الفصل الثاني والثلاثون

مقتطفات من فيلم «أربع نساء من مصر».١

قارب وحيد في النيل ومراكبي يجدف بهدوء، وصوت مغنٍّ شعبي.

المغني: بلدك تعزك كما أن الوطن غالٍ.

صافيناز كاظم في غطاء الرأس الإسلامي، وملابس مبالغة سابغة من رسغَيها حتى أخمص قدميها. «وداد» بشعر معقود في جدائل فوق رأسها والسيجارة في فمها، «أمينة» و«شاهندة» في ملابس بسيطة من قطعتين.

صافي: أهم شيء في الصداقة التي تربطنا هي حس الفكاهة لدينا.
وداد: نحاول بقدر الإمكان تجنب مناقشة القضايا الحساسة، لكننا نتفق حول أمور كثيرة.

شاهندة: نحن أخوات في السلاح.

قصر «إسماعيل صدقي باشا»، رئيس الوزراء في العهد الملكي الذي اشتهر بقبضته البوليسية، في ضاحية «شبرا».

أمينة: هذا هو المنزل الذي نشأتُ به … لم أكن سعيدة فيه، والأصعب أني اكتشفت أني في حي عمالي. عاش فقراء حول هذه المنازل الجميلة. ذات يوم في ١٩٤٧م قذفتني فتاة صغيرة بالحجارة؛ لأن جدي «إسماعيل صدقي» رئيس الوزراء وقَّع معاهدة تربط «مصر» بإنجلترا … وعارضت البلاد المعاهدة بشدة، وسارت المظاهرات في كل مكان … في منزلنا الكبير كنَّا جميعًا نتحدث الفرنسية، ولا نستخدم العربية إلا في الحديث مع الخدم. إنها الحقيقة المرة للانتماء إلى الطبقة الحاكمة … كانت لحظة مؤلمة ارتبطت بنشوء شعور بالعار والوحدة.

لقطات تسجيلية للملك «فاروق» وبطانته.

جامعة القاهرة (فؤاد سابقًا)، في سنة ١٩٥١م ترشحت ثلاث فتيات في جامعة «فؤاد» لاتحاد الطلبة، ونجحت واحدة فقط هي «وداد متري» الطالبة بكلية الآداب قسم فلسفة.

وداد: لعلني كنت أول امرأة تدخل الاتحاد … هذا هو أرشيفي … أوراق لجنة المقاومة الشعبية النسائية … في ١٩٥١م «سیزا نبراوي» أسست هذه اللجنة للاشتراك في الكفاح المسلَّح ضد الإنجليز في منطقة «قناة السويس» … وكنت رئيسة فرع اللجنة بمحافظة «المنوفية».

شاهندة: كانت «وداد» معلمتي ومناضلة في نقابة المعلمين، عرفتها في الأوقات الصعبة والسيئة … كان بيتها بيتي وملجئي … أما «صافي»؛ فقد عرفتها عند عودتها من «الولايات المتحدة». قابلتها على سلم دارٍ للنشر، قبل أن تنقضي أربعون يومًا على اغتيال زوجي. قالت لي: إنتي «شاهندة»؟!
صافي: «شاهندة» صديقة عزيزة، أستمع لآرائها، لكن أحيانًا أنتظر بفارغ الصبر أن تتوقف عن الكلام، لكنها صديقتي وأنا أحبُّها. في السجن يمكنك حقًّا أن تقدريها. كنا في السجن معًا في ١٩٧٥م و۱۹۸۱م. في السجن تصبح سيدة الموقف، يمكنها أن تحصل لك على أي شيء تريدينه. تليفزيون حتى، صحف، راديو، كوكاكولا … من الخطأ تصنيفها كيسارية، أو يمينية أو ماركسية، أو إسلامية، أو الشيطان الأزرق.
شاهندة: يمكنني أن أقول نفس الشيء عن «صافي»، فلا يمكن تصنيفها سياسيًّا، لا يمكنك أن تحصريها في إطار حزب واحد. إنها حزب «لوحدها»، إنها تعبر عن معتقداتها، سواء أكانت هذه المعتقدات يسارية أو يمينية، إسلامية أو علمانية، إنها تقول ما تعتقده.
صافي: … تفكيري إسلامي.

التقيتُ «أمينة» أول مرة في السجن سنة ۱۹۸۱م، عندما وصلت قالت: كنت أود أن أجرب السجن بشرط ألا يطول الأمر.

•••

أمينة: قضيت أول ليلة لي في زنزانة للسجينات السياسيات … «صافي» تكلم نفسها، «شاهندة» صامتة فوق فرشتها، كنت أعرفها بالسمعة؛ فقد قتل كبار الملاك من عائلة «الفقي» الإقطاعية زوجها «صلاح حسين».

الثلاثة يشرَبْن قهوة بجوار جرامفون قديم.

شاهندة: طقس القهوة له معنًى خاص بالنسبة لنا، إنه طريقة للتلاقي والحديث، ومشاركة متاعبنا بالنسبة لي علاج، تذكرين عندما كنا نصنع القهوة في السجن؟

في ميدان «الجيش» بحي العباسية، وكان اسمه ميدان «فاروق» قبل الثورة.

صافي: كانت «العباسية» الشرقية من أجمل أحياء «القاهرة» وأكثرها أصالة … كل صباح كنت مع أختي «فاطمة» نعبُر ميدان «فاروق»، ونمشي في شارع «العباسية» قرب الحديقة … في الوسط كانت هناك ساعة، وكنا نسمع هذه الأغنية: «يا شباب النيل يا عماد الجيل، «مصر» تناديكم، فلبُّوا النداء» … الله!

•••

رأيت من بلكونتي أبطال الثورة … في يوليو ١٩٥٢م كنا في سن ۱۲ أو ۱۳، كنا سعداء جدًّا، أمي وأخوتي الكبار كانوا منفعلين جدًّا، قفزنا ولوَّحْنا كي يرانا «محمد نجيب». «ناصر» رآنا فحيانا، صحنا فيه: مش إنت، هو! … ضحِك وجعَلَنا هذا نحبه، أشار ﻟ «نجيب» علينا، ودمعت عيوننا من الفرح!

لقطات متعددة ﻟ «جمال عبد الناصر» بين الجماهير.

وداد: الحركة النسائية في مصر، طالبت دائمًا بحق المرأة في التصويت والانتخاب. وفي ١٩٥٦م أعطانا الرئيس «عبد الناصر» هذا الحق. لم يحدث هذا اعتباطًا، لقد نتج عن نضال أجيال وأجيال النساء. كانت «شاهندة» صغيرة أيامها، وكنت آخذها معي في كل مكان، كان هدفنا هو إقناع النساء بتسجيل أسمائهن في كشوف الناخبين، كانت تجربة رائعة!
شاهندة: أبي لعب دورًا حاسمًا في حياتي، عندما كنت فتاة كتب لي هذه الكلمات: «دافعي عن أفكارك حتى الموت» … عملت بين الفلاحين … لم أشعر أبدًا أن أنوثتي عقَبة … «صلاح» كان ابن عمي، قاد الكفاح في «كمشيش» ضد الإقطاعيين. كان قدوتي، وأخيرًا اعترف بحبِّه لي … قررنا أن نتزوج. كان عرسًا جميلًا؛ لأنه كان أيضًا انتصارًا. وفي الصباح وجدت تحت وسادتي خطابًا كتبه لي، به قصيدة … كانت أحلامنا تتجدَّد باستمرار مع ثورة ١٩٥٢م التي نالت تأييدًا هائلًا، وخاصة من أبناء جيلي.
وداد (لابنتها ريم): تعالي شوفي مقالة كنت كتبتها: «اليوم ١٥ مايو ١٩٦٤م يتوج نضال شعبنا من أجل العزة. لقد تحققت أحلامنا وأعلن «جمال عبد الناصر» عند تحويل مجرى النيل: «هذا هو التعبير الحي للعالم عن إرادتنا، عن تمسككم بالعمل والتضحية».»

«لدينا في هذا اليوم ۱۰ مايو ١٩٦٤م ذكرى أخرى لا تُمحى، يوم ١٥ مايو ١٩٤٨م الذي ضاعت فيه «فلسطين». وإذا كان بناء السد العالي هو انتصار عظيم للإرادة؛ فإن انتصارنا الحقيقي سيكون هو استعادة «فلسطين».» شوفي كتابتي كانت حلوة إزاي!

«صافيناز كاظم» في ثوب التخرج من الجامعة الأمريكية.

صافي: في ذلك الوقت كنت أطوف بأوروبا مع أختي، قررنا أن نعمل «هيتشهايكنج». كانوا يسألوننا: هل لديكم ذلك في «مصر»؟ كنا نجيب: سيكون عندنا بعد السد. واحد سألنا: عندكم ثلج؟ فأجابته أختي دون أن يطرف لها جفن: بعد السد سيكون عندنا … هذه صورتي … أحب هذه الحقيبة. شحنت كل أشيائي من «أمريكا» فيها. عشت هناك من ١٩٦٠م إلى ١٩٦٦م، لا أريد العودة هناك؛ لأني لا أريد أن أفقد ذكرياتي الجميلة. كانت فترة رائعة، ليس فقط لأن «أمريكا» أعطتني بضعة أشياء رائعة، كانت تجربة جميلة، تعلمت أشياء كثيرة هناك، لكن أساسًا كيف أكون أنا نفسي. وقتها ضربتني موجة التغريب، كانت قدوتنا هي المرأة الغربية، الأمريكية أو الفرنسية، أي واحدة غيرنا، اعتبرت نفسي كوزموبوليتانية. كان الناس يسألونني: لماذا لا ألبس مثلهم؟ فأقول: مثل مَن؟ يقولون: «المصريات.» أقول: «لكني ألبس مثلهم.» فيقولون: لأ، المصريات محجَّبات. في البداية كنت أتحدَّاهم: لا، نحن نرتدي المايوه البكيني، ويمكن أن نقلَّ أدبنا مثلكم تمامًا. نحن متمدِّنات، بعضنا يشربن الكحول … البعض يخرجن عاريات، نحن ناس كويسين مثلكم تمامًا … كنت معجبة ﺑ «بيكيت»، و«يونسكو»، و«ت. إس. إليوت»، وما زلت، لكن من منظوري الذي يختلف عن الآخرين، لقد جعلتهم بتوعي أنا، اكتشفت أنه في عمق كل ثقافة بشرية، كقاعدة، طالما لم يكن هناك تمييز أو تعصب، فإن القيم واحدة … العدالة، الحرية، التسامح، الكرامة الإنسانية.

قصيدة «صلاح جاهين».

•••

الطريق إلى قرية «كمشيش».

شاهندة: في ١٩٦١م صودرت أراضي كبار الملاك، وتغير كل شيء بالنسبة للفلاحين وعمال التراحيل، كان أمرًا لا يُصدق، لكن الثمن كان موت «صلاح» زوجي هنا، استشهد في ٣٠ أبريل ١٩٦٦م. شوفوا إزاي الطريق ضيق؟ كان الإقطاعيون راقدين له، بين ١٩٥٢م و١٩٦١م، حاولوا اغتياله عدة مرات ونجحوا في ١٩٦٦م. خرج رجل من منزل، وأطلق الرصاص على رأسه … كنت في «الإسكندرية»، وكنت قد ولدت ابنتي، وكان المفروض أن يلحق بي «صلاح»، وبالليل طرق بابي، كان ابن عمي وقال برقَّة: الإقطاعيون أطلقوا الرصاص على «صلاح» وهو في المستشفى. صِحت على الفور: «صلاح» مات؟ «صلاح» مات؟ وجدت نفسي أجري في الشوارع في الثانية صباحًا … في الفجر انطلقنا إلى بلدة «شبين»، على باب المنزل كان الجميع يرتدون الأسود، أدركت أن «صلاح» مات، عمتي (أمه) كانت مع قائد الشرطة قالت: إنهم لا يريدون دفنه في «كمشيش»، وكان لا بد أن أتخذ قرارًا. قلت: «لقد مات في «كمشيش» وسوف يُدفن هنا، حاولوا تمنعوني.» أخذنا سيارة وذهبنا إلى «كمشيش»، وأحضروا «صلاح». حملت نعشه على كتفي … وبدأت أنشد: ««صلاح» إنت ما متش هدَر … سنواصل الكفاح.» كانت القرية كلها هناك … ثم أُغمي عليَّ، وعندما أفَقْت رأيت الأطفال الصغار الذين سيصيرون رجالًا، وقالوا لي: «لا تبكي يا «شاهندة» … سوف ننتقم لك.» «لا تبكي يا شاهندة!» لن أنسى ذلك أبدًا.
وداد: في ذلك اليوم أثبتت «شاهندة» أن نساء «مصر» قادرات على مواجهة كل تحدٍّ. لا شيء قادر على إيقافهن. تلك اللحظات الصعبة أقامت روابط متينة بيننا، هذه صورة أعتز بها. تبين أن علاقتي ﺑ «شاهندة» قديمة. كتبت عليها: إلى حبيبتي «وداد»، أستاذتي ومعلمتي، أمي وأختي وقلبي العزيز، «شاهندة مقلد» … صورة أخرى نسيتها من مظاهرة النساء، هل كنت هناك؟
وداد: لقد عشت هذه الأحداث، على الأقل أنا شاهدة على ما حدث، في التاريخ هناك الإيجابي والسلبي والأخطاء، الناس لا تظهر فجأة من العدم، هناك استمرار بين الأجيال.
أمينة: سافرت إلى «فرنسا» في الستينيات وعشت هناك، كنتُ في اتحاد الطلاب العرب … وسمعنا عن مقتل زوج «شاهندة». كان مصرع «صلاح حسين» إشارةً للكفاح من أجل تجذير الثورة والمطالبة بإصلاح زراعي له أسنان حقيقية. في النهاية زهقت من الحياة في «فرنسا»، كانت لديَّ وظيفة في معهد البحوث الوطنية الفرنسي، ومرتب جيد ومسكن جيد … لكن حياتي بدَت بلا معنًى، وفي يوم أدركت أن معناها هنا في «مصر» في بلدي، لم أخُض هذا النضال لأعيش في الخارج.

•••

صافي: تعرفت على «أمينة» في السجن، قابلت «شاهندة» و«وداد» في ١٩٦٦م مع «كمشيش». ومن ساعتها ونحن على خلاف، إذا كنت مستمرَّة في العلاقة معهن فلأن دمَّهن خفيف، ولأن لديهنَّ قيمًا إنسانية تجبرك على أن تغفري لهن كل شيء. هناك ناس أشاركهم أفكارهم، لكننا لا نصل إلى نفس النتائج، أجدهم مملِّين، أو يتصرفون أحيانًا بطريقة لا تعكس فكريَّتنا المشتركة، بينما أن سلوكياتي التي تنبع من التزامي بالإسلام أراها لدى «وداد» و«شاهندة» و«أمينة». أعمالهم تنبع من طريقتهم في التفكير. إذن لدينا كثير من الأمور المشتركة، أشعر أننا رفيقات سلاح لا عنف، الكمان بدلًا من العنف، أشعر أننا نقوم بنفس النضال ونضالنا يؤدي إلى نفس الطريق.
شاهندة: عندما قابلت أمينة في ۱۹۸۱م كنا جميعًا في زنزانة واحدة، شيوعيات على ناصريات وقبطيات على مسلمات، فضلًا عن نساء لم يكُن لديهن انتماء حزبي أو سياسي. كانت هذه طريقة «السادات» في أن يقول: حأوريكم إزاي أنا جدع، أقدر أسجن أي حد ميعجبنيش من أي اتجاه سياسي أو أعمَّر وأفضل في الحكم. كانت «أمينة» ظريفة للغاية، كانت أول مرة لها في السجن، وكنت أنا و«نوال السعداوي» نرتعب من الصراصير، إذا رأيناها نصرخ: «صرصار!» وعندما يدخل العنبر رجل تصرخ النساء: راجل. هؤلاء كن المحجبات، وعندما كانت أمينة تسمع صراخًا تبتسم، وتتساءل في هدوء: راجل ولا صرصار؟!

•••

مشاهد من حرب الأيام الستة ١٩٦٧م.

صافي: أنا أحبه، بالرغم من كل شيء أحبه … تصوَّروا أني أقود باصًا، وأقول: لا أحد يتحرك، سأقود وحدي، وتقولين: «دعني أمسح لك الشبورة.» فأقول لك: «خليكي بعيد.» لقد قادنا مباشرة إلى النهر، ثم قال: «عفوًا! إنها غلطتي.»

•••

جنازة «جمال عبد الناصر».

صافي: قضينا الليلة معًا، كان النعش سيمر من أمام منزلي، جاءت «وداد» و«شاهندة». عندما مرَّ النعش كنا في الشرفة، كان يمكن أن تسقط «شاهندة»، سمينة. ارتمَت على السور، شدَّت شعرها، وهي تصرخ وتصيح: ها هو! جذبتها قائلةً: «البلكونة حتقع! عاوزة أشوفه أنا كمان.» الجموع كانت ملأت الشارع، صاحت «شاهندة»: أنا رايحة. قلت: وأنا كمان. مشينا كتفًا لكَتِف، غنَّينا نفس الأغنية، وشعرنا بنفس الألم، الألم لفقدانه … خِفنا على «مصر» كما لو أن ابننا الكبير باع مجوهراتنا وأرضنا ورهن منزلنا، ثم مات فجأة تاركًا إيانا معدمين.

•••

صافي: وجود ذاكرة قوية هو مرض، وكونك ثاقبة النظرة مرض، والرؤية التامة مرض، وإدراكك لما يحيط بك مرض. النظام العالمي الجديد يطالبنا أن نشفي أنفسنا من هذه الأمراض، ونصبح عميانًا صمًّا بكمًا، لكن يسمح لنا بالهلوسة. لهذا قلت لطبيبي إني أعاني من وفرة الصحة، أعطاني قرصًا لمكافحة الصحة الوافرة يُسمى مضاد الاكتئاب. أخذته، كل شيء أصبح على ما يرام، العالم ملخبط، نحن سكان العشوائيات بين الأمم، نُضرب وتُقتلع عيوننا ونقول: مِيرسي. عندما تغشاني نوبة من الصحة الوفيرة، أذهب إلى فراشي، وآخذ قرصًا وأحدق في السقف، وأنسى ما يجري في العالم. فما يسميه الناس بالنظام العالمي الجديد لم يبلغ بعدُ غرفتي، لكن إذا أراد أن يأتي فمرحبًا، يجب فقط أن يطرق الباب لمدة خمس دقائق، وعندها سأفتح … التبعية ليست فقط للدول العظمى، وإنما أيضا ﻟ «السعودية» والدول البترولية، والهجرة الواسعة، لكن الناس لا يريدون المقاومة. يقولون: عشان إيه؟ وأدى هذا كله إلى موقف جديد من الحياة، فردية شرسة، بعدي والطوفان، طالما أنا «أوكي»… شعور قوي بعدم الحيلة.

الناس لا ترى النتيجة، إيماني يستند إلى اختيار أخلاقي، أكثر من التفاؤل الحقيقي، المستقبل يبدو لي شديد الظلمة.

مجموعة عمال زراعيين مهاجرين في غرفة أحدهم ﺑ «كمشيش».

أحدهم: كان الوضع هنا ميئوسًا منه … ذهبت إلى «السعودية» كعامل زراعي بعَقْد. كانت صدمة هائلة … كان الأمر مرعبًا أن وجدت نفسي في العصور المظلمة، غير قادر على أن أقول لا أو على التعبير عن نفسي. النظام هناك استبدادي مطلق، كل ما خرجت به هو البيت، اليوم نشهد التراجع عن الإصلاح الزراعي. بعد ۱۸ شهرًا، سيكون هناك قانون يرغم الفلاحين على التخلي عن أراضيهم … سنرفض، مهما حدث … البعض يقول: إن الإسلام هو الحل. آخرون يقولون: إن القطن لا ينمو لأننا لا نصلي، لكن الله يقول: «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» … في رأيي أن المشكلة هي في وهم العقود الماضية، الرأسمالية لم تحل شيئًا ولا الاشتراكية، أو الإسلام كما يريدون أن يطبقوه. الإسلام صالح لكل زمان ومكان، لكن ما نواجهه هو خراب وفقدان اتجاه.
أمينة: نحن نمر بفترة اضطراب وتضخُّم في المشاعر الدينية. المسيحيون أكثر حماسًا، اليهود أكثر تعصبًا، المسلمون أكثر تطرفًا. الناس في كل مكان يتشبَّثون بالدين كعقيدة ثابتة، فهو يأتي من الله، بينما القيم الدنيوية معرَّضة للفشل وللتساؤل. التدين يصبح حماية؛ وإلا فستكون الحياة بلا معنًى. هناك أيضًا من المشاكل التي نواجهها انتشار الظلامية. يعود الناس من «السعودية» أو «الكويت» بأموال وفيرة ومعها حجاب أو لحية، و«يجب ألا تفعل هذا أو ذاك». ليس لهذا علاقة بإسلام ذكي متنور كإسلام «صافيناز».

وفي رأيي أن هذه الظلامية قد تكون أكثر خطرًا من العنف الجسدي، من الإرهابين … الإسلاميون يعيشون بين الناس يساعدونهم، وأقاموا نظامًا موازيًا للرعاية الصحية والتعليم. وهذا النظام يمثل خطرًا؛ لأنه قد يلهب الظلامية، لكنهم قريبون من الشعب على العكس منا غالبًا.

شاهندة: تعلمون أني و«وداد» أصدقاء، وهي مسيحية، عندما وقعت الفتنة الطائفية شعرنا أنها مدبَّرة، جهة ما تريد إحداث هذا الانقسام. استيقظنا يومًا غير مصدِّقين، كما لو أن سيفًا مزَّقني شطْرَين، الكنائس والمسيحيون يتعرَّضون للهجوم، شيء بشِع أول مرة يحدث في تاريخنا، وأتمنى ألا يتكرر. أنا و«وداد» شخص واحد، ولا أتصور انقسامًا مثل هذا بين المسيحيين والمسلمين في «مصر».

وداد: في رأيي أن الدولة والدين يجب أن ينفصِلَا، الدين أمر خاص بيني وبين الله، ليس لذلك علاقة بالدولة وقوانينها.
صوت المخرجة: هل هذه نقطة خلاف بينك وبين «صافي»؟
وداد: فعلًا، هو خلاف أساسي، «صافي» كمفكرة إسلامية، تريد دولة إسلامية.

شاهندة: لا أجد خطاب «صافي»، بحثت في كل مكان. كتبت لي أنها قررت أن تقطع علاقتها بصديقاتها اللاتي لا يرتدين الحِجاب. أجبتها قائلةً إني لن أغضب منها، لكني لن أرتدي الحجاب … الله إله الرحمة، أنا مؤمنة لكن ملابسي أمر يخصُّني وحدي.
صافي: نحن نقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الله هو الأكبر، أكبر منكم جميعًا … أكبر من «أمريكا» والنظام العالمي الجديد، الذي يسعى إلى تجريدنا من كل أثر لإنسانيتنا … العالم كله سيتعلم شريعة الله التي وُجدت دائمًا، أين إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الرومان؟ أين «أفلاطون» و«سقراط»؟ راحوا، الله هو الواحد والدايم، الأول والأخير.
أمينة: أربعتنا جميعًا نؤيد العدالة الاجتماعية ومساواة أكبر، والقضاء على المشاكل الصارخة. نحن نريد عدالة أكبر وعودة إلى أخلاقيات معينة، لكنْ هناك فَرق بين علمانية بعضنا والمنظور الديني للبعض الآخر.
صافي: الذئب والحمل! … الغرب هو القوة المسيطرة أيديولوجيًّا وثقافيًّا. إذا ظنوا أني عدو؛ لأني لا أريد أن أخضع لهم، لا بأس إنهم أعدائي أيضًا، ليذهبوا إلى الجحيم.
أمينة: أنا أرى الأمور بطريقة مختلفة، النزاع مع الغرب ليس أيديولوجيًّا أو روحيًّا، إنه سياسة، نحن نعرف جيدًا إنه إذا استولت قوة إسلامية على السلطة، وعملت لصالح الغرب؛ فإن الغرب سيحتضنها.
شاهندة: المؤسَّسات الاقتصادية الدولية والشركات المتعدِّدة القوميات تحتاج لخلق عدو؛ ذريعةً لإثارة الحروب وبيع الأسلحة.

صافي: أتذكَّر مرةً في ۱۹۸۱م قبل أن نذهب إلى السجن، جننتني «شاهندة»! بتقدم خلطبيطة من كل الأفكار غير المترابطة، ثم تستشهد بالقرآن … عندها جانب فني متطور جدًّا، تحب أن تسمع رنين كلماتها.

شاهندة: مَن منَّا يحب إلقاء الخطب؟ كلكن شاهدات.

أمينة: أنا نشأت في بيت ذي ثقافة أوروبية. في السنة الماضية مررت بأوقات صعبة، على المستوى الشخصي، وجدت نفسي أبتهل بالدعاء، لكن ذلك تم في إطار علاقة شخصية بالله، ليس في إطار ديانة ما، تحدثت إلى الله، لم نكن نصلي في بيتنا، لم أتعلَّم أبدًا.
صافي: «أمينة» لم تذق الإسلام … المسكينة حُرمت من ذلك. قالت لي في السجن إنها قرأت «القرآن» بالفرنسية، أسعدني هذا جدًّا، في أعماقها هي إنسانة جيدة، وكلما صلَّيت أطلب من الله أن يقوي الإسلام ﺑ «أمينة»، أتمنَّى أن تلتزم بالإسلام، لكنها حرة، أنا لا أرغمها. هل حاولت مرة؟
أمينة: لا، على العكس. ما حدَث لي هو أني اخترت الاشتراكية والماركسية، كان ذلك في ۳ مارس ١٩٥٤م … لم أنم تلك الليلة، شعرت أني أختار نظامًا للعدالة الاجتماعية، ولم أتخلَّ عنه أبدًا. تسمعين: «الاتحاد السوفييتي فشل»، هذا لا يغير شيئًا، قضية العدالة موجودة ولن أقبل أبدًا الظلم الاجتماعي.

صافي: يومًا ما يا «أمينة» بنت «خديجة» التي سُميت على اسم زوجة النبي … أدعو الله أن يستجيب لصلواتي، ليس من الضروري أن تصبحي مسلمة، لكن إذا كنت مع العدل والمساواة والتوحيد … هذه أرض مشتركة، قيم أخلاقيات كبرى.
وداد: أنا أوافق جوهريًّا على كل القِيَم التي ذكرتها «صافي». أنا مسيحية وجذوري مسيحية، عندما كبرت اكتشفت الاشتراكية، اختياري هذا الطريق نبَع من عقيدتي المسيحية، أما عن خلافي مع «صافي»؛ فهو أنها تسعى إلى التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية. نسمع دائمًا «الإسلام هو الحل»، وأنا كمسيحية يمكنني أن أقول لك: إن المسيحية تحقِّق كل آمالي، لكني لا أعتقد أن الدولة يجب أن تكون إسلامية أو مسيحية. سأحارب أي نظام يسعي إلى فرض شيء بالقوة مهما كان هذا الشيء، وأيًّا كانت رايته. إذا رفعوا شعارًا يقول شيئًا، ثم ناصروا الإقطاع بينما يقولون: إنهم ماركسیون سأحاربهم، أو لو قالوا إنهم دینیون سواء مسلمين أو مسيحيين، بالنسبة لي هذا جوهري، هذا رأيي.

صافي: أنا لا أعبِّر عن رأيي، أنا أقول ما هو الإسلام، وفي الإسلام لا يوجد ما يُسمى بالرأي. خلف راية الإسلام هناك ملايين الناس.

أمينة: هذا غير صحيح، خلف رايته رأسمالية وإقطاع.

صافي: إسلام بلا نظام إسلامي خطأ، إقامة رأسمالية أو اشتراكية ووصفها بالإسلام خطأ، الإسلام يجب أن يكون إسلاميًّا.

شاهندة: أنا أعرف ديني. أعرفه، لكن ماذا يعني هذا الشعار بالضبط؟ هذا الرجل سيحكمني، لن يكتفي بالوعظ، يجب أن يذكر برنامجه.
صافي: يعني الشعار هو «يا عمال العالم اتحدوا»؟
شاهندة: يجب أن يحدد: «سوف نؤمم … وهلمَّ جرًّا!»

شاهندة: إنها أزمة اجتماعية ممتدة، ١٩٥٢م لم تحل شيئًا أو كثيرًا، بالعكس ساءت الأمور، الحياة صعبة في بلد عالم ثالث، ربما هي صعبة في كل مكان، الفقر المدقع إلى جانب الثراء الفاضح، ثراء الأغنياء الجدد في مصر الآن. الناس الذين اغتنوا من العقارات وغيرها، ليس عندنا رأسمالية منتجة … لابد أن يتغير هذا في يومٍ ما، ربما آخرون سيقومون بذلك؛ لأن هذا صعب على جيلي، ربما لم نكن قادرين، وسوف يستطيع ذلك غيرنا، لمَ لا؟

في منزل «شاهندة» الريفي الجديد، الجميع بالإضافة إلى «نوَّارة» ابنة «صافي»، و«ريم» ابنة «وداد»، و«بسمة» ابنة «شاهندة».

ريم: الحديث كثيرًا عن الماضي يُثير أعصابي، أحبُّه لكنه مملٌّ.
شاهندة: أنا واثقة أنه رغم ظلمة وصعوبة هذه الأيام التي تُثير في أبناء جيلنا الأسى والاكتئاب والمذلَّة، فالمستقبل سيكون أجمل، فلا يمكن أن يستمرَّ الأمر هكذا.
صافي: أري الموت قادمًا وقريبًا جدًّا، هذا شيء عظيم، أنا سعيدة بذلك. خلال عشر سنوات أو عشرين سنةً على الأقصى، سأموت وأستريح. أقسم أني فكرت في ذلك، إذا تبقَّت لي خمس دقائق، ماذا سأقول لابنتي «نوارة»؟ سأقول لها: كوني سعيدة. الموت ميلاد جديد في الحياة التالية والخلود، سيكون الأمر أفضل بكثير من هنا، أرجوك أن تعتبري موتي رابطة جديدة بينك وبين العالم الآخر. وبعد خمسين أو سبعين سنةً ستنضمين إليَّ، سنكون معًا وسعداء، لن تفيض دورات المياه ولن تنسد الأحواض.

البنات يتحدثن عن مشاكلهن مع أمهاتهن. ابنة «صافي» محجبة كأمِّها، وصحفية مثلها، وابنة «شاهندة» تشكو من أن أمها تمنعها من أن تمتَهِن الرقص، ترقص بينما يغني الجميع:

«يا شاهندة وخبريني،
على اللي قتل ياسين.»
ومع تزايد إيقاع الرقصة ينظر الجميع إلى «وداد»، ويغنين:
«على حس وداد … قلبي،
وأنا أقول للزين … سلامات.»
١  إنتاج هيئة الفيلم الوطنية الكندية عام ۱۹۹۷م مدته ساعة ونصف، ونال جائزة أفضل فيلم تسجيلي في مهرجان الفيلم البرتغالي، إخراج «تهاني راشد»، وهي مصرية هاجرت أسرتها من «مصر» إلى «كندا» في ١٩٦٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤