «إسرائيل» علق اتفاق السلام الجديد مع «عرفات»؛ لأن الأخير تحدث عن دولة مستقلَّة قادرة على الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.

تجاهلت أنباء «مونيكا» التي ستتلقى مليون دولار عن كتاب حول قصتها مع «كلينتون»، سيعده أحد الكتَّاب المحترفين، ونقلت عيني بسرعة فوق مقالٍ يدعو إلى رد اعتبار «المكارثية» التي سيطرت على الولايات المتحدة في الخمسينيات.

انتقلت إلى اﻟ «كرونيكل» التي أبرزت نبأ اختطاف موظفة في وزارة الخزانة، في الثامنة والخمسين من عمرها، من جاراج انتظار وسط الحي المالي، حيث وقع حادث مماثل منذ شهر. كما أبرزت نبأ العثور على جثة فتاةٍ في الخامسة عشرة في ضاحية «بيتسبرج» بعد أسبوع من اختفائها، وتعرَّض شخصان للسطو في عرض الطريق أمام حانوت «ماسي». وعلَّق مدير الشرطة على ذلك بأن جرائم القتل والسرقة تتزايد عادة في شهور «أكتوبر»، و«نوفمبر»، و«ديسمبر» نتيجة تبكير الظلام، وازدياد عدد المارَّة المتبضعين عشية الأعياد. ونصح مَن يتعرضون لحوادث السطو بعدم المقاومة، مستشهدًا بحادثة قريبة لشابٍّ في السابعة عشرة، استوقف رجلًا في الطريق، وطالبه بأن يعطيَه ما معه. وعندما حاول الرجل مساومتَه؛ كي يتقاسما المبلغ وهو مائة دولار، أطلق عليه الرصاص وصرَعه.

أوشكت أن أترك الصحيفة عندما لمحت مقابلة مع أحد أساتذة السيكولوجي الذي ساهم في تطوير برامج تدريب المجنَّدين الجُدد بالجيش الأمريكي. كان يتحدث عن خبرته في حل مشاكل المجندين النفسية. قال: إن مفتاح التدريب العسكري هو تحطيم النفور الإنساني الطبيعي من القتل بعملية أسماها «فك الارتباط». فما إن يزول هذا النفور، فإنه لا يعود أبدًا. وأضاف: «إن المقدرة على مشاهدة رأس بشرية تنفجر، وأن يتكرَّر ذلك مرارًا، تتطلب نوعًا من تحجُّر المشاعر إزاء الألم الإنساني، وهو أمر يجب تعلمه.»

وضعت «الكرونيكل» جانبًا، وعدت إلى «نيويورك تايمز»، وتفاصيل الاتفاق الذي توصلت إليه شركة «روفر» البريطانية مع نقابة العمال، ويتيح لها إنقاذ أكبر مصانعها من الإغلاق بواسطة الشركة الأم «بي إم دابليو». ويقضي هذا الاتفاق بالتخلص من ٢٥٠٠ عامل، وبأن يعمل العمَّال ساعات أكثر عندما يتطلَّب العمل ذلك يتم اقتطاعها من أوقات عمَلهم في الأسابيع الهادئة.

قرأت أيضًا تفاصيل تراجع زعماء نقابة شركة «فيديكس» العملاقة للنقل السريع، عن الإضراب الذي انتوی ٣٥٠٠ من طياريها القيام به. وكانوا قد رفضوا عرضًا من الشركة بزيادة في الأجر قدرها ١٧٪ خلال خمس سنوات، وطالبوا بحمايتهم من جداول الطيران التي تَفرض عليهم السفر ليلًا، دون أن تتيح لهم قسطًا كافيًا من الراحة. واعتبر استسلام النقابة، التي تمثل مائة وأربعين ألفًا من العاملين، انتصارًا ساحقًا للشركة؛ فارتفعت أسعار أسهمها على الفور بنسبة ٣ في المائة.

تركت الصحف جانبًا، وفتحت الكمبيوتر بعد أن أوصلته بالتليفون. وجدت رسالة موجزة من «إكس» تتألف من عبارة قصيرة «أنت تلعب بالنار» أسفل لوحة من الفن الياباني الكلاسيكي الذي يتميز بألوان بديعة وخطوط أنيقة وزخارف مُتقَنة. واقتصرت اللوحة على النصف الأسفل من امرأة أزاحت رداءها وفرجت فخذيها، ودسَّت يدها في منفرجها العاري.

وجدت أيضًا رسالة من جيراني تشكو من دخان سجائري، وأخرى من «شادويك» تتضمن نص محاضرة ألقاها الأديب الإسرائيلي «إيزاك لاعور»، ووصفته بأنه من «اليسار الراديكالي المعادي للسياسات العنصرية الإسرائيلية».

قرأت المحاضرة بعناية ووجدتها تتناول العوامل التي أدَّت إلى اختفاء حركة «السلام الآن» الإسرائيلية.١

بعثت بنص المحاضرة إلى «إستر» على عنوانها الإلكتروني، ثم فصلت التليفون وأغلقت الجهاز.

ارتديت معطفي وأحطت عُنقي بلفاعة صوفية، وحملت حقيبتي وغادرت المنزل. رافقني انحراف المزاج حتى المعهد، فصعدت إلى الطابق الثاني مباشرة دون أن أمرَّ على «ماهر».

شعرت بثقل التنفس، وتذكرت أسئلة طبيبة عيادة الستينيين، وفكرت فيما إذا كان الوقت قد حان لأن أكفَّ عن التدخين وعن كل شيء.

التقيت ﺑ «شرلي» في الردهة، فتبادلنا تحية رسمية دون أن يشي وجهها بأثَر لما جرى بيننا. ومضتْ إلى غرفة «شادويك» بينما التجأتُ إلى مكتبي.

هل ستشكوني؟

مر بي «أدوين» في الطرقة فتبادلنا تحية باردة. كانت سترة «إستر» معلقة في مِشجب بخزانتي، فألقيت بمعطفي فوق الطاولة. ورأيت أنها أضافت ملصقًا جديدًا إلى الحائط من إصدار أنصار السلام الإسرائيليين بعنوان «أشهر عشر أكاذيب إسرائيلية». لم أُعنَ بقراءة الأكاذيب العشر ومضيت إلى الدرس بمعنوياتٍ منخفضة.

كانوا جميعًا في انتظاري بما فيهم «شرلي»، وعدا «فيرنون» الذي تخلف عن الدرسينِ الأخيرين. بدأت من حيث انتهيتُ في المحاضرة السابقة، ووصفت الجو الذي ساد الجامعة المصرية في الثمانينيات، وكيف سيطرت ثقافة النفط والإرهاب السياسي والفكري المتستِّر تحت العباءة الدينية، وانتشرت دعوة «أسلمة» المعرفة، وساد فكر لا عقلاني شبه خرافي، حتى بين أوساط الأساتذة. وانحصر البحث العلمي في مشروعات تعتمد على مصادر تمويل خارجية، وبحوث شَكْلية هدفها الوحيد هو الحصول على الترقية.

ومن الطبيعي أن تتراجع التقاليد الأكاديمية في هذا الجو؛ فقد صار الأستاذ المشرف على الرسائل هو الحاكم بأمره، ومهمة الطالب هي إرضاء تكاليف سيادته العلمية والشخصية والعائلية. وإذا تمرَّد المعيد، أو المدرس المساعد تبيَّن أن أبحاثه لا تؤهله لاجتياز الباب الملكي إلى سلك أعضاء هيئة التدريس. بل يجد الأستاذ المساعد نفسَه في الموقف ذاته إذا قرَّر أحد أعضاء اللجنة العلمية الدائمة أن أبحاثه لا تؤهِّله لدرجة الأستاذية، الأمر الذي دفعني إلى موقف ما زلت أخجل منه إلى الآن.

فذات يوم زارني في مكتبي شابٌّ شاحب الوجه ذو ملامح أجنبية. عرفت فيه على الفور «باسل»، تلميذ الثانوي الذي تردد على الكلية قبل سبع سنوات يجمع في جرأة توقيعات الأساتذة على عريضة أعدَّتها جمعية «أنصار حقوق الإنسان» ضد مشروع «هضبة الأهرام». وكانت شركة فرنسية قد أرادت استغلال منطقة الأهرامات لإقامة ملاعب وحمامات سباحة بتواطُؤ من بعض المسئولين، وتبنَّت الجمعية التي شكلها «عبد المحسن حمودة» والد «باسل»، مهاجمة المشروع والعمل على وقفه. ولفت الشاب نظري وقتها بحماسته وثقافته، وإجادته لعدة لغات منها الإسبانية لغة أمه كما عرفت فيما بعد.

بعد سبع سنوات كان قد صار طالبًا بكلية العلوم في قسم الكيمياء الحيوية، وجاءني في آخر يوم من شهر «سبتمبر» سنة ٨٥ يطلب توقيعي على عريضة أخرى، من أجل أبيه هذه المرة؛ فقد اختطفه أشخاص مجهولون يرتدون الملابس المدنية، يعتقد أنهم من رجال المباحث.٢

كنت أستعد للمرحلة الأخيرة من رحلتي الأكاديمية، وهي التقدم للترقية إلى درجة أستاذ. وكان جو البلاد ملبَّدًا، فقد أدَّت المجازر الوحشية التي قامت بها الجماعات الإسلامية المتطرفة إلى تورُّم أمني، انعكس على مجالات مختلفة، وخاصةً الجامعة التي صارت شبه محتلة برجال الأمن. وكان معروفًا أن أحد أعضاء اللجنة العلمية الدائمة على صلة وثيقة بهم.

وخشيت أن يؤدي توقيعي على مطالبة بالإفراج عن «عبد المحسن حمودة» إلى تعطيل ترقيتي.

ولن أنسى ما حيِيت النظرةَ التي تجلت في عيني الشاب ورماني بها، عندما اعتذرت عن عدم التوقيع في خجَل. ولاحقتني هذه النظرة طويلًا، وحرمتني من النوم عدة ليالٍ بعد ثلاث سنوات — في السنة التي تقدَّمت فيها للترقية — عندما علمت بوفاته متأثرًا بالتعذيب الذي تعرَّض له على يد رجال الأمن.٣

ومما يدعو للسخرية أن طلب الترقية رُفض لسببٍ لا علاقة له بالسياسة، وإنما بالمرأة.

تصبَّب العرق على جبيني فجأةً، وأخرجت منديلًا ورقيًّا من جيبي جفَّفت به وجهي. قلت: ظهرت «نجلاء» في حياتي بعد حصولي على الدكتوراه. كانت تصغرني بعشر سنوات، ودائمة التردد على «لندن» لدراسة وثائق الحكومة البريطانية. لفتت نظري بجسدها الفارع وحيويتها الدافقة وتركيزها على التفوق. وفي أحد الأيام دعتني إلى «درينك» في منزلها، وكنت مكتئبًا؛ بسبب تدهور مفاجئ في حالة أمي الصحية. ولم يعجبها ذلك؛ إذ تصورَتْ أن زيارتي لها لا بد وأن تثير البهجة، كما قالت.

توقفت مترددًا والتقت عيناي بعيني «شرلي».

هل أذكر التفاصيل؟

كيف نهضت واقفة وتخلَّصت من ردائها بحركة واحدة، كاشفة عن سوتيان وكيلوت وحسب. ومرة أخرى لم تكن المبادرة لي. أعطتني ظهرَها، ندَّت عني تنهيدة إعجاب بردفيها المتماسكين البارزين. لكني تخلصت من ملابسي في غير حماس، ورقدت إلى جوارها أتأمل السقف، وأتساءل عن جدوى التاريخ. فابتعدت غاضبة، وأعطتني ظهرها البهي من جديد. تحسست بشرته الناعمة واستدارته الكاملة وأخاديدَه المظلمة، ولم يُفِد ذلك بشيء. احتضنتها واستخدمت كل ما في جعبتي من مهارات دون فائدة. قلبتها على ظهرها وتمددت فوقها. طالبتها بأن تردِّد بعض الكلمات، فامتنعت قائلةً بالإنجليزية إنها بذيئة. وصرفني ردُّها عن المشكلة فتحسنت حالي. ولم تلبَثْ أن كررت الكلمات من تلقاء نفسها في عربية دارجة ونشوة بالغة.

قلت: فشل لقاؤنا التالي في منزلي، وانصرفت غاضبة.

وانقطعت علاقتنا التي لم تكن قد بدأت، لكنها لم تغفر لي أبدًا. وبعد ذلك بسنوات كانت هي التي حررت تقرير اللجنة العلمية الدائمة الذي رفض ترقيتي، وجاء به أن إنتاجي ذو وَزْن خفيف علميًّا.

تصاعدت آهة من أحد الطلاب، واعتبرت ذلك دليلًا على أنهم يتابعوني باهتمام، فمضيت في قصتي.

لم ألجأ إلى هيئة التدريس المؤلفة من حوالي عشرين من أساتذة وأساتذة مساعدين، ليست لي علاقة وثيقة بأغلبهم، بينما تحظَى هي بإعجابهم جميعًا. وفضَّلت أن أحاول مرة ثانية، وبالفعل تقدمت في العام التالي بأبحاث جديدة، وكانت هي قد تركت اللجنة، ونلت الترقية.

بعد عامين تفجَّرت قضية «نصر أبو زيد»، الذي كان أستاذًا مساعدًا بقسم اللغة العربية، كلية الآداب جامعة «القاهرة».٤ ففي مايو ۱۹۹۲م تقدَّم بإنتاجه إلى اللجنة العلمية؛ للحصول على درجة الأستاذية، ورفضت اللجنة ترقيته استنادًا إلى تقرير رئيسها «عبد الصبور شاهين».٥
اعترض كل من مجلس الأساتذة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب ومجلس الكلية على تقرير اللجنة الدائمة، ورفعا إلى مجلس الجامعة تقريرَيْن تفصيليين بملاحظاتهما عليه٦ أكدا فيه أن الإنتاج الذي تقدَّم به «نصر» يتسم بالغزارة والجِدة والتنوع والأصالة العلمية. لكن مجلس جامعة «القاهرة» تبنَّى موقف اللجنة الدائمة في مارس ۱۹۹۳م، ورفض ترقية «نصر».

انتقلت القضية إلى صفحات الجرائد، وأثارت جدلًا واسعًا. وفي مايو ١٩٩٥م تقدَّم «نصر» للترقية للمرة الثانية بإنتاج علمي وافر؛ فوافق مجلس جامعة «القاهرة» على ترقيته إلى وظيفة أستاذ.

لكنه لم يهنأ بهذه الترقية أكثر من شَهْر واحد.

فقبل سنتين، وبعد رفض ترقيته بشهرين، أقام أحد الشيوخ المتعصبين قضية ضدَّه، يتهمه بالردة عن الإسلام، ويطالب بالتفريق بينه وبين زوجته على هذا الأساس «منعًا لمنكر واقع ومشهود»، كما جاء في عريضة الدعوى. لكن المحكمة الابتدائية رفضت قبول الدعوى في يناير ١٩٩٤م لأسباب إجرائية، دون أن تتعرض لموضوعها. فاستأنف المدعي الحكم، وبعد سنة ونصف سنة أصدرت محكمة استئناف «القاهرة» أول حكم من نوعه في تاريخ «مصر» بالتفريق بين «نصر» وزوجته٧ بزعم أنه ارتدَّ عن الإسلام بما وضعه من مؤلفات. لاقى الحكم الذي أصدره قاضٍ عائد من فترة عمل في «المملكة السعودية»، ترأس جلسة المحكمة مرتديًا اللباس الباكستاني، استنكارًا واسعًا. وعلى الفور أصدر ۱۳۰ من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية بيانًا أكدوا فيه أن الحكم يفرض قيودًا على حرية البحث العلمي. وقضى «أبو زيد» ليلة مرعبة؛ لأن معنى الحكم أهدر دمه، وأصبح في مقدور أي إنسان أن يقتله دون أن يخشى شيئًا. وفي ساعة متأخرة من الليل نجحت الاتصالات التي قام بها عدد من الشخصيات السياسية في توفير حماية بوليسية له، إلى أن يتم طلب وقف تنفيذ الحكم لحين الانتقال إلى محكمة أعلى. وبالفعل طعن «نصر» في الحكم، وقضت محكمة النقض في يونيو ٩٦ بوقف تنفيذه لحين الفصل في الموضوع، وهي الطريقة المصرية في التأجيل والتسويف. فلم يتم الفصل في الأمر حتى الآن.

توقفت عن الحديث، وغادرت مقعدي متجهًا إلى النافذة. وعندما بلغتها تذكرت تعليق «فادية»، فاستدرت ونظرت إليها ثم نظرت إلى «شرلي». واحتفظت الأخيرة بوجهها مصمتًا.

عدت إلى مقعدي، وقلت: مرة أخرى، لم أشترك في التوقيع على بيان هيئة التدريس، ولا في الحملة التي جرت استنكارًا للحكم الرجعي.

بدا الاستغراب على وجوه «لاري» و«دوريس» و«سابك»، حتى «فادية» ظهرت عليها المفاجأة.

استطردت: كنت قد انتهيت من دراستي عن الغزو العربي، وهي دراسة مليئة بالمزالق والأشواك. وخفت أن أتعرض لموقف مماثل عند نشرها، فقرَّرت أن أتجنَّب لفت النظر إلى نفسي. وبالفعل نشرت كتابي في «بيروت» بدلًا من «القاهرة». وكاد الأمر يمر بسلام، لولا أن «حلمي» ظهر في الصورة.

رويت لهم كيف عاد من الخليج بعد طلاقه من «جمالات» التي تركَتْه لتكون زوجة ثانية لأستاذ خليجي، وكيف انتقل للعمل في جامعات «العراق». وتكرر ظهور اسمه في الدوريات العربية مدافعًا عن الحرب ضد «إيران» أو «قادسية صدام» التي استمرَّت ثماني سنوات من ۱۹۸۰م إلى ۱۹۸۸م، ثم عن غزو «الكويت» في أغسطس ۱۹۹۰م، ولم يلبث أن عاد إلى «مصر». ولمحته مرة في فندق «شيراتون» وسط مجموعة من الكويتيين الذين أقاموا به إلى أن حررت لهم القوات الأمريكية بلادهم. وهالني ما طرأ عليه من تغيُّرات أقلها انتفاخه في بدانة مفرطة.

خلال ذلك كان قد شقَّ طريقه الذي مهد له جيدًا من قبل. فأثناء وجوده في الخليج كان دائب الكتابة للصحف والدوريات المصرية. وعندما حصل «نجيب محفوظ» على جائزة «نوبل»، نشر مقالًا شهيرًا اعتبر فيه الجائزة من إنجازات رئيس الجمهورية! وكان من الطبيعي أن يتولى بعد عودته الإشراف على رسالة زوجة رئيس الوزراء التي أرادت الحصول على الدكتوراه. كانت سيدة ذكية وطموحًا وكريمة أيضًا. فقد انهالت على أعضاء هيئة التدريس وقتها الهدايا، ودعوات التصييف في شاليهات فاخرة على شواطئ البحر الأحمر. وما إن نالت السيدة الدكتوراه بمرتبة الشرف، حتى وُلد على يدها مشروع «المراجع» الذي تولاه «حلمي». فمن خلال صندوق داخل كل جامعة صار يتعاقد مع الناشرين على طبعة خاصة من المراجع الرئيسية التي يحتاجها طلبة الكليات المختلفة، ويعهد بها إلى مطبعة الجامعة، ثم يبيعها للطلاب بأسعار ضئيلة.

كان مشروعًا رائعًا، لكنه وضع في يده سلطة كبيرة دون رقابة فعلية. وفاحت رائحته بعد قليل، لكنه استمرَّ في موقعه بفضل تزلفه المستمر لزوجة رئيس الوزراء، ولزوجة رئيس الوزراء الذي تلاه. كما أنه أغدق على كبار الصحفيين والمسئولين، وأقحم مؤلفاتهم الهزيلة في المشروع، وصار يتعاقد معهم مباشرة وبمبالغ طائلة.

وحدث أن اتهمته إحدى صحف المعارضة صراحة بنَهْب أموال المشروع، فنشر سلسلة مقالات دفاعًا عن نفسه وعن إنجازاته، وزعم أنه تجنَّب نشر الكتب المسيئة للقيم والدين ومنها كتابي. ثم تفرَّغ للهجوم على كل إنتاجي، متبعًا منهاجًا شديد الخبث والذكاء.

استخرجت من حقيبتي ملفًّا تناولت إحدى أوراقه، وقرأت عليهم ترجمة لمقتطف من مقال له، يعلق فيه على الدعوة إلى تأويل النصوص وإخضاعها للعقل.

كتب: «العقل وحده ليس كافيًا للوصول إلى الإيمان وتفسير معجزات الأنبياء … وليس في ذلك دعوة إلى إلغاء العقل، بل الواجب من كل صاحب عقيدة صحيحة أن يستخدمه إلى أبعد مدًى، لكن في المجالات المناسبة. أمَّا الإيمان فيجب ألا يكون موضعًا للمجادلات الذهنية والتعقيدات الفكرية والرسائل العلمية!»

وأحسب أنه أراد أن يضرب عصفورَين بحجر واحد. العصفور الأول هو تصفية حسابه معي. فلا أستبعد أن تكون «جمالات» قد باحت له بما وقع بيننا. العصفور الثاني أن يحوِّل الضوء عنه، ويخلق زوبعة تستقطب اهتمام الرأي العام. وهو تقليد تمارسه أجهزة الأمن المصرية بنجاح. وقد نجح فعلًا في ذلك؛ إذ تلقفت صحف التيار الإسلامي الموضوع، بالإضافة إلى صحف الإثارة. وسرعان ما بدأت أتلقى رسائل ومكالمات هاتفية مليئة بالسباب والتهديدات. وصارت دقات قلبي تتسارع كلما دق جرس التليفون.

وفي أحد الأيام رفعت السماعة، فجاءني صوت بارد يخلو من أي انفعال، يوحي بأن صاحبه عامل أو حرفي. سأل عني مخطئًا في ترتيب مفردات اسمي فأنكرت وجودي. استفسر عن موعد عودتي، وقال إنه صحفي بالأقاليم، ثم طلب مني العنوان.

ذكرت الأمر لأحد أصدقائي الصحفيين، فانزعج قائلًا: إنها نفس المكالمات التي تلقَّاها «فرج فودة» و«نجيب محفوظ» قبل اغتيال أولهما في ۱۹۹۲م، ومحاولة اغتيال الثاني على يد الجماعات المتطرفة في ١٩٩٤م.

قلت له مجادلًا: وما هي الحاجة لأن يطلب مني العنوان، وهو موجود في دفتر التليفون؟

قال: أنت تفترض أنهم يعرفون القراءة والكتابة. الذي اعتدى على «نجيب محفوظ» لم يقرأ له كلمة واحدة. ثم إن هذه هي طريقة «الرصد» التي يتبعونها قبل أن ينفِّذوا عملياتهم. فعن طريق الاتصال التليفوني عدة مرات يكوِّنون فكرة عن المقيمين بالمنزل، وعن مواعيد خروج ضحيَّتهم المرتقبة، وجدوله اليومي، حتى يُحكموا خُطَّتهم.

قلت: يمكنني تغيير رقم التليفون، لكن العنوان مستحيل. أنت تعرف أسعار المساكن وإيجاراتها.

قال: مهما فعلت؛ فمكتب المباحث الأمريكية في «القاهرة» موجود لمساعدتهم. فالأمريكان حريصون على توطيد العلاقة بهم تحسبًا للمستقبل.

استعدت مقعدي، واستأذنت «دوريس» في كوب ماء من زجاجتها. وسألتني بدورها: ماذا فعلت؟

– لم يكن بوسعي أن ألجأ إلى الشرطة. فليس لدي دليل على شيء. علقت بجوار باب مسكني سلسلة حديدية لألتقطها عندما أفتحه لطارق. وتدرَّبت على لفِّها حول يدي، بحيث أتمكن من تطويحها في الهواء وتوجيهها إلى الهدف.

ابتسمت: لم أكن واثقًا من قدرتي على استخدامها عندما يحين الجد.

بلعت ريقي واستطردت: استمرت التهديدات. أُصبت بالأرق، ولزمت منزلي أيامًا بكاملها.

سألتني «ميجان»: ألم يقِفْ إلى جانبك أحد من زملائك في الجامعة؟

قلت: ولا واحد. لاحظوا أني سبق لي أن خذَلتهم عندما تقاعست عن المشاركة في الدفاع عن «نصر أبي زيد».

قالت: وماذا عن الأحزاب والهيئات والنقابات؟

قلت: الأحزاب السياسية خشِيت التورُّط في الأمر؛ كي لا تتأثر شعبيتها. لاحظوا أن الموضوع فوق مستوى إدراك الكثيرين. ومع ذلك دافعت عني بعض الشخصيات العامة والليبرالية. آه نسيت! صديق الجامعة «رشدي» هل تذكرونه؟ كتب مدافعًا عني أيضًا قبل أن يُعتقل مرة أخرى لسببٍ ما، واهتمت بي السفارات الغربية والصحفيون الأجانب بالطبع. أعتقد أنهم أرادوا أن يجعلوا مني ضحية للجمود الفكري، بل وللإسلام نفسه. ومرة سألني أحدهم ببهجة وحشية عما إذا كنت أفكر في مغادرة «مصر». تلقيت أيضًا دعوات عشاء في أماكن فاخرة، تطلُّ كلها على النيل، في الزمالك أو المعادي أو وسط «القاهرة»، وضمت أصنافًا غريبة من البشر.

المحامي الشاب الذي رشح نفسه للبرلمان، وأراني نسخة مصورة من كتابي مهداة إليه من طبيب مشهور، قرأها مثل الطلبة واضعًا خطوطًا بالقلم تحت سطورها. مستشار البنك الدولي الذي تعلم في هارفارد وأكَّد لي جدارتي بأعلى درجاتها. الفرنسية المتهمة في قضية تهريب آثار. أستاذ الاقتصاد العجوز نصير السوق. مالك فندق. عاطل بالوراثة، على حد تعبير «عبد الناصر»، في سترة بيضاء حريرية وبشرة أرق منها. سيدة بيضاء بساقين سينمائيتين، تمثل مصر في الأمم المتحدة. سفرجيان أسودان يطوفان بالسيمون فيميه والنبيذ الفرنسي. الحديث عن الرحلات المتكررة إلى لندن وباريس للتبضع والعلاج، وكيف يمكن أن يُعالَج الواحد في أي مكان في العالم بفضل بطاقة تأمين صحي مقابل ثلاثة آلاف دولار في السنة، وهو ما لم يكن متوفرًا أيام «عبد الناصر» الذي أخذ الأراضي والفلوس. ثم النكات التي كشفت عن أن الجميع بلا استثناء — بما فيهم أنا — محبطون جنسيًّا. وكان ظهري يؤلمني، فوضعت يدي بين ساقي السيدة الدبلوماسية التي أسعفتها المهنة، فلم تنبِس.

نهضت واقفًا معلنًا انتهاء الدرس، وهبطت إلى مكتبي. طالعني مشجبي خاليًا من سترة «إستر»، فاستنتجت أنها انصرفت. ارتديت معطفي وغادرت المبنى.

لمحت «شرلي» بمجرد أن خرجت إلى الطريق. كانت تمضي مسرعة بجوار شاب أحاط كتفها بذراعه، ورأيته يميل عليها ويقبِّلها ثم اختفَيا عند الناصية.

كان الجو باردًا وشعرت بلسعته، ومضيت في الشوارع على غير هدًى. توقفت أمام حانوت للساندوتش، واشتريت واحدًا من النقانق، أضفت إليه كمية من البصل والمستردة و«كيتش أب»، ثم عرجت على مواطنتي الإسكندرانية، فاشتريت منها صحيفة «الأهرام» وانطلقت إلى المنزل.

أعددت طبقًا من السلاطة، وفتحت زجاجة نبيذ وبسطت الصحيفة، واكتشفت بعد قليل أن الأخبار التي أقرؤها مألوفة، ثم تبينت أني اشتريت نفس العدد الذي اشتريته بالأمس.

انتهيت من طعامي فوضعت كل شيء في الحوض، وارتديت معطفي وغادرت المسكن. انطلقت إلى السوبرماركت واشتريت دجاجة صغيرة وشريحة سالمون مدخن، وجُبنًا إسبانيًّا يشبه الجبن «الرومي»، وعدت إلى المنزل بخُطى متثاقلة. دق جرس التليفون بمجرد دخولي، فأسرعت إليه. رفعت السماعة وقلت: «هالو.» فلم يجب أحد. أعدت السماعة مكانها، وبعد قليل دق الجرس مرة أخرى. وتكرَّر ما حدث في المرة السابقة عندما رفعت السماعة.

ارتديت معطفي من جديد، وذهبت إلى حانوت الشرائط. تأملت طويلًا ملصقًا للممثلة «كات باسنجر» أبرز امتلاء شفتيها. طُفت بأقسام العرض، حتى بلغت الركن المخصص للأفلام الكلاسيكية. رأيت كهلًا في سني يقلب في الشرائط التي تضم أفلام «إيرول فلاين». لمحت صفًّا لأفلام «جيمس بوند» التي مثَّلها «شين كونوري» في الستينيات. وكان بعضها في الأغلفة الأصلية التي صورته في شبابه بسوالفه الطويلة وملامحه الشرسة الشيطانية، وذكورته الطاغية مع نخبة من الجميلات نصف العاريات. التقطت فيلم «جولد فينجر»، وحملته إلى المدخل.

١  استعرضت المحاضرة تاريخ حركة» السلام الآن» منذ إنشائها في عام ۱۹۷۸م، وكيف توصلت مؤخرًا إلى اعتراف مهتزٍّ بحق الفلسطينيين في تكوين دولة مستقلة فوق ٩٠٪ من الضفة الغربية، متغافلة عن أن هذه النسبة ليست من مجموع أراضي الضفة، وإنما هي مما يتبقَّى منها بعد أن تُستقطع منها المستوطنات الإسرائيلية، والطرق والقواعد العسكرية، والتوسعات في «القدس». وقالت المحاضرة: إن الحركة انتقلت من معارضة المستوطنات إلى الدفاع عنها والتمسك بوجودها. وتدعو بعض البيانات التي تُصدرها إلى تفكيك المستوطنات ثم تنتهي بعبارة خبيثة: «دعوة القيادات الفلسطينية لإعلان استعدادها للتوصُّل إلى تسوية دون أن تلجأ للعنف»، أي إعطاء الشرعية لكل ما يقوم به الاحتلال من قتلٍ وحصار. كما أن الحركة تؤيِّد موقف الدولة الإسرائيلية من رفض المسئولية الأخلاقية والقانونية عن ترحيل اللاجئين الفلسطينيين. وهاجم «لاعور» عددًا من أقطاب مثقَّفي اليسار الصهيوني مثل «عامسوس عوز»، الكاتب المعروف الذي حارب في فَيْلق المدرعات الإسرائيلي في ٦٧ و۷۳، وبرز كداعية سلَام إلى أن هاجم ما أسماه «إصرار الفلسطينيين على العودة إلى أراضيهم … والاستيلاء على إسرائيل»، و«دان ميرون»، أستاذ الأدب العبري في جامعتي «القدس» و«كولومبيا» الذي دافع عن حقِّ الجيش الإسرائيلي في استخدام العنف ضد أطفال الحجارة، و«يولي تامير» نصير التعددية الحضارية الذي وصل إلى درجة الدفاع عن حقِّ الأقليات في ختان الإناث، ثم نفى أكثر من مرة أن تكون قضية المستوطنات عقَبة في طريق السلام؛ إذ يتعين على الفلسطينيين أن يقبلوا وجودها!
٢  وُلد «عبد المحسن حمودة»، سنة ١٩٣٠م، واشترك في تكوين اللجنة الوطنية للطلبة والعمال سنة ١٩٤٦م، وعيَّنته الحكومة الوفدية ملحقًا صحفيًّا بالسفارة المصرية في «واشنطون» سنة ١٩٥٠م، ثم حصل على الدكتوراه في الهندسة، وعمل مستشارًا فنيًّا للهيئة العليا للنفط في العراق في الستينيات، ولم يتوقف اهتمامه بالقضايا الوطنية لحظةً واحدة. وكان بين مَن اعتقلهم السادات قبل اغتياله. وفي يوم ٢٦ / ۹ / ٨٥ هاجم رجال المباحث بيته، واعتقلوه بتهمة تكوين جماعة «الحركة المصرية المناهضة للصهيونية» والإعداد لمؤتمر وطني في ذكرى اتفاقية كامب ديفيد، وأُودع سجن الاستئناف. وتكرَّر اعتقاله بعد ذلك.
٣  كان «باسل» قد حضر مشهد اعتقال أبيه، وبدأ حملة برقيات واتصالات بالمعارف والمسئولين، مطالبًا بالتحقيق فيما حدَث، فطاردته الشرطة وقبضت عليه في ٢٣ / ۱۰ / ٨٥. وقررت محكمة استئناف القاهرة في ٧ / ٦ / ٢٠٠٠م أن ما تعرض له «باسل» في قسم شرطة «قصر النيل» ومبنى مباحث أمن الدولة قد أصابه بصَدمة مروِّعة ذهبت باتِّزانه النفسي والعصبي وأُصيب بانهيار، مما أدى إلى أن تقوم مباحث أمن الدولة بنقله إلى مستشفى مصر المعادي للعلاج النفسي على نفقتها سرًّا. وأثبتت المحكمة أنه تعرض ﻟ «تعذيب بشع على يد زبانية أجهزة الأمن الذين وأَدوا ضمائرهم، وخرجوا على حقيقة رسالة الأمن». وقالت المحكمة: إن «التقارير تشير إلى أن إصابة الرأس التي أدت إلى إصابته بالمخ كانت هي السبب المباشر الذي يفسِّر الوفاة دون وجود سببٍ آخر، وأنها أدَّت في النهاية إلى هبوط في التنفس والدورة الدموية والوفاة».
٤  وُلد سنة ١٩٤٤م، وهو الآن أستاذ بجامعة «ليدن» الهولندية.
٥  استعرض التقرير مؤلفات «نصر»، فقال: «إنها تنتهي إلى نتيجة تتكرر في أبحاثه دائمًا، وهي الدعوة إلى المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرُّر من سلطة النصوص. وأول هذه النصوص التي يؤكد على ضرورة التحرر منها هي «القرآن والسنة»، كما أنه يهاجم الغيب، ويجعل النقل الغيبي غارقًا في الخُرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان». وقال التقرير: إن الباحث «يمضي في تجاوزاته إلى درجة أن يتَّهم القرآنَ بأنه لم ينجُ من آثار عمليات المحو والإثبات تلك، ويبني ذلك على ادعاء الشيعة أن القرآن مُحيت منه عمدًا النصوص الدالة على إمامة «علي».» وهو «يُلمِّح إلى أن المسلمين يتجنَّون على المسيحيين» … أما مقاله عن «أحمد صادق سعد»؛ فهو «موضوع لا أهمية له؛ لأن هذا المؤلف السوري مجهول وله هوية خاصة». وانتهى التقرير إلى أن الباحث «يدور في فلك مفهومين هما التراث والتأويل»، وأن «الأعمال التي تقدَّم بها السيد الدكتور «نصر» تحتاج إلى إعادة نظر وتنقية، كما تحتاج إلى إضافة جديدة تتصل اتصالًا كاملًا بموادِّ الدراسة في قسم اللغة العربية لكلية الآداب. والإنتاج المقدَّم لا يُرقِّي إلى درجة أستاذ بقسم اللغة العربية. عبد الصبور شاهين».
٦  أهم هذه الملاحظات هي: (١) خروج التقرير عن المهمة الأصلية للجنة الترقيات، وهي فحص الإنتاج العلمي وحده، دون التعرُّض لأي اعتبارات أخرى؛ إذ يركز على جوانب اعتقادية لا علاقة لها بعمل اللجنة. ويتجلى ذلك فيما يحتويه التقرير من عبارات تشكِّك في سلامة عقيدة صاحب الإنتاج وتحكم عليه في دينه، بدل أن تحكم على إنتاجه الذي هو في موضوع التقييم العلمي لا الاعتقادي. فقد وصف اجتهادات الباحث بعبارة نصها «وهذا كفر صريح، ورأي كافر مردود.» (۲) ينتزع مصطلحات الباحث من سياقها ولا يتفهَّمُها، ويتجاهل قوله صراحة «لا خلاف على أن الدين، وليس الإسلام وحده يجب أن يكون عنصرًا أساسيًّا في أي مشروع للنهضة. لكن الخلاف هو حول المقصود من الدين. هل المقصود الدين، كما يُطرح ويُمارس بشكل أيديولوجي نفعي من جانب أصحاب المصالح، أم الدين بعدَ تحليله وفهمه وتأويله تأويلًا علميًّا؟»
٧  جاء في حيثيات الحكم الصادر في يونيو ١٩٩٥م: «ينكر المؤلف وصف الله تعالى بأنه «ملك» الواردة بالقرآن الكريم، كما ينكر العرش والكرسي وجنود الله الملائكة. ويرى أن الآيات التي وردت بكتاب الله تعالى إذا فُهمت حرفيًّا تشكل صورة أسطورية، والأسطورة بالمعنى اللغوي هي الأباطيل. كما ينكر وجود الشياطين، ويجعل وجودها وجودًا ذهنيًّا في مرحلة الأمة الإسلامية في بدايتها، وأيضًا السحر والحسد والجان، ويضيف إلى ذلك أيضًا صور العِقاب والثواب ومشاهد القيامة وعذاب القبر. وخلاصةُ ما أورده أن الآيات القرآنية لا تمثِّل واقعًا ولا حقيقة، ولكنها تمثل وجودًا ذهنيًّا في مرحلة العصر النبوي، أي في أذهان الناس في تلك الفترة. وقد حدثت تطورات في العقل والتاريخ وتغيرت الصورة الذهنية لرب الناس، فيجب أن تُفهم هذه العقيدة على نحو أذهان الناس اليوم. كما ينفي عن القرآن الكريم كونه نصًّا إلهيًّا، ويؤكد على أنه نصٌّ بشري.» وقالت الحيثيات: إن المؤلف في قضية المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الأحكام على خلاف ما ورد بالقرآن الكريم. يقول: «لا يتم الكشف عن المضمَر في قضية المرأة ومساواتها بالرجل خارج سِياق الكشف عن حركة النص الكلية … المضمر الكلي تحرير الإنسان، الرجل والمرأة، من أَسْر الارتهان الاجتماعي والعقلي؛ لذا طرح العقل نقيضًا للجاهلية والعدل نقيضًا للظلم والحرية نقيضًا للعبودية. ولم يكن يمكن لتلك القيم إلا أن تكون مُضمَرة مدلولًا عليها، فالنص لا يفرض على الواقع ما يتصادم معه كليًّا بقدر ما يحركه جزئيًّا.» واستخلصَت المحكمة أن ما يقصده المؤلف يتَّضح من قوله: «وفي قضية ميراث البنات، بل في قضية المرأة بصفة عامة نجد الإسلام أعطاها نصفَ نصيبِ الذكَر، بعد أن كانت مستبعدة تمامًا وفي واقع اجتماعي/اقتصادي تكاد تكون المرأة فيه كائنا لا أهليةَ له وراء التبعية الكاملة بل الملكية التامة للرجل أبًا ثم زوجًا. وليس من المعقول أن يقِف الاجتهاد عند حدود المدى الذي وقف عنده الوحي؛ وإلا انهارت دعوى الصلاحية لكل زمان ومكان. وينطبق هذا أيضًا على شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد.» واستشهدت الحيثيات بمقتطفات من كتاب للمستأنَف ضده بعنوان «نقد الخطاب الديني» جاء بها قوله: «وليس غريبًا بعد ذلك أن يتعلَّم أبناؤنا في المدارس أن الإسلام يبيح امتلاك الجواري ومعاشرتهن معاشرة جنسية … وليس غريبًا أيضًا في ظل عُبودية النصوص أن يتعلَّموا أن المواطن المسيحي مواطن من الدرجة الثانية، يجب أن يحسن المسلم معاملته. والآن وقد استقرَّ مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الدين واللون والجنس، لا يصح التمسك بالدلالات التاريخية لمسألة الجزية … إن التمسك بالدلالات الحرفية للنصوص، وفي هذا المجال لا يتعارض مع مصلحة الجماعة فحسب، ولكن يضر الكيان الوطني ضررًا بالغًا. وأي ضرر أشد من جذب المجتمع إلى الوراء إلى مرحلة تجاوزتها البشرية في نضالها الطويل من أجل عالم أفضل مبني على المساواة والعدل والحرية.» وأكدت المحكمة أن ما قرره المستأنف ضدَّه في خصوص ملك اليمين يتعارض مع النصوص القطعية الواردة بكتاب الله تعالى. وكذلك ما أورده عن معاملة أهل الذمة وما ورد بشأنهم من وجوب الجزية عليهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤