الفصل الثاني

التخلف الفكري وأبعاده الحضارية١

في إحدى اللمحات الذكية حدَّد توفيق الحكيم (جريدة الأهرام في ٧ / ١٢ / ١٩٧٣م)، معنى التخلف بأنَّه عدم القدرة على ملاحقة الرَّكب بعد أن كانت هذه القدرة متوافرة. وبهذا المعنى يكون المجتمع المتخلف — إذا التزمنا اشتقاق اللفظ — هو ذلك الذي كان مسايرًا لموكب الحضارة يومًا ما، ثم عجز لسبب أو لآخر عن الاستمرار في السير، فسبقه الموكب. وهذا يعني أنَّ هناك فرقًا بين التخلف والتأخر؛ فالتأخر سمة للمجتمع الذي لم يكُن يومًا ما في المقدمة، أمَّا التخلف فهو سمة المجتمع الذي وصل إلى المقدمة وحمل مشعل التقدم في وقت مضى، ثم تباطأَت مسيرته بعد ذلك أو توقَّفت.

من هذا التحديد، الذي يلتزم المعنى الأصلي للفظ، نستطيع أن نتخذ نقطة انطلاقتنا في بحث موضوع التخلف الفكري وأبعاده الحضارية في العالم العربي؛ ذلك لأنَّ التخلف مرتبط ارتباطًا أساسيًّا بالبعد الزمني، وبالعلاقة بين الماضي والحاضر. والعالم العربي يُقدم إلينا مثلًا بارزًا تتوافر فيه كل مقومات التخلف بالمعنى الذي حدَّدناه؛ إذ كان يومًا ما رائدًا لحضارة زاهية، ثم توقَّفَت مسيرته وأصبح الآن يتطلع إلى الوراء متحسرًا على الأيام التي ولَّت. ولنذكر في هذا الصدد، أنَّ هناك صلةً اشتقاقيةً واضحةً بين الخلف والتخلف، وأنَّ المتخلف ينظر دائمًا إلى الخلف، ومن ثَم فإنَّ تحليل عوامل التخلف الفكري العربي ينبغي أن يرتكز أساسًا على بحث تلك الصلة الفريدة بين الماضي والحاضر في العقل العربي، وهي صلة أزعم أنَّه لا يوجَد لها نظير في الثقافات الأخرى، وأنَّها أحد العناصر الرئيسية التي توصلنا إلى فهم أفضل لأزمة الإنسان العربي المعاصر. وعندما أقول إنَّها توصلنا إلى فهم أفضل، فأنا لا أعني بذلك أنَّ تحليل هذه الصلة بين الماضي والحاضر يُقدِّم إلينا حلًّا لأزمة الإنسان العربي، وإنَّما أعني أنَّه يُصحِّح بعض المفاهيم التي يشيع استخدامُها عند معالجة هذا الموضوع، وهذا التصحيح للمفاهيم هو الخطوة الأولى في طريق البحث عن حل.

(١) العلاقة بين الماضي والحاضر

إنَّ السمة التي تنفرد بها العلاقة بين الماضي والحاضر، في الثقافة العربية، هي أنَّ الماضي ماثل دائمًا أمام الحاضر، لا بوصفه مندمجًا في هذا الحاضر ومتداخلًا فيه، بل بوصفه قوةً مستقلةً عنه، منافسةً له، تدافع عن حقوقها إزاءه، وتُحاول أن تحُلَّ محلَّه إن استطاعت — ولو شئتُ أن ألخص هذه السمة في كلمة واحدة، لقلتُ إنَّ نظرتنا إلى الماضي «لا تاريخية»؛ فالنظرة التاريخية إلى الماضي هي تلك التي تضعه في سياقه الفعلي، وتتأمله من منظور نسبي، بوصفه مرحلةً انتهى عهدها، وتلاشت مراحل لاحقة تجاوزتها بالتدرُّج حتى أوصلَتنا إلى الحاضر. وفي مثل النظرة التاريخية لا يكون الماضي قوةً منافسةً للحاضر، ولا تُثار على الإطلاق مُشكلة التوفيق بين الماضي والحاضر، لأنَّ الحاضر بطبيعته يحمل في داخله بذور الماضي، ولأنَّ الماضي خلق الحاضر عن طريق تجاوزه لذاته. أمَّا في ثقافتنا العربية فإنَّ الماضي يقطع صلته بعصره بالتدريج، ويفقد طابعه النسبي، ويخرج عن الإطار الزمني الذي كان مرتبطًا به، ليصبح قوةً دائمة الحضور، ولا بدَّ أن يتصادم ما هو دائم الحضور مع الحاضر. إنَّ العلاقة بينهما، بإيجاز، علاقة قوتَين متعارضتَين، مع أنَّ الماضي والحاضر ليسا أصلًا سوى قوة واحدة يتغير طابعها خلال الامتداد الزمني بالتدرج. وفي اعتقادي أنَّ هذه النظرة «اللاتاريخية» إلى الماضي هي المسئولة عن قدْر كبير من التخلف الفكري الذي يعاني منه العالم العربي، وعن ذلك التخبُّط والاضطراب الثقافي الذي يظهر أوضح ما يكون في الطرق التي تُعالَج بها مشكلة موقفنا من التراث ودَوره في حياتنا الحاضرة، أو مشكلة الأصالة والمعاصرة، كما يشيع تسميتها. وسوف يكون جهدي خلال هذا البحث منصبًّا على إثبات أنَّ الطريقة التي طُرحَت بها هذه المشكلة، سواء من جانب أنصار التراث أم خصومه، لم تكُن هي الطريقة الصحيحة، وأنَّ هذه النظرة المخطئة إلى التراث، وإلى ثقافتنا الماضية في صلتها بالحاضر، من أهم أسباب التخلف الفكري وعدم الاستقرار الحضاري في عالمنا العربي.

(٢) موقف نقَّاد التراث

لسنا نودُّ أن نكون طرفًا في المعركة الدائرة بين أنصار التراث وخصومه، لأنَّنا نعتقد أنَّ المفاهيم المستخدَمة في هذه المعركة تفتقر إلى الدقة، وأنَّ الطريقة التي طُرحَت بها المشكلة غير سليمة. ومع ذلك فإنَّ الرأي الذي نريد أن نثبته في النهاية لن يظهر بصورة واضحة، ولن يكون مرتكزًا على أُسس سليمة، إلَّا إذا عرضنا للمواقف المألوفة من التراث، في علاقتها بحالة التخلف الفكري التي تعاني منها بلادنا.

ولنبدأ أولًا بنقاد التراث، فنلاحظ أنَّ هؤلاء النقاد يشيرون عن حقٍّ إلى عيوب كامنة في هذا التراث، ويستخلصون من هذه العيوب نتيجةً تقول إنَّ من الواجب التخلِّي عن التراث، أو من الواجب إدخال تعديلات أساسية عليه. ومع موافقتنا التامة على المقدمات التي يرتكزون عليها، فإنَّنا لا نعتقد بصحة النتائج التي يستخلصونها منها.

فالتراث، مثلًا، يُتهَم بأنَّه حافل بالعناصر اللاعقلية، والخرافية، وبأنَّه يحتشد بالغيبيات والأفكار الأسطورية، وهذا اتهام يصدُق بالفعل على التراث في جانب من جوانبه. ولكن النتيجة التي تُستخلَص منه، وهي أنَّ هذا التراث فاسد من أساسه، ليست بالنتيجة الصحيحة؛ ذلك لأنَّ أمثال هذه العناصر اللاعقلية والخرافية لم تمنع الفكر الأوروبي من أن يصل إلى ما وصل إليه الآن من تقدُّم.

فمن الحقائق المعروفة أنَّ العصور الوسطى الأوروبية كان تفكيرها أشدَّ إظلامًا وإغراقًا في الغيبيات، وأنَّ أوروبا الحديثة ظلَّت تحتفظ بقدْر غير قليل من العناصر اللاعقلية حتى في صميم عملها العلمي. فحتى القرن الثامن عشر كان العقل الأوروبي ينظر إلى الكهرباء والمغناطيسية على أنَّها قُوًى خفيَّة تؤثر عن بُعد بطريقة غير مفهومة، وكان الاعتقاد بوجود معادن مذكرة وأخرى مؤنثة شائعًا فيها. وحتى عصر ديكارت كان يظنُّ أنَّ أجسام الحيوانات مجرَّد آلات لا وعي فيها ولا إحساس، وكان المصابون بأمراض عقلية يُحرَقون أحيانًا وهم أحياء من أجل القضاء على الروح الشريرة التي تتقمَّصهم، وكان السِّحر منتشرًا على أوسع نطاق، في نفس الوقت الذي كانت فيه أكثر التُّهم التي تُوجَّه إلى الخصوم شيوعًا، من أجل الخلاص منهم، هي تهمة ممارسة السِّحر.

كل ذلك كان شائعًا في أوروبا، ولكنَّه لم يكُن حائلًا بين أوروبا وبين قيادة حركة التقدم في العالم كله. فلماذا إذا كانت هذه العناصر من عوامل التخلف الفكري في العالم العربي ولم تكُن كذلك في الغرب؟ من المؤكد أنَّ أساس التخلف لا يكمن في هذه العناصر ذاتها، بل في شيء آخر، بل إنَّ من الأوروبيين المعاصرين مَن يرون هذه الأخطاء الفكرية مرحلةً ضروريةً من مراحل الطريق الموصل إلى الحقيقة. وحسبُنا أن نشير إلى تأكيد «باشلار Bachelard» أنَّ الخطأ يسبق الصواب دائمًا، وأنَّ الصواب ليس إلَّا محاولةً مستمرةً لتصحيح الخطأ، وجهدًا دائمًا يُبذَل من أجل قهر العقبات العديدة التي تعترض طريق المعرفة. فالعلم ليس في صميمه مجموعةً من الحقائق التي نتوصل إليها واحدةً بعد الأخرى، وإنَّما هو مجموعة من الأخطاء التي نتغلب عليها واحدةً بعد الأخرى. وفي هذه الحالة يمكن أن تكون الخرافات، والغيبيات، مرحلة لا بدَّ منها في المسار الطويل للمعرفة، والمهمُّ — بطبيعة الحال — هو أن تعقبها المراحل التي تعمل على تجاوزها، أيْ إنَّ اللاعقلانية والخرافة، إذا ما نُظر إليها في إطار تاريخي، لا يتعيَّن أن تكون عاملًا للتخلف، وإنَّما يتحدَّد ذلك وفقًا للتطور اللاحق الذي يطرأ عليها.

وإلى مثل هذه النتيجة ننتهي لو تأمَّلنا اتهامًا آخر يُوجَّه إلى التراث العربي، ويُعَدُّ واحدًّا من العوامل المسئولة عن تخلُّفه الفكري، وهو الاستبداد واضطهاد الحريات (انظر مثلًا: «تجديد الفكر العربي» للدكتور زكي نجيب محمود). فتاريخ الفكر الأوروبي بدَوره حافل بمظاهر قمع الحريات، ولا سيَّما الحرية الفكرية. ولسنا نودُّ أن نستشهد هنا بما كان يحدث للخارجين عن التيار المُعترَف به في العصور الوسطى، أو لشهداء الإصلاح الديني في عصر النهضة، بل إنَّ العصر الحديث ذاته قد استُهلَّ بفترة طويلة من اضطهاد الفكر باسم الدفاع عن الدين، وفي هذه الفترة أُحرِق جوردانو برونو حيًّا، وحُوكِم جاليليو، وكاد أن يدفع حياته ثمنًا لإيمانه بالنظام الفلكي الجديد، وتأييده له بالملاحظات العملية والمعادلات الرياضية، وعاش ديكارت مهدَّدًا بمصير مماثل لمصير جاليليو، واضطرَّ إسبينوزا إلى أن يكتب بلغة ظاهرها لاهوتي وباطنها عقلاني حتمي. وهكذا لم يكُن تاريخ الغرب خاليًا من مظاهر قمع الحريات الفكرية، وكانت السُّلطة الدينية تمارس إرهابًا فكريًّا لا يقلُّ عمَّا شهدَته الحضارة العربية في العهود التي بلغ فيها الاستبداد قمَّته. ومع ذلك فإنَّ هذا الاستبداد لم يمنع الغرب من التقدم، ولم يحلَّ دون ظهور «عصر التنوير» بحريته الفكرية الرائعة، بعد قرن واحد من الزمان.

ومُجمَل القول أنَّ من حقِّ المرء أن يشير إلى عيوب في التراث وينبِّهنا إلى طريقة التغلب عليها، ولكن ليس من حقِّه أن يؤكد أنَّ هذه العيوب وحدها هي التي أدَّت إلى تخلُّفنا الفكري، إذ إنَّ نظائرها كانت موجودةً في الغرب، وربما بمزيد من القوة والعنف، ولكنَّها لم تحلَّ دون وصول الغرب إلى مرحلة احترام الفكر الحر، واكتساب التقدم الذي لا بدَّ أن يترتب على ضمان حقِّ العقل البشري في التعبير عن نفسه. وهنا أيضًا ينبغي أن نعيد إلى الأذهان تلك النتيجة التي أشرنا إليها من قبل، وهي أنَّ العلة الحقيقية للتخلف الفكري ينبغي أن تُلتمَس، لا في هذه العوامل السلبية وحدها، بل في المسار الذي اتخذه تطوُّرها التالي.

على أنَّ خصوم التراث أو نقَّاده يُصرُّون على أن يوجِّهوا حملتهم بعنف إلى هذه العوامل السلبية، وكأنَّها هي وحدها سبب التخلف، فعلامَ يدلُّ هذا الإصرار؟ إنَّه في واقع الأمر يدلُّ على أنَّ هؤلاء الخصوم كانوا يتوقعون من التراث أن يحلَّ مشكلات الحاضر، أو يتصورون أنَّ له مثل هذه الوظيفة، ولكنَّهم يرونه عاجزًا عن أدائها. ومجرَّد توجيه النقد بمثل هذا العنف ينطوي على مقارنة ضمنية بين التراث وبين الحاضر، وعلى اعتقاد بأنَّ التراث قوة حية ينبغي الدخولُ في معركة معها، أيْ إنَّ هذا النقد ينطلق من نفس الموقف الذي يقفه أنصار التراث — كما سنرى بعد قليل — وإن يكُن ينتهي آخر الأمر إلى نتيجة سلبية.

وحسبُنا، لكي ندلِّل على أنَّ موقف الخصوم وموقف الأنصار يمثِّلان وجهَين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي، لعملة واحدة، أن نشير إلى موقف الأوروبيين من تراثهم القديم. فمن العسير أن نجد اليوم كاتبًا أوروبيًّا ينتقد نظرة اليونانيين إلى الكون، مثلًا، أو يحمل على النظريات الأخلاقية عند الفلاسفة الرومان. وليس هذا راجعًا إلى أنَّ تلك الفلسفات أو الآراء العلمية كانت بمنأًى عن النقد، بل هو راجع إلى سيطرة النظرة التاريخية على موقف الأوروبيين من التراث، وإدراكهم أنَّ سيادة هذه النظرة التاريخية تعني ضرورة الامتناع عن مقارنة الماضي بالحاضر، وبالتالي الامتناع عن توجيه الذم أو المدح إلى التراث، إلَّا إذا كان ذلك داخل الإطار التاريخي الخاص به. وهكذا فإنَّنا حين نُشدِّد الحملة على التراث من منظورنا الحاضر، إنَّما نتخذ موقف مَن كان يتوقع من التراث أن يحلَّ مشاكل العصر الحاضر، ونُغفل بذلك الموقع التاريخي للتراث، والوظيفة التي كان ينبغي عليه أن يؤدِّيَها في إطار عصره، ونقفز بهذه العصور عبر مسافات زمنية واسعة، وعندئذٍ يكون من السهل أن نجد عليه — من وجهة النظر الحاضرة — مآخذ لا أول لها ولا آخر، وإذَن فالبحث عن أسباب التخلف الفكري في العالم العربي لا ينبغي له أن يتخذ من نقد التراث مدخلًا وحيدًا، أو مدخلًا رئيسيًّا.

(٣) موقف أنصار التراث

يمثِّل أنصار التراث، كما قُلنا من قبل، الوجه الآخر من نفس العملة التي تجعل للتراث نطاقًا يفوق بكثير نطاقه الحقيقي، أيْ نطاقه التاريخي. وفي حالة هؤلاء الأنصار يُقال لنا إنَّ سبب التخلف هو عدم التزامنا بالتراث، أو هو ابتعاد الحاضر عنه، وإنَّ طريق التقدم الحقيقي هو الرجوع إليه بصورة أو بأخرى. وصحيح أنَّ الكثيرين يكتفون بالدعوة إلى استلهام «روح» التراث، والمبادئ المعنوية التي ألهمَت روَّاده وأقطابه، غير أنَّ الفكر العربي الحديث والمعاصر لم يعدم أناسًا يدعون إلى استعادة التراث بتفاصيله، ويرون أنَّ خلاص العرب في حاضرهم إنَّما يكون ببعث الماضي من جديد، حتى في جزئيات الحياة اليومية، كالملبس أو أسلوب المعاملات الجارية. وسواء أكان الأمر متعلقًا بهؤلاء أو أولئك، فإنَّ مثل هذا الموقف، الذي يدعو إلى استعادة مقوِّمات الماضي في الحاضر، يُعَدُّ — بين سائر الثقافات العالمية — موقفًا تنفرد به الثقافة العربية.

ولكي يدعم أنصار التراث حجَّتهم، فإنَّهم يستندون إلى مصادر مُعيَّنة في هذا التراث، يؤكدون أنَّ المعرفة البشرية كلها تكمن فيها، ويجعلونها تبدو كما لو كانت قد وعَت علم السابقين واللاحقين، بحيث يكون من العبث محاولة تجاوزها، لأنَّ كل شيء سبق أن قِيلَ فيها. وسأكتفي بضرب أمثلة قليلة لهذه المصادر التي يُقال إنَّها تشتمل على كل معرفة بشرية:
  • (١)
    فهناك فئة كاملة من الكُتَّاب تَخصَّص أفرادها في إثبات أنَّ الكشوف العلمية الحديثة موجودة كلها في آيات قرآنية. ويعتمد هؤلاء الكُتَّاب على مشابهات لفظية بسيطة في إثبات دعواهم، كالاعتماد على آية وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ … في إثبات وجود علم الذرة في النصوص القرآنية، أو على آية وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ في إثبات وجود جميع حقائق علم الأحياء، وربما وجد بعضهم فكرة سفن الفضاء في بعض آيات الإسراء … إلخ.

    ومن الأمور التي تسترعي الانتباه أنَّ هناك فريقًا قويًّا من أنصار التراث المتحمِّسين، يرفضون هذا النوع من التفسير بكل قوة (بنت الشاطئ مثلًا)، ويستنكرون بشدة أن يكون القرآن كتابًا في علم الطبيعة أو البيولوجيا أو تكنولوجيا الفضاء، ويؤكدون أنَّ الوظيفة الأخلاقية، لا الوظيفة العلمية، هي الهدف الأساسي من النصوص الدينية.

    وهناك فريق آخر، من أنصار التراث أيضًا، يرفض هذه المحاولة ذاتها لأسباب أخرى؛ هي تهوينه من شأن العلم بوجه عام. ففي رأي هذا الفريق أنَّ العقل البشري بأسره قاصر، والعلم الذي يمكن أن يكتسبه الإنسان، مهما ارتفع، إنَّما هو ضرب من الوهم أو الخداع، ولا بدَّ أن يدرك الإنسان أنَّ ما يصل إليه من علم سيظلُّ على الدوام محدودًا، وسيعود عليه في نهاية الأمر بأضرار وخيمة. مثل هذا الموقف المُعادي للعلم لن يَقبَل تفسير النصوص الدينية على أنَّها ذات وظيفة علمية تعليمية، أو على أنَّها تتضمن أهم ما توصَّل إليه الإنسان من الكشوف والمخترَعات، لسبب بسيط هو أنَّ مجال العلم بأكمله ثانوي الأهمية في نظره.

    ومعنى ذلك أنَّ معسكر أنصار التراث لا يجتمع رأيه على استخلاص العلم كله، قديمه وحديثه، من الآيات القرآنية، بل إنَّ داخل هذا المعسكر انقسامًا أساسيًّا في هذا الصدد، وفيه أكثر من فريق يصف أصحابه هذه المحاولة إمَّا بأنَّها جهد ضائع وراء هدف عقيم، وإمَّا بأنَّها نفاق يدعو إلى السخرية.

    على أن التفنيد الذي ربما كان أكثر حسمًا من هذا وذاك، هو أن هذه المحاولة، حتى لو صحَّت، تخفق في تحقيق أيِّ هدف؛ ذلك لأن القصد منها هو إثبات أن النصوص القرآنية تحتوي على كل علم، وعلى كل نظرية جديدة تُكتشف، وبالتالي فإن دراسة هذه النصوص توصلنا وحدها، إلى كل ما نريد من علم ومعرفة. والمشكلة التي يؤدِّي إليها هذا الموقف هي أننا، حتى لو افترضنا جدلًا، صحة كل ما يُقال في هذا الصدد، لابدَّ أن ننتظر أولًا حتى تُكتشف النظرية العلمية بالجهد البشري، ثم نهتدي إليها بعد ذلك في النَّص الديني. فالذرة لم يتبيَّن وجودها في القرآن إلا بعد أن كانت قد اكتُشفت قوانينُها فعلًا على أيدي رذرفورد وطومسون ونيلز بور وغيرهم. وقُل مثل هذا عن كل كشف علمي يُقال إن أصوله موجودة في الآيات القرآنية. ولاشكَّ أن حجَّة أنصار التراث، في هذا الصدد، كان من الممكن أن تصبح فعَّالة بحق، لو كانت هناك حالات أمكن فيها التوصُّلُ إلى كشف علمي عن طريق دراسة الآيات التي ورد فيها هذا الكشف فحسب. ولكنْ لمَّا كان من المستحيل الإتيانُ بحالة واحدة كان فيها النَّص الديني مصدرًا لنظرية جديدة في العلم، فإن الهدف الذي يرمي إليه أنصار هذا الرأي يفقد كل مبرِّر له.

    وهكذا فإن عشرات الكتب التي يحاول أصحابها أن يُثبتوا وجود العلم كله — سواء ما اكتُشف منه وما سيُكتشف فيما بعد — في النصوص الدينية، إنما هي جهد ضائع يُبذل في سبيل هدف محكوم عليه منذ البداية بالإخفاق. وفي هذه الحالة يكون رأي ذلك الفريق من أنصار التراث، الذي يرى أن النَّص الديني لا يستهدف سوى هداية البشر لا تعليمهم أساسيات الطبيعة أو البيولوجيا أو الكيمياء، أحكم بكثير من رأي أولئك الذين يتوهَّمون أنهم يُعلُون من قدْر النَّص الديني إذ يضعون فيه كل علوم البشر، ثم يتبيَّن لهم أن حجَّتهم باطلة، لأن الكشوف العلمية لا تتمُّ إلا بجهد بشري، ولن نهتديَ إليها في النَّص الديني إلا بعد أن تكون قد اكتُشفَت بالفعل.

  • (٢)

    وثمة فئة أخرى لا تحاول أن تردَّ علم البشر — ما كان منه وما سيكون — إلى نصوص دينية، وإنما ترى في التراث العلمي والفكري العربي، في عصر نهضته الكبرى، أصلًا لعدد كبير من المكتشَفات الحديثة، وتُمجِّد ذلك التراث بوصفه منبعًا للحكمة والمعرفة لم تعرف البشرية له نظيرًا. ولا جدال في أن موقف هذه الفئة أقوى من موقف الفئة السابقة؛ لأن هناك بالفعل سندًا قويًّا من التاريخ للرأي الذي ينادي بتمجيد الفكر والعلم العربي القديم. ولهذا فإننا لا نجد ما يدعونا إلى أن نؤكد مرةً أخرى أن العصور الوسطى العربية كانت، على عكس العصور الوسطى الأوروبية، فترة ازدهار علمي وفكري، وأن الدين الذي تدين به النهضة الأوروبية الحديثة للعرب لم يُعترف به حتى الآن اعترافًا كافيًا، بالرغم من كل ما كُتب عنه.

    على أن الأمر الذي يُضعف موقف هذه الفئة ليس المبدأ العام الذي ترتكز عليه، وإنما المبالغة المسرفة في تأكيد هذا المبدأ، والسعي إلى الخروج بهذا التراث المجيد، عن إطاره التاريخي، وإضفاء نوع من الصحة المطلقة، التي تسري على كل زمان، على إنجازاته التي كانت في وقتها شيئًا رائعًا بحق، وفي هذا النزوع إلى صبغ التراث العلمي والفكري بصبغة المطلق، ما يقرِّب بين هذه الفئة وسابقتها على نحوٍ لا يحتاج إلى مزيد من البيان.

    فليس من الأمور غير المألوفة أن نجد بعض كُتَّابنا يحاولون إثبات أن أحدث النظريات العلمية كانت موجودةً لدى العرب. ولقد استمعتُ بنفسي إلى واحد من كبار المتخصِّصين يؤكد أن نظرية النسبية قد عُرفت أيام العرب، وأظنُّ أنه حدَّد البيروني بوصفه مصدرًا لهذه النظرية. كما أن هناك كثيرين غيره لا يكتفون ببيان أهمية الكشوف التي توصَّل إليها العلماء العرب في علم البصريات وغيرها من فروع الفيزياء، وإنما يُصرُّون على الاهتداء إلى أحدث النظريات العلمية في هذه الميادين لدى العرب القدماء. وعندما يمجِّدون عالِمًا ومُفكرًا مثل ابن خلدون، فإنك تجد منهم مَن لا يكتفي بسرد إنجازات هذه الشخصية الفذة — وهي إنجازات رائعة المقاييس العالمية — بل يسعَون جاهدين إلى استخلاص التطورات التالية في علم الاجتماع وفلسفة التاريخ من كتاباته. وحين يتحدثون في ميدان الفلسفة، فلا بدَّ أن يؤكدوا أن الغزالي قد استبق هيوم في نقده لفكرة العلية، وأن ابن تيمية تنبَّه، قبل المَناطِقة الرياضيين المعاصرين بقرون متعددة، إلى عيوب أساسية في المنطق الأرسطي.

    هذه النظرة «اللاتاريخية» إلى التراث، ومحاولة قراءة التطورات التالية، لا في الفكر العربي بل في الفكر الغربي، بين سطوره، من أوضح مظاهر التخلف الفكري في بلادنا؛ ذلك لأنها ترفض النظر إلى عصرنا من خلال منطقه الخاص، وتحاول أن تفكر فيه بمنطق عصر أصبح في ذمة التاريخ، مهما كان المجد الذي كان يتصف به عندئذٍ. وهي، في إنكارها للسياق التاريخي الذي ظهر فيه ذلك التراث، ترتكب أخطاءً فادحةً حتى في حقِّ التراث ذاته؛ فمن المستحيل، مثلًا، أن تكون نظريات الفيزياء الحديثة قد ظهرَت في العصور الوسطى العربية؛ لأن ظهورها في العصر الحديث كان مرتبطًا بتطورات طويلة لم يكُن لها نظير في أيِّ عصر سابق. أمَّا النقد الفلسفي عند الغزالي وعند ابن تيمية، فكان في الحالتَين يهدف آخِر الأمر إلى إبطال الفلاسفة والمنطق الذي يرتكزون عليه، من أجل إفساح الطريق للإيمان، وللتدخُّل الإلهي المستمر في العالم، أيْ إنه كان داخلًا في إطار فكري مختلف اختلافًا حاسمًا عن ذلك الذي كانت تنتمي إليه أفكار هيوم أو المَناطِقة الرياضيين المُحدِثين.

    على أن التفنيد الحاسم لهذا الموقف (بدَوره) إنما يكمن في كونه يؤدِّي إلى عكس الهدف المقصود منه. فغاية هذا التمجيد، الذي نُرجع فيه إلى علمائنا ومُفكرينا من العرب فضل التوصُّل إلى عدد كبير من النظريات والأفكار الحديثة، هو أن نُثبت أن العرب قد استبقوا علماء ومُفكرين غربيين، وأنهم كانوا أصحاب فضل عليهم. ولكن حقيقة الأمر أن هذه الغاية تنقلب إلى تمجيد ضمني للفكر والعلم الغربي على حساب العرب؛ ذلك لأنها تتخذ من نواتج الثقافة الغربية مقياسًا، وتحدِّد مكانة المُفكر العربي تبعًا لمدى اقترابه أو ابتعاده عن هذا المُفكر الغربي أو ذاك. فإذا كان العالم العربي قد استبق أينشتين، وإذا كان المُفكر العربي قد استبق كونت أو هيوم، فلا بدَّ أنه كان عظيمًا لهذا السبب ذاته. وهكذا يصبح معيار العظمة هنا هو الوصول على ما أنجزه الغرب. وفي هذا تمجيد ضمني للحضارة الغربية لا يحلم به الغربيون أنفسهم. ولو كان لدينا إيمان حقيقي بما أنجزه علماؤنا ومُفكرونا، لأقنعنا الإنسانية بفضلهم عليها من حيث هم فحسب، لا من حيث إنهم سبقوا أفكار هذا العالم أو ذاك المُفكر الغربي.

    ولكي تكتمل لدينا الصورة، يكفينا أن نسأل أنفسنا: هل حدث ذات يوم أن مجَّد الغربيون أحد رجالهم لأنَّه توصَّل — قبل هؤلاء العلماء أو المُفكرين العرب — إلى رأي من آرائهم، أو لأنَّه استطاع أن يتوسع فيه ويُفصِّله بعدهم؟ هنا يكمن الفرق بين الثقافة التي تُمجِّد نفسها بثقة، وتلك التي تُمجِّد نفسها عن طريق الإصرار على مقارنة نفسها بالآخرين وربط نفسها بعجلتهم. ومن المؤكد أنَّ هذه المقارنة الدائمة واتخاذ إنجازات الغربيين مقياسًا لمدى أصالتنا، تؤدِّي آخِر الأمر إلى تثبيت قيمة الثقافة الغربية على نحوٍ مطلق، أمَّا قيمة ثقافتنا فلا تتأكد إلَّا بقدْر ما تنتسب بصورة أو بأخرى إلى تلك الثقافة. وهذا ما كنتُ أعنيه حين قلتُ إنَّ هذا التمجيد اللاتاريخي يؤدِّي إلى عكس الهدف المقصود منه.

    إذَن فالخطأ لا يكمن في مجرَّد تمجيد التراث، وإنَّما يكمن في طريقة التمجيد ذاتها؛ فهو يقارن دائمًا بما أنجزه الغرب، وكأنَّ الشكل الوحيد الممكن للتقدم الثقافي هو ذلك الذي يوجَد في الحضارة الغربية. كما أنَّ التراث يصوَّر كما لو كان قوةً حيةً قادرةً على حلِّ جميع مشكلات العصر الحاضر، بل إنَّ المتحمِّسين يذهبون إلى حدِّ القول إنَّ أيَّة هزيمة تَلحق بنا، حتى في الميدان العسكري، لا بدَّ أن تكون مرتبطة، بصورة أو بأخرى، بموقفنا من هذا التراث؛ فالتجاهل المزعوم لجذورنا، ومنها الجذور الدينية، هو في رأي الكثيرين السبب الحقيقي لهزيمة ١٩٦٧م، وموقفنا من الماضي هو الذي أدَّى إلى تلك الكارثة، على حين أنَّ الأداء الأفضل الذي قُمنا به في عام ١٩٧٣م إنَّما يرجع — في نظر هؤلاء — إلى أنَّنا ازددنا اقترابًا من هذه الجذور، بعد أن تبيَّنَت لنا فداحة الأضرار التي نجمَت عن انفصالنا عنها. وهكذا يخرج التراث خروجًا تامًّا عن مهمَّته الأصلية، وعن وظيفته المنطقية التي لا يصحُّ أن يتعدَّاها، حتى بالنسبة إلى أشدِّ الناس تحمسًا له. ويصبح الماضي هو القادر على تخليصنا من مشاكل الحاضر، وتصبح المواجهة المباشرة للحاضر أمرًا مستحيل التحقيق في ظلِّ هذه النظرة «التراجعية» اللاتاريخية.

    وبعبارة أخرى، فإنَّ هذا النمط من أنصار التراث يشوِّهون معنى الحاضر والماضي على حدٍّ سواء؛ إذ إنَّ الماضي في نظرهم له وظيفة حيَّة فعَّالة، يظلُّ فيها محتفظًا بطابعه الخاص، ولكنَّه يؤثر في الحاضر ويتحكم فيه بطريقة مضادة للتاريخ. ومن جهة أخرى فإنَّ الحاضر يضيع منه حضوره وحيويته، إذ يُنظر إلى عوامل النجاح والإخفاق فيه على أنَّها مرتبطة أساسًا بموقفنا من الماضي، ويفقد منطقُه الخاصُّ فاعليته لكي يحلَّ محلَّه منطق مُستمَد من عصر مغاير أساسًا له. ومثل هذا المسلك، الذي يؤدِّي إلى موقف غير تاريخي إزاء الماضي والحاضر معًا، لا يترتب عليه فقط إخفاق عملي في معالجة مشكلات اللحظة الراهنة، بل يترتب عليه أيضًا إخفاق نظري ذريع في فهم وظيفة التراث وظلم فادح له، يتمُّ على أيدي أولئك الذين يتخذون من أنفسهم أنصارًا له، وتكون قوامه هي نفس عملية الدفاع والتبرير التي يظنون أنَّهم يُثبتون بها تمجيدهم للتراث.

(٤) السمة المميزة للتراث العربي

لا بدَّ أن تكون للتراث العربي سمة مميزة، تُضفي طابعها الخاص على جميع العوامل السابقة، سواء منها تلك التي ينحاز لها أنصار التراث أم خصومه، وتنحرف بهذه العوامل في اتجاه خاص مميز للثقافة العربية على وجه التخصيص. فلماذا لم تؤدِّ العناصر اللاعقلية، التي احتشدَت بها الثقافة الغربية زمنًا طويلًا، أو سياسة اضطهاد الفكر الحر التي حفل بها التاريخ الغربي، إلى نتائج مماثلة لتلك التي أحدثَتها هذه العوامل في العالم العربي؟ ولماذا استطاع الغرب أن ينهض بالرغم من هذه العوامل السلبية، بينما كانت نتيجتها الوحيدة في مجتمعنا هي استمرار التخلف؟ وما الذي يضطرُّ أنصار التراث إلى التمسُّك بنظريتهم التراجعية والبحث عن علم العصر كله في نصٍّ دينيٍّ أو كتاب كلاسيكي؟ ما هي العلة الحقيقية لهذا التطلع المستمر إلى الخلف، الذي يرتبط — في المجال الفكري — بالتخلف؟

هذه التساؤلات تتجاوز نطاق الانحياز للتراث أو العداء له، وتنتمي في الواقع إلى مجال التشخيص والتعليل لا إلى مجال التقييم واتخاذ المواقف المؤيدة أو المعارضة. وليس من الممكن أن يُوصَف مَن يطرح هذه التساؤلات ويحاول تقديم إجابة عنها، بأنَّه ينتمي إلى معسكر أنصار التراث أو خصومه، بل هو أساسًا شخص يريد أن يفهم، ويتخذ موقف التحليل العلمي.

إنَّنا نعتقد أنَّ سمة «الانقطاع الحضاري» هي السمة المميزة للتراث الفكري والعلمي في بلادنا العربية، وهي التي تصبغ بصبغتها الخاصة كل ما أشرنا إليه قبل الآن من عوامل، وتؤدِّي بأنصار التراث وخصومه معًا إلى اتخاذ مواقف غير سلمية، وتجعلهم يتوقعون من التراث ما لا يُنتظر منه القيام به، أو يحملون عليه لأسباب هو منها بريء. ولو شئنا أن نهتديَ إلى سبب رئيسي لتخلفنا الفكري، لقُلنا إنَّ هذا السبب هو أنَّ ماضينا وحاضرنا لا يكوِّنان خطًّا متصلًا، وأنَّ هذا الانقطاع هو الذي أدَّى إلى تشويه نظرتنا إلى الماضي والحاضر على السواء.

إنَّ العلم والفكر العربي يتسم بفترة ازدهار وصل فيها إلى أقصى درجات التقدم المتاحة في العصور الوسطى، وكان العرب خلال هذه الفترة هم مُعلِّمو الإنسانية ومُوجِّهوها بحق، وكان مركز الثقل الحضاري في العالم هو البلاد الناطقة بالعربية، من الخليج إلى جبال البرانس. ولكن هذه الفترة اللامعة ما لبثَت أن انطفأَت، ولم يحدث استمرار واتصال لحركة التقدم، وتوقف نمو العقل العربي عند مرحلة مُعيَّنة، كاد بعدها هذا العقل أن يصبح منسيًّا. وفي عصر قريب، قد يكون هو القرن العشرون أو التاسع عشر على أحسن الفروض، بدأت مرحلة النهوض من جديد، وحاولَت أن تستعين بذلك العقل الذي كان مكتمل النمو في وقتٍ ما، ولم يدُر بخلدها أنَّ نمو الإنسانية ككل كان قد تجاوز هذه المرحلة بكثير، وأنَّ التخلف كان أعمق وأوسع مدًى من أن يمكن تعويضُه عن طريق استئناف السير من جديد ابتداءً من النقطة التي توقَّفَت عندها المسيرة قبل زمن طويل.

هذا الانقطاع الثقافي إذَن أمر واقع، وليس هنا مجال لتعليله، ولكن يكفينا أن نُقرِّر حدوثه فحسب، كظاهرة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها. وحدوث هذا الانقطاع يعني أنَّ العلم والفكر العربي لم يكوِّنا تراثًا متصلًا، استمر منذ فترة ازدهاره حتى وقتنا الحالي بلا توقُّف، بل كان فترةً مضيئةً أعقبها ظلام طويل، وقد ترتَّب على عدم استمرار هذه الفترة أنَّها لم تتهيأ لهذه الفرصة لكي تندمج في عقل الشعب العربي وتصبح مبادئها جزءًا من تكوين الإنسان الذهني في هذه المنطقة من العالم، وإنَّما ظلَّ العلم والفكر منعزلَين، ومقتصرَين على الصفوة المختارة.

وصحيح أنَّ كل علم وفكر رفيع يبدأ على يد صفوة مختارة كهذه، غير أنَّ استمراره وتوطيده لمكانته يُتيح له الفرصة لكي يصبح، بالتدريج، مندمجًا في الذهن العادي، داخلًا في إطار العتاد الذي يحمله معه كل إنسان، فنظرية كبرنيكوس كانت، في عصر النهضة، فرضًا لا يؤمن به إلَّا قِلَّة من العلماء، ولكن استمرار التراث الكبرنيكي والجهود التي بُذلَت من أجل دعم هذا الفرض وإثباته، جعلَتها تتحول بالتدريج إلى عنصر أساسي من عناصر المعلومات الثقافية في ذهن الإنسان العادي، وقُل مثل ذلك عن نظرية التطور، وعن مبادئ التحليل النفسي، وغير ذلك من الكشوف والتحليلات الهامة، التي كانت في البداية وقفًا على أذهان قليلة، ثم أدَّى استمرار التراث العلمي واتصاله إلى اندماجها، بمُضيِّ الوقت، في ثقافة غير المتخصِّص. أمَّا في حالة التراث العربي، فإنَّ العقلية العادية والسلوك اليومي للإنسان العربي لم يكتسب شيئًا من مبادئه، ولم تصبح جزءًا من سلوكه مثلما نقول اليوم عن الفرنسي إنَّ نظرته إلى الأمور ديكارتية. بل إنَّ أشدَّ الناس تحمُّسًا للتراث العربي يقدِّمون دعواهم على أنَّها اكتشاف لعناصر لا يتوقع العقل العادي أن تكون قد وُجِدت يومًا ما في البيئة العربية، ولشخصيات لا بدَّ أن «تندهش» حين تعلم أنَّها كانت تفكر بهذه الطريقة المستنيرة المتعمقة. وهذه الدهشة في ذاتها دليل على أنَّ تراث هذه الشخصيات لم يندمج فينا، ولم يصبح جزءًا من تكويننا.

على أنَّ الأخطر من ذلك، في رأيي، هو أنَّ معنى التراث نفسه يصبح في حالة الانقطاع الثقافي محتاجًا إلى مراجعة جذرية؛ ذلك لأنَّ قيمة أيِّ تراث علمي وفكري، نريد له أن يكون قوةً حيةً، إنما تكمن في استمراره، وفي كونه جزءًا من تاريخ متصل. فالامتداد الزماني المتصل مصدر أساسي لقوة تأثير التراث، بل هو جزء لا يتجزأ من معناه الحقيقي. وليس معنى ذلك أنَّ التراث العلمي والفكري يجب أن يسير في خطٍّ مستقيم أو يرسم خطًّا بيانيًّا صاعدًا، فكلنا نعرف تلك النكسات المؤقتة والتعرجات والالتواءات التي تطرأ على مسار العلم والفكر في جميع الثقافات، ولكن المهم في الأمر أن يكون المسار في مجموعه سائرًا بالرغم من حالات التراجع الجزئية المؤقتة، في طريق صاعد متصل.

ويترتب على هذا المسار المستمر والمتصل للعلم والفكر، أن تكون قيمة التراث الذي يُمثِّله كامنةً في تجاوزه، وهذه عبارة تبدو منطويةً على مفارقة واضحة، ولكن من اليسير فهم معنى هذه القيمة التي يكتسبها التراث عندما يُفنَّد، إذا أدركنا أنَّ التراث المتصل أشبه ما يكون بالحياة في استمرارها عبر الأجيال المتعاقبة؛ فالكائن الحي يولِّد حياةً أخرى تنطوي، في آن واحد، على معنى استمرار القديم من جهة، وفنائه من جهة أخرى. وهذا الاستمرار من خلال الفناء هو الشكل الوحيد الذي تستطيع به الحياة أن تؤكد ذاتها، وقُل مثل ذلك عن التراث؛ فهو — إذا كان متصلًّا — يحيا من خلال عملية تفنيده وتجاوزه.

ولو نظرنا إلى أيِّ تراث قديم — علمي مثلًا — عبر مسافات زمنية طويلة، لبَدَا لنا أنَّ الحالة الجديدة للعلم منقطعة الصلة به تمامًا، ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ هذه الحالة لم تنشأ، ولم تصبح ممكنة، إلَّا بفضل سلسلة من التطورات كان فيها القديم ذا تأثير في البداية، ثم ضعُف تأثيرُه بالتدريج نتيجةً للنقد والتصحيح، واستمرَّت عملية التصحيح والتجديد هذه حتى المرحلة التي يبدو فيها أنَّ القديم لم يعد له أيُّ أثر. والواقع أنَّه موجود، ولكن من خلال فنائه وتصحيحه ونقده. موجود في الأجيال الجديدة من النظريات والأفكار التي ما كانت لتُبعَث إلى الوجود لو لم تكُن من سلالة هذا الجَدِّ البعيد، فنظرية كبرنيكوس موجودة لدى جاليليو بقوة، وجاليليو كان له تأثيره القوي في ديكارت وفي نيوتن، ولكن مع مزيد من التعديل والتصحيح، ونيوتن كان هو القوة الدافعة للحركة العلمية التي استمرَّت طوال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي أدَّت في نهاية الأمر، وبعد سلسلة طويلة من التصحيحات والتعديلات، إلى أينشتين في أوائل القرن العشرين. وخلال ذلك كله يوجَد القديم في الجديد، لا بمعنى أنَّ الجديد يعود إلى القديم أو يستلهم منه أفكاره، ولكن بمعنى أنَّ القديم يُتيح للجديد فرصة تجاوزه وتصحيحه وتفنيده. ومن خلال أخطاء القديم تأتي القوة الدافعة التي تولِّد الجديد.

إنَّنا لو شئنا أن نلخص في كلمة واحدة التضادَّ بين النظرة إلى التراث التي تؤدِّي إلى تقدُّم فكري، وتلك التي لا يترتب عليها سوى التخلف، لقُلنا إنَّ التراث في الأولى، يحيا من خلال موته، أمَّا في الثانية فإنَّه يموت من خلال حياته؛ في الأولى يكون التراث متصلًا، لا يطرأ عليه انقطاع، فتكون النتيجة أنَّ كل مرحلة قديمة تُمهِّد الطريق لمرحلة جديدة تعلو عليها وتستوعبها في ذاتها، ولكن مع تجاوزها وتفنيدها. فالتراث هنا غذاء لجسم حي، هو جسم المعرفة النامي، ونمو هذا الجسم لا يتحقَّق إلَّا عن طريق امتصاصه للغذاء، الذي يفنى ويتلاشى بمعنًى مُعيَّن، ولكنَّه يحيا ويستمر بمعنًى آخر أهمَّ داخل الجسم الحي، أمَّا في الثانية، حين يحدث انقطاع في التراث، وحين تتمُّ محاولةُ الإحياء دون إدراك لمقتضيات العصر الجديد الذي طرأ بعد الانقطاع الطويل، فإنَّ في هذا الإحياء ذاته موتًا للتراث، لأنَّه يبعثه من جديد في غير وقته، ويزرعه — كالقلب الغريب — في جسم عصر لا بدَّ أن يرفضه.

ومعنى ذلك أنَّ الإحياء الحقيقي للتراث إنَّما يكون عن طريق تجاوزه واتخاذه سُلَّمًا لمزيد من الصعود. أمَّا إحياء الاسترجاع فهو في حقيقته قضاء على التراث، الذي لا يريد منَّا أن نختزنه، كالثورة المدفونة التي لا ينتفع منها أحد، بل يريد منَّا أن نستثمره وننفقه، حتى يعود علينا إنفاقه بالخير. وحين يدوم اختزان هذه الثروة أطول ممَّا ينبغي، فلا بدَّ أن تصبح العملة التي تتألف منها هذه الثروة غير متداوَلة، وغير قابلة لأن ينتفع منها أحد.

(٥) درس النهضة الأوروبية

ولو فكَّرنا مليًّا في علاقتنا الراهنة بالتراث العلمي والفكري العربي، لتبيَّن لنا أنَّ موقفنا منه موقف الاختزان، لا الانتفاع والاستثمار. أمَّا الذين انتفعوا حقًّا من هذا التراث فهم الأوروبيون، الذين أفادوا من جهود العرب في الميادين الفلسفية والفكرية والعلمية خلال الحقبة الأخيرة من العصور الوسطى، وامتصَّها جسم المعرفة عندهم، فنما نموًّا هائلًا في عصر النهضة، واستمر النمو منذ ذلك الحين بلا انقطاع. صحيح أنَّ من الصعب أن نتعرف، في الحضارة الأوروبية الحالية، على تراثنا هذا تعرُّفًا مباشرًا، ولكن هذا شأن الحياة الحقيقية للتراث، فمع أنَّك لا تستطيع في أغلب الأحيان أن تتعرَّف في وجهك الحالي على صورة جَدِّك العاشر (إن كنت تحتفظ بصورة كهذه)، فإنَّ هذا لا يمنعك من أن تؤكد أنَّه هو الأصل القديم لوجودك. لذلك فإنَّ المقدمات التي بنيتُ عليها هذا البحث تؤدِّي إلى نتيجة لا مفرَّ منها، هي أنَّ الحضارة الأوروبية هي التي حفظَت التراث العربي وصانته بالطريقة الصحيحة، وأعني بها أنَّها صانته عن طريق تجاوزه وتصحيحه وتفنيده، وضمنَت له من خلال قوَّته حياةً مستمرة.

ولنقارن بين ما حدث للتراث المستمر، وما حدث للتراث المنقطع في أوروبا، ففي عصر النهضة، كان أمام الأوروبيين تياران يمكن نظريًّا الاستعانةُ بهما في إحياء العلم؛ أحدهما هو التيار اليوناني، والآخر هو العربي. وعلى قدْر ما انتفع الأوروبيون بالتيار الأخير (وهو انتفاع يتسع نطاق الاعتراف به حتى بين أشدِّ المؤرخين الأوروبيين إغراقًا في تمجيد حضارتهم الخاصة)، فقد رفضوا التيار الأول. وحين أقول إنَّهم رفضوه فأنا لا أعني أنَّهم ظلُّوا يرفضونه دائمًا، أو أنَّهم رفضوه في جميع المجالات، فمن المؤكد أنَّهم عادوا إلى التراث اليوناني والروماني في مجال الفنون والآداب، ولكنَّهم في مجال التفكير العلمي والفلسفي رفضوه رفضًا قاطعًا، فقد كان أول ما حرص عليه كبار فلاسفة الفترة الأولى من العصر الحديث (حين كان الفلاسفة علماء أو مُوجِّهين لتيار المعرفة بوجه عام)، هو توجيه أقسى الانتقادات إلى العلم اليوناني، وإلى سُلطة أرسطو على وجه التخصيص. ولست بحاجة إلى أن أشير إلى تلك النصوص المشهورة، التي دعَا فيها بيكون وديكارت إلى الخلاص من سُلطة القدماء، واتخاذ الفكر الواضح، أو المشاهدة والتجربة الواضحة، معيارًا أوحد لقبول الفكرة والاعتراف بصحتها.

إنَّ من واجبنا في العالم العربي أن ندرس هذا الموقف بإمعان، لكي نعرف كيف انتقلَت أوروبا من مرحلة تخلُّف طويلة إلى أول الطريق الذي أوصلها إلى ما هي عليه الآن من تقدم، ولكي تتضح أمام أعيننا العوامل التي جعلَت الغربيين يتقدمون علينا إلى حدٍّ هائل، مع أنَّ نقطة بدايتهم، في ذلك العصر، كانت أضعف بكثير ممَّا كنَّا قد توصَّلنا إليه قبلهم بقرون عِدَّة.

وأول ما نستخلصه من هذه الدراسة هو أنَّ الأوروبيين لم يخجلوا من إعلان رفضهم القاطع لتراث كامل ينتمي إلى صميم ثقافتهم، وتمتدُّ إليه جذورها. فقد كان الفلاسفة في هذه الفترة يقفون من تراث الفكر الأرسطي، الذي سيطر على العصور الوسطى سيطرةً كاملة، موقف التحدي الصريح، الذي وصل إلى حدِّ الغبن والتجنِّي؛ ذلك لأنَّهم حمَّلوا أرسطو جميع أوزار التأويلات والتشويهات الفاسدة التي صُبغَت بها آراؤه في العصور الوسطى، وهاجموا فكره وعلمه، على أساس ما لحق به بعد ذلك من تطورات لم يكُن أرسطو ذاته مسئولًا عنها، ولم يكُن ليقبَلَها على الإطلاق لو قُدِّر له أن يعرف شيئًا عنها. وكانت نقطة بداية العلماء — من أمثال جاليليو — هي ضرورة تحرير الفكر من سُلطة القدماء، والتوجُّه إلى الطبيعة مباشرة، بدلًا من كتب التراث، من أجل فهم العالم وقوانينه. ولم يكُن في موقف الرفض القاطع هذا ما يعيبهم، بل لقد أصبح هذا الموقف هو أساس مجدهم، وهو الذي وضعهم على قمة الفكر والعلم في عصرهم.

ولو بحثنا عن العامل الذي جعل الفكر والعلم الأوروبي يرفض تراثه القديم على هذا النحو القاطع، الذي وصل — كما قُلنا — إلى حدِّ القسوة، لوجدنا أنَّ هذا العامل كان في حقيقته انقطاع التراث، فالفكر والعلم القديم كانا في عصره شيئًا هائلًا بحق، وكان مصدر أمجاد للأمة التي ظهر فيها ما زال العالم يعترف لها بها حتى اليوم. ولكن تجمُّد هذا التراث في العصور الوسطى الأوروبية، ووقوفه عند حدوده القديمة، أو حتى تراجعه عنها، وعدم قدرته على تطوير ذاته في حركة متصلة يعمل فيها الجديد على استيعاب القديم في داخله مع تجاوزه على الدوام؛ كل ذلك كان من المُحتَّم أن يؤدِّيَ بأقطاب الفكر والعلم، في عصر النهضة وأوائل العصر الحديث، إلى أن يشنُّوا حملةً ضاريةً ضدَّ التراث، ويتصوَّروا أنَّ التقدم الحقيقي لن يتحقَّق إلَّا عن طريق رفع شعار «البدء من جديد» في جميع المجالات. ولم يمنع ذلك، بطبيعة الحال، من أن يتخذ الأوروبيون فيما بعدُ موقفًا متوازيًا من التراث القديم حين وضعوه في إطاره التاريخي، ولم يعودوا ينظرون إليه على أنَّه قوة تنافس الحاضر. فعندئذٍ، حين بدأ الحاضر الأوروبي يمتلئ بمضمون غني، لم يعد هناك ما يُخجِل في الاعتراف بقيمة التراث الكلاسيكي وفي تمجيده، بوصفه قوةً كانت لها قيمتها الكبرى في عصرها، وإن لم تكُن التطورات التالية قد تجاوزَتها إلى حدٍّ لا متناهٍ. ولنقُل بعبارة أخرى إنَّ النظرة التاريخية إلى التراث تؤدِّي إلى إزالة كل تناقض بين تمجيد التراث والاعتراف بتخلُّفه، فهو يُمجَّد لأنَّه كان شيئًا رفيعًا في عصره، على حين أنَّ تخلُّفه يظهر واضحًا إذا ما قُورِن بالأوضاع التي تجاوزَته في العصر الحاضر.

وهكذا نستخلص من استيعاب درس النهضة وموقفها من التراث حقيقتَين على أعظم جانب من الأهمية:
  • الأولى: هي أنَّ من الممكن أن تقوم نهضة علمية فكرية رفيعة المستوى في مراحلها الأولى، على أساس الرفض الحاسم للتراث، وذلك حين يكون هناك انقطاع في التراث يمنع من استمراره في خطٍّ متصل حتى الحاضر، وعندئذٍ لا بدَّ أن ترفع النهضة شعار «البدء من جديد» كعلامة على تحدِّي التراث.
  • والثانية: هي أنَّ التطور والتقدم المستمر في المعرفة يساعد على الوصول إلى نظرة تاريخية إلى التراث، يختفي فيها التناقض بين تمجيده والاعتراف بتخلُّفه.

(٦) الصلة بين التخلف والاغتراب

إنَّ المقارنة بين موقف الأوروبيين من تراثهم، بل من تراثنا نحن أيضًا، وموقف الثقافة العربية من هذا التراث، تكشف لنا عن مصدر أساسي من مصادر تخلُّفنا الفكري. وهذا التخلف يتخذ في العصر الحاضر شكل الاغتراب والتمزق، الذي لا يُمهِّد لانطلاقة جديدة إلى الأمام، بل يُعبِّر عن حالة من العجز عن مواجهة العصر، والعجز عن نسيانه، في الآن نفسه. فالعقل العربي، في المرحلة الراهنة من تاريخه، مغترب بصورة مزدوجة، وهو لا يتلقَّى هذا الاغتراب من الخارج، أو من قوة تفرضه عليه، بل إنَّه هو الذي يفرضه على ذاته بإصرار وعناد، فتكون النتيجة الوحيدة لذلك هي بقاؤه حيث هو، على حين أنَّ العالم من حوله يجري بسرعة مذهلة لكي يحتلَّ في كل يوم مواقع جديدة، يغزوها العقل السليم.

ولقد أَلِفنا أن يُحدِّثنا الكُتَّاب في بلادنا عن ذلك الاغتراب «المكاني» الذي يتمثل لدى المتعلقين بثقافة بلاد غير بلادهم، وهم أولئك الذين تجدهم حولكَ أينما ذهبت، يكملون ما يعجزون عن التعبير عنه بكلمات أجنبية، ويقتبسون من بلاد بعيدة أسلوب حياتهم اليومية، وشكل ملبسهم، وربما طريقة إيماءاتهم وإشاراتهم. هؤلاء الناس مغتربون مكانيًّا، لأنَّ جسمهم في أوطانهم وعقلهم في أوطان أخرى نائية. وربما كان كل مثقف متعلق بالفكر الغربي — بمعنًى ما — من هؤلاء المغتربين «مكانيًا»، ومن ثَم فهو هدف للحملات التي يشيع توجيهُها ضدَّ «الغزو الحضاري» والثقافات المستورَدة التي تُهدِّد أصالتنا بأفدح الخطر.

غير أنَّ أصحاب هذه الحملات هم أنفسهم مغتربون بمعنًى أخطر، لأنَّه أشدُّ خفاءً؛ ذلك لأنَّ النصير المتحمِّس للتراث يغترب عن عصره، وعن حاضره، ويتعلق بعصر تفصله عنه أبعاد زمانية كبيرة، ومثل هذا الاغتراب الزماني أمر لا مفرَّ منه بالنسبة إلى كل مَن يلتمس في التراث إجاباتٍ كاملةً عن الأسئلة التي يثيرها العصر الحاضر؛ فهو مفروض على ذلك الذي يبحث في التراث اللغوي عن كل ألفاظ العصر المستحدثة، ويعتقد أنَّ عجزنا اللغوي إنَّما يرجع إلى عدم قدرتنا على التنقيب عن كنز الألفاظ والتعبيرات التي كانت تُعبِّر عن كل ما نريده من معانٍ في التراث اللغوي، وهو مفروض على مَن يلتمس في حكمة الأقدمين حلًّا لكل مشكلات العصر الأخلاقية، وعلى مَن يجد في سلوك القدماء في المعارك مرشدًا وموجِّهًا في الحرب الحديثة، إلى آخر هذه الأمثلة التي يحفل بها عالم الفكر في بلادنا العربية. مثل هذه الأنماط الفكرية — وهي كثيرة — لا بدَّ أن تكون مغتربة، حتى لو تنكَّرت للعصر الذي تعيش فيه، وسَعَت إلى قطع روابطها به، وظلَّ فكرها وقلبها مرتبطًا بالعصر القديم، الذي تتركَّز فيه كل آمالها؛ ذلك لأنَّ الحاضر يفرض نفسه على المرء مهما حاول أن يهرب منه. إنَّه حولكَ أينما ذهبت، ومهما دفنتَ رأسك في رمال الصحراء، أو في رمال البيداء، ولا بدَّ أن يظهر الاغتراب في حياة هؤلاء المتنكرين للعصر على شكل عجز عن فهم ما يدور فيه أو عدم قدرة على السلوك السوي، أو تمسُّك بعادات لا تَلقى من الآخرين إلَّا السخرية، أو — على أحسن الفروض — إحساس طاغٍ بأنَّ كل شيء في العصر الحاضر خطأ، وبأنَّ الأيام الطيبة قد ولَّت إلى غير رجعة، وبأنَّ المرء قد كُتب عليه أن يعيش في عصر ويتعلَّق بعصر آخر، وهذا الإحساس هو قمة الاغتراب، وقمة العجز عن التكيُّف، الذي يعكس أزمة التخلف الفكري في أجلى صورها.

إنَّ المأساة التي تنطوي عليها هذه الأزمة هي أنَّ أصحاب هذا الاتجاه يبحثون عن الانتماء، ويفتشون عن جذورهم العميقة، ولكنَّهم يزدادون اغترابًا كلَّما توهموا أنَّهم دعموا روابطهم بهذه الجذور، لأنَّ ذلك الاغتراب الزمني قد يكون أخطر من الاغتراب المكاني. فصحيح أنَّ مَن يرتبط إلى حدٍّ مفرط بثقافة معاصرة تنتمي إلى مجتمع غريب عن مجتمعه هو — إلى هذا الحدِّ — شخص مغترب، ولكنْ ألا يؤدِّي بعد الشُّقَّة في الزمان إلى اغتراب أخطر؟ ألا يمكن أن تكون ثقافة المجتمع الذي ننتمي إليه غريبةً عنَّا إذا كان يفصلها عنَّا بُعد زمني وحضاري هائل؟ وهل نستطيع أن نقول بصدق إنَّنا منتمون، حين نتعلق بثقافة هي حقًّا منتمية إلى مجتمعنا، ولكنَّها ظهرَت في عصر تختلف جميع مقوماته عن عصرنا، إلى حدِّ أنَّنا لا نستطيع أن نتعرف على أيٍّ منها في حياتنا الراهنة؟ ألا تزداد وطأة هذا النوع من الاغتراب في عصرنا الحاضر بالذات، حيث أصبح الجيل الجديد منفصلًا عن الجيل السابق عليه مباشرةً ﺑ «فجوة» أصبحَت موضوعًا للدراسات ومثيرة للأزمات؟

إنَّ المكان في عصرنا ينكمش، والعالم يتجه إلى التقارب الفكري وتكوين ثقافة ذات طابع عالمي تقوم فيها التكنولوجيا الحديثة بمهمَّة تخفيف الحواجز بين الثقافات المحلية، وفي مقابل ذلك تحدث في الزمان حالة عكسية، فهو يزداد امتدادًا إلى حدِّ أنَّ الفارق بين جيلَين متعاقبَين قد يزيد الآن عن الفارق بين عشرة أجيال في القرون الماضية. وفي مثل هذا العصر الذي تزداد فيه المسافات الزمانية اتساعًا وتزداد فيه المسافات المكانية ضيقًا، قد تكون العودة إلى ثقافة سحيقة القِدَم مؤدِّية إلى اغترابٍ أشدَّ من ذلك الذي يؤدِّي إلى التعلق بثقافة بعيدة مكانيًّا. وبطبيعة الحال فإنَّ المغتربين زمانيًّا ينكرون ذلك عن طريق نظرة مُعيَّنة إلى الزمان، يؤكدون فيها أنَّ التغير وهم، وأنَّ الزمن لم يتقدَّم، وأنَّ التطور خداع؛ أيْ إنَّهم يعزُّون أنفسهم بنظرة سكونية إلى الزمان، ولكن التسارع المتزايد للتغير يُثبت أنَّهم، في هذا أيضًا، إنَّما يخدعون أنفسهم.

(٧) عن إحياء التراث

تبدو النغمة التي نختم بها هذا البحث نغمةً حزينة؛ إذ يتضح منها أنَّ مَن ينكر التراث مغترب، ومَن يتمسَّك به مغترب، ويبدو — تبعًا لذلك — أنَّ القصور والعجز الفكري أمر مكتوب على الجميع.

على أنَّ هدفنا — كما قُلنا في مستهلِّ هذا الفصل — ليس حلَّ إشكال التخلف الفكري، بقدْر ما هو إلقاء ضوء جديد على بعض المفاهيم الأساسية التي يشيع استخدامُها عند معالجة موضوع التخلف. ومن المؤكد أنَّ تصحيح هذه المفاهيم، أو على الأقل كشف أوجه القصور والخطأ في استخداماتها الجارية، هو أمر له فائدته الإيجابية؛ لأنَّه يُمثِّل الخطوة الأولى في الطريق السليم، ونحن لا نطمع في أن نحقِّق أكثر من هذه الخطوة الأولى، أمَّا بقية الخطوات فإنَّها رسالة جيل كامل، ومجتمع بأَسره، إذا توافر شَرطَا الاقتناع والإرادة.

وتحقيقًا لهذا الهدف، نودُّ أن نختم هذا الفصل بعرض لأهم المفاهيم والأفكار التي يمكن أن يؤدِّيَ هذا البحث إلى تغييرها، وهو عرض لا يقتصر على تلخيص ما جاء من قبل في البحث، بل إنَّه يستخلص بعض النتائج التي تؤدِّي إليها المقدمات المعروضة في البحث، والتي لا تظهر في هذه المقدمات إلَّا بصورة ضمنية.

  • أولًا: إنَّ معنى التراث ذاته في ثقافتنا المعاصرة يحتاج إلى مراجعة أساسية؛ ذلك لأنَّ التراث الحقيقي هو الذي يندمج في التاريخ اللاحق ويصبح جزءًا لا يتجزأ منه، أمَّا التراث المنقطع، وغير المندمج، فربما لم يكُن يستحقُّ هذا الاسم. وما دامت كثير من مبادئ هذا التراث ومقوِّماته لم تصبح (لأسباب متعددة) جزءًا من تكوين العقل العربي (بالمعنى الذي أصبحَت به مبادئ بيكون وهيوم جزءًا من العقلية الإنجليزية، أو مبادئ ديكارت جزءًا من العقلية الفرنسية)، فإنَّ شرطًا أساسيًّا من شروط «التراث» لا يتوافر فيها.
  • ثانيًا: يترتب على ذلك أنَّ فكرة «إحياء التراث» لها عندنا موقع فريد ومعنًى غير مألوف؛ ذلك لأنَّ التراث، بالمعنى الحقيقي، أعني التراث «المندمج»، لا يحتاج إلى إحياء، لأنَّه حي بطبيعته، حتى في تجاوز التطورات التالية لها وتصحيحها إياه، بل في تفنيدها له. أمَّا الإحياء الذي تشيع الدعوةُ إليه، فهو بعث للماضي بطريقة لا تاريخية، وإعادة كشف له بعد طول انقطاع في عصر مختلف، مع توقُّع قيامه بوظيفة لا يستطيع التراث الحقيقي أن يقوم بها على الإطلاق، وهي حلُّ مشكلات الحاضر.
  • ثالثًا: إذَن، فالمشكلة الحقيقية التي جعلَت من نظرتنا إلى التراث عاملًا رئيسيًّا في تخلُّفنا الفكري، ليست كون هذا التراث مليئًا بالعناصر الغيبية أو الخرافية أو اللاعقلية (مع اعترافنا بالخطورة الشديدة لهذه العناصر)، بل في كون هذا التراث مُنافسًا للحاضر بطريقة «لا تاريخية». والوضع الصحيح هو ألَّا تكون هناك أيَّة منافسة بين الماضي والحاضر، لأنَّ الحاضر يضمُّ الماضي في داخله ويتفوَّق عليه بنفس المعنى الذي تتفوَّق به الأجيال الجديدة على الأجيال القديمة، دون منافسة بينها. فالمفاضلة بين الماضي والحاضر أمر لا معنى له، إذا كانت النظرة إلى التراث الفكري سليمةً وصحيحة، على حين أنَّ هذه المفاضلة تشعل قدْرًا هائلًا من خلافاتنا الفكرية وصراعاتنا الأيديولوجية.
  • رابعًا: ومعنى ذلك أنَّ التشخيص الذي نقدِّمه لظاهرة التخلف الفكري يتخلَّص من التضاد بين أنصار التراث وخصومه، ويتجنَّب أخطاء الفريقَين المستمرة، من لوم للتراث بلا تحفُّظ، أو امتداح له إلى حدِّ إطالة فاعليته حتى العصر الحاضر، لأنَّ هذا التشخيص يضع التراث في إطاره التاريخي، ويؤكد الفارق النوعي بينه وبين الحاضر، أي استحالة المقارنة بينهما. وهكذا يُتيح لنا هذا التحديدُ للمفاهيم أن نتجنَّب الوقوع في شِراك المعركة التي لا تنتهي بين أنصار الماضي وخصومه، والتي يرى فيها كل فريق ما يريد أن يراه في التراث في ضوء فهمه للحاضر ولطريقة السلوك فيه.
  • خامسًا: من هذه النقطة الأخيرة يتبيَّن لنا أنَّ الصراعات الحقيقية حول التراث هي في الواقع صراعات حول الحاضر. فإذا كنت ترى في التراث ما يؤيد الفكر الاشتراكي مثلًا، أو كنت ترى فيه ما يؤيد الحكم الثيوقراطي المبني على سُلطة الدين وحدها، فإنَّ الخلاف بين هذا وذاك لا يرجع إلى موقفَين متعلقَين بطريقة فهم التراث، بقدْر ما يرجع إلى موقفَين متعلقَين بالحاضر، يتمُّ إسقاطُهما على التراث.
  • سادسًا: ومعنى ذلك أنَّ مشكلة التراث ترتدُّ في حقيقتها، إلى ما فعلناه نحن به، وطريقة تناول العصور التالية له، وموقفها منه. فإذا كانت تختزنه بطريقة سلبية دون انتفاع ودون تداول، فإنَّها تُعبِّر بذلك عن عجزها هي، لا عن عجز التراث في ذاته. ولذلك فإنَّ تخلُّف التراث هو تخلُّفنا نحن، وعيوبه هي عيوبنا.
  • سابعًا: إنَّ إصلاح حاضرنا من خلال منطق العصر هو الإحياء الحقيقي للعناصر المجيدة والزاهية في تراثنا، حتى لو لم يكُن من الممكن التعرف على هذه العناصر في ثقافتنا الحالية. ولا بدَّ أن يؤدِّيَ امتلاء الحاضر بالمعنى وبالمضمون والهدف إلى نظرة أكثر ثقة، وأكثر موضوعيةً إلى التراث. أمَّا فراغ الحاضر وعجزه فهو الذي يؤدِّي إلى تشويه فكرتنا عن الماضي، إمَّا بالمدح الزائد وإمَّا بالذم المفرط.

وبعد، فإنَّ الكثيرين يدعون إلى عصر نهضة، موازٍ لعصر النهضة الأوروبية، في العالم العربي. وأنا لستُ ضدَّ هذا الرأي، لأنَّ كثيرًا من الصراعات التي كانت تدور في عصر النهضة الأوروبية بين عقلية العصور الوسطى والعقلية البادئة في التحرُّر، تدور في حياتنا المعاصرة. كما يظهر فيها ذلك التعايش غير المستقر، وغير المريح، بين هاتين العقليتَين. وكل ما أودُّ أن أقوله هو أنَّ عصر النهضة العربية، حيث يحدث في الرُّبع الأخير من القرن العشرين، لا بدَّ أن يكون مختلفًا بصورة جِدِّية عن نهضة تحدث في القرن السادس عشر. كما أنَّ سلوك أولئك الذين يجدون أمامهم أمثلةً سابقةً شقَّت الطريق أمام العالم، ينبغي أن يكون مختلفًا عن سلوك أولئك الذين كانوا روَّادًا أوائل لهذا الطريق، والذين تحمَّلوا وحدهم عبء التجربة الأولى وعانَوا مشاكلها. ومع كل ذلك فقد كانت نظرتهم إلى تراثهم، في عصر نهضتهم، نظرةً ناضجة، لا تخجل من الاعتراف بالاختلاف الجذري بينه وبين حاضرهم الجديد، وكانت بذلك عاملًا حاسمًا في القضاء السريع على تخلُّفهم الفكري. فهل نقبل نحن أن تكون نظرتنا إلى التراث، في عصر نهضتنا الحالي، أقلَّ نضوجًا، وأشدَّ تخلُّفًا؟

١  بحث قُدِّم إلى ندوة «أزمة التطور الحضاري في العالم العربي»، الكويت، ١٩٧٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤