حرف الخاء

خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب

أول امرأة تزوجها النبي في أول أمره، بل أول إنسان أسلم، لم يسلم قبلها أحد لا ذكر ولا أنثى، وقيل: كانت تسمى في الجاهلية الطاهرة، وكنيت بأم هند، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي. تزوجها عتيق بن عائذ المخزومي، فمات عنها وله منها ولد، ثم تزوجها أبو هالة هند بن زرارة، وقيل: تزوجها قبل عتيق، فمات عنها أبو هالة وله منها هند.

والظاهر أنه خلف لها ثروة عظيمة، وكانت هي ذات ثروة وافرة، فكانت تستأجر الرجال للتجارة في مالها، وتضاربهم بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش تكثر التجارة في بلاد الشام، فلما بلغها عن النبي صدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجرًا مع غلامها ميسرة، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره.

وفي رواية: أنه لما بلغ رسول الله خمسًا وعشرين سنة قال له عمه أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عِيرُ قومك قد حضَر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالًا من قومك في عيرها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرَعت إليك، فبلغ ذلك خديجة، فأرسلت إليه وقالت له: أنا أعطيك ضعف ما أعطي غيرك من قومك، وفي رواية أخرى: أن أبا طالب أتاها فقال لها: هل لك أن تستأجري محمدًا؛ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانًا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكرات، فقالت: لو سألت ذلك لبعيد بغيض لفعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟! فقال أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك، فخرج النبي مع غلامها ميسرة حتى بلغ بُصْرَى من الشام، فنزل في ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب، فقال الراهب لميسرة: من هذا الرجل؟ فقال: رجل من قريش، فقال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، ثم باع الرسول واشترى وعاد وقد ربح ضعف ما كان يربح غيره، فلما كانوا بمر الظهران تقدم الرسول وأخبر خديجة بالربح، ثم قدم ميسرة وقد أحب النبي، وأخبرها بما سمع من الراهب، فأضعفت للنبي ما وعدته وقد رأت ربحًا وافرًا، وكانت امرأة حاذقة عاقلة شريفة من أوساط نساء قريش نسبًا، وأكثرهن مالًا وشرفًا، وكان كل من قومها يتمنى أن يتزوج بها فلم يقدروا، فلما رأت ذلك من محمد أرسلت وعرضت نفسها عليه، فأتى مع أعمامه إلى أبيها خويلد وخطبها إليه.

ثم تزوجها وكان عمره إذ ذاك ٢٥ سنة، وعمرها ٤٠ سنة، وقيل: خمسة وأربعون، وقيل: غير ذلك، فولدت له أولاده كلهم إلا إبراهيم، وقيل: الذي زوَّجها عمُّها عمرو بن أسد؛ لأن أباها مات قبل الفجار. ولما ابتدأ الوحي يبدو للنبي بواسطة جبريل كان متخوفًا من ذلك، وأخبر خديجة فقالت: أبشرْ فلن يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكلَّ، وتقوي الضعيف، وتعين على نوائب الحق.

ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصَّر وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأعلمته بشأنه، وسألته خديجة بعد ذلك قائلة: يا ابن العم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، فجاءه جبرائيل فأعلمها، فقالت: قمْ فاجلس على فخذي اليسرى، ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول على فخذي اليمنى، ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، فألقت خمارها ثم قالت: هل تراه؟ فقال: لا، قالت: يا ابن العم، أثبتْ وأَبْشِر؛ فإنه ملك وما هو بشيطان. فكانت خديجة أول من آمن به وصدقه.

ولما علمه جبريل الوضوء والصلاة أتى إلى خديجة وعلَّمها ذلك، فتوضأت كوضوئه، وصلت كصلاته، وبقيت خديجة مع النبي ٢٤ سنة وأشهرًا، ولم يتزوج عليها، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام، وقيل: بخمسة وخمسين يومًا وعمرها خمس وستون سنة، ودفنت بالحجون، وحزن النبي عليها، ونزل في حفرتها، وعظمت عليه المصيبة بوفاة أبي طالب ثم وفاتها، وكانا من أشد المعضدين له. وبعد ثلاث سنين من وفاتها تزوج بعائشة، وقيل: بسودة بنت زمعة.

وروي أنه قال: «أفضل نساء الجنة: خديجة، وفاطمة، ومريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون.» وقيل: إن معاوية اشترى المنزل الذي كانت فيه خديجة وجعله مسجدًا.

وقال ابن الوردي: لما بُعث النبي دخل على خديجة فحكى لها ما رأى فقالت: «أبشر؛ فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.» ثم أتت خديجة ابن عمها ورقة بن نوفل بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان شيخًا كبيرًا، وكان قد عَمِي وتنصَّر في الجاهلية، وكتب في التوراة والإنجيل، فلما ذكرت خديجة أمر جبريل وما رأى ميسرة قال ورقة: إنه ليأتيه الناموس الأكبر، وهذا الناموس الذي أنزل على موسى. يا ليتني أكون فيها جذعًا حين يخرجه قومه، فأخبرت النبي بذلك، فقال : «أوَمُخرِجيَّ هم؟» فقالت: سألته ذلك قال: نعم، لم يأت أحدٌ قط بمثل ما جاء به إلا عُودي وأُوذي، وإن يدركني يومه أنصره نصرًا مؤزرًا في ذلك، وإن رأيتِ أن تُرسليه لي فأخبره عن ذلك، وقال أبياتًا منها:

ووصف من خديجة بعد وصف
فقد طال انتظاري يا خديجا
بما أخبرته من قول قس
من الرهبان يكره أن يعوجا
بأن محمدًا سيسود يومًا
ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور
يقيم به البرية أن تموجا
ألا يا ليتني إن كان ذاكم
شهدت وكنت أولهم ولوجا
رجائي في الذي كرهت قريش
ولو عجت بمنكبها عجيجا

ولما انتهى من أبياته قال: أرسلي لي محمدًا؛ فإني مخبره بما أريد، ولما ذهب إليه النبي أخبره ما قاله لخديجة وأنشد:

يا للرجال لصرف الهم والقدر
وما لشيء قضاه الله من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها
أمرًا أراه سيأتي الناس عن أثر
فخبرتني بأمر قد سمعت به
فيما مضى من قديم الناس والعصر
بأن أحمد يأتيه فيخبره
جبريل أنك مبعوث إلى البشر
فقلت إن الذي ترجين ينجزه
لك الإله فرجِّي الخير وانتظري
وأرسليه لنا كيما نسائله
عن أمره ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقًا عجبًا
يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين الله واجهني
في صورة كملت من أهيب الصور
ثم استمر وكاد الخوف يذعرني
مما يسلم ما حولي من الشجر

والله أعلم بالصواب.

خديجة ملكة جزائر زيبة المهل من بلاد الهند

وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر ابن السلطان صلاح الدين البنجالي، وكان الملك لجدها، ثم لأبيها، فلما مات أبوها ولي أخوها شهاب الدين وهو صغير السن، فتزوج الوزير عبد الله بن محمد الحضرمي أمه وتغلَّب عليه، وهو الذي تزوج أيضًا هذه الملكة خديجة بعد وفاة زوجها الوزير جمال الدين.

فلما بلغ شهاب الدين مبلغ الرجال أخرج ربيبه الوزير عبد الله ونفاه إلى جزائر السويد، واستقل بالملك، واستوزر أحد مواليه — يُسمى علي كلكلي — ثم عزله بعد ثلاثة أيام ونفاه إلى السويد.

وكان يذكر عن السلطان شهاب الدين المذكور أنه يختلف إلى حرم أهل دولته وخواصه بالليل، فخلعوه لذلك ونفوه إلى إقليم «هلدتني»، وبعثوا مَن قتله بها، ولم يكن بقي من بيت الملك إلا أخواته خديجة الكبرى ومريم وفاطمة، فقدموا خديجة ملكة في سنة ٧٤٠ للهجرة، وكانت متزوجة بخطيبهم جمال الدين، فصار وزيرًا غالبًا على الأمر، وعيَّن ولده محمدًا للخطابة عوضًا عنه، ولكن الأوامر إنما تنفذ باسم خديجة، وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدةٍ مُعوجَّة شبه السكين، ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم.

ويذكرها الخطيب يوم الجمعة وغيره فيقول: اللهم انصر أمَتَك التي اخترتها على عِلْمٍ على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين، ألا وهي السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدين ابن السلطان صلاح الدين. ومن عادتهم إذا قدم الغريب عليهم ومضى إلى الدار، فلا بد له أن يستصحب ثوبين، فيقدم لجهة هذه السلطانة ويرمي بأحدهما، ثم يقدم لوزيرها، وهو زوجها جمال الدين، ويرمي بالثاني، وعسكرها نحو ألف إنسان من الغرباء، وبعضهم بلديون يأتون كل يوم إلى الدار فيخدمون وينصرفون، ومرتبهم الأرز يُعطى لهم من البندر في كل شهر، فإذا تم الشهر أتوا الدار وخدموا، وقالوا للوزير: بلغ عنا الخدمة، واعلم بأنَّا أتينا نطلب مرتبنا، فيأمر لهم به عند ذلك، ويأتي أيضًا إلى الدار كل يوم القاضي وأرباب الخطب، وهم الوزراء، عندهم، فيخدمون ويبلغ خدمتهم الفتيان وينصرفون.

وإن النساء ليفتخرن بمثل هذه الملكة؛ حيث إنها كانت مالكة نحو ألفي جزيرة من جزائر الهنود، التي تزيد عن الأربعين مليونًا من العالم، وجميعها من المسلمين.

وبقيت مالكتها مدة من الزمن بالعدل والإنصاف، وقد طال ملكها نحو الثلاثين سنة، وفي مدتها كانت جزائرها في غاية الرونق والبهاء من كثرة الخيرات والأرزاق والأمن، وكان جميع الأهالي مكبين على الأشغال، ملتفتين للأعمال، محافظين على جزائرهم من الأعداء، وبارتباطهم هذا كانوا مُهابين لا يدخلون أحدًا من عدوهم ساحتهم، وبقيت على ذلك إلى أن توفَّاها الله وأهل مملكتها راضون عنها، آسفون عليها.

خرقاء بنت النعمان بن المنذر

كانت أحسن نساء زمانها جمالًا، وأفصحهن مقالًا، وأكملهن عقلًا، وأعظمهن أدبًا، وكانت معتنقة الديانة المسيحية، ومتعبدة بها تعبدًا زائدًا، وكانت إذا خرجت إلى بيعتها يفرش لها طريقها بالحرير والديباج مُغشًّى بالخز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها وترجع إلى منزلها، وبقيت على ذلك وهي في غاية العز والإجلال إلى أن هلك النعمان فكلَمها الزمان، فأنزلها من الرفعة إلى الذلة.

ولما نزل سعد بن أبي وقاص بالقادسية أميرًا عليها وهزَم الله الفرس، وقتل رستم، أتت خرقاء بنت النعمان في حفدة من قومها وجواريها — وهن في زيِّها عليهن المسوح والمقطعات السود — مُترهباتٍ تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه أنكرهن سعد فقال: أيكُنَّ خرقاء؟ قالت: ها أنا ذا، قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم، فما تكرارك في استفهامي؟ ثم قالت: إن الدنيا دار زوال، ولا تدوم على أهلها انتقالًا، وتعقبهم بعد حال حالًا. كنا ملوك هذا المصر يُجبى لنا خراجه، ويطيعنا أهله مدى الإمرة وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر فشق عصانا، وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد؛ إنه ليس يأتي قومًا بمسرَّة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول:

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا وتصرف

فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد كأنه ينظر إليها حيث يقول:

إن للدهر صولة فاحذرنها
لا تبيتن قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى معافًى فيرزا
ولقد كان آمنًا مسرورا

فبينما هي واقفة بين يدي سعد إذ دخل عمرو بن معديكرب، وكان زوَّارًا لأبيها في الجاهلية، فلما نظر إليها قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم، قال: فما دهَمك فأذهَب بجودات شيمك، أين تتابع نعمتك وسطوات نقمتك؟ فقالت: يا عمرو، إن للدهر عثرات وعبرات تتعثر بالملوك وأبنائهم؛ فتخفضهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عز. إن هذا الأمر كنا ننتظره، فلما حلَّ بنا لم ننكره.

فأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه قالت: حَي أختك بتحيات ملوكنا. لا نزع الله من عبدٍ صالحٍ نعمةً إلا جعلك سببًا لردها عليه، ثم خرجت من عنده، فلقيها نساء المدينة فقلن لها: ما فعل بك الأمير؟ قالت: أكرم وجهي، وإنما يكرم الكريم كريم.

حزانة ابنة خالد بن جعفر بن قرط

كانت من الأدب على جانبٍ عظيم، ومن الفصاحة والبلاغة على جانبٍ أعظم، والفروسية كانت عندها زائدة. حضرت فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص، وخاضت معه المعامع والمعارك، وقد حضرت فتوح الحرة حينما استشهد من المسلمين خمسمائة وثلاثون فارسًا، فقالت ترثيهم في أبياتٍ — كما جاء في الحبرة للواقدي في «فتوح الشام»:

أيا عين جودي بالدموع السواجم
فقد شرعت فينا سيوف الأعاجم
فكم من حسام في الحروب وذابل
وطرف كميت اللون صافي الدعائم
حُزْنًا على سعد وعمرو ومالك
وسعد مبيد الجيش مثل الغمائم!
هم فتية غر الوجوه أعزة
ليوث لدى الهيجاء شعث الجماجم

ومن قولها أيضًا:

طوى الدهر ما بيني وبين أحبة
بهم كنت أعطي ما أشاء وأمنعُ
فلا يحسب الواشون أن قناتنا
تلين ولا أنَّا من الموت نجزع
ولكن للأُلَّاف لا بدَّ لوعة
إذا جعلت أقرانها تتقطع

خماني ابنة أردشير بن بهمن

ملكت بعد أبيها «بهمن». ملَّكوها حبًّا في أبيها، ولعقلها وفروسيتها، وكانت تُلقَّب ﺑ «نهرزاد»، وقيل: إنها ملكت لأنها حين حملت من «دارا الأكبر» سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالمُلك، ففعل «بهمن» وعقد التاج عليه حملًا في بطنها. وكان «ساسان بن بهمن» رجلًا يتصنع للملك، فلما رأى فعل أبيه لحق بإصطخر وتزهد ولحق برءوس الجبال، وهلك «بهمن» و«دارا» في بطن أمه، فملَّكوها ووضعته بعد شهر من ملكها، فأنفت من إظهار ذلك، وجعلته في تابوت، وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر المكر من إصطخر، وسار التابوت إلى طحان من أهل إصطخر ففرح بما فيه من الجوهر، فحضنته امرأته، ثم ظهر أمره حين شبَّ، فأقرت «خماني» بإساءتها، فلما تكامل امتُحن فوجد على غاية ما يكون من أبناء الملوك، فحوَّلت التاج إليه وسارت إلى فارس وبَنَت مدينة إصطخر. وكانت قد أوتيت ظفرًا، وغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرُّق بلادها، وخفَّفت عن رعيتها الخراج، وكان مُلكُها ثلاثين سنة.

خولة بنت الأزور الكندي

وهي أخت ضرار بن الأزور. كانت مشهورة بالشجاعة والجمال، خرجت مع أخيها إلى الشام حين فتحها في خلافة أبي بكر الصديق، وكانت تفوق الرجال بالفروسية والبسالة، ولها وقائع مشهورة لا يسعها المقام إذا أحببنا إيرادها، ولكنا نقتصر على البعض منها.

قال الواقدي في «فتوح الشام»: إنه لما أسر ضرار بن الأزور في وقعة أجنادين توجه خالد بن الوليد بطليعة من الجيش لخلاصه، فبينما هو في الطريق إذ مر به فارس على فرس طويل وبيده رمح، وهو لا يبين منه إلا الحُدُق، وقد سِيق أمامه الناس كأنه نار، فلما نظره خالد قال: ليت شعري من هذا الفارس، وايم الله، إنه لفارس. ثم اتبعه خالد والناس، وسار إلى أن أدرك المشركين وقد حمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع كتائبهم، وحطم مواكبهم، فما كانت إلا جولة جائل حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء، وقد قتل رجالًا وجندل أبطالًا، وقد عرض نفسه للهلاك ثانية واخترق القوم غير مكترث، وكثر قلق الناس عليه ولا يعلمون من هو، ومنهم رافع بن عميرة ومن معه.

ظنوا أنه خالد وقالوا: ما هذه الحملات إلا لخالد، وبينما هم على ذلك إذ أشرف خالد بمن معه، فقال له رافع: مَن الفارس الذي تقدَّم أمامك؛ فلقد بذل نفسه ومهجته؟ فقال خالد: والله إنني أشد إنكارًا منك، أعجبني ما ظهر منه ومن شمائله.

فقال رافع: أيها الأمير، إنه منغمس في عسكر الروم ويطعن يمينًا وشمالًا، فقال خالد: معاشر المسلمين، احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن دين الله، فأطلقوا الأعنة، وقوموا الأسنة، وخالد أمامهم، إذ نظر إلى الفارس وقد خرج من القلب كأنه شعلة نار، والخيل في أثره، وكلما لحقت به الروم لوى عليهم وجندل، فعند ذلك حمل خالد ومن معه، ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسلمين، فتأمَّلوه ورأوه قد تخضب بالدماء، فصاح خالد والمسلمون: لله درُّك من فارس بذل مهجته في سبيل الله، وأظهر شجاعته على الأعداء. اكشف لنا عن اسمك وارفع لثامك، فمال عنهم ولم يخاطبهم، وانغمس في الروم، فتصايحت الروم من كل جانب، وكذلك المسلمون وقالوا: أيها الرجل الكريم، أميرنا يخاطبك وأنت تُعرض عنه! أَظْهِر لنا اسمك لنزداد تعظيمًا. فلم يردَّ عليهم جوابًا.

فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه وقال: ويحك، لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك، مَن أنت؟ فلما ألحَّ عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه قال: إنني أيها الأمير لم أعرض عنك إلا حياء منك؛ لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور، وبنات الستور، وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد، زائدة الكمد، فقال لها: مَن أنت؟ قالت: أنا خولة بنت الأزور أخت ضرار المأسور بيد المشركين، وإني كنت مع بنات العرب، وقد أتاني الساعي بأن ضرارًا أسيرٌ، فركبت وفعلت ما رأيت، وعند ذلك حمل المسلمون وحملت خولة، وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة.

وأما خولة فإنها جعلت تجول يمينًا وشمالًا وهي لا تطلب إلا أخاها، وهي لا ترى له أثرًا، ولا وقعت له على خبر، وجعلت تسأل عنه فلم يجبها أحد، ولم تر من المسلمين من يُخبرها أنه نظره أو رآه أسيرًا أو قتيلًا، فلما أيست منه بكت بكاءً شديدًا وجعلت تقول: يا بن أمي، ليت شعري في أي البيداء طرحوك، أم بأي سنان طعنوك، أم بأي حسام قتلوك؟ يا أخي، أختك لك الفداء لو أني أراك أنقذتك من أيدي الأعداء. ليت شعري أترى أني أراك بعدها أبدًا، فقد تركت يا ابن أمي في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها، ولا يطفأ سعيرها. ليت شعري ألحقت بأبيك المقتول بين يدي النبي ، فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء.

فبكى الناس من قولها عند سماعها ونياحها. ومن وقائعها أيضًا ما ظهر من بسالتها يوم أسر النسوة في وقعة «صحورا» من أعمال الشام، وقد جمعت النساء وقامت فيهن خطيبة، وكانت هي من ضمن المأسورات، فقالت: يا بنات حمير وبَقيَّة تُبَّع، أترضين لأنفسكن علوج الروم، ويكون أولادكن عبيدًا لأهل الشرك؟! فأين شجاعتكن وبراعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب ومحاضر الحضر؟ وإني أراكن بمعزلٍ عن ذلك، وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه الأسباب، وما نزل عليكن من خدمة الروم.

فقالت لها عفراء بنت غفار الحميرية: صدقت والله يا بنت الأزور، نحن في الشجاعة كما ذكرتِ، وفي البراعة كما وصفتِ، لنا المشاهد العظام، والمواقف الجسام، ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل، غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت، وإنما دهمنا العدو على حين غفلة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح.

فقالت خولة: يا بنات التبابعة، خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب، ونحمل بها على هؤلاء اللئام؛ فلعل الله ينصرنا عليهم فنستريح من مَعرَّة العرب.

فقالت عفراء بنت غفار: والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عمودًا من أعمدة الخيام وصحن صيحة واحدة، وألقت خولة على عاتقها عمودًا، وسعت من ورائها عفراء أم أبان بنت عتبة، ومسلمة بنت زارع، ولبنى ومزروعة بنت عملوق، وسلمة ابنة النعمان، ومثل هؤلاء، فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة، ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت، واحطمن رماح القوم واكسرن سيوفهم، وهجمت خولة وهجم النساء وراءها، وقاتلن قتالًا شديدًا حتى استخلصت النسوة من أيدي الروم، وخرجت وهي تقول:

نحن بنات تبع وحمير
وضربنا في القوم ليس ينكر
لأننا في الحرب نار تسعر
اليوم تسقون العذاب الأكبر

ومن قولها حين أُسر ضرار في المرة الثانية في «مرج دابق»:

ألا مخبر بعد الفراق يخبرنا
فمن ذا الذي يا قوم أشغلكم عنا؟
فلو كنت أدري أنه آخر اللقا
لكنا وقفنا للوداع وودعنا
ألا يا غراب البين هل أنت مخبري
فهل بقدوم الغائبين تبشرنا؟
لقد كانت الأيام تزهو لقربهم
وكنا بهم نزهو وكانوا كما كنا
ألا قاتل الله النوى ما أمرَّه
وأقبحه ماذا يريد النوى منا؟
ذكرت ليالي الجمع كنا سوية
ففر قناريب الزمان وشتتنا
لئن رجعوا يومًا إلى دار عزهم
لثمنا خفافًا للمطايا وقبلنا
ولم أنس إذ قالوا ضرار مقيد
تركناه في دار العدو ويممنا
فما هذه الأيام إلا معارة
وما نحن إلا مثل لفظ بلا معنى
أرى القلب لا يختار في الناس غيرهم
إذا ما ذكرهم ذاكر قلبي المضنى
سلام على الأحباب في كل ساعة
وإن بعدوا عنا وإن منعوا منا

ثم بكت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فوالله لأخذنا بثأره إن شاء الله تعالى. ولما زحفت عساكر الإسلام إلى أنطاكية لأجل خلاص ضرار سارت معهم النساء اللاتي لهن أسرى، وفي مقدمتهن خولة بنت الأزور وهي تنشد قولها من المراثي المبكيات:

أبعد أخي تلذ الغمض عيني
فكيف ينام مقروح الجفون؟
سأبكي ما حييت على شقيق
أعز عليَّ من عيني اليمين
فلو أني لحقت به قتيلًا
لهان عليَّ إذ هو غير هون
وكنت إلى السلوِّ أرى طريقًا
وأعلق منه بالحبل المتين
وإنَّا معشر من مات منا
فليس يموت موت المستكين
وإني إن يقال مضى ضرار
لباكية بمنسجم هتون
وقالوا: لمَ بكاك؟ فقلت: مهلًا
أما أبكي وقد قطعوا وتيني؟

ولما أسر ضرار المرة الثالثة في وقعة «دير المسيح» من أرض البهنسا، وسار المسيب ورافع وجماعتهما في طلبه تهلَّلت فرحًا، وأسرعت في لبس سلاحها، وأتت إلى خالد تستأذنه في المسير معهما، فقال لهما خالد: أنتما تعلمان شجاعتها وبراعتها، فخذاها معكما، فقالا: السمع والطاعة، ثم ساروا حتى بلغوا منتصف الطريق وكمنوا قبل مرور القوم، فبينما هم كامنون وإذا بالقوم قد أتوا مُحدقين بضرار وهو متألم من كتافه، وهو ينشد ويقول:

ألا بلغوا قومي وخولة أنني
أسير رهين موثق اليد بالقيد
فيا قلب مت همًّا وحزنًا وحسرة
ويا دمع عيني كن معينًا على خدي
فلو أن أقوامي وخولة عندنا
لألزم ما كنا عليه من العهد
ولو أنني فوق المجمل راكبًا
وقائم حد العضب قد ملكت يدي
لأذللت جمع الروم إذلال نقمة
وأسقيتهم وسط الوغى أعظم الكد

فنادته خولة من مكمنها: قد أجاب الله دعاءك وقَبِل تضرعك، أنا خولة، ثم كبرت وحملت، وكبر بقية العسكر وحملوا حتى خلصوا ضرارًا من الأسر. ووقائعها كثيرة، وقد أبلت بلاء حسنًا في فتوح الشام ومصر، وعمرت طويلًا، وكانت وفاتها في أواخر خلافة عثمان بن عفان. فعلى مثل هذه يأسف الدهر. رحمها الله رحمة واسعة.

خولة ابنة منظور بن زبان

كان والدها منظور مكث أربع سنين في بطن أمه؛ ولذلك سُمِّي منظورًا، وكانت أمها مليكة بنت خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري تحت زبان أبي منظور، ولما توفي زبان خلفه عليها منظور — وكان ذلك قبل الإسلام — ولما أسلم بقيت تحته إلى خلافة عمر بن الخطاب ففرَّق بينهما، وكانت مليكة ولدت له هشامًا وعبد الجبار وخولة.

وكانت خولة ذات حسن وجمال، وبهاء وكمال، وقد واعتدال، فتنت فيها شبان قريش، وقد خطبها جملة من رجالهم وأبوها يردهم قولًا منه إنهم ليسوا كفئًا لها. وبقيت على ذلك حتى تزوج طلحة بن عبيد الله مليكة، والدة خولة، بعد طلاقها من منظور بن زبان، فزوَّج خولة من ولده محمد بن طلحة، فولدت له إبراهيم وداود وأم القاسم بني محمد بن طلحة — وكان إبراهيم أعرج — وقُتل محمد عنها يوم الجمل، فتزوجها الحسن بن علي بن أبي طالب.

وكان سبب زواجها به أنها حينما تكاثر عليها الخطاب بعد قتل زوجها محمد جعلت أمرها بيد الحسن بن علي بن أبي طالب فتزوَّجها، فبلغ منظور بن زبان ذلك فقال: أمثلي يُفتات عليه في ابنته؟

ثم قدم المدينة وركز راية في مسجد رسول الله ، فلم يبق قيسي في المدينة إلا دخل تحتها، فقيل لمنظور: أين يُذهَب بك، تزوَّجها الحسنُ بن علي وليس مثله أحد؟ فلم يقبل، وبلغ الحسن ذلك فقال: شأنك بها. فأخذها وخرج بها، فلما كانت بقباء جعلت خولة تُندِّمه وتقول له: الحسن بن علي سيدُ شباب أهل الجنة! فقال: البثي ها هنا؛ فإن كان للرجل فيك حاجة سيلحقنا ها هنا، فلحقه الحسن والحسين وابن جعفر وابن عباس، فلما وصلوا قابلهم بما يليق بهم، ثم أرجعها إلى الحسن فتزوَّجها ورجعوا جميعًا. وفي ذلك يقول جبير العبسي:

إن الندى في بني ذبيان قد علموا
والجود في آل منظور بن سيار
والماطرين بأيديهم هنا ندى ديمًا
وكل غيث من الوَسميِّ مدرار
تزور جاراتهم وهنا قواضبهم
وما فتاهم لها سرًّا بزوار
ترضى قريش به صهرًا لأنفسهم
وهم رضا لبني أخت وأصهار

وبقيت خولة تحت الحسن بن علي حتى أسنَّت، وقد مات عنها فكشفت قناعها وبرزت للرجال وصارت تُجالسهم.

قال معبد: جئتها يومًا أطالبها بحاجة فقالت: غنيني يا معبد، فقلتُ لها: أوَبقي بالنفس شيء؟ قالت: النفس تشتهي كل شيء حتى تموت، فغنيتها لحني في شعر قاله بعض بني فزارة — وكان خطبها فلم ينكحها إياه أبوها — وهو:

قفا في دار خولة فاسألاها
تقادم عهدها وهجرتماها
بمحلال كأن المسك فيه
إذا هبت بأبطحه صباها
كأنك مزنة برقت بليل
لحران يضيء لها سناها
فلم تمطر عليه وجاوزته
وقد أشفى عليها أو رجاها
وما يملأ فؤادي فاعلميه
سلو النفس عنك ولا غناها
وترعى حيث شاءت من حمانا
وتمنعنا فلا نرعى حماها

فطربت خولة وقالت: أيا عبد بني قطن، أنا والله يومئذ أحسن من النار الموقدة في الليلة القرة.

وقيل: إنها تزوَّجت بعبد الله بن الزبير بعد وفاة الحسن، وقد دخلت عليها النوار زوجة الفرزدق مستشفعة بها، فشفعتها عند عبد الله. وفي ذلك يقول الفرزدق:

أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم
وشفعت بنت منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرًا
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

الخيزران ابنة عطاء أمُّ الهادي والرشيد

كانت ذات جمال وبهاء وكمال. اشتراها محمد أبو عبد الله المهدي بمائة ألف درهم، واستحظى بها وقدَّمها على جميع نسائه؛ لما لها من الأدب واللطف. وقد أخذت بقلبه مكانة عظمى، وولدت له موسى الهادي وهارون الرشيد. وقد تقدمت في خلافة ولدها موسى الهادي حتى إنها شاركته في الأحكام من كثرة تداخلها معه في أمور المملكة، وكان كثير الطاعة لها، مجيبًا لما تسأله من الحوائج للناس، فكانت المواكب لا تخلو من بابها. ففي ذلك يقول أبو المعافي:

يا خيزران هناك ثم هناك
إن العباد يسوسهم ابناك

وكانت يومًا جالسة إذ دخلت عليها جارية من جواريها فقالت: أعزَّ الله السيدة، بالباب امرأة ذات جمال وخلقة حسنة، وليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تستأذن في الدخول عليك، وقد سألتها عن اسمها فامتنعت أن تخبرني، فالتفتت الخيزران إلى زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس — وكانت في مجلسها: ما تقولين في أمرها؟ قالت لها: أدخليها؛ فإنه لا بد من فائدة أو ثواب، فدخلت امرأة من أجمل النساء لا تتوارى بشيء، فوقفت بجانب عضادتي الباب، ثم سلمت متضائلة، ثم قالت: أنا مزنة بنت مروان بن محمد الأموي.

فقالت الخيزران: لا حياك الله ولا مرحبًا بك؛ فالحمد لله الذي أزال نعمتك، وهتك سترك وأذلَّك. أتذكرين يا عدوة الله حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في الإذن في دفن إبراهيم بن محمد، فوثبت عليهن وأسمعتهن ما لا سمعن قبلُ، وأمرتِ فأُخرجن على تلك الحالة، فضحكت مزنة قهقهة حتى علا صوت ضحكها ثم قالت: يا بنت العم، أي شيء أعجبك من حسن صنيع الله بي على العقوق حتى أردت أن تتأسي بي فيه؟ والله إني فعلتُ بنسائك ما فعلتُ فأسلَمني اللهُ لك ذليلةً جائعةً عريانةً، وكان ذلك مقدار شكرك لله تعالى على ما أولاك بي! ثم قالت: السلام عليك، ثم ولَّت مُسرعة، فنهضت إليها الخيزران لتُعانقها، فقالت: ليس في ذلك موضع مع الحالة التي أنا عليها، فقالت الخيزران لها: فالحمام إذن، وأمرت جماعة من جواريها بالدخول معها إلى الحمام.

فلما خرجت من الحمام وافتها الخلع والطيب، فأخذت من الثياب ما أرادت ثم تطيبت، ثم خرجت إليها، فعانقتها الخيزران وأجلستها في الموضع الذي يجلس فيه أمير المؤمنين المهدي، ثم قالت الخيزران: هل لك بالطعام؟ قالت: والله ما فيكن أحوج مني إليه فعجِّلوه، فأُتي بالمائدة، فجعلتْ تأكل غير محتشمة إلى أن اكتفت، ثم غسلن أيديهن، وقالت لها الخيزران: من وراءك ممن تعنين به؟ قالت: ما خارج هذه الدار من بيني وبينه نسب، فقالت: إذا كان الأمر هكذا فقومي حتى تختاري لنفسك مقصورة من مقاصيرنا، وتُحوِّلي لها جميع ما تحتاجين إليه، ثم لا نفترق إلى الموت.

فقامت ودارت بها في المقاصير، فاختارت أوسعها وأنزهها، ولم تبرح حتى حوَّلت إليها جميع ما تحتاج إليه من الفرش والكسوة، ثم تركتها وخرجت عنها.

فقالت الخيزران: هذه المرأة قد كانت فيما كانت فيه وقد مسَّها الضرُّ، وليس يغسل ما في قلبها إلا المال، فاحملوا إليها خمسمائة ألف درهم، فحُملت إليها، وفي أثناء ذلك وافى المهدي فسألها عن الخبر، فحدثته حديثها وما لقيتها به، فوثب مغضبًا وقال للخيزران: هذا مقدار شكر الله على نعمه وقد أمكنك من هذه المرأة مع الحالة التي هي عليها، فوالله لولا مَحلُّك بقلبي لحلفتُ أن لا أكلمك أبدًا، فقالت: يا أمير المؤمنين، قد اعتذرت إليها ورضيتْ وفعلتُ معها كذا وكذا، فلما علم المهدي ذلك قال لخادم كان معه: احمل إليها مائة بدرة، وادخل إليها وأبلغها مني السلام، وقل لها: والله ما سُررتُ في عمري كسروري اليوم، وقد وجَب على أمير المؤمنين إكرامُك، ولولا احتشامُك لحضر إليك مسلمًا عليك، وقاضيًا لحقك.

فمضى الخادم بالمال والرسالة، فأقبلت على الفور وسلمت على المهدي بالخلافة، وشكرت صنيعه، وبالغت في الثناء على الخيزران، وقالت: ما على أمير المؤمنين حشمة؛ أنا في عداد حُرمه.

ثم قامت إلى منزلها، وأقامت عند الخيزران إلى أن قضى المهدي، وأيام الهادي، وصدرًا من أيام الرشيد، وماتت في خلافة الرشيد. وكان لا يُفرِّق بينها وبين نساء بني هاشم، فلما قضتْ جزع عليها الرشيد والخدم جزعًا شديدًا، وأخرجها بمشهد يليق بمثلها.

وكلمت الخيزران ولدها الهادي ذات يوم في أمر فلم يجد إلى إجابتها فيه سبيلًا، فاعتل عليها بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، فغضب الهادي وقال: ويل لابن الفاعلة، قد علمتُ أنه صاحبها، لا قضيتُها لك، قالت: إذن والله لا أسالك حاجة أبدًا، قال: إذن والله لا أبالي.

وقامت مغضبة، فقال: مكانك فاستوعي كلامي والله وإلا نفيت من قرابتي من رسول الله، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو من خاصتي أو من خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك. ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم، أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟! إياك ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لمسلم ولا ذمي.

فانصرفت وما تعقل ما تجيب، فلم تنطق بحلوٍ ولا مرٍّ بعدها، ثم إنه قال لأصحابه: أيما خير أنا أم أنتم، وأمي أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأمك خير، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقال: أم فلان فعلت وصنعت؟ قالوا: لا نحب، قال: فما بالكم تأتون منزل أمي فتتحدثون بحديثها، فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها. وبعد مدة من الزمن تناست هذه الحادثة، فبعث الهادي بأَرُزٍ إلى الخيزران وقال لها: قد استطبْتُها فكُلي منها، فقيل لها: أمسكي حتى تنظري، فجاءوا بكلب فأطعموه فسقط لحمه لوقته، فأرسل إليها: كيف رأيت الأرز؟ قالت: طيبًا، قال: ما أكلتِ منها، ولو أكلتِ منها لاسترحتُ منك، متى أفلح خليفة له أم؟

وكان سبب وفاة الهادي من قبل أمه الخيزران، كانت أمرت الجواري بقتله للسبب عينه، وقيل: كان السبب في أمرها بذلك أن الهادي لما جدَّ في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر، خافت الخيزران على الرشيد، فوضعت جواريها عليه لما مرض، وأمرتهن بقتله فقتلوه بالغم والجلوس على وجهه، فمات، فأرسلت إلى يحيى بن خالد تُعلمه بموته، وبعد ذلك بقيت معززة مكرمة عند الرشيد والمأمون، إلا أنها اقتصرت عن التداخل في الأحكام حتى أدركتها الوفاة في خلافة المأمون، وأخرجت باحتفالٍ عظيم لم ينله غيرها من نساء الخلفاء. رحمها الله تعالى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤