الفصل الثالث والثلاثون

عندما عاد الضوء وجدتني قابضًا بشدة على يد «شرلي»، أطلقت سراحها ونهضت واقفًا ثم استدرت مواجهًا طلبتي.

تعلقت عيناي بعيني «فادية» اللتين اغْرَورقتا بالدموع، فأشَحْت بوجهي بعيدًا.

قلت: سنناقش الفيلم في الدرس القادم.

أسرع الطلاب بالانصراف وبقيت إلى جوار «شرلي»، حتى استخرجت الشريط من الجهاز وأغلقته، وضعت معطفي على كتفي، ثم غادرنا القاعة بخطوات سريعة، وصعدنا الدرج الخلفي إلى مكتبي.

طرقت الباب ثم دفعته، كانت الغرفة خالية ومضاءة، وهناك كتاب فوق مكتب «إستر» مما يدل على أنها في المبنى، دخلت و«شرلي» في أعقابي، ثم استدرت وأغلقت الباب.

لا أعرف مَن الذي بادر، لكننا ألفَينا نفسينا في أحضان بعضنا البعض، زنقتها في الزاوية الفاصلة بين الباب والحائط، أعطتني شفَتين رطبتين، ثم تهاوت بين أحضاني، ومضينا نتحاكُّ بعنف كالمراهقين.

تسارع لهاثنا، وفجأة تحرَّك مصراع الباب، انفصلنا وهي تتأملني بعينين زائغتين، ابتعدت عن الباب، فانفرج كاشفًا عن «إستر»، لوَّحت لها بيدي، واندفعت خارجًا و«شرلي» في أعقابي.

اتجهنا إلى الدرج وهبطنا إلى المدخل. ارتديت معطفي وطاقيتي، وأنا أتطلع إلى الخارج. تبينت عددًا من الشبان والشابات يقفون في الظلام، حاملين لافتات تهدِّد بإضراب المساعدين الذين نلقِّبهم في «مصر» بالمعيدين.

قالت ونحن نتجه إلى الجاراج الذي ركنَتْ فيه سيارتها: الواحد منهم يأخذ ألف دولار في الشهر أو أكثر قليلًا، بينما يقوم بكل عمل الأستاذ؛ تحضير المحاضرات وإلقائها في أغلب الأحيان، بل وعقد الامتحانات وتصحيح أوراقها.

استقللنا المصعد مع عدَدٍ من الطلبة إلى الطابق الثالث، وغادروه معنا. ركبنا السيارة، ووجدت صعوبة في الجلوس بسبب أسلاك المقعد البارزة.

قالت عندما صرنا في الشارع: أريد أن أُتَلفن.

توقفتْ أمام جهاز تليفون مثبت في حائط مبنًى، وبحثت في كيسها عن بطاقة تليفون. ناولتها بطاقة جديدة كنت اشتريتها بالأمس، ولم أستعملها. أخذَتها بيدٍ باردة كالثلج وغادرت السيارة.

تكلمت ثم عادت. قالت: هل يمكن أن أحتفظ بالبطاقة؟

قلت: طبعًا.

ها قد بدأنا.

أخرجت من كيسها عشرين دولارًا ناولَتْني إيَّاها، رفضت أن آخذها قائلًا: إني لن أحتاجها على أية حال.

أصرَّت أن تدفع، ورفضت أن تحرك السيارة قبل أن آخذ النقود، فأذعنت شاعرًا بالارتياح.

قالت: أين تريد أن تذهب؟

قلت: سنذهب سويًّا إلى منزلي.

هزَّت رأسها: لا يمكن، لا أستطيع.

قادت السيارة في اتجاه منزلي، ثم أردفت: لن أراك إلا يوم الثلاثاء عندما ترتدي ثوب الأستاذ.

قلت: ولماذا لا أراكِ غدًا؟

قالت: أوكي.

أنزلتني أمام المنزل، وانصرفت بعد أن أعطتني شفتَين باردتين. ولجت مسكني وأشعلت النور، ألقيت معطفي وطاقيتي على أول مقعد، وتنقَّلت بين الصالة والمخدع والمطبخ، فتحت باب البراد وأغلقته.

عدت إلى الصالة فارتديت معطفي من جديد، وأخرجت علبة سجائري، ومضيت إلى المخدع. أزحت مصراع باب الحديقة، وخرجت إليها دون أن أُشعل الضوء الخارجي، خطوت في الظلام حتى الأريكة الحديدية، تحسَّستها بيدي حتى تأكدت من أنها غير مبلَّلة، ثم جلست.

أشعلت سيجارة وألقيت نظرة على مسكن جيراني، كانت النافذة القصيَّة مظلمة على عكس الأخرى المجاورة لغرفة «السولاريوم»، عرفت ذلك من فرجة في الستارة المسدلة، وكنت قد لمحت بها مرة أريكة إلى اليسار تُواجِه جهازًا للتليفزيون فوق حامل خشبي.

أطفأت عقب سيجارتي في المنفضة، وخطوت نحو مخدعي، حانت مني نظرة إلى النافذة المجاورة، فشاهدت من فرجة الستارة امرأةً مستلقية فوق الأريكة على جانبها الأيمن في مواجهة التليفزيون، وقد اختفى رأسها تحت حافة النافذة، ورأيتها تبسط بطانية فوقها كأنما تنوي القيام بإغفاءة قصيرة.

ولجت المخدع، وأغلقت مصراعه خلفي، مضيت إلى الصالة وفتحت الكمبيوتر، وجدت رسالة من «شادويك» تسألني عما إذا كنت قرأت «إعلان سيينا» الذي نشرته «نيويورك تايمز» قبل عيد الشكر. هممت بإغلاق البريد، عندما دق جرس الكمبيوتر معلنًا وصول رسالة جديدة. كانت من «إكس»، ونصُّها كما يلي:

«أعددت طبقًا من المعكرونة وصلصة منزلية من الأعشاب، دون أن أستخدم الميكروويف في تسخين وجبة جاهزة، جلست إلى المائدة أشاهد التليفزيون، مسحت الصلصة بالخبز، ووضعت الأواني في غسالة الأطباق، وتكورت فوق الأريكة لكن قلبي كان يدق. نهضت ودخلت الحمام، ملأت الحوض ووضعت به كثيرًا من الرغاوي. خلعت ملابسي وغُصت في المياه الساخنة، دعكت جسدي بالصابون في بطء، ثم تناولت مقصًّا من على الرفِّ. وبيدٍ مرتعشة أخذت أقص خصلات الشعر بين فخذي، حتى صنعت مثلثًا، وأنا أفكر فيك طول الوقت. تأملت نفسي في المرأة، وتمنيت لو كنت أنا أنت وأنك تراني هكذا، شعرت أني كنت طول الوقت في انتظار هذه اللحظة، لحظة العرض. لن يصفق لي أحد، لكن مكافأتي ستكون وفرة من المتع واللذات، ولن أحصل على هذه المتع إلا إذا نجحت في إشعال كل رغبة لديك فيَّ.»

قرأت الرسالة عدة مرات، ولاحظت تعرجًا في سطورها. أغلقت عيني وفتحتهما، لكن التعرج لم يختفِ. لاحظت أيضًا أن الشوائب التي اكتشفتها أخيرًا خلف حدقتي تزايدت.

فصلت التليفون، وأغلقت الجهاز وأزحت جانبًا صورة الفتاتين الوالهتين، ثم حملت علبة سجائري وخرجت إلى الحديقة، خطوت نحو ركن التدخين، وحانت مني نظرة إلى نافذة جيراني. كانت المرأة ما تزال فوق الأريكة، لكنها كانت عاريةً تمامًا ومنتصبة في مواجهتي، وقد انسدل شعرها على وجهها وأخفى ملامحه، وأدركت أنها تعتلي شخصًا ما وتتحرك فوقه.

تسمرت في مكاني وقد تسارعت دقات قلبي، تذكرت سنوات مراهقتي التي سيطرت عليها أمنية مشاهدة لحظة كهذه، وها هي تتحقق في نهاية العمر، بعد أن لم يعد الأمر سرًّا أو ذا بال.

كانت المرأة في مقتبل الشباب، بجسد أبيض شاحب، في لون الجلد المسلوخ، وثديين ممتلئين ومتماسكين … رفعت رأسها فجأةً إلى أعلى، فابتعدت في الحال، تأكدت أنها جارتي التي رأيتها بالليل من النافذة الأمامية مع رفيقها، هل هي معه الآن؟ وإذا كان هذا صحيحًا؛ فأين الموسيقى التصويرية؟

عدت أتلصص، متمعِّنًا المشهد ومحاولًا تحليله: مَن الشخص الآخر؟ رجل أم امرأة؟ وجارتي، ما الذي جاء بها قبل موعد العودة من العمل اليومي المعتاد؟ ربما لديها اليوم عطلة أو لزِمت البيت لسببٍ ما، وكانت مستلقيةً، ثم جاء الشخص الآخر وبدأت مداعبة أدَّت إلى الموقف الراهن، دون فرصة لتشغيل الموسيقى. هذا لو كان بالفعل رفيقها الذي يسكن معها.

كنت مستغرقًا في التحليل، حتى فاتني الانفعال بما يجري.

مشكلتي الأزلية.

ظهرت بضع تفاصيل من الشخص الآخر، ركبتان انثنتا إلى أعلى، وجانب من ساق ناعمة، قد تكون لرجل أو امرأة، اليد أيضًا التي ارتفعت تتحسَّس ثديها الأيمن، اليد الأخرى تهتم بالثدي الثاني، اليدان تتحركان في رقة وخفة فوق ظهرها، وقد انحنت فوق جسد رفيقها أو رفيقتها. ليس هناك عنف في هذه العلاقة، أو لعلهما في بدايتها، ولم يكتشفا بعدُ الدروب الحويطة، اليدان مثلًا لا تتوقفان عند مؤخرتها كثيرًا.

غمرني يقين بأن الشخص الآخر رجل، واحد في مقتبل الشباب ذو جسد عصري بلا شعر. وجدتني منجذبًا إلى حركة يديه، ثم أدركت السبب. لم يكن فيها أثرٌ لحيوية التورط الانفعالي المشبوب، فهل سبقها ويقوم الآن برد الدين؟

مردود لا بأس به للطرفين، حيث يلتذُّ كل منهما في نهاية الأمر، أم علامة على شرخ ما في العلاقة؟ هل هذا سبب استغراقها وقتًا طويلًا لبلوغ لذتها؟ لم تكن «جمالات» تحتاج أكثر من دقائق، و«عايدة» أيضًا، أم أني أتخيل أنها تجد صعوبة في ذلك؟ وربما كنت أمام مجرد تمهيد لسهرة كاملة، الجولة الأولى في عدة جولات.

غيرت المرأة إيقاعها عدة مرات ثم هوت برأسها فوقه، فقدت توازنها؟ أو على وشك الالتذاذ؟ أو تلتمس شفتَيه في لحظتها؟ أم تقبِّله لتجلب هذه اللحظة؟

خطر ببالي أنها طوال ذلك الوقت لم تلقِ بنظرة إلى النافذة المكشوفة لأي ناظر. هل تعودت ألا ترى أحدًا؛ بسبب الزجاج العصري العاكس للضوء بالنهار، والستائر المسدلة عليها بالليل؟ أم أن ما يحدث تم بشكل مفاجئ، وعلى غير توقُّع فلم تنتبه إلى الأمر؟ أو لعل أحدهما أو الاثنين يرغبان، عن وعي أولا وعي، في مشاركة من مشاهد في أن يراهما أحد؟

الدروب الحويطة مرة أخرى.

اختفى رأسها أسفل حافة النافذة، لكن يديه ظلَّتا تتحسسان ذراعيها وظهرها وعنقها. إرشادات كتب الحب؟ أم استجابة لطلبٍ منها؟ أم أن هناك مشاركة حقيقية وعاطفة جيَّاشة من جانبه رغم الأداء غير الانفعالي الذي قدَّمه؟ أم لعله يحفز نفسه لجولة جديدة؟ أم الأمر كله مجرد تخيلات من مراهق في الستين؟

ظلت مسترخية فوقه، وهو لا يكفُّ عن تحسسها، ثم قام من تحتها برفق، وظهر الجزء الأعلى من جسده فتعرفت على رفِيقها. ركع فوقها، فثنَت ركبتيها إلى أعلى، واحتوته بينهما.

حان دوره؟

رفعت يديها وداعبت وجهه في رقة، تعبير عقلاني دون انفعال العاطفة المشبوبة؟ امتنان لما حصلت عليه من لذة بواسطته؟ أم أنها ما زالت تحت تأثير الجولة الأولى، شبعانة مروية، مفككة الأوصال؟

عدت في خفة إلى مخدعي فأطفأت نوره، ثم خرجت إلى الحديقة من جديد. وجدت المشهد قد تغيَّر؛ فقد عادت المرأة تواجه النافذة، وقد امتطت صدر رفيقها، قريبًا من وجهه.

حميمية بالغة، أم خدمة جديدة؟

مللت المراقبة فاتجهت إلى ركن التدخين ووضعت سيجارتي في فمي. اكتشفت أني نسيت ولاعتي فعدت أدراجي. أشعلت النور وبحثت عن الولاعة حتى وجدتها، ثم خرجت إلى الحديقة. التفت إلى النافذة فرأيت جارتي واقفة إلى جوار الأريكة، وهي تسدل قميصًا فوق رأسها، ثم اقتربت من النافذة وحدقت ناحيتي بوجه شاحب، وفي حركة عنيفة جذبت الستارة، وأخفت الغرفة تمامًا عن ناظري.

رأتني؟

مضيت إلى الأريكة وأشعلت سيجارتي. هل ارتكبت عملًا مشينًا؟ هل سلوكي يمثل اقتحامًا لخصوصيتهما، في هذا العصر الذي لا يخفى فيه شيء؟ وماذا أفعل لو اشتكت لأحد أو استوقفتني في الطريق وأهانتني أو على الأقل احتقرَتني؟ هل أقول لها إن دافعي كان علميًّا بحتًا؟ وحتى لو كان شبقيًّا فما هو الضرر الذي وقع؟

تطلعت إلى نافذتها عدة مرات، لكن الستارة ظلت مسدلة. وبعد قليل عادت إلى وضعها السابق. ولمحتها جالسة فوق الأريكة وما زالت في قميصها، وقد ثنت ساقًا عارية إلى أعلى، وألقت بيدها فوق ركبتها، وهي تتحدث في هدوء.

حديث ما بعد؟ مقارنة بتجربة سابقة لأحدهما أو كليهما معًا، أو عن المستقبل؟ سنضع مائدة مربَّعة في هذا الركن، أو سنحتاج إلى مسكن أكبر من أجل الأطفال؟

لم يكن في كل هذا ما يعنيني فولجت مخدعي، وجررت المصراع خلفي في رفق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤