الفصل الرابع والثلاثون

دفعت باب البنك، وولجت فسحة صغيرة محصَّنة انتشرت ماكينات النقود في جدرانها. اتَّجهت إلى باب مغلَق في طرفها وضغطت زره الأخضر، أزَّ الباب ثم انفتح وولجت صالة التعاملات، حصلت على رقم، ووقفت في طابور حلزوني حتى حلَّ دوري. شرحت مشكلتي لفتاة هندية آسيوية، فطلبت مني الانتقال إلى مكتب مجاور فوق مستوًى أعلى.

استقبلني رجل أبيض بشوش في نهاية الخمسينيات، صفَّف شعره الفِضي الناعم في عناية. قدمت له كشف حسابي الذي وصلني في الصباح، وقلت إنه أغفل إضافة راتب الشهر الجديد.

ألقى نظرة على الكشف، ثم كتب لي رقمًا على ورقة صغيرة، وقال: اطلب هذا الرقم وقل لهم المشكلة.

قلت: أنا موجود الآن في البنك؛ فلماذا أتصل به تليفونيًّا؟

ابتسم وقال: كل أعمالنا الآن تتم بالتليفون؛ التحويلات، ونقل المدَّخرات من وعاء إلى آخر. كل شيء، وكله يتم أوتوماتيكيًّا في دقائق.

كان يتحدَّث بيُسر ودعَة، ولم يبدُ عليه أنه في عجَلة للتخلُّص مني.

قلت: ماذا يفعل الموظَّفون إذن؟

هزَّ كتفيه: لم تعد لهم ضرورة؛ ولهذا يجري الاستغناء عنهم بالجملة، إلا إذا قبِلوا العمل بنصف الأجر السابق.

تذكرت أني قرأت كيف حققت البنوك التجارية الأمريكية أرباحًا مقدارها ١٤ مليارًا من الدولارات في الربع الأول من العام. ذكرت الأمر له فبدَت عليه الدهشة، تذكرت أيضًا أمرًا آخر.

قلت: هل صحيح أنكم ستندمجون مع بنك «أوف أميركا»؟

أجاب: صحيح.

قلت: قرأت أن الاندماج سيؤدِّي إلى التخلص من ربع العمالة في البنكين.

اتسعت ابتسامته، فكشفت عن أسنان كاملة مُعتنًى بها وقال: في الفروع النائية، وليس في «سان فرنسيسكو»، على العموم أنا أمامي عدة شهور على التقاعد، ولن يمسني الاندماج في شيء.

تطلع إلى إطار مثبَّت في قائم على ركن مكتبه، يضم صورة لثلاثة أطفال في أعمار مختلفة، ولمحني أنظر إلى الصورة فقال: سأستمتع بحياتي وبصيد السمك مع أحفادي.

أشرت إلى التليفون فوق مكتبه وقلت: هل يمكنني أن أستخدمه؟

بدا عليه الحرج وقال: إنه مخصص لمكالمات العاملين فقط.

شكرته وعُدت إلى منزلي القريب، مارًّا بحانوت الأثاث الذي ما زال عماله مضرِبين وواقفين أمامه بلافتاتهم. اتصلت برقم البنك، وبعد عرض لأرقام الخطوط الداخلية ردت عليَّ فتاة. ذكرت لها المشكلة فطلبت رقم حسابي، وطلبت مني أن أبعث إليهم بخطاب يتضمَّن شكواي، وأضافت: سنضع المبلغ في حسابك اليوم إلى أن يتم التحقيق في الأمر.

كتبت الشكوى ووضعتها في مظروف ووضعته جانبًا، ثم مضيت إلى مدخل المسكن حيث كومت الصحف القديمة.

قلَّبت بين الأعداد الصادرة قبل عيد الشكر، حتى عثرت على عدد «نيويورك تايمز».

وجدت الإعلان الذي ذكرته «شادويك» على صفحة كاملة، وتتصدره سطور ببنط عريض. مررت بعيني فوق السطور بسرعة: «الأزمة التي وضعت الاقتصاد العالمي على حافة الانهيار لم تنتهِ بعد … إنه النظام نفسه بنفس القيم … لن تكفي الإصلاحات السريعة؛ لأن النظام خطأ من أساسه … نحن في حاجة إلى أصوات جديدة حول المائدة الآن!»١

وأسفل هذه السطور أربع صُور بتعليقات صغيرة. الصورة الأولى ﻟ «كلينتون» الذي وُصف ﺑ «البائع العالمي الأول لسياسات التجارة الحرَّة، والاستثمار الفاشلة التي تسبَّبت في الأزمة المالية الكونية». وجاورته صور «روبرت روبين» وزير الخزانة الأمريكي، «ميشيل كامديسيوس»، مدير البنك الدولي، «ريناتو روجيرو» مدير المنظمة التجارة العالمية، الذين وصفتهم الوثيقة بأنهم «يطالبون بحريات وقوة أكبر للمضاربين والشركات والبنوك الكونية».

بحثت عن الجهة المعلَنة، فوجدتها «المنصة الدولية عن العولمة» التي اجتمعت في مدينة «سيينا» الإيطالية في «سبتمبر» الماضي لوضع مشروع هذه الوثيقة، ثم جمعت عليه توقيعات عدة مئات من ممثلي منظمات غير حكومية في كافة أنحاء العالم الغربي، بالإضافة إلى قلة من البلدان الآسيوية والأمريكية اللاتينية والأفريقية ليس بينها بلد عربي واحد.

فصلت الصفحة وطويتها ووضَعتها بين أوراقي، ثم فتحت الكمبيوتر وراجعت النقاط التي سطرتها حول المؤتمر. تجنَّبت الدخول على الشبكة وتفقُّد بريدي الإلكتروني، وعند الظهر تمامًا أخذت دواء أذني، وعندما وجدت الجو مشمسًا ارتديت سترتي المُبطنة بالصوف، وتخليت عن الطاقية والمظلة، ووقفت في النافذة الأمامية.

وصلت سيارتها بعد قليل فخرجت إليها، تركت خطاب البنك فوق صندوق البريد الخارجي، ودُرت حول السيارة لأجلس بجوارها، وما إن اقتربت منها حتى بدر مني صفير إعجاب.

كانت قد تخلت عن بنطلون الجينز المألوف، وارتدت سترة سوداء فوق بنطلون قطيفة من نفس اللون وحذاء بكعب مرتفع. قالت وأنا أجلس إلى جوارها، وأبحث لعظمة أليتي عن ركن طري: اشتريت الطاقم كله اليوم، هل تعرف بكم السترة؟ بثمانين دولارًا. وعندما لم تظهر عليَّ علامات الدهشة، أضافت: ثمنها الأصلي ٥٠٠ دولار.

انطلقت بالسيارة في اتجاه وسط المدينة، وهي تقول: نحن ننتظر هذه الفرصة طول العام. فالشركات تجرى تخفيضات هائلة على منتجاتها؛ لتتخلص منها قبل العام الجديد، ويصاب الجميع بحمى الشراء. هل تعرف الشعار؟ اشترِ حتى تقع من الإعياء طبعًا.

لمحت ماكينة نقود فطلبت منها أن تتوقف، خرجت إليها، وضغطت الزر الذي يعطيني كشف حسابي، فوجدت أن البنك أضاف إليه المبلغ الناقص.

حكيت لها القصة عند عودتي مُبديًا إعجابي بكفاءة الأداء، وقلت: لا أنسى مرة أردت شيئًا من بنك في «مصر»، فاستغرق مني الأمر أربع زيارات على مدى أسبوع. في المرة الأولى كان الكمبيوتر معطلًا، وفي الثانية غاب الموظف المختص، وفي الثالثة جاء وتعطلت الطابعة، وفي الرابعة جاء الموظف المختص، واشتغل الكمبيوتر والطابعة لكن غاب المراجع.

انتقلنا من وسط المدينة ذي البنايات الفخمة إلى جنوب «ماركت»، وعثرنا على مكان خالٍ بجوار عدَّاد فركنَّا السيارة، ثم قادتني إلى مقهًى إيطالي، جلسنا إلى مائدة في ممر مسقوف يؤدي إلى دار للسينما. وكانت المائدة المجاورة محتلة بشابة شقراء بالغة البدانة، ورجل أشقر يبدو ثملًا أو مخدرًا، بينما تلعب قربهما طفلة صغيرة ذات ملامح أفرو-أمريكية خفيفة.

عرضت عليها أن نشرب بيرة فقالت: إنها تبذل مجهودًا خارقًا؛ لكي تخفض وزنها؛ ولهذا امتنعت عن شرب البيرة التي تحبها. طلبت أنا «اسباجيتي» بالخرشوف والخضراوات وصلصة الطماطم والزيتون، واكتفت هي بطبق من السلاطة الخضراء.

قلت: عندما تحدثت في المحاضرة عن زيارتي للطبيب النفسي، رأيتك تبتسمين بطريقة معينة.

ضحكت وقالت: لأني أنا أيضًا آخذ «بروزاك»، السنة الماضية وجدت نفسي أتصرف تصرفات غريبة، أتشاجر مع أهلي وأبكي، وأتأرجح بين أقصى حالات الفرح واليأس. أخذتني أمي إلى طبيبة نفسية، ترددت عليها أربع مرات، ولم تكن تتحدث كثيرًا، فقط جملة أو اثنتين. وجهت إليَّ أسئلة شاملة عن حياتي الجنسية، وقالت لي إني معقدة بسبب صورتي عن نفسي، ألفيتني أقول أشياء، وأرى أمورًا لم تكن تخطر ببالي، وكنت أعود من اللقاء مدمرة، وفي النهاية أعطتني «بروزاك».

– تحسنت؟

ثبتت قطعة خيار في طرف الشوكة، وتأملتها برهة ثم قالت: لا بأس.

قلت: والآثار الجانبية؟

– لم أشعر بشيء.

ابتسمت وأدركت هي ما في إجابتها من ازدواجية المعنى، فاستغرقت في الضحك.

قالت: أنا غير مستعدة لأي جنس مع أحد غير «توم».

كانت قد انتهت من طبقها فأزاحته جانبًا، وأشارت إليَّ أن أقترب بوجهي وقبَّلتني في فمي قبلة عميقة، تطلعت حولي في حذَر؛ خوفًا من أن يرانا أحد من الطلبة أو الأساتذة.

قلت: هذه القبلة بالطبع أخوية.

قالت: هذه مسألة مختلفة؛ لأني أحبك.

تذكرنا سويًّا توصيف «كلينتون» لما جرى بينه وبين «مونيكا»، وكيف أنه لا يُعتبر ممارسة جنسية، وضحكنا طويلًا.

قالت: لا حديث للناس الآن غير الجنس الفمي والسيجار. قالت لي «فادية»: إن كثيرًا من المصريين يطلبون من مواقع الفتاوى على الشبكة الرأي في الجنس الفموي، هل هو حلال أم حرام؟ أحدهم قال إنه فعلها مرة، وما زال ضميره يؤنبه.

تركتني لتتكلم في التليفون، وظهر في مدخل الممر رجل في طاقم أسود من بلوفر وبنطلون جينز وكاب «جيفارا» الذي أكَّد ملامحه اللاتينية. وتبعته امرأة بيضاء في سنِّه أو تفُوقه قليلًا، بشعر أحمر اللون، وعينين زرقاوين بهما نظرة قاسية، ترتدي «جینز» أزرق ممزَّق عند الركبتين، عليه آثار دهان الحوائط الأبيض، وبلوفر ثقيل أخضر فوق بلوزة نبيتية اللون.

وضع الرجل لفافة ملابس خلف عمود بعيدًا عن عيون العاملين في المقهى، ثم اقترب مني وسألني عن المقعد الفارغ، فقلت: إنه مشغول. ابتعد وحمل مقعدًا من مائدة أخرى إلى حيث جلست رفيقته فوق مقعد منعزل، ضامَّة ذراعيها إلى صدرها من البرد.

خلع الرجل بلوفره الأسود كاشفًا عن «تي شيرت» أخضر، نفض البلوفر في الهواء، ثم وضعه في عناية على حافة المقعد وتحسَّس وشمًا كبيرًا يزين ذراعه الأيسر، تكلف ما لا يقل عن ثمانين دولارًا. قال شيئًا لرفيقته، ثم لمس فخذه ورأيت وشمًا كبيرًا مماثلًا فوق ذراعه اليمنى. كان متين البنية مفتول العضلات، ولم أرَ أثرًا لإبر الحقن في ذراعيه، وكانت أصابع إحدى يديه بارزة من قفاز من الصوف.

نهض واقفًا واقترب مني موجهًا سؤال الشحاذين التقليدي: هل يمكنك التخلي عن فكة؟

كانت له لحية قصيرة خفيفة وبشرة لوَّحتها الشمس، وقدرت عمره بالخامسة والثلاثين أو الأربعين. أعطيته نصف دولار فشكرني، وأخرج فكة من جيبه. عدها ثم اتجه إلى داخل المقهى بمشية مختالة كأنه يرقص، فهتفت به المرأة: لا.

غيَّر طريقه وخرج إلى الشارع ثم عبَره واختفى، عاد بعد لحظات يحمل في يده صندوقًا صغيرًا للبيتزا فتهلَّل وجهها، أزال الغطاء وقسَّم البيتزا، وأعطاها نصيبها في ورقة، ووضع العلبة بنصيبه على المائدة، وأقبل الاثنان على الأكل في شراهة، وتطايرت بقعة مُسْتَرْده، وعلِقت بحافة الكاب فخلعه ومسحها بإصبعه عدة مرات، ثم أعادها إلى رأسه في عناية واستأنف الأكل.

عادت «شرلي» بعد أن عززت طلاء شفتيها، ولحظت اتجاه نظراتي فشاركتني الفرجة.

فرغ الرجل والمرأة من الأكل، وأشعلا سيجارتين دخَّناهما باستمتاع، ورأيته يُخرج فرشاة من جيبه ويمشط شعره، واستخرجت هي أيضًا فرشاة حمراء من جيب بنطلونها. مشطت شعرها بعناية وتخلَّلته بأصابعها، وتبينت به كثيرًا من اللون الأبيض، ثم قالت شيئًا لرفيقها، فقام ومشى في اتجاه السينما. اقترب من عائلة وخاطب الأم، فابتعدت في حذَر وهي تجذب بناتها بعيدًا، قدرت أنه طلب منها فكة.

علقت «شرلي»: دور القهوة.

عاد إلى مقعده وجلس دون أن يوجِّه كلمة إلى رفيقته، وأقبل ينظِّف أظافره بطرف سلَّاكة أسنان خشبية.

حدثتها عن المشهد الذي رأيته في نافذة جيراني واستنتاجاتي، استمعت إليَّ باهتمام دون أن تحول عينيها عن طبقي، ثم قالت: أنت تعلق الكثير على المشاركة، ليس ذلك ضروريًّا. أنا و«توم» مثلًا يخدم كلٌّ منا الآخر حتى يلتذ. ومرات كثيرة لا يحدث لي «أورجازم»، لكني أكون مستمتعة وراضية، وأحيانًا لا تكون هناك مشاركة مطلقة من جانبي عندما يبدأ ألاعيبه.

تطلعت إليها مستفهمًا.

قالت: هو مغرم بالتمثيل من الصغر.

سألت وأنا أزيح طبقي الفارغ جانبًا: مسرح أم سينما؟

ضحكت: لا، في الفراش. يتقمص أدوارًا متباينة، ويندمج فيها لدرجة التماهي التام حتى ينسى تمامًا شخصيته الأصلية، وينسى أيضًا مَن أنا.

دهشت: كيف يفعل ذلك؟

قالت: هناك برامج لذلك تغطي فترات تاريخية مختلفة بتفاصيل دقيقة عن الملابس والطعام والشراب، وطريقة الكلام وشكل البيوت والشوارع، من أول فرسان القرون الوسطى ومعاركهم أو رعاة البقر والهنود الحمر، هناك أيضًا برامج للشخصيات التاريخية البارزة.

قلت: مذهل، كان يمكن أن نحاول شيئًا كذلك في السمينار.

«أحمس» فوق عجلته يطارد الهكسوس بسهامه، أو «بنيامين» في كنيسة الإسكندرية يحضُّ على مقاومة «روما»، أو «عرابي» في ميدان عابدين شاهرًا سيفه في وجه الخديوي، أو «عبد الناصر» فوق منبر الجامع الأزهر.

قالت: لقد سمع عنك وهو يودُّ مقابلتك، سيكون هنا في عطلة رأس السنة، هذا إذا لم أذهب أنا إليه.

تطلعت إليها طويلًا دون أن أعلق.

مرت من أمامنا فتاة بالغة البدانة، ذات وجه ضاحك ومشية معتدة. تابعتها «شرلي» بنظرها في أسًى وقالت: سعيد هو الشخص الذي يرضى عن صورة جسمه.

مدت يدها إلى كيسها وأخذت تعبث به، وساد بيننا الصمت حتى تململت في جلستها فاقترحت الانصراف. دفعت الحساب وخرجنا إلى الطريق، أحطتها بذراعي وجذبتها في حضني فقالت: «شكري»، لماذا تتعجل؟

كانت المرة الأولى التي تخاطبني فيها باسمي مجردًا.

وبدا وقعه غريبًا في أذني من غير لقب «البروفسور»، أو «السيد».

وجدنا فتاتين في كيسي نوم على الرصيف بجوار السيارة، وجَّهتا التحية إلينا في بشاشة وهما تقضمان «البرجر»، كانتا موفورتي الصحة وفي صحبتهما كلب وقطة.

تساءلت: مشردتان؟

قالت: أو مغامرتان، ستبقيان في الشارع إلى أن تفرغ نقودهما، أو تملَّان فتعودان إلى ماما وبابا، أو تقعان في شِراك المخدرات فيتغير طريقهما كلية.

ركبت السيارة فقالت: إلى أين؟

قلت: إلى منزلي، لم تريهِ بعد.

قادت السيارة في صمت إلى منزلي، وتوقفت أمام الباب قائلةً: انزل.

لم أدرك أنها وافقت، فقلت في بلاهة: لماذا؟

انطلقت بالسيارة من جديد، ودارت حول المربع حتى عُدنا إلى المنزل.

قلت: أوكي، سأنزل.

تبعتني إلى الداخل وطفت بها أرجاء المسكن، ثم قدتها إلى المطبخ وانهمكت في إعداد اللبن للقهوة المركزة، وجلست هي فوق المقعد المرتفع تتصفَّح مجلدًا عن تاريخ العالم.

أحضرت القهوة، ففضلت أن تشربها بغير حليب.

انحنيت فوق الطاولة وقرَّبت فمي من وجهها، وقبلت شفتيها. كانتا طريتين مطواعتَين، صعدت بشفتي فوق وجنتها وأنفها، حتى أذنها فأغمضَت عينيها.

قلت: حذارِ أن تضحكي.

قالت: يحدث ذلك إذا لمس «توم» أذني.

أضافت وهي تجذبني نحوها: رأيت مرة فيلمًا يصور إنسان الفضاء في صورة أذن ضخمة، وعندما يلمسها أحد يرتمي منتشيًا.

درت حول الطاولة فاستدارت وأحاطتني بساعدَيها، ثم جذبتني إليها، حتى اعتقلتني تمامًا بين فخذَيها القويين.

غمغمت: وحشتني يا كلبي.

كلبها؟

مرت ثوانٍ قبل أن أتبين أن عبارتها كانت بالعربية.

ابتعدت عنها فبُهتت.

قالت منزعجةً: هل ارتكبت خطأً؟ قلت: إني افتقدتك يا قلبي، أليست هذه هي الكلمات بالعربية؟

– وكيف عرفتها؟

قالت: من «دوريس»، هل هناك شيء؟ عندما زارت «القاهرة» كان الشبان يقولون لها ذلك.

انشغلت في صبِّ مزيد من القهوة فأحاطتني بذراعها.

قبلت أذني فاستدرت وقبَّلتها في فمها. طلبت منها أن تعطيني لسانها، ففعلت وحركته حركة هوجاء داخل فمي. ضغطت على كتفيها وهمست لها ألا تحركه، التقطته بفمي وامتصصته في رويَّة.

ابتعدت عنها بعد برهة قائلًا: طعمك جميل، بالأمس رأيت مطعمًا متخصصًا في الزنجبيل، كل الأطباق منه؛ فلماذا لا يكون هناك واحد لرضابك؟

قالت: تقوم بدور الشيف، وأقف أنا إلى جوارك.

– وتمر الأطباق أمامي فأمد أصبعي إلى فمك، وأغمسه في رضابك، ثم أضع لمسة في كل طبق.

نظرت إليها في عينيها وقلت: ويمكن التوسع في الفكرة، لها إمكانيات كثيرة.

ظلت عيناها ملتحمتَين بعيني، بينما تضرَّج وجهها.

احتضنتها فاستقرَّ نهداها على صدري، أغمضت عينيها، وألصقت فخذَيها بفخذي، ثم ابتعدت عندما لم تجِدْ مني استجابة.

تلفتت تبحث عن كيسها، وهي تقول: لا بد أن أذهب.

الوقت تأخر، وأنت طلبت منا كمية قراءة كبيرة.

رافقتها حتى السيارة، استقرَّت في مقعدها ووضعت حزام الأمان، ثم أنزلت النافذة وأعطتني خدَّها فطبعت عليه قبلة خفيفة. قالت وهي تدير الموتور: تمنَّيت أن تكون في حالة البهجة التي كنت عليها يوم المكتب.

انطلقت السيارة بحركة مندفعة وهي تطلق عادمًا كثيفًا، تابعتها بنظري حتى اختفت في نهاية الشارع، وأنا أفكر في أن «فلتر» الزيت يحتاج إلى استبدال.

١  ذكر الإعلان الذي نشرته «نيويورك تايمز» في ٢٤ نوفمبر ۱۹۹۸م، أن موقعيه تنبئُوا من زمنٍ بأن العولمة الاقتصادية التي تسيطر عليها الشركات الكبرى … قد ألحقت انهيارات اقتصادية هائلة في بعض الأمم، وافتقاد الأمان في كافة الأمم، وأدت إلى زيادة البطالة والتوترات العرقية والعنصرية في كل الأقاليم.
وجاء به: «إن الحل الذي يقدمه قادة الدول الصناعية الغربية والمصرفيون ورؤساء الشركات الكبرى والاقتصاديون، ليس إلا تكرارًا للوصفات التي ثبت أثرها الكارثي … إنهم الذين كانوا منذ شهور يشيدون ﺑ «إندونيسيا»، «تايلاند»، «كوريا الجنوبية» وبقية النمور الآسيوية، على أنها ثمرة نجاح مخططاتهم.
أما عشرات الملايين الذين يعانون الآن من هذه التجربة؛ فإن حلول الخبراء لا تقدم لهم مخرجًا. الكثير من هؤلاء الناس كانوا في السابق مكتفين ذاتيًّا في طعامهم، وهم الآن معتمدون على الاقتصاد الكوني. ويجد كثيرون صعوبة في العودة إلى أنماط من المعيشة مثل الزراعة على النطاق المحلي؛ لأن مزارعهم السابقة تحوَّلت إلى شركات ضخمة للإنتاج من أجل التصدير؛ سلع كمالية مثل البن والزهور والجمبري تُصدَّر إلى الأمم الغنية، والنتيجة فقرٌ وبطالة وجوع وتشريد.
لا يمكن لنظام يعتمد نجاحه على توسع لا ينتهي للأسواق والمصادر والمستهلكين، ويفشل في تحقيق المساواة الاجتماعية والحياة الكريمة لشعوب الكوكب، أن يبقى طويلًا، فمصيره الحتمي هو الاضطراب الاجتماعي، والانهيار الاقتصادي والأيكولوجي.
إن الأمم التي احتفظت بسيطرتها على حركة رأس المال أو فرضت عليها القيود قد حظِيَت بدرجة عالية من الاستقرار، وهي أكثر قدرة على التصرف بنجاح لمصلحة مصادرها وقواعدها الاقتصادية ولمصلحة شعوبها.
يجب أن تكون الأولية لحقوق الانسان والعمال والديموقراطية والسيادة القومية والمساواة الاجتماعية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤