الفصل الخامس

عملت صباح الأحد في نقل النقاط التي أعددتها لمحاضراتي من القرص إلى الورق، وانتهزتُ الفرصة لترجمة بعضها إلى الإنجليزية. وقرب الظهر سطعت الشمس بقوَّة فأغلقت الكمبيوتر، وحملت ملف المؤتمر إلى الحديقة، وجلست فوق الأريكة الحديدية.

كانت نوافذ جيراني مُسدَلة كالعادة، وقدَّرت أنهم إمَّا لم يفيقوا بعدُ من النوم أو يقضون عطلة نهاية الأسبوع خارج المدينة.

استمتعت بُرهةً بالهدوء الشامل، ثم تصاعدت أصوات مرِحة من حديقة المنزل الملاصق، وتردد من بعيد عويل سيارات الشرطة أو الاسعاف.

ظهر «فيتز» مقتربًا في الممر الجانبي، وجَّه إليَّ التحية التقليدية، وظننته قادمًا من أجل الإيجار الجديد؛ فقلت له: إن الجامعة لم تحوِّل راتبي بعدُ إلى البنك.

قال: لا تقلق. أنا آتي دائمًا يوم الأحد من أجل الحديقة.

فُتح باب كوخ خشبي صغير في طرفها، واستخرج خرطوم الماء وأوصله بالحنفية. قال وهو يرش الماء بعيدًا عني: عندي شكوى من جيرانك، يقولون: إن دخان سجائرك يتسرَّب إلى مسكنهم دائمًا في الواحدة بعد منتصف الليل.

قلت: أنا أدخن هنا في الحديقة، ثم إني أنام دائمًا قبل منتصف الليل.

أشاح بيده مهونًا: لا تهتم! أنا اقترحت عليهم أن يناموا مبكِّرين.

ضحك ثم أضاف: الكاليفورنيون هكذا دائمًا؛ يحبون الفذلكة، ويغالون في الحرص على صحتهم، فيمنعون التدخين وحرق أي شيء خارج المنازل، ويشربون البيرة من غير كحول. لا تنسَ أني واحد منهم.

قلت مجاريًا: كاليفورني أصيل؟

قال: وُلدت ونشأت هنا. جَدِّي جاء من «أيرلندا» بحثًا عن الذهب، فاستوطن وتزوج مكسيكية.

استأذنته لأردَّ على تليفون من «ماهر»، ثم انهمكت في ري أُصص النباتات الداخلية الموزعة بين الصالة والسولاريوم وقواعد النوافذ. وجمعت الصحف القديمة ووضعتها بجوار الباب لأتخلَّص منها. ولفَتَ نظري خبر لم أنتبه له من قبلُ عن طفل أُغمي عليه في مدرسة ﺑ «القاهرة»، واتضح أنه يتناوب وجبة الإفطار مع أخوته يومًا بعد يوم. انتظرت إلى أن انصرف «فيتز» فأغلقت مصراع المخدع، وحملت شرائط الفيديو وغادرت المنزل.

وجدت شارعي يشغي بالنشاط على غير العادة، واكتشفت أن سكَّانه يعرضون حاجياتهم الفائضة للبيع أمام منازلهم، ويجلسون خلفها في ملابس خفيفة وشورتات يتسامرون في انتظار المشترين، وهم يحتسون النبيذ.

أعدت الأفلام إلى حانوت الشرائط، وانتقيت فيلم «سحر البورجوازية الخفي» ﻟ «بونويل»، و«كرامر ضد كرامر»، وثالثًا من النوع الإيروتيكي عن علاقة بين امرأتين. وعند عودتي وجدت جيران الشارع يتناولون الطعام بجانب حاجياتهم.

مرَّ عليَّ «ماهر» بعد الظهر، فركبت إلى جواره. تحسس المقود برفق وانطلق بنعومة، وسرعان ما تركْنا منطقتي الهادئة واقتربنا من مركز المدينة عبر شوارع متدرِّجة في الصعود والهبوط. مررنا بمتجر «ميسي» الشهير الذي يحتلُّ ربعًا كاملًا من الأبنية، ثم مدينة «نايك» للملابس والأجهزة الرياضية. وكان «ماهر» يتحدث طول الوقت عن المؤامرات التي تُحاك ضده من جانب أساتذة المعهد؛ بسبب استقامته وكونه عربيًّا.

قلت: لكنك لا تمارس أي نشاط سياسي، ثم إنك أمريكي في نظر القانون.

هزَّ رأسه: ولو! العرق الأصلي هنا مهم. هناك ٣٠ عرقًا رئيسيًّا مرتبين هرميًّا؛ الوظائف الأعلى للبيض، يليهم السود، ثم الهسبانيك، أبناء أمريكا اللاتينية، فالآسيويون وبقية الأعراق. وكل منهم يتعالى على الذي بعده، ويعتبره غريمًا ينازعه الوظائف الدُّونية. وداخل كل عِرق ترتيبات أيضًا، فالشيكانو ذوو الأصل المكسيكي يتعالون على الوافدين حديثًا من «المكسيك»، وهناك أيضًا الأنماط الجاهزة؛ فالأسود مجرم ومغتصب، والميكسيكي تاجر مخدرات، والعربي إرهابي.

مرَّت بنا عربة ترام وحيدة تسير ببطء، ورأيت راكبًا يلحق بها جريًا. أبطأ «ماهر» السيارة، وقد وجد فرصة للشرح.

هكذا اكتشفت أني أمام آخِر ما تبقَّى من نظام فريد لترام يسير بغير محرِّكات، بل تجرُّه بكَرات تحت الأرض من خلال فتحات في الشارع. وهذه البكرات بدورها تُديرها محركات ثابتة في جاراج مركزي. وتسير العربة عندما يجذب السائق ذراعًا تدفع كلَّابة داخل الفتحة، إلى أن تمسك بالكابل.

قال: لا تظن أنها عملية سهلة؛ فمهارة السائق تتجلَّى عند النواصي والشوارع المنحدرة بشدَّة؛ إذ عليه أن يطلق سراح الماسك في اللحظة المناسبة؛ وإلا الْتَوى وانكسر في البكرات.

استأنف السير: أين كنا؟ آه! العربي متَّهم دائمًا. هل تذكر تفجير مركز التجارة العالمي في «أوكلاهوما» سنة ۱۹۹۲م؟ وقتها نشِطت الميديا لإثبات التُّهمة علينا. خلال ساعاتٍ استدعت شبكة «سي بي إس» «فريد عظمي» العربي الأمريكي المعادِي للعرب مع صهيوني أنتج فيلمًا مبتذلًا عن «الجهاد». وفي اليوم التالي قالت «نيويورك تايمز»: إن رجلين لهما ملامح شرق أوسطية هما مرتكبا الحادث. وصدَّق الناس القصة، وكتب «روزنتال» اليهودي الليكودي في «واشنطون بوست» يدعو إلى قصف ليبيا وسوريا. وانطلقت الصيحات المطالِبة بوضع العرب في معسكرات كما حدث مع اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية. وفي النهاية تبيَّن أن منفذ العملية هو «تيموثي ماكافي» أمريكي أبيض «واسب» مائة في المائة.

سكت لحظة ثم سألني: هل قرأت الأوراق؟

أجبت في اقتضاب: بعضها.

انطلق يتحدث دون تمهيد عن الفيلسوف الفرنسي «سوسير»، ونظام العلامات الذي كتب عنه. قال: نحن نقول كأس دون أن يكون للكلمة أية علاقة بالكأس نفسه، وبالتالي نصطلح على مسميات معينة. هذه العملية تُستخدم بعد ذلك للقضاء على المحتوى الاجتماعي.

كنت قد ألِفْت طريقتَه في الحديث، كأنه يخاطب واحدًا من تلامذته.

اعترضَتنا مجموعة متظاهرين التحفوا بعباءات شرقية، وأخذوا يقفزون إلى أعلى، وهم ينشدون «العدالة، العدالة» وعلى الرصيف أقعَى عدد من المشردين بجوار أكواب تنتظر الكُرماء من المارَّة. وانكمش بعضهم في مداخل الأبواب، مستندين إلى أكياس قمامة لامعةٍ تضم ممتلكاتهم.

استقرت عيناي على فتاة شديدة الشُّحوب ترتدي جينزًا ممزقًا مليئًا بالبُقع. كانت تدخن بشراهة، وهي مستندة إلى الجدار وفوق كتفها طفل.

لمحت حانوتًا للزهور فطلبت منه التوقُّف. بحثنا طويلًا عن مكان نترك فيه السيارة إلى أن وجدناه على مَبعدة عدة شوارع. وتلقَّفَنا ثلاثة أطفال قذرين، سمر البشرة، عند عدَّاد الانتظار. بسطوا أيديهم لنا، فأعطاهم «ماهر» بضعة سنتات، وهو يقول: إذا لم أدفع تعرَّضت سيارتي للإيذاء.

مضينا من أمام دار قديمة للسينما، ثم حانوت للملابس المستعملة، ومطعم صيني رخيص، وصالون للتجميل، إلى أن بلغنا حانوت الزهور. اشتريت باقةً من زهور عباد الشمس من فتاة طويلة شقراء. قالت لي إنها زارت «القاهرة» مع أبيها الطيَّار، وقضت أربعة أيام ذهبتْ فيها إلى الأهرامات، وركبتْ جملًا، وباعت خصلات من شعرها لصانعي الشُّعور المستعارة.

عُدنا أدراجنا إلى السيارة، وسرعان ما ابتعدنا عن وسط المدينة، اخترقنا شارعًا عريضًا مهجورًا تقوم على جانبَيه بيوت فخمة تتصدَّر واجهاتها الأعمدة، وسيارات أغلبها من طراز «بي إم دابيو».

وكما توقعت علَّق شارحًا: هذه المنازل تشترك في تصميم واحد هو «النوفوكولونيال»، الاستعمار الجديد. ضحك ثم أكمل: لن تصادف في الشارع هنا غير منزِّهي الكلاب.

– أليس هناك أطفال؟

واصل الضحك: السكان هنا من المحامين ومديري الشركات؛ ولهذا فصغارهم في كل مكان عدا الشارع يتلقون دروسًا في ركوب الجياد أو الكاراتيه، أو ينسفون الشياطين فوق شاشات الكمبيوتر.

انتقلنا إلى حيٍّ أقل فخامة يتألَّف من بيوت صغيرة وشوارع فسيحة. توقفنا أمام منزل حديث وأنيق ذي حديقة صغيرة مشذَّبة غير مسوَّرة. قدمت الزهور إلى زوجته «فتحية» التي رأيتها مرة واحدة قبل عشرين عامًا. كان النصف الأسفل من جسمِها مترهلًا، وعلى وجهها مِسحة من الحزن رغم عِنايتها بتصفيف شعرها.

كان البيت مؤلَّفًا من ثلاث مستويات ونوافذ عديدة في السَّقف تغمُره بالضوء طول الوقت. وقال «ماهر» في زهوٍ إنه الذي وضع تصميمه، وساهم في دهان جدرانه.

سألته عن عمر البناء فقال: الشهر الماضي احتفلنا بمرور عام عليه.

قلت: أي بعد عام من إنشاء مركز الأمير جاسم.

تجاهل تعليقي، وجلسنا في الصالة أمام جهاز تليفزيون ضخم الحجم، مفتوح على قناة «إم بي سي» السعودية. كان المطبخ في نهاية الصَّالة لا يفصله عنها حاجز، وبجواره غرفة المكتب، وزُينت الجدران بملصقات سياحية لأبي الهول وبرج «القاهرة». سألت عن الولدين، فاعتذرت زوجته بأنهما فضَّلا قضاء الوقت مع أصدقائهما خاصةً، وأنهما لا يعرفان العربية.

رفعت حاجبي في دهشة، فقالت بانفعال وهي ترمُق زوجها بنظرة سريعة: هذه غلطتنا من البداية، أردنا أن ندمجهما في المجتمع الأمريكي، وكنَّا نظن أننا حسمنا مستقبلنا، ولن نعود إلى «مصر» أبدًا.

وانفجرت فجأةً في البكاء وهي تغمغم: «مصر» وحشتني! أنا هنا لا ينقصني شيء، لكني لست سعيدة.

حولت وجهي بعيدًا في حرَج، ونهض «ماهر» واقفًا وعلى فمِه ابتسامة هازئة. أحضر لي زجاجة بيرة وأطباقًا صغيرة من المكسرات، وضَعها فوق السطح الزجاجي لطاولة من الحديد.

قلت: الحياة هنا سهلة ومريحة.

– جففت دموعها بمنديل ورقي، وعالجت الابتسام قائلة: تسليتي الوحيدة هي التليفزيون، وجلستي في هذا الركن.

لاحظت أن موقعها يُتيح لها متابعة عدة نقاط استراتيجية في آن واحد؛ ساعة الحائط على يمينها، ثم السلم المؤدي إلى غُرف النوم والأولاد، والمطبخ المكشوف أمامها، وجانب من مكتب زوجها لو تُرك بابه مفتوحًا.

انصرف اهتمامها إلى حلقة من مسلسل «رأفت الهجان»، ولم يلبث أن انضمَّ إلينا أستاذ أدب فلسطيني وزوجته المحامية الأمريكية وابنهما الصغير. كان الفلسطيني ذا شعر رمادي ووجه ملأته الغضون، تام الأناقة في سترة رياضية من طِراز البحرية وبنطلون رمادي، ورابطة عنق مخطَّطة. أما زوجته فبدت في ملابسها البسيطة أصغر منه سنًّا. وكانت عادية الملامح متوسطة الطول ممتلئة الجسم، قوية البنية والشخصية. سألتُ الصبي الذي لم يتجاوز السابعةَ عن اسمه، فأعطاني ظهره ودفن رأسه في ملابس أبيه. عاودت السؤال بالإنجليزية، فوضع يديه فوق أذنيه. مدَدت يدي أحاول احتضانه فقبَض عليها، وخدشها بأظافره في عنف. انتزعت يدي، فجرى واختفى خلف المقعد المقابل.

أرادت «فتحية» أن تسترضيه، فحولت التليفزيون إلى برنامج للأطفال على القناة الفضائية المصرية. كان المذيع يستضيف طفلة تعيش في قصرٍ خارج «القاهرة»، به حديقة وحمام سباحة ومجموعة كبيرة من الكلاب النادرة تتغذى يوميًّا على اللحم الخالص، كما ذكرت لمشاهديها.

دار الحديث حول موضوع الساعة، وقال «مروان»: لا أستبعد أن تكون «الموساد» ضالعة في حكاية «مونيكا».

سألت: لماذا؟

قال: لأنها يهودية.

قال «ماهر» بتؤدة الحكيم: مشكلة العرب أنهم يؤمنون بنظرية المؤامرة. ماذا يمكن أن يكون هدف «الموساد»؟ «كلينتون» يخدمهم دون حاجة للضغط عليه، بينما هو الآن معرَّض لأن يفقد كل شيء.

رد الفلسطيني: «كلينتون» يريد أن يدخل التاريخ بصفة صانع السلام، ويريد أيضًا الحصول على جائزة «نوبل»؛ فهو يحب الفلوس. في الصيف الماضي أعلن أنه أعدَّ خطة للسلام، ويبدو أنها لم تعجب الإسرائيليين، أو أنه لم يستشِرْهم في بعض التفاصيل. المهم أنه قبل إعلان الخطة بساعات، انفجرت قصة «مونيكا»، وتهدَّم بنيان الفضائح فوق رأسه حتى أصبح عاجزًا عن اتخاذ أي قرار.

– تقصد أن «مونيكا» عميلة «موساد»؟

– ليس بالضرورة؛ ربما استخدموها دون أن تدرك.

قامت السيدتان إلى المطبخ وتبِعْتهما ببصري. وشردت إلى أن سمعت «ماهر» يتحدث عن العبقرية الأمريكية وقدرتها على علاج الأزمات؛ بفضل الإمكانيات الهائلة والتقدم الاقتصادي والعقول المجتذبة من كل مكان، والذراع العسكرية الطويلة القادرة على ملاحقة أي مكان في العالم. وقال: إننا ربما نكون فعلًا قد بلَغْنا نهاية التاريخ كما تنبأ «فوكوياما»، وستحُلُّ أمريكا مشاكل المستقبل بالخروج إلى الفضاء الخارجي، وندخل مرحلة مختلفة كلية بقوانين أخرى.

قال «مروان» هازئًا: أوهام! إذا كان هناك تقدم اقتصادي؛ فهو لا يتعدى المزيد من نفس المنتجات بأشكال مختلفة دون إضافة حقيقية للإنتاج، كما أنه يعتمد أساسًا على استغلال العاملين؛ فثُلْث الأمريكيين يعيش تحت خط الفقر.

دعَك «ماهر» أنفه وقال: لولا شفافية المعلومات ما عرفت هذه النسبة.

قال الفلسطيني: هذا أيضًا وهمٌ. أنت نفسك قلت لي من أسبوع: إن مستشاري «ريجان» كانوا يعدون مقدَّمًا الموضوعات التي ستثيرها الميديا، والنتيجة جهل الشعب المطبِق بالحقائق.

فتح «ماهر» جبهة جديدة، يكفي أنك تستطيع هنا أن تكتب ما تشاء، وتبيعه للناشر الذي يعجبك، وتبيع أيضًا حق نشره مسلسلًا لإحدى المجلات، ثم تتولى شركة توزيع عرضه في المكتبات. وخلال ذلك يشتريه استوديو سينمائي ويحوله إلى فيلم، ويبيع الحقوق للتليفزيون. كل هذا دون اعتراض من الدولة أو غيرها.

علق «مروان»: وهمٌ آخر! فالوكيل والناشر في الغالب مملوكان لنفس الشركة التي تملك أيضًا المجلة التي ستنشر الكتاب مسلسلًا.

– وإيه يعني؟

– انتظر. لم ينتهِ الأمر بعدُ. نفس الشركة تملك أيضًا شركة التوزيع، بل والمكتبة التي ستعرضه، كما تملك استوديو السينما، والموزِّع الذي يوزع الفيلم، وسلسلة دور العرض التي ستعرضه والقناة التليفزيونية، بل وجهاز التليفزيون والفيديو الذي سيُعرض عليه في آخر المطاف في مكانٍ ما. والنتيجة أن الكتاب يجب ألَّا يتعدى موضوعه خطوطًا حمراء معينة؛ وإلا احتاج معجزة كي يفلت من كل هذه الحواجز.

عادت زوجة «مروان» من المطبخ، وحاولت إقناع ابنِها بالخروج من خلف المقعد، لكنه رفض. تركته وغيرت قناة التليفزيون إلى واحدة إخبارية، وتابعت نبأً عن شاحنة وجدت بفنطاسها جثثًا مختنقة لعشرين مكسيكيًّا من المهاجرين غير الشرعيين. رويت لهم ما شاهدته في التليفزيون، والتعليق الذي أدلى به المواطن الأمريكي، فمطَّت شفتها قائلة بالإنجليزية: الأمر موضع جدَل؛ فمن حقِّنا أن نعيش في بيئة نظيفة. ومن ناحية أخري …

قاطعها زوجها: من قال إنهم مهاجرون غير شرعيين؟ أوراق الجنسية والبطاقة الخضراء تُباع علنًا في شوارع «لوس أنجلوس» أسفل لافتاتٍ تعلِن عنها. إنها تجارة ضخمة.

التفت إليَّ مستطردًا: اذهب إلى شارع «ميشان» في الصباح الباكر؛ ستجد آلافًا من المكسيكيين واللاتينو — أبناء أمريكا اللاتينية — موزَّعين على أركان محددة حسب تخصصاتهم؛ عمال نقاشة أو سباكة، أو بستنة، أو شحن وتفريغ، أغلبهم «بدون»، تمامًا مثل أغلب سكان «الكويت»، أي لا يحملون بطاقة الإقامة الخضراء، وبالتالي لا يحق لهم العمل؛ لهذا يقبلون أبخس الأجور. والخاسر في هذه العملية هو العامل النِّقابي الذي لن يجد عملًا، أما الشرير الحقيقي فهم أصحاب الأعمال الجشعين.

أردت تغيير اتجاه الحديث، فخاطبتُ زوجته قائلًا: سمعت أن المحامين هنا يكسبون ذهبًا.

انفرجت أساريرها وردَّت بحمية: أنا أعمل طول اليوم في شركة بها ٦٠٠ محامٍ. عمل محسوب بالساعات. في البداية كنت أعمل ١٥ ساعة في اليوم، هذه الساعات الخمس عشرة تجلب لي ألفين وخمسمائة دولار في السنة؛ أي خمسين دولارًا في الأسبوع. أما الشركة فتتقاضى من العميل ثلاثمائة دولار في الساعة، أي إني أحقق لها أكثر من سبعمائة وخمسين ألف دولار في السنة؛ لهذا أبذل كل جهدي كي أصبح من الشركاء بعد سنوات، فيرتفع دخلي إلى خمسين ألفًا في الشهر زائد مكافأة سنوية عشرة آلاف. وعندما أبلغ الأربعين؛ سيصبح دخلي مليونًا في السنة.

أضاف زوجها: وفي الخامسة والأربعين سيكون المبلغ ثلاثة ملايين، وفي الخمسين عشرة ملايين، وهي اللحظة التي ستتقاعد فيها. أما أنا فلن أتجاوز عند تقاعدي في الستين رقم المائة ألف في السنة، تُخصم منها الضرائب وأقساط القروض.

التقط حبة فستق من طبق المكسرات، وأضاف متحاشيًا النظر إليها: المال هو كل شيء عند الأمريكي، يوميًّا يحسب كم كسب وكم أنفق وكم ادخر.

أطلَّ الصبي برأسه من خلف المقعد، أشَرْت إليه أن ينضم إلينا، فاختفى من جديد.

قالت أمه وهي تومئ بإشارة تشملها هي وزوجها: نحن نعمل كثيرًا، ولا نجد حتى الوقت لتبادل الحديث، فضلًا عن أي شيء آخر.

ضحكت ثم استطردت: الإفطار نتناوله في الصباح أمام التليفزيون، ولا نلتقي بعد ذلك إلا في التاسعة مساء، وأكون على وشك السقوط من الإعياء.

قال: الحديث الوحيد الذي يدور بيننا هو عملُ أيِّنا هو الأهم.

بدا أننا مُقدِمون على اشتباك جديد، لكن «فتحية» أنقذت الموقف بأن دعتنا للانتقال إلى الحديقة الخلفية. لم تكن مساحتها كبيرة، واتَّسعت بالكاد لمائدة مستديرة وكوم من الزجاجات الفارغة في أحد الأركان رُصت بعناية فوق بعضها.

رآني «ماهر» أنظر إلى الزجاجات متعجبًا فاحمرَّ وجهه. قال وهو يفضُّ سدادة زجاجة من النبيذ الأبيض: أنا أنتظر حتى تتجمع كمية منها، ثم أحملها لمصانع إعادة التدوير.

تساءلت: ولماذا لا تتخلَّص منها أولًا بأول مع القمامة كما أفعل؟

تطوَّع «مروان» للإجابة متخابثًا: إذا حملتها إلى المصنع بنفسك؛ تتقاضى عدة سنتات عن كل زجاجة.

أحضرت «فتحية» «سمكة سالمون» ضخمة، وإناءً من الصلصة، وتولى «ماهر» التقطيع والتوزيع. ورفض الصبي الصغير أن يأكل معنا، فحملت إليه أمُّه طبقَه، وجلست معه في الصالة.

انشغلنا في الأكل فتوقف الحديث إلا من تعليقات الإعجاب بما تصنعه الأفران المنزلية من معجزات. ولم نكد ننتهي ونشرب القهوة، حتى أعلنت الأمريكية اضطرارها للانصراف؛ لتبدأ الكفاح مبكرًا. وتواعدنا أنا والأستاذ الفلسطيني على اللقاء بالمعهد. وبعد ربع ساعة من انصرافهم، رأيت فتحية تتثاءب فاستأذنت بدوري.

أوصلني «ماهر» إلى منزلي في العاشرة مساء. وجدت الخطابات الثلاث على حافة الطاولة المجاورة للباب، وفوقها ورقة تحمل هذه السطور بخط اليد: «السيد الجار: بلييز! بلييز! رجاءً! رجاءً! اترك الخطابات مكانها فوق صندوق البريد، ولا تُعِدها إلى الداخل. نحن نضعها هناك ليأخذها ساعي البريد.»

شعرت بسخونة في وجهي، فولجت مسكني ومضيت إلى الحمام. تبولت وغسلت يدي ثم أدرت التليفزيون. قلَّبت بين القنوات وأنا أستعيد أحداث اليوم، تابعت برنامجًا عن تاريخ الرِّق بعض الوقت، ثم وضعت شريط «كرامر ضد كرامر» في الفيديو. وعندما بدأت مشاكل الصبي الصغير بعد رحيل أمه شعرت بالرغبة في البكاء، فأوقفت العرض.

حملت علبة السجائر والثقاب، وفتحت مصراع الحديقة الخلفية. مددت يدي لأشعل المصباح المثبت في أعلاه. وفجأةً قفز جسم كبير من ناحية اليسار مبتعدًا في اتجاه الأريكة الحديدية، تراجعت مذعورًا إلى الخلف وأنا أضع يدي على صدري. سمعت خشخشة بين النباتات وحركة أقدام فتوقفت. استمرت الحركة وخُيل إليَّ أنها انتقلت إلى النباتات المتلاحمة التي تغطِّي السياج الفاصل بين حديقتي والحديقة المجاورة. استمرت الحركة عدة دقائق ثم تلاشى صوتها. أضأت المصباح الخارجي فلم يبلغ ضوءه أطراف الحديقة. لم أتبين شيئًا غير عادي فأطفأته، وأغلقت المصراع في إحكام، ثم طفت بأرجاء المسكن أطمئن على نوافذه. وأخيرًا غسلت أسناني وأخذت دواء الضغط، وأطفأت الأنوار ولجأت إلى الفراش.

حلمت بأني في منزلي ﺑ «القاهرة» بعد عملية جراحية، وأني متزوج من واحدة لم أتبين ملامحها، وهناك صديق لي يقف بجوارها، طلبت منه الانصراف وعدم العودة، ودفعته في عنف نحو الباب دون أن يقاوم، ثم عاد وأدركت أنه متآمر مع زوجتي، رغم أني سبق واتفقت معها على ألا يدخل منزلنا، فأعلنت أني سأترك المنزل، ولم تعبأ زوجتي بتهديدي؛ هل لأن حالتي الصحية لا تسمح لي بتنفيذ تهديدي، أم لأنها واثقة من عودتي؟

قمت منزعجًا بألم في أذني وضغط على معدتي. مضيت إلى المطبخ وملأت كوبًا من الماء. وقفت أتأمل قاع الحوض، وأنا أحاول كعادتي تحليل الحلم والوصول إلى جُذوره.

أحاديث المساء؟ الجو العائلي وتأثير النبيذ والسمك؟ فخ الزواج؟ أم «كرامر ضد كرامر؟» أم «عايدة»؟

أفرغت كوب الماء في حلقي مرة واحدة وعدت إلى الفراش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤