الفصل الثالث

العلمانية ضرورة حضارية

دخلَت كلمة «العلمانية» تاريخنا المعاصر، خلال العقدَين الأخيرَين، من أوسع أبوابه، ولا يعني ذلك أنَّ أول عهدنا بهذه الكلمة كان في بداية السبعينيات، فقد كان للكلمة تاريخ سابق، تمتدُّ جذوره إلى أوائل القرن، ولكنَّها أصبحَت في العقدَين الأخيرَين لفظًا من أوسع الألفاظ تداولًا، لا في الأوساط الثقافية وحدها، كما كانت من قبل، بل في الدوائر السياسية والمنابر الدينية والندوات الاجتماعية والاقتصادية، ولم يعد يخلو منها كتاب يتناول أيَّ جانب من جوانب الحياة في العالم العربي والإسلامي المعاصر، ولا يكاد يظهر عدد من صحيفة أو مجلة عربية معاصرة إلَّا وكان للحديث عن العلمانية فيه نصيب.

ولكن العجيب في أمر هذه الكلمة الواسعة الانتشار، أنَّ معظم مَن يستخدمونها لا يستطيعون أن يحدِّدوا لها معنًى دقيقًا، بل إنَّ المرء قد يقرؤها ويتداولها في حديثه مراتٍ ومرات، ثم يتساءل بعد ذلك: ولكنْ ماذا تعني العلمانية بالضبط؟ وقد استمعتُ بنفسي إلى مثقفين على مستويات عالية يطلبون تحديدًا وافيًا لهذه الكلمة، بعد أن ضاعت المعاني في أذهانهم وتميَّعَت وغامت وسط ضباب الاستخدامات العشوائية والقوالب المزيفة. ولا عجب في ذلك كله؛ فقد تداخلَت في هذا اللفظ أفكار فلسفية وتاريخية وحضارية ودينية. والأخطر من ذلك أنَّ طريقة استخدام الناس له قد تأثَّرت بميولهم الأيديولوجية، فانسابت إليه شحنات انفعالية من التحمُّس والاستحسان، أو من السخط والاستنكار الحاد، حتى لم يعد لفظًا «محايدًا» يستطيع المرء تحديد معناه بالعقل والمنطق، بل أصبح «الانحياز»، وربما «التحيُّز»، والرغبة في الدفاع عن النفس، أو السعي إلى تجريح الخصوم، هو الذي يتحكَّم فيما نُضفيه على هذا اللفظ من معانٍ. وفي وضع كهذا يستحيل أن تتجلى المعاني الصحيحة لهذه الكلمة التعيسة الحظ، ولا يعود التخبُّط والتضارب في استخدام الناس لها أمرًا مستغربًا.

وسوف آخذ على عاتقي، في هذا البحث، محاولة تبديد الغموض المحيط بلفظ «العلمانية»، وبيان العوامل التي جعلَت الخلط في استخدامه، في حياتنا الثقافية والسياسية المعاصرة، هو القاعدة، لا الاستثناء. وأنا على وعي تام بأنَّ محاولتي بأَسرها يمكن أن تبدوَ في نظر كثير من القرَّاء «منحازة»، لأنَّني من المصنَّفين ضمن «العلمانيين» في لغة الجدل الثقافي والسياسي المعاصر، ولكني آمُل، في الصفحات التالية، أن أُثبت أنَّ هذا التصنيف ذاته جزء من المشكلة التي نودُّ تبديد غوامضها، وأنَّ لصق بطاقة «العلمانية» بلا تمييز على أشخاص مُحدَّدين أو اتجاهات مُعيَّنة في هذه الفترة من تاريخنا، من أوضح أعراض المرض الذي نسعى في هذا البحث إلى تشخيصه.

(١) العلمانية بين العلم والعالم

ثار جدال واسع، في حياتنا المعاصرة، حول أصل لفظ «العلمانية»، وهل هو منسوب إلى «العلم» أم إلى «العالم»، فإذا كان مشتقًّا من «العلم»، وجب أن تكون عين «العلمانية» مكسورة، وإن كان مشتقًّا من العالم، وجب أن تكون مفتوحة، وربما وجب أن تكون كتابة اللفظ نفسه هي «عالمانية». ومن الطريف أنَّ مُفكرين من المنسوبين إلى المعسكر «العلماني»، مثل زكي نجيب محمود، وآخرين من المعسكر المضاد للعلمانية، مثل أنور الجندي، ومعظم مُنظِّري الحركة الإسلامية المعاصرة، قد اتفقوا على الرفض القاطع لنسبة العلمانية إلى «العلم»، وأكَّدوا أنَّ اللفظ منسوب إلى «العالم».

ولا شكَّ في أنَّ الربط بين العلمانية وبين معنى «العالم» أدقُّ من الربط بينها وبين «العلم». ولو شئنا الدقة الكاملة لقُلنا إنَّ الترجمة الصحيحة للكلمة هي «الزمانية»؛ لأنَّ اللفظ الذي يدلُّ عليها في اللغات الأجنبية (أيْ Secular في الإنجليزية مثلًا) مشتقٌّ من كلمة لاتينية تعني «القرن Saeculum».

فالعلمانية إذَن ترتبط، في اللغات الأجنبية، بالأمور الزمنية، أيْ بما يحدث في هذا العالم وعلى هذه الأرض، في مقابل الأمور الروحانية التي تتعلَّق أساسًا بالعالم الآخر. ومع ذلك فإنَّ الشُّقَّة ليست بعيدةً بين الاهتمام بأمور هذا العالم، وبين الاهتمام بالعلم؛ ذلك لأنَّ العلم بمعناه الحديث لم يظهر إلَّا منذ بدء التحوُّل نحو انتزاع أمور الحياة من المؤسَّسات التي تمثِّل السُّلطة الروحية وتركيزها في يد السُّلطة الزمنية. والعلم بطبيعته زماني، لا يزعم لنفسه الخلود، بل إنَّ الحقيقة الكبرى فيه هي قابليته للتصحيح ولتجاوز ذاته على الدوام. وهو أيضًا مرتبط بهذا العالم، لا يدَّعي معرفة أسرار غيبية أو عوالم روحانية خافية، ومن ثَم فهو يفترض أنَّ معرفتنا الدقيقة لا تنصبُّ إلَّا على العالم الذي نعيش فيه، ويترك «ما وراء هذا العالم» لأنواع أخرى من المعرفة، دينيةً كانت أم صوفية.

فالنظرة العلمية «عالمانية» بطبيعتها، تنصبُّ على هذا العالم وتركز جهدها على فهم قوانينه. ولم يصبح العلم علمًا إلَّا منذ أن ركَّز اهتمامه على فهم هذا الكون المنظور، وترك شئون الآخرة للدين. ورفض أيَّة محاولة للخلط بين المجالَين. كذلك فإنَّ النظرة العلمية «زمانية» بمعنى أنَّها تعترف بأنَّ العلم متغير، متطور، لا مكان فيه لحقيقة أزلية. فالعلم ما هو إلَّا تعبير عن نزوع «هذا الإنسان» إلى فهم «هذا العالم» الذي يعيش فيه. ومن هنا فإني أعتقد أنَّ الضجَّة التي أُثيرَت حول استخلاص كلمة «العلمانية» من العالم أو من العلم، هي ضجَّة مبالَغ فيها، لأنَّ كلًّا من المعنيَين لا بدَّ أن يؤدِّيَ إلى الآخر.

هذا هو الأصل اللغوي، والتاريخي، لهذه الكلمة التي لم تُتداول في لغتنا إلَّا بوصفها ترجمةً لكلمة أجنبية معروفة. ومع ذلك فما أكثر ما أُسيء استخدام لفظ «العلمانية» في زمننا الحاضر، وخاصةً على أيدي خصومه! وإذا كان تفنيد المغالطات التي يرتكبها خصوم العلمانية — عن عمد أو عن جهل — هو مهمَّة هذا البحث بأكمله، فلا بأس هنا من أن نشير إلى نقطتَين على قدْر كبير من الأهمية، فيما يتعلق بالعلمانية المعاصرة؛ ذلك لأنَّ اللفظ في الأصل تعبير عن وضع حضاري ظهر في أوروبا منذ عصر النهضة، وما زال هو الذي يميز موقف الغرب من شئون الدنيا والدين حتى يومنا هذا، ولا جدال في أنَّ انتقال اللفظ إلى حياتنا المعاصرة في العالم العربي قد تولَّدت عنه مشكلات خاصة، وأضفى على الكلمة ذاتها ظلالًا جديدةً من المعنى.

(٢) هل العلمانية مشروع متكامل؟

لا بدَّ لنا، لكي نوضح سمات العلمانية في بلادنا، من أن نميز بين مرحلتَين للعلمانية في عالمنا العربي الحديث؛ الأولى هي العلمانية التي ظهرَت في زمن الصدمة الحضارية مع الغرب، والثانية هي علمانية العصر الحاضر؛ أعني الرُّبع الأخير من القرن العشرين.

ففي أواخر القرن التاسع عشر كان العلم الأوروبي قد بلغ أوج ازدهاره، وكان التفاؤل بانتصار العلم على كل ما يعترض الإنسانية من مشاكل وعقبات يبهر العقول، حتى في أوروبا ذاتها، ويدفعها إلى استخلاص نتائج بعيدة كل البعد عن دقة العلم ذاته، وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الانبهار على مُفكرين كبار في عالمنا العربي، فيؤكدون أنَّ الخلاص من تخلُّف القرون الوسطية، الذي كان لا يزال يلازمنا في جوانب أساسية من حياتنا، لن يتحقَّق إلَّا بأخذ النموذج العلماني الأوروبي بكل عناصره. ودون أيِّ خوض في تفاصيل الآراء التي قال بها مُفكرون مثل سلامة موسى وشلبي شميل وإسماعيل مظهر، ودون أيَّة محاولة للحكم عليهم، فإنَّ تلك العلمانية الأولى، والأقدم، كانت تتسم بالسمات الثلاث التالية:
  • (١)

    أنَّها كانت إيجابية، بمعنى أنَّها تسعى إلى تحقيق هدف حضاري مُحدَّد المعالم، هو بناء المجتمع على النموذج الأوروبي الحديث.

  • (٢)

    ويترتب على السمة السابقة أنَّها كانت مشروعًا متكاملًا، يستهدف تحديث كل جوانب الحياة على النمط الغربي. وبهذا المعنى يمكن أن يُعَدَّ «محمد علي» أول علماني حقيقي في العالم العربي الحديث، وصاحب أول مشروع متكامل للنهضة، كان قوامه التحديث الشامل على النمط الأوروبي. وكل ما في الأمر أنَّ علمانيته كانت تتمثَّل في ميدان الممارسة، أيْ في مجالات كالسياسة والاقتصاد والتعليم، ولم يكُن يساندها فكر نظري واعٍ، وإنَّما احتاج هذا الفكر إلى ما يقرب من قرن لكي يتبلور عند مجموعة المُفكرين المذكورين من قبل.

  • (٣)

    وأخيرًا، فقد كانت تلك العلمانية الأولى موجَّهةً أساسًا ضدَّ أوروبا، وقد تبدو هذه مفارقة، ولكن من المعروف أنَّ الهدف المعلَن لروَّاد هذا التيار كان الاقتداء بأوروبا من أجل التحرر من أوروبا، لأنَّ التقدم العلمي والتكنولوجي الغربي لا يُقهَر إلَّا بتقدم مماثل.

وفي ضوء هذا التحديد لسمات العلمانية في مرحلتها المبكرة الأولى، نستطيع أن نلمح، عن طريق المقارنة والتضاد، السمات المميزة للعلمانية المعاصرة، أي المتأخرة؛ ذلك لأنَّ السياق التاريخي الذي ظهرَت فيه هذه العلمانية المتأخرة كان مختلفًا إلى حدٍّ بعيد. فقد مرَّت بلادنا بتجارب متعددة فيما بين المرحلتَين، شهدت فيها انتصارات وعانت من هزائم ونكسات على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي. ولم تعد مشكلة التحرر من الاستعمار هي المسيطرة، بل أصبحَت قضية التنمية، وقدرة المجتمع على تحقيق الحدِّ الأدنى اللازم لبقاء حياته على مستوًى معقول، هي الشغل الشاغل. وتصارعَت في مجتمعاتنا اتجاهات ليبرالية ويسارية وقومية، ولكن التيار الذي اجتذب الجموع الكبيرة وأثار خيالها وداعبها بأعرض الآمال كان التيار الإسلامي. ولأسباب عديدة، لا يتسع المقام هنا لشرحها، اكتسح هذا التيار الإسلامي بقية التيارات واختطف منها قاعدتها الجماهيرية. وسُرعان ما تجاوز الأُطر الضيقة التي كانت السُّلطات الرسمية تعتقد أنَّها ستحصره فيها، وتجاوزَت طموحاته بمراحل ذلك المستوى المحدود، الذي أرادته له تلك القُوى التي فتحَت له الأبواب وأمدَّته بالعون المادي والمعنوي، فلم يعد هدفه، كما كان يُراد له في مبدأ الأمر، إسكات الأصوات التي تُنادي بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية — وهي أصوات تنتمي إلى تيارات سياسية متعددة — وإنَّما أصبح له مشروعه الخاص، وأصبح يتطلع إلى بناء دولته الخاصة، واكتسبَت دعوته طابعًا شديد الإيجابية، شديد العدوانية. وكان من الطبيعي أن يزداد شمول الحركة الإسلامية ويتسع إطارها، من مجرَّد دعوة تستهدف تقوية الدَّور الذي يلعبه الدين في حياة الأفراد، إلى المناداة بتوجيه المؤسَّسات ذاتها — وليس الأفراد فحسب — في الاتجاه الديني، وإخضاع كافة أنظمة المجتمع لسُلطة الدين. وهكذا اتجهَت شعارات الحركة نحو المزيد من الطموح، فإذا بها تُنادي بصبغ الدولة، سياسيًّا، بالصبغة الإسلامية، وهو هدف يقتضي، بطبيعة الحال، إعادة بناء التشريع على نمط «الشريعة» الإسلامية. وسرعان ما انتقلَت الدعوة إلى الميدان الاقتصادي، فأصبحَت تُنادي بصبغ المؤسَّسات الاقتصادية بالصبغة الإسلامية، وتقرن القول بالفعل، فتُنشئ البنوك أو المصارف الإسلامية، وشركات توظيف الأموال العملاقة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى المؤسَّسات الفكرية والثقافية، فتُغرق الأسواق بطوفان من الكتب والنشرات والمجلات، يستهدف صبَّ عقول جيل كامل في قوالبها الخاصة، بل وتفرض رقابتها بالقوة على الأنشطة الفنية، فتمنع إقامة المسرحيات والحفلات الغنائية والراقصة، وتدعو أنصارها — في بعض حالاتها المتطرفة — إلى مقاطعة التليفزيون، وتطالب بالزيِّ الإسلامي في الألعاب الرياضية … إلخ.

اتَّجهَت الحركة الإسلامية المعاصرة إذَن إلى المزيد من الفعل الإيجابي، وإلى المزيد من التوسع والشمول وصبِّ كافة جوانب الحياة وجميع مؤسَّسات المجتمع في قوالبها الخاصة. وكان من الطبيعي أن يكون لهذا تأثيره الحاسم على مفهوم العلمانية في المرحلة المعاصرة من تاريخنا.

فقد أصبحَت العلمانية الآن دفاعيةً قبل كل شيء، بمعنى أنَّها تستهدف مقاومة هذا التيار الجارف، ولا تستهدف بناء مشروعها الخاص، كما كان حال العلمانية في أوائل القرن العشرين. إنَّها الآن علمانية سلبية، تعرف جيدًا ما لا تريد، ولكنَّها لا تتوحَّد حول هدف إيجابي يُحدِّد لها ما تريد. فالعلمانية اليوم تضمُّ القومي واليساري والليبرالي والمثقف غير المسيَّس، وبقدْر ما يختلف هؤلاء في تعريف مفهوم التقدُّم أو الإصلاح أو النهضة، وفي تحديد نوع المسار الذي يسعَون إلى توجيه المجتمع نحوه، فإنَّهم يتفقون جميعًا على رفض الأهداف العامة التي يدعو إليها التيار الإسلامي، ويتَّحدون في الاقتناع بأنَّ نوع التنظيم الذي يُنادي به هذا التيار لن يحُلَّ من مشكلات المجتمع الحقيقية شيئًا، بل إنَّه لا بدَّ أن يضاعف من حدَّة هذه المشكلات، فضلًا عمَّا سيؤدِّي إليه، عاجلًا أو آجلًا، من غلبة أسلوب الصراع الدموي على أسلوب الحوار الديمقراطي.
إنَّ العلمانية المعاصرة، إذَن، ذات سمات تُميِّزها بوضوح عن علمانية المرحلة المبكرة من القرن العشرين:
  • (١)

    فهي لا تكوِّن مشروعًا مُتكاملًا ينافس المشروعات الأخرى للنهضة.

  • (٢)

    وهي لا تُمثِّل مذهبًا تقول به مجموعة متجانسة أو متقاربة الاتجاه، وإنَّما تضمُّ في داخلها جماعاتٍ شديدة التباين في توجُّهها الأيديولوجي.

  • (٣)
    هذه الجماعات المتباينة تشترك كلها في رفض المشروع الذي تُقدِّمه الحركة الإسلامية المعاصرة، أيْ إنَّها تشترك في السمات السلبية بقدْر ما تختلف في التوجُّهات الإيجابية، ويترتَّب على ذلك أنَّ العلمانية المعاصرة دفاعية في المقام الأول.

وهكذا نلمس بوضوح الفارق بين التيار الإسلامي المعاصر، والاتجاه العلماني الذي يتصدَّى له، فالتضاد بينهما ليس تضادًّا بين «مشروعَين»، وإنَّما هناك مشروع إسلامي من ناحية، ومحاولات دفاعية لنقد هذا المشروع وبيان نقاط الضعف فيه من ناحية أخرى. وهو ليس تضادًّا بين أيديولوجيتَين، لأنَّ هناك من جهة أيديولوجية إسلامية (تختلف تياراتها في بعض التفاصيل، ولكن الاتجاه العام، والاستراتيجية البعيدة المدى، متقاربة)، وهناك من جهة أخرى مجموعة من الأيديولوجيات الشديدة التباين، التي لا يجمع بينها سوى رفض الحلِّ السياسي الذي يقترحه التيار الإسلامي.

ولا جدال في أنَّ هذا الوصف للعلمانية المعاصرة، في عالمنا العربي، بأنَّها «ردُّ فعل» أكثر ممَّا هي «فعل»، لا بدَّ أن يثير في أذهان الكثيرين اعتراضًا له ما يُبرِّره، وهو أنَّ العلمانية بهذا الوصف تقبل ببقاء الأوضاع على ما هي عليه، وتُركِّز جهودها على إيقاف «التغيير» الذي يدعو إليه التيار الإسلامي. وفي الوقت الذي يتقدَّم فيه التيار الإسلامي إلى الملايين من أنصاره بدعوة جريئة إلى تغيير أوضاع المجتمع من جذورها، وهي دعوة تنطوي، صراحةً أو ضمنًا، على رفض جذري لتلك الأوضاع، يبدو أنَّ كل ما تستهدفه العلمانية هو إسكات صوت هذه الدعوة القوية إلى التغيير، وبالتالي فإنَّ فكرتها تنطوي، صراحةً أو ضمنًا أيضًا، على قبول للأوضاع السائدة.

غير أنَّ مثل هذا الاعتراض لا يرتكز، في واقع الأمر، إلَّا على فهم سطحي لموقف العلمانية المعاصرة، وأيَّة محاولة للغوص في أعماق هذا الموقف لا بدَّ أن تكشف عن صورة مختلفة جذريًّا؛ فالعلمانيون المعاصرون، بكافة فصائلهم وجميع اتجاهاتهم، يريدون أن تستمرَّ تلك التحوُّلات الجدليَّة، ما بين طرف وطرف مضاد، في حركة المجتمع، تلك التحوُّلات التي تؤكِّد حيوية المجتمع وقدرته على تجديد نفسه وتصحيح مساره. غير أنَّهم يريدون، بكل الإصرار، أن يستمرَّ الصراع بين أطراف هذه الحركة «بشريًّا»، أيْ أن يدور بين جماعات لا تزعم واحدة منها أنَّها هي الناطقة بلسان السماء، وتكتسب بذلك لنفسها، على حساب الآخرين جميعًا، مكانةً لا تستحقُّها. ويؤكِّد العلمانيون أنَّ إقحام «السماء» أو الاستعانة بها من أجل تغليب طرف على طرف، يشوِّه جميع القضايا ويُعطِّل حلولها ويضع الصراعات كلها في إطار زائف، تسوده الشكليات ويختفي منه الجوهر، ولا يعود العقل والمنطق والقدرة على الإتيان بالحلول الواقعية الناجحة هو أساس المفاضلة بين تيار وآخر. وواقع الأمر أنَّه، مهما كان المدى الذي يستعين فيه التيار الإسلامي بالنصوص الإلهية المقدسة، فإنَّ هذا التيار يظلُّ بشريًّا، ووجهات نظره هي وجهات نظر آدميين لهم مصالحهم المحدَّدة (وأبسط دليل على هذا، التباين الشاسع بين عدد كبير من الاتجاهات التي يؤكِّد كلٌّ منها أنَّه هو وحده الناطق بلسان الإسلام، لأنَّ صوتهم لو كان إلهيًّا بحقٍّ لَمَا أمكن حدوث أيِّ اختلاف فيه). وكل ما يريده العلمانيون هو أن ينزل كل طرف إلى ساحة الصراع وهو معترف بأنَّه يُمثِّل وجهة نظر بشرية تحتمل الصواب أو الخطأ، وأن يدور هذا الصراع على أساس البقاء للأصلح عقلًا والأكثر إقناعًا والأقدر على الحل، لا على أساس أنَّ «السماء» تنحاز إلى طرف واحد دون الآخرين.

وبعبارة أخرى، فإنَّ العلمانية المعاصرة، مهما اختلفَت اتجاهاتها، تطالب بتوفير الشروط الصحيحة التي يدور في إطارها أيُّ صراع اجتماعي، وهي أن يدور هذا الصراع على أرضية بشرية، وتطالب بأن يتحقَّق المناخ الصحي والسليم للاختيار الصحيح بين البدائل، سواء أكانت هذه البدائل قوميةً أم يساريةً أم ليبراليةً أم حتى رجعيةً محافِظة. وأيَّة دعوة إلى الارتكاز على سند سماوي في هذا الصراع، إنَّما هي تضليل يُخفي وراءه رغبةً دفينةً في إلغاء شروط هذا الصراع أصلًا.

•••

هذه العلمانية المعاصرة تخوض، ضدَّ التيار الإسلامي، معركةً غير متكافئة منذ السبعينيات وحتى اليوم. ولستُ أعني بذلك، بالطبع، أنَّ هذه المعركة لم تكُن قائمةً في العقود السابقة، وإنَّما الذي أعنيه هو أنَّ الوضع الراهن للمعركة بين العلمانية المعاصرة وبين التيار الإسلامي، كما حدَّدنا معالمه من قبل، قد تبلور بصورة واضحة منذ السبعينيات، أو إذا شئنا أن نرجع قليلًا إلى الوراء … من بعد نكسة ١٩٦٧م.

ولكن ما الذي جعلنا نصف هذه المعركة بأنَّها غير متكافئة؟ ومَن هو الطرف الأرجح كفَّةً في عدم التكافؤ هذا؟ إنَّ الإسلاميين قد دأبوا على القول إنَّهم هم الطرف المضطهد في هذه المعركة، ويدلِّلون على ذلك بتلك الانفجارات والخصومات العنيفة التي تنشب بين فصائل منهم وبين السُّلطة من حين لآخر، وتترتب عليها اعتقالات واضطهادات وتعذيب وأحكام بالسجن وربما بالإعدام. ومع ذلك، وبرغم اعترافنا بالحقيقة السابقة، ففي رأينا أنَّ عدم التكافؤ هذا يسير لصالح الإسلاميين وضدَّ العلمانيين؛ وها هي ذي الأسباب:
  • أولًا: إنَّ جميع المواجهات التي تمَّت بين الدولة وبين الإسلاميين كانت مواجهاتٍ سياسية، ولم تكُن أبدًا عقيدية. صحيح أنَّ الطرفَين يُضفيان على هذه المواجهات صبغة العقيدة، فتؤكِّد الدولة محاربتها للتطرف الديني بوصفه تفسيرًا باطلًا لتعاليم الإسلام، وتتصدَّى له بتجنيد عدد من دُعاتها الذين يعملون على تفنيده من منظور إسلامي بحت، كما يقوم الطرف الإسلامي، من جانبه، بانتقاد الإطار الفكري الذي يقوم عليه بناء الدولة بوصفه «علمانيًّا» أو «وضعيًّا»، وربما وصف الدولة بذاتها بأنَّها «كافرة» أو «جاهلية». ولكن من وراء هذا المظهر العقائدي تكمن خلافات سياسية حادَّة، هي الأصل والأساس في جميع المواجهات، ولو لم يكُن التيار الإسلامي يُشكِّل تحدِّيًا سياسيًّا — بالمعنى الواسع — للدولة، ولو كان شديد التطرف على المستوى العقائدي وحده — دون أن يحاول الخروج بدعوته إلى حيِّز العمل الذي يهدِّد إحساس جهاز الدولة بالأمان — لولا ذلك لَمَا حدثَت أيَّة مواجهة حادَّة بينه وبين الدولة، ومعنى ذلك أنَّ الصراعات الحامية التي تدور بين تلك الجماعات وبين الدولة لا يمكن أن تُتَّخذ دليلًا على اضطهاد الدولة، على المستوى الديني، للتيار الإسلامي.
  • ثانيًا: وعلى العكس من ذلك يمكن القول إنَّ الدولة قد ساندَت هذا التيار مساندةً معنويةً وماديةً كانت لها نتائج حاسمة في المرحلة الوسطى من السبعينيات. وقد أصبح من المُعترَف به الآن أنَّ بعض أجهزة الدولة كانت تساند الجماعات الإسلامية بالمال والتدريب، حتى تتغلَّب عن طريقهم على التيارات الديمقراطية واليسارية في الجامعات بوجه خاص، ممَّا يعني أنَّ التيار العلماني قد تلقَّى ضرباتٍ عنيفةً ضدَّه من جهاز الدولة الذي عمل بكل الوسائل على ترجيح كفَّة الجماعات الإسلامية.

    بل إنَّ من الممكن القول إنَّه عندما انتهى عهد المساندة المباشرة هذا؛ أعني حين أثبتَت الجماعات الإسلامية أنَّها لا تستطيع أن تظلَّ إلى الأبد أداةً في يد الحكومة، تضرب بها معارضيها الحقيقيين، وحين استشعرَت في نفسها القوة التي تغريها بأن تعمل لحسابها الخاص، ظلَّت الحكومة تساندها، ولكن بطريقة غير مباشرة، ففي أشدِّ أوقات الصراع العنيف بين جهاز الدولة وبين التنظيمات الإسلامية النشطة، كالتكفير والهجرة، والجهاد، والناجين من النار … إلخ. كانت الدولة تُسخِّر أجهزتها الإعلامية لنشر برامج دينية تزداد مساحاتها أو ساعات إرسالها باطِّراد، حتى ليمكن القولُ إنَّه كان هناك تناسب طردي بين درجة الحدَّة في الصراع بين الدولة والجماعات الدينية من جهة، وبين مقدار اهتمام الدولة بنشر الموضوعات الدينية وإذاعتها على أوسع نطاق من جهة أخرى. وكلَّما ازدادت حدَّة المعارك الأمنية أصبحَت الدولة أشدَّ حرصًا على إقناع المواطنين، من خلال أجهزة إعلامها، بأنَّها تُحارب أفرادًا أساءوا فهم الدين، ولا تُحارب الدين ذاته على الإطلاق. وبطبيعة الحال فإنَّ التوسُّع في بثِّ برامج الدعوة الدينية، على مستوًى متخلِّف في الغالب، إلى ملايين القرَّاء والمستمعين والمشاهدين، لا بدَّ أن يخدم التيار الإسلامي، حتى لو كانت بعض الموضوعات المنشورة أو المُذاعَة تهاجم فصائل مُعيَّنة منه، لأنَّ هذا التوسع يؤدِّي إلى توسيع قاعدة التديُّن الحَرفي، التي تستمدُّ منها الجماعات الإسلامية أعضاءها. ومعنى ذلك أنَّ الدولة ما زالت تخدم التيار الديني، ولكن بطريق غير مباشر، وقد يكون غير مقصود.

  • ثالثًا: لم تتنكَّر الدولة لجذورها الإسلامية في أيِّ عهد من العهود، ولم تُعرف في مصر، أو في أيِّ بلد عربي آخر، أيَّة حركة علمانية متطرفة تتشابه، ولو عن بُعد، بما هو مألوف في أوروبا أو أمريكا. ومن هنا فإنَّ الوصف الذي أُطلق على العهد الناصري، مثلًا، بأنَّه كان عهدًا علمانيًّا متطرفًا متنكِّرًا للإسلام، ما هو إلَّا أسطورة لا أساس لها من الواقع أو التاريخ. فقد أُنشئت في ذلك العهد مؤسَّسات إسلامية جديدة، ذات نشاط واسع النطاق في ميدان الدعوة والنشر، كالمؤتمر الإسلامي مثلًا. وكانت العقيدة تحظى بالاحترام الكامل على مستوى التعليم العام وفي كافة أجهزة الإعلام وخُطَب المسئولين. وبالطبع فإنَّ المصادمات التي حدثَت مع الإخوان المسلمين أساسًا هي التي أدَّت إلى خلق أسطورة العلمانية المتطرفة في العهد الناصري. وازدهرت هذه الأسطورة بين أفراد الجيل التالي الذين لم يشهدوا هذه الفترة، فصدَّقوا ما تقوله لهم الكتب والنشرات.

    وعلى المستوى الفردي لم يعرف أيُّ بلد إسلامي تطرفًا علمانيًّا بالمعنى السائد في معظم بلدان العالم المسيحي، ولم تظهر كتابات نقدية تمسُّ أيَّة جذور للعقيدة، من ذلك النوع الذي تخرجه المطابع كل يوم في البلاد الغربية. بل إنَّ أيَّ كاتب أُلصقَت به صفة العلمانية يراجع ما يكتبه مرارًا قبل أن ينشره، ويحرص دائمًا على أن ينفي عن نفسه تهمة الكفر، التي أصبح الجهلاء يهدِّدون بها كل مُفكر يسعى إلى إدخال بصيص من النور إلى العقول المظلمة. ولا جدال في أنَّ هناك إرهابًا فكريًّا شاملًا في هذا الميدان، لا تمارسه الحكومات بقدْر ما يمارسه الرأي العام نفسه، وعلى مَن يشكُّ في ذلك أن يُحلِّل مضمون كتابات العلمانيين ونوع الخطاب الذي يستخدمونه من أجل عرض أفكارهم، وسيجد عندئذٍ أنَّ كلَّا منهم يحرص على أن يؤكِّد براءته ويُثبت إخلاصه قبل أن يتفوه بكلمة نقدية واحدة، بل سيجد أنَّ حجج الغالبية الساحقة من العلمانيين ضدَّ تفسيرات الإسلاميين المعاصرين تُستَمَد كلها من داخل الإسلام نفسه، وتُقدَّم في إطار يؤكِّد حرص صاحبها على تأكيد براءته من التهمة التي يعلم مقدمًا أنَّها ستوجَّه إليه.

    ولا جدال عندي في أنَّ جميع الاتهامات التي توجَّه إلى العلمانيين في العالم الإسلامي بالتطرف، أو بأنَّهم يُشكِّلون ما يمكن تسميتُه ﺑ «تنظيم الجهاد العلماني» (قياسًا على التنظيم الإسلامي المتطرف المعروف). هذه الاتهامات تصدُر عن أناس محدودي الثقافة، ضيِّقي الأفق، لأنَّهم لو قارنوا أشدَّ ما يقوله العلمانيون في بلادنا لهجةً بأخفِّ ما يُقال في بلاد الغرب (أو حتى لو قارنوا ما يُقال اليوم بما كان يُقال في بلادنا في أول القرن العشرين)، لظهر لهم بوضوح أنَّ بلادنا لا تعرف في المرحلة الراهنة شيئًا اسمه التطرف العلماني، ما دامت جذور العقيدة تظلُّ في جميع الحالات مَصونةً لا تُمس.

  • رابعًا: وأخيرًا، فإنَّ أهمَّ وأقوى مظاهر عدم التكافؤ في المعركة الدائرة بين الإسلاميين والعلمانيين، هو أنَّ الطرف الإسلامي يستند إلى ذلك التراث الديني العميق المتأصل في النفوس، ويحتمي بالقداسة الدينية ويستمدُّ منها حُجَجَه، ويعمل على حصار الطرف الآخر؛ إذ يصوِّره بصورة الخارج عن هذا التراث أو المتحدِّي له. وهكذا تُتاح للطرف الأول كل الفرص لكي يصول ويجول، على حين يظلُّ سيف التكفير معلَّقًا على رقبة الطرف الثاني، دافعًا إياه إلى فرض القيود على عقله، مهما كانت براءة فكره، وإلى لجم لسانه حتى لو كان هدفه الأوحد خير أُمَّته وصلاح عقول أبنائها.

    ولهذه النقطة أهمية خاصة في المرحلة التي تشيع فيها المناظرات الكلامية أو المكتوبة بين مُمثِّلي التيار الديني وبين العلمانيين، فيزعم الأولون أنَّهم «انتصروا» في الحوار، مع أنَّهم في واقع الأمر لم يخوضوا المعركة بقُدراتهم الخاصة، ولم يبذلوا فيها جهدًا يُذكر، وإنَّما خاضها لهم التراث المتأصل والتديُّن الراسخ في نفوس الملايين، وتولَّى المواجهة بدلًا منهم، وكل ما فعلوه هو أنَّهم احتمَوا بهذه القلعة الحصينة، وتركوها تدافع عنهم. إنَّ المواجهة هنا أشبه بتلك المعارك التي كنَّا نألفها جميعًا في المراحل المبكرة من أعمارنا، حين يقف أحد الطفلَين على عتبة البيت الكبير الذي يسكنه إخوته وأبواه وأجداده وأعمامه، ويواجه طفلًا غريبًا عن الحي، فيستطيع بصيحة واحدة أن يستنفر عشيرته كلها لنُصرته، على حين يقف الآخر متردِّدًا في استخدام ما يملك من قُدرات، لأنَّ الأرض التي تدور حولها المعركة ليست أرضه … وبعد هذا كله يزعم الأول أنَّه هو المتفوق، وهو الذي انتصر.

    إنَّ الصراع في مثل هذه الحالة لا يدور بين فكر وفكر، وإنَّما بين فكر متردِّد يضع لنفسه ألف قيد وقيد، وبين «سُلطة» عاتية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يستغلها أحد الطرفَين بلا انقطاع كلما أعوزته الحجَّة العقلية، فيصيح صيحته المعهودة: احذروا الكافر! وربَّما تمكَّن بهذا الأسلوب من السيطرة على الساحة، لأنَّ النبع الذي ينهل منه هو التراث المتأصل في نفوس الملايين، ولكنَّه لا يُحقِّق هذه السيطرة بقُواه الخاصة على الإطلاق، ولا يحارب معركته أصلًا، بل يترك سلاح الإيمان المتأصل يحارب له معركته، ثم يزهو بعد ذلك بانتصاره ويتباهى بتفوقه!

    ومُجمَل القول أنَّ المعركة بين الإسلاميين والعلمانيين تظلُّ على الدوام معركةً غير متكافئة، على الرغم من الأساطير التي تُقال عن «اضطهاد» الفكر الإسلامي و«فتح الأبواب» أمام الفكر العلماني. ويكفي لكي يقتنع المرء بذلك أن يقارن عدد المجلات التي تُكرَّس، من الغلاف إلى الغلاف، لنشر وجهة نظر الجماعات الدينية المختلفة، وأن يسأل نفسه: هل توجَد في العالم العربي مجلة واحدة خُصِّصَت لنشر الفكر العلماني؟ إنَّ بعض الصحف السياسية قد تدخل من آنٍ لآخر في معركة ضدَّ تيار إسلامي، ولكنَّها لو كُرِّسَت للفكر العلماني وحده، واتَّخذت من مهاجمة فكر الجماعات الدينية هدفًا أوحد، لتعرَّضت هي ومَن فيها لأشدِّ الأخطار.

    وبطبيعة الحال فإنَّ هذا ينطبق، بصورة أوضح، على المساحات والأوقات المخصَّصَة للفكر العلماني وللفكر المُعبِّر عن وجهة نظر هذا الكاتب أو المُفكر الديني أو ذاك في الصحف اليومية، وفي ساعات الإرسال التليفزيوني والإذاعي، حتى في أشدِّ لحظات التوتر والخصومة بين الدولة وبين الجماعات الإسلامية.

(٣) نقد العلمانية

هناك سوء فهم أساسي يتعرَّض له مفهوم العلمانية والاتجاه الفكري العام الذي يوصَف بأنَّه علماني، والذي تُشارك فيه تيارات متعددة تختلف فيما بينها حول أمور كثيرة، وإن كانت تشترك في اقتناعها بأنَّ الصيغة التي يقترحها التيار الإسلامي ليست هي الحل. وقد يكون سوء الفهم هذا مقصودًا أو غير مقصود، ولكن الاستنتاج الذي لا بدَّ أن يصل إليه المرء حين يقرأ كتابات التيارات الإسلامية — مهما اختلفَت اتجاهاتها — عن العلمانية، هو أنَّ الموضوع بأسره مُشوَّه إلى حدٍّ مؤسف في أذهان أصحاب هذه الكتابات. وستكون مهمَّتنا في الجزء الباقي من هذا البحث، محاولة استخلاص مظاهر التشويه وسوء الفهم هذه من خلال تحليل الخطاب الإسلامي المعاصر، ومن خلال التشريح الدقيق للأسباب التي يؤكِّد من أجلها الإسلاميون المعاصرون، وبعض المتعاطفين معهم، أنَّ العلمانية لا مكان لها في أيِّ مجتمع يدين أهله بالإسلام.

وفي وسعنا أن نقسم الانتقادات التي تُوجَّه إلى العلمانية، في كتابات الإسلاميين، إلى فئتَين كبريَين؛ الأولى انتقادات دعائية لا تقوم على أساس علمي، والثانية انتقادات ذات مسحة علمية. وسوف نطلق عليهما — على سبيل التيسير — اسم الانتقادات الخطابية والانتقادات العلمية، على الرغم من أنَّ الكثيرين قد لا يرضَون عن اللفظين اللذين اخترنا أن نميز بواسطتهما بين هذين الاتجاهين في نقد العلمانية.

(٣-١) الانتقادات الخطابية

لا جدال في أنَّ اختيار لفظ «الخطابية» لوصف هذه الانتقادات يُعبِّر عن الاستهانة بها، وينطوي ضمنًا على حُكم عليها بأنَّها لا ترقى إلى مستوى النقد القابل للمناقشة العلمية. وهذا صحيح، ولكنْ لا ينبغي أن يستنتج منه المرء أنَّ هذه الانتقادات أقلُّ تأثيرًا من غيرها، فحقيقة الأمر على عكس ذلك تمامًا، لأنَّ هذا النوع من الانتقادات هو الأوسع انتشارًا في كتابات الإسلاميين المعاصرين وفي خطاباتهم وفي لغتهم المتداوَلة بوجه عام، والأرجح أنَّ الطابع الخطابي فيها؛ أعني الطابع الذي لا يرتكز على أيِّ أساس يمكن مناقشته علميًّا أو منطقيًّا، وإنَّما يستهدف التشنيع على الرأي المنتقد وإثارة حالة انفعالية ساخطة عليه لدى عامة الناس فحسب، هذا الطابع هو ذاته الذي أدَّى إلى انتشارها الواسع بين جمهرة أنصار التيار الإسلامي؛ ذلك لأنَّ التنشئة العقلية، التي تحرص الجماعات الإسلامية المعاصرة على أن تُربي عليها أنصارها، تقوم على غرس عادات التسليم والإذعان والتصديق فيهم، وعلى استبعاد النزوع إلى التدقيق والبحث والتحرِّي في الأمور قبل إصدار حكم عليها. وترتكز على نوع من «العنعنة» المعاصرة؛ فينقُل «أ» عن «ب»، بعد أن يكون «ب» قد نقل عن «ج»، و«ج» عن «د»، وهلُمَّ جرًّا … على أن تكون حلقات السلسلة كلها من أنصار فكرهم. وهكذا ينتشر الخطأ الأصلي انتشارًا هائلًا لأنَّ أحدًّا لا يكلف نفسه عناء الاستوثاق منه، وسرعان ما يغدو — من فرط تكراره — أشبه بالبديهية التي لا تُناقَش. وأستطيع القول، دون أيِّ قدْر من التجنِّي، إنَّ هذا النوع من الحُجَج الخطابية، التي تُخاطب الانفعال الرخيص أكثر ممَّا تُخاطب العقل، هو الذي يحدِّد موقف معظم أنصار التيارات الإسلامية المعاصرة من قضية العلمانية.

(أ) العلمانية هي اللادينية

هناك ما يشبه الإجماع بين مُفكري التيار الإسلامي المعاصر على الربط بين العلمانية واللادينية، وهذا في الواقع أقوى أسلحتهم وأشدُّها تأثيرًا في نفوس الأتباع. فعندما يُحدَّد الموقف العلماني بأنَّه مضادٌّ للموقف الديني، تكون القضية كلها قد حُسمَت قبل أن يبدأ أيُّ نقاش. وليس مهمًّا إن كان هذا الحكم مخالفًا للمنطق وللتاريخ، لأنَّ هذه مسائل لا يُكلف أحد نفسه عناء التفكير المدقِّق فيها، وإنَّما المهم تشويه سُمعة العلمانيين بين شباب يفتقر إلى الوعي والثقافة والنضج والقدرة على التساؤل، والتلاعب بعقولهم من أجل كسب الأنصار بأرخص الأساليب.

ولنتأمل مجموعة نموذجية من التعريفات التي يُقدِّمها الإسلاميون المعاصرون للعلمانية، كيما نستخلص منها الاستنتاجات اللازمة.

  • أولًا: يُعرِّف الشيخ محمد مهدي شمس الدين العلمانية بأنَّها «النهج الحياتي الذي يستبعد أيَّ تأثير أو توجيه ديني على تنظيم المجتمع، والعلاقات الإنسانية داخل المجتمع، والقِيَم التي تحتويها تلك العلاقات وترتكز عليها، ومن ثَم فهو نهج حياتي مادي تكوَّن نتيجة لنمو الفلسفات المادية اللادينية.»١ فلنتأمَّل بعض ما في هذا التعريف، الذي يبدو في ظاهره بريئًا، من مغالطات:
    • (أ) يُحدِّد التعريف في بدايته نهج العلمانية بأنَّه يستبعد تأثير الدين في «تنظيم المجتمع»، وهو موضوع سياسي، وربما لا يعترض عليه العلمانيون أنفسهم، لأنَّهم يدعون بالفعل إلى الفصل بين الدين والتنظيم السياسي للمجتمع. ولكن التعريف ينتقل من هذا الموضوع السياسي إلى موضوع اجتماعي وأخلاقي، فيذهب إلى أنَّ العلمانية تستبعد الدين من ميدان «العلاقات الإنسانية داخل المجتمع، والقيم التي تحتويها تلك العلاقات …» وهنا تَكْمُن المغالطة؛ فعلى سبيل المثال نجد العلماني المتحمِّس، في المجتمعات الإسلامية أو المجتمعات الغربية المسيحية، يرفض توجيه التنظيم السياسي للمجتمع توجيهًا يرتكز على سُلطة الدين، ولكنَّه في الوقت ذاته يتزوج بوثيقة شرعية إسلامية، أو يعقد زواجه في الكنيسة إن كان مسيحيًّا، ويستشهد بالقِيَم والمبادئ الدينية ويُطبِّقها في الكثير من جوانب سلوكه الاجتماعي والشخصي، دون أن يكون في ذلك أيُّ خروج عن «علمانيته».
    • (ب) والمغالطة الثانية تَكْمُن في التلاعب بلفظ «اللادينية»، فالكلمة يمكن أن تعني الخارج عن نطاق الدين، ويمكن أن تعني المضاد للدين أو الرافض للدين. ولا شكَّ أنَّ العلمانية، إذا جاز أن توصَف بأنَّها «لا دينية»، فإنَّها لا تكون كذلك إلَّا بالمعنى الأول، لأنَّ كل ما ترمي إليه هو إبعاد الدين عن ميدان التنظيم السياسي للمجتمع، والإبقاء على هذا الميدان بشريًّا بحتًا، تتصارع فيه برامج البشر ومصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، دون أن يكون لفئة منهم الحقُّ في الزعم بأنَّها تُمثِّل «وجهة نظر السماء». أمَّا المعنى الثاني، أعني رفض الدين، فليس من صميم العلمانية في شيء. صحيح أنَّ بعض العلمانيين رافضون للدين، ولكنْ من المؤكَّد أيضًا أنَّ كثيرين من العلمانيين متدينون، وأنَّ كثيرين من المتدينين علمانيون، لأنَّ الدين يظلُّ محتفظًا بقداسته في كلتا الحالتين، ولكنَّه يُنزَّه عن التدخل في الممارسات السياسية المتقلبة، مع تنظيمه لجوانب هامة في حياة الإنسان، كالجانب الروحي والأخلاقي.
    • (جـ) أمَّا المغالطة الثالثة في هذا التعريف فهي إقحام كلمة «مادي» في الموضوع، حين يُقال إنَّ العلمانية «نهج حياتي مادي تكوَّن نتيجةً لنمو الفلسفات المادية اللادينية». وتكاد كتابات الإسلاميين المعاصرين كلها تتفق على استخدام لفظ «المادية» مرتبطًا بالعلمانية، وهو استخدام ينمُّ عن افتقار كامل إلى الدقة الفكرية، وأغلب الظنِّ أنَّه مغالطة متعمَّدة، هدفها الربط بين العلمانية وبين المعاني المستهجَنة التي ينطوي عليها لفظ «المادية» في أذهان الناس. وهو ربط يؤدِّي دَورًا عظيم الأهمية على المستوى النفسي، لأنَّه يحشد طاقةً هائلةً من السخط والكراهية اللاشعورية تنصبُّ كلها على العلمانية والعلمانيين.

      ولو تأمَّلنا التاريخ الحديث لأوروبا، التي كانت مهد العلمانية، والتي يقول الجميع إنَّها هي التي صدَّرَتها إلينا، لوجدنا أنَّ تياراتها الفكرية والفلسفية كانت تنقسم إلى تيارين متضادين؛ هما المادية والمثالية، بل إنَّ التيار المثالي كان أقوى وأوسع نطاقًا بكثير من التيار المادي، ومع ذلك فقد كان «الجميع» علمانيين. فديكارت، أبو المثالية الأوروبية الحديثة، وكانت، صاحب المثالية النقدية، وهيجل، أكبر المثاليين في التاريخ، وغيرهم وغيرهم من الفلاسفة والأدباء والمُفكرين المغرقين في المثالية، كل هؤلاء كانوا علمانيين رافضين بصورة قاطعة تدخُّل الكنيسة أو الدين بوجه عام في التنظيم السياسي أو الاجتماعي للدولة، ولكنَّهم كانوا في الوقت ذاته خصومًا ألدَّاء للمادية. وعلى ذلك، فإذا كان صحيحًا أنَّ بين العلمانيين بعض أصحاب المذاهب المادية، فإنَّ المادية لا ترتبط بالعلمانية ارتباطًا ضروريًّا على الإطلاق. فهل يمكن الحكم على تاريخ أوروبا الحديث، الذي كان كله علمانيًّا، بأنَّه كان كله ماديًّا أيضًا، على الرغم من كل مَن ظهر فيها من شعراء وفنانين ومُفكرين روحيين وفلاسفة مثاليين خاضوا معارك قاسية ضدَّ المادية؟

      يبدو أنَّ مُفكري التيار الإسلامي المعاصر يعتقدون أنَّ كل فكر لا ينبع من مصدر ديني لا بدَّ أن يكون ماديًّا، بدليل أنَّ شيخنا الذي اقتبسنا منه التعريف السابق يصف مناهج العلم المنضبطة الدقيقة بأنَّها «مادية»، جعلَت الإنسان «غريزة» بلا روح ولا عقل ولا إرادة ولا طموح (ص٧٨)، وأحالته إلى «كتلة منفعلة بمحيطه» (٧٩). ويُلخِّص الموقف بقوله: «هذه الفلسفة، والمعارف الإنسانية التي تأثرت بنظرتها المادية الخالصة إلى الإنسان … ترجمَت نفسها في مرحلة التطبيق السياسي والمجتمعي إلى ما يُسمَّى بالعلمانية … هذه الفلسفة المادية الخالصة … بمنهجها الذي يُقزِّم الإنسان ويختصره في كتلة من المادة الشديدة التعقيد» (ص٨٠).

      هكذا تُختزل الحضارة الأوروبية الحديثة كلها، حضارة شيكسبير وجوته وباخ وبيتهوفن ورمبرانت وميكل أنجلو وأينشتين، إلى مادية ميكانيكية تلغي كل ما هو روحي أو راقٍ أو رفيع في الإنسان، وكأنَّ هؤلاء جميعًا لم تكُن لهم في حياتهم من رسالة سوى تأكيد غريزية الإنسان وبَهيميَّته. ولست أدري إن كان هذا الاختزال المعيب يصدُر بدافع الجهل أم إنَّه مغالطة متعمَّدة موجَّهة إلى عقول يعلمون أنَّها عاجزة عن أن تحاسبهم. ولكن إذا جاز أنَّ العلم، الذي ازدهر مع ظهور الحضارة الأوروبية العلمانية، يمكن أن يُوصف بأنَّه مادي، فماذا نقول عن النواتج الروحية الأخرى، كالشعر والموسيقى والأدب والفلسفة والفكر السياسي والاجتماعي والتاريخي؟ ومع ذلك، فحتى العلم نفسه لا يُوصف بأنَّه مادي إلَّا من منظور ضيق يتغافل عن أهمِّ جوانبه. فالكشف العلمي عملية روحية من الطراز الأول. ومن المستحيل أن يُوصف العالِم الذي يُفني عمره في سبيل استجلاء نقطة غامضة مُعيَّنة، وإعلاء شأن العقل البشري وتوسيع سلطانه، ويمارس خلال عمله العلمي أقصى درجات ضبط النفس والتحكم في الإرادة، من المستحيل أن يُوصف بأنَّه يستهدف اختزال الإنسان إلى «غريزة»، بلا روح ولا عقل ولا إرادة. وإذا كان العلم يُمارَس على عالم المادة (وهذا لا ينطبق على جميع العلوم)، فإنَّ الهدف منه قهر عالم المادة والتغلب عليه والسيطرة عليه من خلال إدراك قوانينه.

  • ثانيًا: ولنتأمَّل حالةً أخرى للمغالطات التي يُقدِّمها مُفكرو الصحوة الإسلامية عن العلمانية، ونُخضِعها للتحليل:
    يُعرِّف أنور الجندي العلمانية في مدخل كتاب مخصَّص لنقد العلمانية،٢ فيقول: «لفظ «علمانية» هو ترجمة للكلمة اللاتينية Secular، ومعناها في اللغات الأوروبية: لا ديني» (ص٧). (ويُلاحَظ أولًا أنَّ كلمة Secular ليست لاتينية، بل هي إنجليزية مشتقَّة من أصل لاتيني، على النحو الذي أوضحناه في بداية هذا البحث، كما أنَّ الكلمة لا تعني «لاديني» على الإطلاق، وإنما تعني «زمني».) وهكذا يبدأ مُفكرنا كتابه الكبير بتشويه أساسي يجرُّ وراءه بالطبع تشويهات أفدح منه، فهو يقول على سبيل المثال: «العلمانية لم تكُن قاصرةً [هكذا!] على أنَّها دعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وإنَّما ذلك في تقدير أصحاب الدعوة هي [هكذا!] المرحلة الأولى، التي تُهيئ الفكر والمجتمع جميعًا لخطوة حاسمة في علمنة الذات العربية نفسها على أساس أن تُسقِط نهائيًا وإلى الأبد كل ما يتصل بفكرها وتراثها ودينها وقيمها القديمة كلها، وأن تعتنق المنهج العلمي …» (ص١٠).

    هنا نجد سلسلةً أخرى من المغالطات، أهمُّها الادِّعاء بأنَّ العلمانيين يستهدفون إسقاط الفكر والدين والتراث والقِيَم القديمة كلها، وهو ادِّعاء يُكذِّبه مجرَّد استذكار أسماء بعض كبار العلمانيين، مثل طه حسين والعقاد والمازني وهيكل باشا، ممَّن كانوا باحثين أُصَلاء في التراث ومدافعين أشدَّاء عن أصالة الذات العربية. والمغالطة الأخرى الفادحة هي وضع المنهج العلمي في تضادٍّ وخصومة مع التراث والدين والقِيَم القديمة، وكأنَّ المرء إذا أخذ بالأول ينبغي عليه أن يتخلَّى عن الأخريات، وإذا كان حريصًا على تراثه ودينه فلزامٌ عليه أن يُدير ظهره للمنهج العلمي … وهي مغالطة لا يردُّ عليها العلمانيون وحدهم، بل يردُّ عليها الإسلاميون أنفسهم، حين يؤكدون — عن حقٍّ — أنَّ تراثنا الإسلامي الأصيل حافل بنماذج العلماء الذين اتَّبعوا منهجًا علميًّا كان رائدًا في دقته وانضباطه.

  • ثالثًا: ويتوسَّع الدكتور محمد يحيى في الحديث عن العلمانية بوصفها مرادفةً للادينية، فيؤكِّد أنَّ الاتجاه العام للتعليم والثقافة في بلادنا كان علمانيًّا رافضًا للدين، قائلًا: «كانت الجامعات والمدارس السائرة في ركاب المذاهب الغربية هي أول مَن بشَّر باللادينية في الميدان التعليمي بفصل الدين عن المناهج … ودراسته كمجرَّد ظاهرة بشرية وضعية … وفي مجالات الفنون والآداب، جاءت اللادينية مع الأنماط والنماذج الغربية كالرواية الواقعية والمسرح والشعر الحديث والباليه والسينما، وذلك من خلال مضامين ورؤًى وضعية بحتة لا تُفسح أيَّ مجال لتصوُّر ديني، ومع هذه المنقولات والتأثيرات سرت اللادينية إلى جسد المجتمع ككل.»٣

    هكذا أصبح تعليمنا كله «لادينيًّا»، لماذا؟ لأنَّه «فصل الدين عن المناهج». بهذه العبارة الغامضة حَكَم كاتبُنا بالإعدام على نظام تعليمي كامل، قد يكون بالفعل مليئًا بالعيوب، ولكن عيوبه تكمُن في أمور لا علاقة لها على الإطلاق بما يقول صاحبنا. فكيف يقول بفصل الدين عن المناهج في نظامنا التعليمي الراهن إذا كنَّا قد تربَّينا جميعًا، وتربَّى أولادنا من بعدنا، على دراسة الدين في مختلف مراحل التعليم العام، فضلًا عن المساحة المكانية والزمنية الكبيرة التي تُخصَّص للموضوعات الدينية في أجهزة الإعلام، من صحافة وإذاعة وتليفزيون، وهي بلا جدال وثيقة الصلة بعملية التعليم؟ لعلَّ ما يعنيه بفصل الدين عن المناهج، هو أنَّنا لم نعد ندرس في معاهدنا الكيمياء الإسلامية أو علم الفَلَك الإسلامي أو الجيولوجيا الإسلامية، ولم نُطبِّق الدعوة إلى «أَسلَمَة العلوم»، وهي دعوة تتردَّد بقوة في كثير من الأوساط الإسلامية المعاصرة، بدليل ذلك الرواج الهائل الذي يلقاه «الطب الإسلامي» في هذه الأيام. ولو صحَّ هذا التفسير، أو هذا «الاجتهاد»، لَمَا كانت لديَّ من إجابة على هذه الدعوة سوى الإشارة إلى الحقيقة البسيطة التي تقول إنَّ العلم ينبغي أن يُلتمَس حيث يحرز أعظم تقدُّم له، ولا أظنُّ أن أعظم تقدُّم وصل إليه العلم المعاصر كان في العالم الإسلامي!

    أمَّا الإشارة إلى أنَّ الدين أصبح يُدرَّس في نظامنا التعليمي (كمجرَّد ظاهرة بشرية وضعية)، فهي واضحة البُطلان، لأنَّ أيَّ كتاب مدرسي أو تعليمي في كافة أرجاء العالم الإسلامي لا يجرؤ على الاقتراب من هذه المنطقة المحرَّمة. ويا ليت كاتبنا الفاضل يُقدِّم إلينا نموذجًا واحدًّا لكتاب تعليمي يُدرِّس الدين بوصفه مجرَّد ظاهرة بشرية!

    وأخيرًا، فإنَّ النَّص الذي اقتبسناه لكاتبنا ينطوي على هدم لجميع الفنون التي تصقل روح الإنسان الحديث وتهذِّبها، إذ يدمغها كلها بأنَّها «لادينية»، ويطالبنا بالاستغناء عن الرواية الواقعية (يقصد نجيب محفوظ طبعًا، الذي أحلَّ دمه في الآونة الأخيرة واحد من أمراء الدعوة الإسلامية المشهورين)، وعن المسرح والشعر الحديث والباليه والسينما، لأنَّها تعمل على «سريان اللادينية في جسد المجتمع ككل». ويبدو أنَّ جواز المرور لأيِّ عمل فني هو أن يكون قائمًا على «تصوُّر ديني»، ولمَّا كان من المستحيل تصوُّر «باليه إسلامي» مثلًا، فلا بدَّ من إلغاء مثل هذه الفنون أو صبغ ما يمكن صبغُه منها بالطابع الديني، حتى تصبح فنونًا مشروعة، أو فنونًا شرعية.

    وفي ضوء هذا الرأي، الذي يقول به واحد من الإسلاميين، لم يُعرف عنه أنَّه من المتطرفين، تكون إحدى جرائم العلمانية سعيها وراء هذا القبس من النور، الذي تُضفيه الفنون والآداب على حياة الإنسان، ولا سيَّما حين ترتكز هذه الفنون والآداب على رؤية بشرية. وهكذا تمتدُّ الدعوة، من مجال الشريعة التي ينبغي أن تحلَّ محلَّ أيِّ قانون يضعه البشر، إلى مجال العلوم التي ينبغي استبعادُها لو ابتعدَت عن الإطار الإسلامي، وأخيرًا إلى مجال الآداب والفنون، التي ينبغي إدانتُها وتحريمُها ما دامت ترتكز على موضوعات بشرية «وضعية». ومُجمَل القول أنَّ كل ما يضيء روح الإنسان وعقله يصبح مدانًا لأنَّه علماني، وما دام علمانيًّا فهو «لاديني».

(ب) العلمانية بوصفها مؤامرة

في الفكر النظري والأيديولوجي الرائج بين التيارات الإسلامية المعاصرة، ينتشر التفسير التآمري للظواهر التاريخية والثقافية، بل والعلمية في أحيان كثيرة، على أوسع نطاق، فوراء كل ظاهرة تسعى تلك التيارات إلى محاربتها، مؤامرة صليبية أو استعمارية أو يهودية صهيونية أو ماسونية أو استشراقية، وهذه الجهات كلها، في نظرهم، مُتربِّصة بالإسلام، تتحيَّن الفرص للإيقاع به، بل إنَّ كتاباتهم لتوحي في أحيان غير قليلة بأنَّ المنتمين إلى هذه الجهات جميعًا ليس لهم شاغل يشغلهم سوى الإسلام والمسلمين، وأنَّ جهدهم ومالهم وطاقتهم وفكرهم موجَّهة كلها إلى عقد مؤتمرات وتخطيط مؤامرات للحدِّ من الخطر الإسلامي الماحق، ولتصفية حساباتهم مع ذلك العدو القديم.

والمنطق الذي تُبرَّر به هذه النظرة التآمرية هو أنَّ الإسلام قهر أعظم ممالك الغرب، بدءًا من إمبراطورية الروم حتى أكبر الدول الصليبية، عندما كان في أوج قوَّته. وما زالت ذكرى هذا النصر الإسلامي العظيم عالقةً في أذهان الغرب، تُمثِّل خطرًا يمكن أن يتجدَّد في أيَّة لحظة. ومن هنا يبذل الغرب جهدًا جهيدًا كيما يحُول دون عودة تجمُّع القوة الإسلامية مرةً أخرى، وحتى لا يُعرِّض نفسه لخطر آخر. ومع مثل هذا المنطق لن يكون من المُجدي أن تشير إلى الفارق الهائل بين عوامل انتصار أمَّة على أمَّة في العصور الوسطى وبين نظائرها في العالم المعاصر، وأن توضح أنَّ هذا الانتصار لا يتحقَّق الآن إلَّا في ظلِّ عوامل شديدة التعقيد، تُحشد فيها القُوى العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعقائدية للمجتمع، وكلها أمور يتخلَّف فيها العالم الإسلامي تخلُّفًا شديدًا، بحيث يستحيل أن يشكِّل «خطرًا» حقيقيًّا على الغرب كما كان يفعل في القرون الأولى من الإسلام. ولن يكون من المُجدي أن تردَّ على أصحاب هذا المنطق بأنَّ ما يُبديه الغرب من اهتمام في الوقت الراهن لا يرجع إلَّا إلى الرغبة في استكمال السيطرة على العالم الإسلامي، الذي يتمتَّع كثير من أجزائه بثروات هائلة ومواقع استراتيجية حاسمة. هذه الردود كلها لن تُجدي معهم، لأنَّ أسطورة العصر الذهبي للإسلام، الذي يمكن أن يُبعث حيًّا في «صحوة» مفاجئة، ويعود بكل ما كان له من سلطان وتفوُّق وسيطرة على سائر دول العالم؛ هذه الأسطورة تحتلُّ في أذهان الإسلاميين المعاصرين مكانةً يستحيل أن يزحزحها أيُّ منطق متماسك أو أيَّة حقيقة صلبة من حقائق العصر.

هذه النظرة التآمرية تتجلَّى، بصورة مباشرة، في موقف الإسلاميين المعاصرين من العلمانية، فهناك ما يُشبه الإجماع بينهم على أنَّ العلمانية مؤامرة على الإسلام، وأنَّ لهذه المؤامرة مصدرًا أجنبيًّا، وأنَّ دُعاة العلمانية في العالم الإسلامي إمَّا مشاركون بوعي في هذه المؤامرة، وإمَّا أدوات ساذجة في أيدي القُوى الأجنبية التي تتآمر على الإسلام.

ولنتأمَّل بعض النماذج لهذه النظرة التآمرية إلى العلمانية:
  • يقول أنور الجندي: «إنَّ الدعوة العلمانية هي نتاج يهودي تلمودي أصيل كان له أبعد الأثر في الفكر الغربي.»٤ وهو يربط بصورة قاطعة بين العلمانية وبين الماسونية ومخططات التلمود والثورة الفرنسية وعصر التنوير، وكلها اتجاهات تستهدف «إخراج اليهود من الجيتو، والحصول على حقِّ المواطَنة، كمقدمة للوثوب إلى الحياة الفكرية والاجتماعية والسيطرة عليها».٥ وتظلُّ هذه النظرة التآمرية سائدةً في كتاب أنور الجندي من بدايته إلى نهايته، ويظلُّ مركز المؤامرة هو ذلك الأخطبوط الكوني الذي تنبع منه كل شرور العالم، والذي يُعبِّر عنه بمفاهيم غامضة، كالتلمودية والماسونية، وهي مفاهيم لا دَور لها سوى إحداث نوع من الرعب أو النفور في أذهان الشباب، يمتدُّ بالضرورة إلى كل ما يترتب على هذه المؤامرة العالمية من نتائج، وعلى رأسها العلمانية بالطبع. وربما أبدى أصحاب العقول المتواضعة من أمثالنا دهشتهم من إقحام الثورة الفرنسية في هذه المؤامرة، ومن القول بوجود هدف مشترك يجمع بين التلمودية وبين عصر التنوير، مع أنَّ هذا الأخير لم يكُن له من هدف سوى تحرير العقول من الخزعبلات التي كانت تُعشِّش فيها بفضل معتقدات غيبية على رأسها التلمودية، وربما أبدى أصحاب العقول المتواضعة هؤلاء مزيدًا من الاستغراب حين يجدون مُفكرًا واسع الانتشار، يقرأ له عشرات الألوف من الشباب بتبجيل وخشوع، لا يرى في الثورة الفرنسية وعصر التنوير سوى أنَّهما أعطيَا مزيدًا من الحقوق لليهود، ويغيب عن ناظريه تمامًا كل ما كان لعصر التنوير من أثر علمي وثقافي واجتماعي، شكَّل منعطفًا حاسمًا في تحرير العقل البشري من الوهم والخرافة، ومهَّد الطريق لانطلاقته الجبَّارة في القرنين التاليين، كما يغيب عن ناظريه ذلك التأثير الهائل للثورة الفرنسية — مهما كانت سلبياتُها — على تحرُّر الإنسان سياسيًّا واجتماعيًّا، وحلول طبقة أكثر استنارةً محلَّ طبقة النبلاء الإقطاعيين التي كانت مسيطرةً حتى ذلك الحين، وتمهيد الطريق أمام الشعوب المغلوبة على أمرها لكي تنال حريتها بيديها بدلًا من أن تنتظر ما يجود به عليها الحكام المستبدون. كل هذه أمور لا قيمة لها في نظر كاتبنا، وكل ما يعنيه هو أنَّ عصر التنوير والثورة الفرنسية قدَّما إلى اليهود بعض الحقوق، ومن ثَم فهما جزء من المؤامرة الكونية اليهودية الماسونية التي تحكَّمَت وما زالت تتحكم في مصائر البشر في كافة أرجاء هذا العالم الفسيح.
  • ويقول د. محمد يحيى: «الفكرة العلمانية إذَن هي بنت تلك الخطة الواسعة التي أسميناها بالتغريب والاستعمار الثقافي، وهي إحدى دعائم هذه الخطة، وتهدف من خلال الهجوم على الدين وفصله عن شتَّى نواحي الحياة والمجتمع، إلى إحداث فراغ عقائدي وفكري تملؤه بعد ذلك فلسفات ونظريات الغرب … بل وتشغله بعد ذلك عقيدة الغرب نفسها، وهي المسيحية. فلا عجب في أن تكون العلمانية هي الذراع الأول للتبشير الصليبي.»٦

    هنا تتكرَّر السمات التي لاحظناها من قبل بشأن التفسير التآمري للعلمانية، ولكن شكل المؤامرة يختلف؛ فهنا تهدف المؤامرة، من خلال الهجوم على الإسلام، إلى إحداث فراغ عقائدي يُمهِّد الطريق لحلول المسيحية محلَّ الإسلام، وهذا هو هدف «تلك الخطة الواسعة التي أسميناها بالتغريب والاستعمار الثقافي». ولنحاول الآن أن نُخضِع هذا النَّص لشيء من التحليل المنطقي، مع إدراكنا — منذ البدء — بأنَّ مثل هذه الأحكام توجَّه إلى أناس قلَّمت أظافرهم المنطقية — إن جاز التعبير — منذ بدء انتمائهم إلى تيار من التيارات التي يُعبِّر هذا الكاتب وأمثاله عن وجهة نظرها.

    • (١)

      الملاحظة الأولى هي أن زميلًا للكاتب، ينتمي إلى التيار نفسه، بل هو قطعًا أعلى منه مرتبةً وأرسخ قدمًا في هذا التيار، وهو أنور الجندي، قد وصف المؤامرة العلمانية بأنَّها يهودية تلمودية، ودافع عن هذه الفكرة طوال كتابه، على حين أنَّ كاتبنا الحالي يصفها بأنَّها تبشيرية صليبية تستهدف إحلال المسيحية محلَّ الإسلام. فأيُّ التفسيرين نصدِّق؟ ألا ينبغي على مفكِّري التيار الإسلامي أن يتفاهموا فيما بينهم، لكي نستقرَّ على رأي حول مصدر هذه المؤامرة العلمانية الخطيرة، وهل هي يهودية التلمود أم مسيحية التبشير؟

    • (٢)

      والملاحظة الثانية هي أنَّ الكاتب نفسه قد دأب طوال كتابه، على تسمية العلمانية ﺑ «اللادينية»، بل إنَّه في الصفحة نفسها التي اقتبسنا منها النَّص السابق يرى أنَّ هذه التسمية هي التعبير الأفضل عن معنى العلمانية. فإذا كان يؤمن بأن العلمانية مرادفة للادينية، فكيف يقول إنَّ هدف المؤامرة العلمانية إحلال دين محلَّ دين؟ ألم يكُن الأجدر به — حتى يتوافر لديه الحدُّ الأدنى من التماسك المنطقي — أن يقول إنَّ هذا الهدف هو، مثلًا، إحلال عقيدة بشرية محلَّ العقيدة الإسلامية، أو إنَّه إفراغ العقل البشري من العقائد كلية، وجعله مكتفيًا بما يشرِّعه لنفسه من مبادئ وقوانين؟

      هل يستطيع كاتب يحترم عقله، ويعرف أنَّ لدى قرَّائه حدًّا أدنى من التفكير المنطقي، أن يقول في صفحة واحدة إنَّ العلمانية مرادفة للادينية، ويقول في الوقت ذاته إنَّ العلمانية هي الذراع الأولى للتبشير الصليبي؟

    • (٣)

      وإذا تركنا المنطق الواضح جانبًا، واستشهدنا بالواقع الحالي والسوابق التاريخية الماضية، فكيف يمكن أن تكون العلمانية ذراعًا للتبشير الصليبي؟ لقد ظهرَت العلمانية في أوروبا، كما يعترف الجميع، وضمنهم الكاتب نفسه، كردِّ فعل على طغيان الكنيسة ووقوفها في وجه التطور الاجتماعي والعلمي في الغرب. فهل ترضى الكنيسة، التي هي بغير شكٍّ راعية التبشير، بأن تستعين في مهمَّتها هذه بذراع تسعى إلى هدمها؟

      إنَّ الهدف من اختيار هذه الأمثلة وإخضاعها للتحليل ليس نقدها في ذاتها، أو نقد أصحابها، وإنَّما هو نقد ذلك النمط الفكري الذي ينتشر على أوسع نطاق بين الإسلاميين المعاصرين. ولا شكَّ في أنَّ التهافُت المنطقي والعلمي لهذا النمط الفكري يدلُّ على أنَّ كُتَّاب التيارات الإسلامية المعاصرة لا يكتبون لجمهور لديه الحدُّ الأدنى من الحسِّ النقدي، ومن الثقافة العامة التي تسمح له بكشف مغالطاتهم، فهذا المستوى الهابط في الخطاب الإسلامي المعاصر يفترض جمهورًا مُطيعًا، مُصدِّقًا لكل ما يُقال له، لا يقرأ سوى كُتب التيار الإسلامي نفسه، ولا يفكر لحظةً واحدةً في أنَّ ما يقرؤه من هذه الكتب يحتاج إلى مراجعة أو نقد. ومن هنا كان من مصلحة هؤلاء الكُتَّاب ترويض جمهورهم حتى يمكن أن تُروَّج كتاباتهم السطحية بين هذا الجمهور. وهكذا تكتمل أطراف الحلقة؛ فالجمهور غير الواعي يروِّج الكتابات السطحية، والكتابات السطحية تزيد من تغييب الوعي لدى الجمهور، أيْ إنَّ الكاتب يخلق جمهوره والجمهور يخلق كاتبه.

(٣-٢) الانتقادات العلمية

لا ترتكز جميع الانتقادات الموجَّهة إلى العلمانية على أُسس خطابية ودعائية كتلك التي ناقشناها في الجزء السابق من بحثنا، بل إنَّ هناك فئةً أخرى من الانتقادات تلجأ إلى حُجَج يمكن أن تُوصف بأنَّها علمية وتاريخية، بمعنى أنَّها تُعبِّر عن وجهة نظر تتضمَّن حدًّا أدنى من التماسك والاتساق، وتستدعي مناقشةً عقليةً وعلميةً تكشف عمَّا فيها من أوجه الصواب والخطأ. وسوف نعرض الآن لأهم هذه الانتقادات، التي هي أكثر جديةً بما لا يُقاس، من الانتقادات الخطابية السابقة. وفي اعتقادنا أنَّ مصير العلمانية الحقيقي يتوقَّف على قدرة العلمانيين على مواجهة هذه الحُجَج التي تُصطبَغ بالصبغة العلمية والعقلية. والمحور الذي تدور حوله جميع الانتقادات العلمية الموجَّهة إلى العلمانية هو الربط بينها وبين ظروف المجتمع الأوروبي في مرحلة مُعيَّنة من تاريخه، ومن هنا فإنَّ مناقشة هذه المسألة من جميع أوجهها هي، في رأينا، ذات أهمية حاسمة بالنسبة إلى هذا الموضوع بأَسره.

(٤) هل العلمانية ضرورة أوروبية فحسب؟

يؤكد نُقَّاد العلمانية أنَّها اتجاه في الفكر ظهر في المجتمع الأوروبي تعبيرًا عن ضرورة تاريخية مرتبطة أوثق الارتباط بالظروف الخاصة التي مرَّت بها أوروبا في مرحلة انتقالها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. ولكن هذه الضرورة التاريخية لا تسري إلَّا على مجتمعها وحده، أمَّا المجتمعات الأخرى التي لم تمر بظروف مماثلة لظروف أوروبا، فليست — على الإطلاق — مُلزَمةً باعتناق العلمانية، بل إنَّها لو اعتنقَتها، لكانت في ذلك مُحاكيةً لأوروبا بطريقة ببغائية تنمُّ عن انعدام الشخصية واختفاء الإحساس بالكرامة. فالعلمانية جزء لا يتجزأ من التاريخ الأوروبي، يرتبط ارتباطًا عضويًّا بالظروف الخاصة التي مرَّت بمجتمع مُعيَّن، ومن ثَم فمن الخطأ الفادح اقتلاعها من تربتها الأصلية وزرعها في تربة أخرى لم تكُن في أيِّ وقت مُهيَّأةً لاستقبالها، أو مضطرةً إلى الأخذ بها.

هذا التمييز بين ظروف أوروبا عند ظهور العلمانية في عصر النهضة وظروف العالم الإسلامي المعاصر، يرتكز على تحليل تاريخي لأوضاع المجتمعين في هذين العصرين، ففي عصر النهضة كانت أوروبا تكافح من أجل التخلُّص من ذلك الجمود الفكري والعلمي الذي اتَّسمَت به حياتها في العصور الوسطى (وهي أطول فترات التاريخ الأوروبي وأقلها تغيرًا وإبداعية). وكانت العقبة الكبرى التي تحُول دون انتقال أوروبا إلى صميم العصر الحديث هي الكنيسة؛ فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا هيئةً قائمةً بذاتها، ذات نفوذ واسع وسُلطة طاغية، وكان لها كيانها الرسمي وترتيبها الهرمي الخاص، وكانت تعطي نفسها حقَّ التدخُّل في أمور الدنيا إلى جانب أمور الدين. وهكذا فإنَّ الفلاسفة والأدباء الجُدد اضطروا إلى مواجهة سُلطة الكنيسة بوصفها العقبة الكأداء في وجه التقدم.

غير أنَّ أشدَّ الفئات معاناةً من تدخُّل الكنيسة وسعيها إلى الهيمنة الشاملة كانت فئة العلماء، ففي ميدان العلم ونظرياته الجديدة — وخاصةً النظرية الكبرنيكية التي تقول بأن الأرض ليست مركز الكون، وليست ثابتة، وإنما تدور حول الشمس — كانت أعنف المواجهات مع الكنيسة، وبين العلماء ومُعتنقي آرائهم الجديدة كان العدد الأكبر من ضحايا استبداد رجال الدين. وهكذا كان تقدُّم أوروبا رهنًا بالوقوف ضدَّ هيمنة الكنيسة، وكان الحدُّ من سُلطة رجال الدين شرطًا أساسيًّا لنهضة الفكر والعلم والفن في أوروبا، ولانطلاق المجتمع الأوروبي، خلال عدد من القرون يقلُّ عن أصابع اليد الواحدة، إلى آفاق رحبة جعلَت الحضارة الغربية تحتلُّ بسرعة مكانة الصدارة بين مجتمعات العالم الحديث.

وتمضي الحُجَّة الشائعة في تفنيد العلمانية فتقول إنَّ العلمانية كانت، بهذا المعنى، ضرورةً أساسيةً من ضرورات التقدم في المجتمع الأوروبي. غير أنَّ العالم الإسلامي لم يشهد شيئًا من تلك الأوضاع التي جعلَت العلمانية ضرورةً محتومةً في أوروبا. فالإسلام لم يعرف هيئةً توازي الهيئة الكنسية الرسمية، ولا يعرف منصبًا رسميًّا يحتلُّ قمة الهرم الديني كمنصب البابا، ولا أتباعًا من رجال الدين تتدرج مراتبهم في هرم مُحدَّد المعالم. ولم يعرف الإسلام — هكذا تقول الحُجَّة — اضطهادًا للعلماء، ولم يشهد محاولاتٍ لعرقلة البحث العلمي. ومن ثَم فإنَّ الأسباب التي جعلَت العلمانية مرحلةً ضروريةً في التاريخ الأوروبي، لا وجود لها في التاريخ الإسلامي السابق أو المعاصر، وعندئذٍ تصبح الدعوة إلى العلمانية في العالم الإسلامي المعاصر محاكاةً للغرب على غير أساس، ويمكن الحكمُ على أصحابها بأنَّهم منبهرون بالغرب دون أن يتعمَّقوا فهم طبيعة مجتمعهم.

هذه، بقدْر كبير من الإيجاز، هي الخطوط الرئيسية لتلك الحُجَّة التي تفنِّد الدعوة العلمانية في العالم الإسلامي المعاصر باعتبارها دعوةً مستورَدة غريبة عن روح مجتمعنا وجوهره الأصيل. والحُجَّة، كما يرى القارئ، شديدة الإغراء، وهي تبدو حُجَّةً حاسمةً لا تكتفي بتفنيد رأي خصومها، وإنَّما تضعهم في مركز حرج وتصوِّرهم بصورة هزيلة تدعو إلى السخرية. ولقد كانت قوَّتها الظاهرة هذه هي التي جعلَتها تردُّ على ألسُن الجميع، فالكل يؤمنون بها ويُردِّدونها باقتناع تام. وحين أقول الكل، فإنِّي لا أعني فقط المُفكرين الإسلاميين، بمختلف اتجاهاتهم، كالغزالي والقرضاوي والجندي وشمس الدين وعمارة، وإنَّما أعني أيضًا مُفكرين لم ينبثق فكرهم من أصول إسلامية خالصة، بل كانت الثقافة الغربية مكوِّنًا أساسيًّا من مكوِّناته، مثل عصمت سيف الدولة ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي.

ومع ذلك، فإنَّ هذه الحُجَّة، التي تبدو في نظر هؤلاء جميعًا غير قابلة للتفنيد، هي في رأيي حُجَّة باطلة في مجملها وفي جميع تفاصيلها. وسأحاول فيما يلي أن أبرهن على صحة ما أقول.

(٤-١) الإسلام والمؤسَّسة الدينية

أول عناصر المقارنة بين الأوضاع التي حتَّمَت ظهور العلمانية في أوروبا المسيحية، وبين أوضاع العالم الإسلامي، هو أنَّ أوروبا كانت طوال العصور الوسطى خاضعةً لمؤسَّسة دينية رسمية هرمية البنية ذات هيمنة هائلة على المجتمعات الأوروبية، على حين أنَّ الإسلام لم يعرف مثل هذه المؤسَّسة الدينية، ولا توجَد فيه هيئة تقوم بدَور الوساطة بين الإنسان وخالقه، فهو لا يعرف رجالًا للدين بالمعنى السائد في الغرب، وإنَّما يعرف «علماء دين» فحسب، ليست لهم أيَّة سُلطة تتعدَّى نطاق اجتهادهم الخاص في أمور الدين.

وبطبيعة الحال فإنَّ المقارنة التفصيلية مستحيلة، وخاصةً إذا أُجريَت بين ظروف أوروبا عند نهاية العصور الوسطى وظروف العالم الإسلامي الحالية. فإلى جانب القرون الأربعة التي تفصل بين الفترتَين — وهي القرون الأربعة ذاتها التي شهدَت تطوراتٍ حضاريةً تفوق ما عرفَته البشرية منذ بداية تاريخها — هناك الاختلاف الهائل بين الأُسس التي قام عليها كلٌّ من المجتمعَين. ومن هنا فمن المتوقَّع، ومن الطبيعي، أن نجد اختلافًا واضحًا بين وضع القائمين على أمور الدين في كلا المجتمعَين.

غير أنَّ القول بأنَّ الإسلام لا يعرف، ولم يعرف، مؤسَّسة دينية على الإطلاق، هو قول ينطوي على قدْر غير قليل من الإسراف. ربما لم يعرف الإسلام مؤسَّسةً دينيةً مماثلةً للمؤسَّسة البابوية الكاثوليكية. وهذا كما قُلنا أمر طبيعي، ولكنَّه كان ولا يزال يضمُّ سُلطةً دينيةً قويةً مسموعة الكلمة مرهوبة الجانب، يرعى شئونها ويسهر على حمايتها رجال متخصِّصون في أمور الدين، ولها في كثير من الأحيان سُلطة على الأجهزة التنفيذية في الدولة. فالأزهر، على سبيل المثال، مؤسَّسة دينية، يحتلُّ قمَّتها شيخ الأزهر، الذي كان — قبل أن يخضع منصبه لمطالب السُّلطة السياسية في العقود الأخيرة — أكبر الشخصيات الدينية التي تتمتع بتبجيل وتوقير في كافة أرجاء العالم الإسلامي. وهيئة الإفتاء، وعلى رأسها مُفتي الديار، وكذلك هيئة كبار العلماء، تُمثِّل بدَورها سُلطةً دينيةً لا جدال فيها، يُطلب رأيها في الأمور الهامة، ولا تُنفَّذ أحكام الإعدام إلَّا بعد تصديقها عليها، ولا يمرُّ أيُّ تعديل في قوانين هامة — مثل قانون الأحوال الشخصية — إلَّا إذا أقرَّته. وفي المذهب الشيعي المُعاصر، يتمثَّل هذا الوضع بصورة أوضح، حيث يظهر الترتيب الهرمي على نحوٍ لا تُخطئه العين، بادئًا من الملا، ومارًا بحُجَّة الإسلام، ومنتهيًا إلى آية الله وآية الله العظمى. ومنذ الثورة الإيرانية أصبح لهذا الترتيب الهرمي سُلطة، في إدارة كافة شئون الحكم، ربما فاقت سُلطة البابوات في العصور الوسطى.

وطوال التاريخ الإسلامي كانت هذه السُّلطة الدينية قائمة، وكانت أحيانًا تستخدم مكانتها وهيبتها من أجل الدفاع عن مبادئ الدين الأصيلة، فيؤدِّي ذلك إلى مصادمات قد تكون حاميةً مع الحكام من خلفاء وسلاطين وأمراء، وأحيانًا أخرى تضع نفسها في خدمة الحاكم وتُصدر له من الأحكام والفتاوى ما يُقدِّم سندًا شرعيًّا لتصرفاته، حتى لو كانت جائرةً أو طائشة، وامتدَّ ذلك حتى اللحظة الراهنة من تاريخنا؛ حين أصبحَت الكتب والمنشورات تُعرض على هيئة دينية منبثقة عن الأزهر، تملك حقَّ مصادرة أيِّ نتاج فكري أو أدبي أو علمي يتعارض مع تفسيرها الخاص للدين.

ولو تحقَّق المطلب الذي تُنادي به الجماعات الإسلامية المعاصرة، وتمَّ تطبيق الشريعة الإسلامية بديلًا عمَّا يُسمونه بالقوانين الوضعية، لأصبح من المُحتَّم أن تظهر على مختلف المستويات مؤسَّسات دينية تفوق في قُدراتها التنفيذية سائر مؤسَّسات المجتمع، ولا بدَّ عندئذٍ أن يصبح لعمر عبد الرحمن أو حافظ سلامة أو السماوي، وكل مَن يساندهم ويدعمهم، سُلطة في الدولة الجديدة لا تقلُّ — إن لم تزِد — عن سُلطة المكاشفي في السودان أو خلخالي في إيران.

إنَّ الكُتَّاب المعاصرين الناقدين للعلمانية على أساس أنَّها مرتبطة بظروف أوروبا الخاصة وحدها، لا يملُّون من تأكيد التميز بين وضع المسيحية في العالم الغربي، الذي كان منقسمًا إلى سُلطة زمنية وسُلطة روحية، ووضع الإسلام الذي لا يعرف تمييزًا كهذا، والذي يوحِّد بين ما هو زمني (أي الدنيا) وما هو روحي (أي الدين). ولكن الأمر الذي يغفله هؤلاء هو أنَّ كاثوليكية العصور الوسطى في أوروبا كانت بدَورها شاملةً للزمني والروحي، تسعى إلى حُكم هذا العالم والعالم الآخر معًا، بل إنَّ اسم الكاثوليكية، لغويًّا، يُعبِّر عن معنى الشمول الذي لا يخرج عن نطاقه شيء. ولم يحدث الانقسام المنسوب إلى الحضارة الأوروبية إلَّا بعد نضال طويل، ظلَّت خلاله السُّلطة البابوية تُحاول بقدْر استطاعتها أن تتحكَّم في الدنيا بقدْر ما تتحكم في الدين. ومعنى ذلك أنَّ فكرة شمول الدين لأمور الدنيا ليست شيئًا يختصُّ به الإسلام، كما يعتقد نُقَّاد العلمانية المعاصرون، بل إنَّ المسيحية قد عرفَتها حقَّ المعرفة. أمَّا الاعتقاد الشائع بين نُقَّاد العلمانية في بلادنا، والقائل إنَّ المسيحية لا تُنظِّم شئون الدنيا، ولا تتضمن الأحكام الدينية اللازمة لذلك، فهو اعتقاد مُفرِط في التبسيط، يُحاول صياغة التاريخ على النحو الذي يلائم أغراض أصحابه. وحقيقة الأمر أنَّ كل مَن يتابع تاريخ أوروبا في العصر الوسيط يدرك بسهولةٍ مدى سعي الكنيسة الكاثوليكية إلى إقحام العقيدة المسيحية في كل صغيرة وكبيرة، ومدى الجهد الذي بذلَته السُّلطات الدينية فيها من أجل فرض هيمنتها على جميع التفاصيل في حياة الناس العامة والخاصة. وبعبارة أخرى، فإنَّ كلمة المسيح «أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، التي يستشهد بها كثير من خصوم العلمانية المعاصرين للتدليل على أنَّ المسيحية كانت تؤكِّد ثنائية الدنيا والدين، ولم تكُن تسعى إلى تنظيم شئون الدنيا، بل كان جهدها كله منصبًّا على حُكم مملكة الله؛ هذه الكلمة لم تكُن تُفسَّر على هذا النحو في العصور الوسطى الأوروبية، ولم يكُن المقصود منها على الإطلاق أن تتخلَّى الكنيسة عن دعوتها إلى الهيمنة الشاملة للدين. ولم تتمكَّن أوروبا من تحرير نفسها من هذه الهيمنة إلَّا بعد ذلك النضال المرير الذي خاضه مُفكروها وعلماؤها وبعض رجال الدين فيها طوال فترةً لا تقلُّ عن قرنَين من الزمان.

فإذا كان النزوع إلى الشمول حقيقةً مؤكَّدةً في تاريخ المسيحية — خلال قرونها العشرة الأولى على الأقل — فإنَّ أوضاع مسيحية العصور الوسطى لم تكُن تختلف في أساسياتها عن الأوضاع السائدة في الإسلام. وبالطبع هناك تفاصيل كثيرة تتباين فيها العقيدتان، وذلك على الأقلِّ لاختلاف العصر والبيئة الاجتماعية اختلافًا كبيرًا، غير أنَّ الاتجاه العام نحو الشمولية كان مشتركًا بينهما، ومن ثَم فإنَّ أحد الأسباب التي برَّرَت ظهور العلمانية في أوروبا يمكن أن ينطبق بدَوره على الأوضاع السائدة في العالم الإسلامي.

(٤-٢) موقف السُّلطة الدينية من العلم

لعلَّ أشهر الحُجَج التي يستند إليها خصوم العلمانية في العالم الإسلامي هي الحُجَّة القائلة إنَّ العلمانية كانت لها ضرورتها في أوروبا، منذ عصر النهضة، لأنَّ المؤسَّسة الدينية أثبتَت هناك عداوتها السافرة للعلم الحديث، وحاربَت كشوفه الجديدة بضراوة، ومن ثَم فإنَّ المجتمع الأوروبي الذي خاض تجربةً رائدةً شديدة الخصوبة في ميدان الكشف العلمي منذ عصر النهضة في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر، كان لزامًا عليه أن يعمل على إفساح المجال أمام التقدُّم العلمي الحديث عن طريق الحدِّ من سُلطة الكنيسة وتأكيد مبدأ العلمانية. ومن الواضح أنَّ هذه الحُجَّة لا تكتسب قيمتها إلَّا إذا أُضيف إليها وجهها الآخر؛ وهو أنَّ الحضارة الإسلامية لم تشهد اضطهادًا للعلم على أيدي رجال الدين، وأنَّ العلاقة بين العلم والدين فيها كانت علاقة تسامح وتفاهم متبادل، ومن ثَم فإنَّ الأسباب التي دعَت إلى ظهور العلمانية في أوروبا لا وجود لها في عالم الإسلام.

على أنَّه، إذا كان الوجه الأول لهذه الحُجَّة، الخاص بالوضع في أوروبا، صحيحًا ومؤيدًا بشهادة التاريخ، فلستُ أدري كيف أقنع أصحاب هذه الحُجَّة أنفسهم بصحة الوجه الثاني، الذي ينفي حدوث أيِّ تصادم بين الدين والعلم في ظلِّ الحضارة الإسلامية. فماذا يقول هؤلاء عن المِحَن التي ألمَّت بالمعتزلة، وابن رشد، والسهروردي، والحلاج، على سبيل المثال؟ ألم يكُن رجال الدين، بصورة أو بأخرى، وراء الاضطهاد الذي حلَّ بهؤلاء المُفكرين؟ وهل كانت الصورة هنا تختلف كثيرًا عن صورة اضطهاد العلم والفكر كلما خرج عن خطِّ الكنيسة المرسوم في العصور الوسطى الأوروبية؟

قد يُقال إنَّ تلك الأوضاع كانت سائدةً في العالم كله في المرحلة السابقة على العصر الحديث، وإنَّ الأمور اختلفَت في العالم الإسلامي الحديث. ولكن ماذا تقول عن الاضطهاد الذي ألحقه رجال الدين، أو مؤسَّسة الأزهر، بطه حسين، وعلي عبد الرازق، ومحمد أحمد خلف الله، وكثير غيرهم من الباحثين والمُفكرين؟ أليس هذا دليلًا على أنَّ الصدام بين المُفكر أو العالم وبين السُّلطة الدينية ما زال على أشُدِّه في المجتمع الإسلامي في صميم العصر الحديث؟

وقد يُقال إنَّ الحالات السابقة تتعلَّق بشخصيات كانت تتحدى مبادئَ دينيةً أساسية، وكان الصدام معها محتومًا. ومع عدم اعترافنا بصحة هذا الدفاع، فإنَّا سنجد الوضع مماثلًا في تعامل رجال الدين الإسلامي مع كثير من النظريات العلمية والفكرية الحديثة. فما زال دارون وفرويد حتى اليوم موضوعَين في القائمة السوداء لدى جميع المُفكرين الإسلاميين، وبخاصة رجال الدين منهم، وما تزال تعاليمهما ونظرياتهما تُلعن كل صباح ومساء على أيدي أشخاص لم يقرءوا عنهما إلَّا ما كتبه شركاؤهم في الفكر، بل إنَّ مجرَّد الإشارة إلى اسمَيهما، ومعهما اسم ماركس بالطبع، يُعدُّ من المحرَّمات في أكثر البلاد تمسُّكًا بالتعاليم الشكلية للإسلام.

وقد يُقال أيضًا إنَّ تلك النظريات كانت تنطوي على نتائج تُهدِّد القِيَم الدينية تهديدًا خطيرًا، ولكن، حتى لو صحَّ هذا الدفاع، فماذا نقول عن كشوف علمية محايدة لم تكُن تستهدف المساس بالدين من قريب أو من بعيد، كالهندسة الوراثية وأطفال الأنابيب؟ إنَّ أمثال هذه الكشوف ما زالت تحتاج إلى مباركة هيئات دينية عُليا قبل أن تصبح مشروعةً في المجتمع الإسلامي. وكلنا نذكر كيف أنَّ بعض هذه الهيئات أفتَت في البدء بتحريم الإنجاب عن طريق الأنابيب، ثم عدَلَت عن رأيها فيما بعد، حينما اتضح لها أنَّ هذا الأسلوب يمكن أن يُحاط بجميع الضمانات التي تحُول دون الخلط بين الأنساب، وأنَّه في الوقت ذاته يؤدِّي خدمةً إنسانيةً جليلةً لأُسر يستحيل عليها الإنجاب بالأساليب الطبيعية.

والذي يُهِمُّنا في هذا كله هو أنَّ هناك بالفعل سُلطةً دينيةً تتدخَّل في الأمور العلمية، وتُحلِّل كشوف العلم والتكنولوجيا أو تُحرِّمها وفقًا لمعايير دينية خالصة. ولسنا الآن في معرض تقييم هذا التدخُّل، ولا يعنينا إن كان صوابًا أم خطأ، بل إنَّ كل ما نودُّ إثباته هو أنَّ تلك المقولة التي يُردِّدها خصوم العلمانية وكأنَّها بديهية لا تُناقَش، والقائلة إنَّ أوروبا لجأت إلى العلمانية تخلُّصًا من تدخُّل المؤسَّسة الدينية الرسمية — ممثَّلةً في الكنيسة — في شئون العلم ووقوفها في وجه كشوفه الجديدة، على حين أنَّ الإسلام لا يعرف مؤسَّسةً دينيةً كهذه، ولم يشهد تدخُّلًا باسم الدين ضدَّ العلم؛ هذه المقولة لا تعدو في نظرنا أن تكون وهمًا كبيرًا أقنعنا أنفسنا به حتى نجد مبررًا لاستبعاد مبدأ العلمانية من جذوره. وحقيقة الأمر أنَّ الأسباب نفسها التي أدَّت إلى ظهور العلمانية في أوروبا قائمة في مجتمعنا الإسلامي، مع فارق أساسي هو أنَّ محاربة الكنيسة الأوروبية للعلم كانت بالغة الضراوة في بدايات عصر النهضة، أيْ في وقت كان العلم الحديث فيه لا يزال يخطو خطواته الأولى، وكان الجهل أقوى سيطرةً وأكثر شيوعًا في المجتمع بأَسره. أمَّا نحن، فما عُذرنا إذا عُدنا إلى محاربة النظريات العلمية باسم الدين بعد أربعة قرون صنع العلم خلالها المعجزات؟ وما عُذرنا حين نجد أنفسنا عاجزين في جميع المواسم الدينية الهامة عن الاتفاق على بدايات الشهور القمرية؛ أعني عاجزين عن الاعتراف بقدرة الحسابات الفلكية على تحديد هذه البدايات، في الوقت الذي أخذ فيه الإنسان يتطلع إلى استيطان الكواكب البعيدة؟ وكيف نسمح لعقولنا بتصديق الزعم القائل إنَّ الهيئات الدينية في العالم الإسلامي لا تعترض طريق العلم، إذا كانت تلك الهيئات لا تزال، حتى هذه اللحظة، عاجزةً عن إبداء الثقة في العلم في أمر ضئيل الشأن مثل ظهور الهلال في مطلع الشهر العربي؟

(٤-٣) الإسلام وعقلية العصور الوسطى

أمَّا العنصر الثالث في تلك الحُجَّة التي تربط بين ظهور العلمانية وظروف أوروبا الخاصة في نهاية العصور الوسطى، وترى أنَّ هذه الظروف غير قائمة في حالة الإسلام، فيرتكز على التمييز بين تاريخ أوروبا، الذي شهد عصرًا قديمًا مزدهرًا وعصرًا وسيطًا متخلفًا (على الرغم من أنَّه كان أطول العصور كلها زمنيًا)، وعصرًا حديثًا بلغ فيه التقدُّم أقصى درجاته، وبين التاريخ الإسلامي الذي لا يسير وفقًا لهذا الترتيب. فالعصور الوسطى الإسلامية كانت هي العصور الذهبية في التاريخ الإسلامي، وما يُقال عن ضرورة الأخذ بالعلمانية، تحرُّرًا من عقلية العصور الوسطى، هو كلام خاضع لوجهة النظر الأوروبية إلى التاريخ، أيْ إنَّه محاكاة لأوروبا في مجتمع كان له مساره المختلف عن مسارها.

وأول ما نلاحظه على هذه الحُجَّة هو أنَّها تربط بين ظهور أيِّ مذهب فكري وبين الأصل الذي نشأ منه، وكأنَّ هذا المذهب ينبغي أن يظلَّ مقيَّدًا بأصله الأول أبد الآبدين. فإذا كانت العلمانية قد نشأت حقًّا في ظروف عصر النهضة الأوروبية، فما الذي يمنع من أن تكون، من حيث المبدأ، قابلةً للتطبيق في ظروف أخرى؟ إنَّ كل مبدأ أحدث نقطة تحوُّل في حياة البشرية، كان في بدايته مرتبطًا بزمان ومكان ومجتمع مُعيَّن، ولكنَّه سرعان ما تحوَّل إلى مكتسَب بشري عام، وأصبح ملكًا للإنسانية جمعاء. وما أشبه الذين يسعَون إلى تقييد العلمانية بظروف أوروبا الخاصة في عصر النهضة؛ ما أشبههم بمَن يرفضون تطبيق المبادئ الديمقراطية في العالم الإسلامي بحُجَّة أنَّ الديمقراطية كلمة يونانية الأصل تنتمي إلى صميم الحضارة العربية وحدها، ومن ثَم فإنَّ الدعوة إليها في مجتمعاتنا الإسلامية إنَّما تنطوي على محاكاة وتبعية واغتراب. ولا جدال في أنَّ الشرور التي عانتها المجتمعات الإسلامية الحديثة من جرَّاء الاستبداد والحكم المطلق — الذي يكتسي في أحيان غير قليلة برداء الدين — تكفي لإقناعنا بأنَّ مبدأً عظيمًا كالديمقراطية لا يصحُّ أن يظلَّ إلى الأبد مرتبطًا بالأصل الذي نشأ فيه، وأنَّ التجربة الطويلة أثبتَت قدرته على التحوُّل إلى مبدأ أساسي في شئون السياسة والحكم يمكن تطبيقُه بنجاح — بعد إدخال التعديلات اللازمة — على أيِّ مجتمع بشري.

ومثل هذا يُقال عن العلمانية؛ ذلك لأنَّ أولئك الذين يتصوَّرون أنَّها مجرَّد نتاج مباشر لتمرُّد الأوروبيين على مواقف كنيستهم الكاثوليكية في العصور الوسطى، يغفلون جوهر العلمانية ويتعلقون بقشورها. فالعلمانية الأوروبية لم تكُن حركةً رافضةً للدين، بدليل أنَّ الدين لم يختفِ من أوروبا، والغرب بأكمله، بعد أربعة قرون من اتِّباع المبادئ العلمانية في كافة الميادين. وإنَّما كانت العلمانية رافضةً لأسلوب مُعيَّن في التفكير كان يتمسَّك به رجال الدين في ذلك العصر ويستخدمون سُلطتهم الجبَّارة من أجل فرضه بالقوة. فما هو هذا الأسلوب الذي تصدَّت العلمانية لرفضه، وما عناصره؟

إنَّ أول وأهمَّ ما كانت ترفضه العلمانية الأوروبية هو أسلوب التفكير بالسُّلطة، وهو الأسلوب الذي كان مميزًا لتفكير العصور الوسطى. والمقصود بالتفكير بالسُّلطة، ألَّا يواجه المرء المشكلات أو الظواهر المطلوب بحثها، بصورة مباشرة، وإنَّما يستشهد بما قِيلَ عنها في كتب مقدَّسة أو على ألسنة الشخصيات المشهورة في الماضي بوجه خاص. ومن الواضح أنَّ التفكير بالسُّلطة يسدُّ الطريق أمام أيَّة مناقشة منطقية أو علمية، إذ إنَّ مَن يفكر بهذا الأسلوب لا يُقدِّم أيَّة أدلة أو براهين، وإنَّما يضع جمهوره أمام سُلطة النَّص أو أقوال الشخصية المشهورة، وعلى هذا الجمهور أن يسلِّم بهذه السُّلطة، وإلَّا تعرَّض للاتهام بالهرطقة أو التجديف. والمثال المشهور على ذلك هو موقف رجال الدين من النظرية الفلكية الجديدة، التي تقول بأنَّ الأرض ليست مركز الكون وبأنَّها متحركة … إلخ، فقد كان تفسير رجال الدين هؤلاء لنصوص دينية مُعيَّنة تقول إنَّ السماء قد «رُفعَت» عن الأرض، وإنَّ كل ما حول الأرض من أجرام سماوية يدور حولها، بينما تظلُّ هي ثابتة في موضعها، وإنَّ الكون كله قد سُخِّر لخدمة الإنسان، ومن ثَم فإنَّه يحتلُّ مركز الكون، والأرض التي يعيش عليها تحتلُّ مكانةً مماثلة؛ كان تفسيرهم لهذه النصوص هو الأساس الذي ارتكزوا عليه من أجل إنكار النظرية الجديدة واضطهاد القائلين بها، وبطبيعة الحال فإنَّهم لم يحاولوا مناقشة الأدلة التي ترتكز عليها النظرية بطريقة علمية، وإنَّما وضعوا الإنسان أمام سُلطة النص، وسلبوه بالتالي حريته في التفكير وفي الوصول إلى الحقائق بنفسه.

هذا التفكير بالسُّلطة يجرُّ وراءه مجموعةً من النتائج التي تحُول دون حدوث تقدُّم علمي أو فكري أو اجتماعي حقيقي، كالاعتقاد بأنَّ المرء يملك الحقيقة المطلقة، وبأنَّ البشرية كلها تنقسم إلى أهل الحقِّ (الذين ينتمي إليهم صاحب هذا الاعتقاد بطبيعة الحال)، وأهل الباطل (وهم الآخرون جميعًا، مع أنَّ كلًّا منهم يؤمن طبعًا بحقيقته المطلقة الخاصة به)، وكذلك الاعتقاد بأنَّ دَور العقل ثانوي أو هامشي، وبأنَّ التغير وهمٌ ظاهري، وبأنَّ الاعتماد على التجربة والخبرة والممارسة علامة قصور، لأنَّ أرفع الحقائق هي تلك التي تأتي من السُّلطة العُليا.

والآن، لنسأل أنفسنا: هل العصور الوسطى، بهذا المعنى، حالة أوروبية خاصة، أم إنَّها قابلة للتطبيق على نطاق أوسع بكثير من أوروبا ذاتها؟ إنَّ لهذا السؤال أهميةً حيوية؛ فعليه يتوقَّف قبولنا للعلمانية بوصفها ضرورةً لا غَناء لنا عنها في عصرنا الحاضر، أو رفضنا لها بوصفها محاكاةً لأوضاع كانت سائدةً في أوروبا ولا علاقة لها بعالمنا الإسلامي.

والإجابة التي أُومن بها إيمانًا تامًّا، وأعتقد أنَّها تُمثِّل نقطةً حاسمةً في معالجة هذا الموضوع، هي أنَّ العصور الوسطى ليست مرحلةً تاريخيةً أو زمنيةً فحسب، وإنَّما هي أيضًا حالة ذهنية. فلو نظرنا إليها بالمفهوم التاريخي أو الزمني لقُلنا إنَّها تنتمي إلى حضارة مُعيَّنة، غريبة عنَّا، في مرحلة مُعيَّنة من تطوُّرها. ولكنَّنا لو تأمَّلناها من حيث هي أسلوب في التفكير لوجدنا أنَّها حالة قابلة للتكرار في مجتمعات كثيرة، وأنَّ العصور الوسطى ليست تلك المرحلة التي انقضَت منذ أربعة قرون أو خمسة فحسب، وإنَّما هي أيضًا وضع نجد له نظائر في صميم العصر الذي نعيش فيه. فكل مَن يفكر على أساس أنَّه يملك حقيقةً مطلقة، ويضع حاجزًا بين هذه الحقيقة وبين قابلية المناقشة والنقد، وكل مَن يتخذ لحُجَجه سندًا وحيدًا من الاستشهاد بالنصوص، أو اقتباس أقوال القدماء، أو الرجوع إلى السلف الصالح، يفكر بعقلية العصور الوسطى، حتى لو كان يعيش على مشارف القرن الحادي والعشرين.

إنَّ الحاجة إلى تجاوز العصور الوسطى لم تكُن مُلحَّةً في عصر النهضة الأوروبية فحسب، بل إنَّ ما فعلته العلمانية في أوروبا، من تحرير للعقول من الاستشهادات والاقتباسات والارتكان المطلق إلى سلطات فكرية لا تُناقَش، إنَّما يُمثِّل حاجةً دائمةً تتكرَّر في مختلف العصور والبيئات. فلكل مجتمع عصوره الوسطى، حتى في صميم عصرنا الحاضر، ولكل مجتمع حاجته إلى تجاوز الفكر السُّلطوي ومواجهة المشكلات مباشرةً بمنطق العقل ومشاهدات الحسِّ وخبرة الممارسة والتجربة. والمسلم المعاصر الذي لا يعرف كيف يناقش وضع المرأة، مثلًا، إلَّا من خلال النصوص والروايات المتواترة عن السلف الصالح، دون أن يتأمَّل الأوضاع الفعلية والمشكلات الراهنة للمرأة المعاصرة، يعيش في العصور الوسطى، ويحتاج إلى ثورة فكرية شاملة كيما يُغيِّر طريقته في النظر إلى الأمور. ولا يصْدُق هذا علينا فحسب، وإنَّما نستطيع أن نجد أمثلةً لتفكير العصور الوسطى في معظم دول العالم الثالث من غير المسلمين، بل إنَّ كثيرًا من المُفكرين السوفييت الذين لم يكُن في استطاعتهم، حتى عهد قريب، أن يعرضوا آراءهم في موضوعٍ ما دون الاستشهاد في كل صغيرة وكبيرة بأقوال ماركس ولينين، كانوا يعيشون في ظلِّ عقلية العصور الوسطى، حتى لو كان الموضوع الذي يعالجونه يتعلق بعصر الفضاء. ومن هنا فإنَّ جهود جوربا تشوف تُمثِّل بالنسبة إلى هؤلاء حركة إصلاح فكري — بقدْر ما هي إصلاح سياسي واجتماعي — توازي ما قامت به النزعة العلمانية في أوروبا عند أُفول العصور الوسطى.

إنَّ الأسلوب السائد بين الأصوليين الإسلاميين المعاصرين، عندما يواجهون أيَّ موقف جديد، هو «قياسه» على نصٍّ من النصوص، أو البحث عن حالة مشابهة له في كتابات الأئمة والفقهاء، فإن لم يجدوا، لم يكُن هناك مفرٌّ من «الاجتهاد»، ولكنْ مع التزام روح النصوص والأحكام الشرعية. وكل مَن درس شيئًا عن تاريخ الحضارة يعلم أنَّ منهج «القياس» هذا هو أول ما ثار عليه الأوروبيون، حيث أرادوا أن ينفضُوا عنهم غبار العصور الوسطى ويشقُّوا لعقولهم طريقًا جديدًا، صحيح أنَّ «القياس» يختلف نوعه وتفاصيله في الحالتَين، ولكن الروح واحدة؛ إذ إنَّ المرجع الأخير في الحالتَين هو تلك المعرفة المسبقة التي يُفترض أنَّها هي المرجع والسند في بحثنا عن أيَّة حقيقة أو في حُكمنا على أيِّ موقف جديد.

ألسنا، في عالمنا الإسلامي المعاصر، محتاجين إلى مَن يقول لنا، كما قال كبار مُفكري عصر النهضة وأوائل العصر الحديث لمعاصريهم: إذا كانت الطبيعة أمامكم، ومشاكل الناس والعالم أمامكم، فلماذا ترجعون في كل شيء إلى النصوص؟ ولماذا تتخذون من الفكر الموروث سُلطةً لا تُناقَش؟ ولماذا لا تواجهون المواقف الجديدة بعقولكم، التي يستحيل أن يكون الله قد حكم عليها بأنَّها أعجز وأضعف من عقول القدماء؟

إنَّ التحليل السابق انتهى بنا إلى نتيجتَين على جانب عظيم من الأهمية؛ الأولى أنَّ العصور الوسطى ليست مرحلةً لها موقع زمني محدَّد فحسب، وإنَّما هي حالة ذهنية يمكن أن تتكرَّر في مجتمعات كثيرة، وفي أزمنة متعددة، بل إنَّ لها أمثلةً واضحةً في صميم عصرنا الحاضر. والثانية أنَّ السمات المميزة لهذه الحالة الذهنية لا يزال الكثير منها قائمًا في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وعلى رأسها التفكير بالسُّلطة، والاعتقاد بحقيقة واحدة مطلقة هي «حقيقتنا» الخاصة، وكل ما عداها بُطلان، والاحتكام الدائم إلى النصوص وإلى أقوال القدماء ومواقفهم بدلًا من المواجهة المباشرة للمشكلات.

وهذا يعني أنَّ الأسباب التي دفعَت أوروبا إلى الأخذ بمبدأ العلمانية ماثلة بوضوح في عالمنا الإسلامي المعاصر، ويعني أيضًا أنَّ الفكرة التي يُردِّدها الجميع على وجه التقريب، وهي أنَّ العلمانية نتاج لظروف انفردَت بها أوروبا في مرحلة مُعيَّنة من تطوُّرها، هي فكرة لا تقوم على أساس.

وفي إطار التحليل الذي نقول به، تكون العلمانية ضرورةً لازمةً لكل مجتمع يتراجع فيه التفكير المستقلُّ ويحُلُّ محلَّه التفكير العاجز الذي يرتكن دائمًا على مصدر خارجه، ويرى نفسه أشدَّ قصورًا من أن يستطيع مواجهة المشكلات بنفسه. وبهذا المعنى لا تكون العلمانية على الإطلاق مبدأً مستورَدًا من الغرب، وإنَّما هي مبدأ أصيل تحتاج إليه جميع المجتمعات البشرية إذا وجدَت نفسها تواجه صراعًا بين استقلالية الفكر وسُلطويته.

وتؤدِّي الفكرة التي نقول بها الآن إلى نتيجة قد تبدو غريبةً للوهلة الأولى، ولكنَّها تغدو مفهومةً ومعقولةً تمامًا في ضوء التحليل الذي قدَّمناه من قبل. هذه الفكرة هي أنَّ الآية ينبغي أن تعكس فيما بين الاتجاه العلماني والاتجاه السُّلطوي التراثي الذي يُسمِّي نفسه إسلاميًّا. فالوضع الشائع لدى أصحاب الفكر التراثي هو أن يصفوا العلمانيين بأنَّهم تابعون لحضارة غريبة عنهم، وبأنَّهم مقلِّدون يستوردون مبدأهم الأساسي من الغرب، بينما يصفون أنفسهم بالأصالة وبالتفكير المستقلِّ الذي يرفض المبادئ المستورَدة ويعود دائمًا إلى جذوره التاريخية والحضارية. وفي رأيي أنَّنا لو أمعنَّا الفكر لوَجَب أن نقلب هذا الوضع رأسًا على عقب؛ ذلك لأنَّ التراثيين، في عجزهم الدائم عن مواجهة الحاضر بمنطقه الخاص، وفي اضطرارهم المستمر إلى استخلاص أُسس تفكيرهم من المبادئ السائدة في عصور سابقة، هم الذين يكشفون عن عجز واضح عن الاستقلال، ويعلنون بلا مُوارَبةٍ تبعيتَهم لأجيال تفصلها عنهم قرون عديدة. صحيح أنَّ هذه الأجيال ليست غريبةً عنَّا، ولا تنتمي إلى حضارة غير حضارتنا، غير أنَّ الحالة الذهنية للشخص الذي يُهرع إلى نصٍّ قديم لكي يستصدر منه حُكمًا على أيِّ موقف جديد يواجهه، هي في حقيقتها حالة الشخص التابع، الذي يخشى التفكير في الأمور بنفسه ويعجز عنه. وفي مقابل ذلك فإنَّ العلمانيين، الذين يدعون إلى الاندماج المباشر في العصر ومواجهة مشكلاته بمنطق وتفكير معاصر، يكشفون بغير شكٍّ عن استقلالية واعتماد على الذات لا جدال فيهما. وأكبر الأساطير، في رأينا، هو تلك الأكذوبة التي ردَّدها خصوم العلمانية وصدَّقها أتباعهم بلا تفكير، وهي أنَّ العلمانيين يدعون إلى السير في رِكاب الفكر الغربي، ويستمِدُّون الحلول لمشكلاتهم من نظريات جاءت بها الحضارة الأوروبية، وأنَّهم بالتالي تابعون معتمدون على الغير. فكل ما يُريده العلماني هو أن يسير في موكب التقدم، وأن يبحث عن أحدث الأفكار وأقدرها على مواجهة مشكلات العصر، وليس في دعوته ما يُحتِّم على الإطلاق مجاراة الأوروبيين في أساليبهم وممارساتهم وأفكارهم، وإنَّما قد يتلاقى مع الأوروبيين — دون تعمُّد ودون تخطيط مسبق — في سعيه إلى تطبيق المنهج العقلي والمنطق الدقيق، وفي رفضه لسُلطة القدماء على عقول المُحدِثين، ولكن جوهر دعوته هو استقلالية التفكير لا تبعيته.

وخلاصة القول أنَّ العلاقة بين التراثيين والعلمانيين، من حيث مدى استقلال كل طرف أو تبعيته، تُعرَض علينا بطريقة مقلوبة مضلِّلة، وهذا التضليل يظهر بكل وضوح إذا ما أوجزت المسألة في عبارة واحدة، وهي أنَّ التراثي لا يفكر إلَّا عن طريق غيره، بينما العلماني لا يفكر إلَّا بنفسه.

(٤-٤) العلمانية والتراث

يتصوَّر خصوم العلمانية أنَّهم هم وحدهم حُماة التراث، وأنَّ العلمانيين يدعون إلى هدمه ويستمدُّون مقوِّمات تفكيرهم من حضارة غريبة عن حضارتنا. ويترتَّب على ذلك اعتقاد راسخ لديهم بأنَّنا لا نستطيع الحفاظ على هُويَّتنا والتمسُّك بجذورنا إلَّا برفض العلمانية. ونحن نأمل أن نكون قد أثبتنا في مناقشتنا السابقة أنَّ العلمانية إنَّما هي في أساسها تعبير عن منهج مُعيَّن في التفكير لا ينبغي أن يكون مرتبطًا بالغرب، وأنَّها تُمثِّل احتياجًا فكريًّا دائمًا يمكن أن يظهر في أيِّ مجتمع يحاول كسر نطاق السُّلطة العقلية والانتقال إلى مرحلة التفكير المستقل. فإذا كان الأمر كذلك، كان معناه فكَّ الارتباط الذي يقول به هؤلاء الخصوم بين العلمانية وبين الحضارة الغربية.

ويظلُّ لدينا بعد ذلك الشقُّ الثاني من هذا النقد؛ وهو القول بأنَّ رفض العلمانية شرط ضروري للحفاظ على التراث. والواقع أنَّ مجموعة القِيَم العقلية التي قُلنا من قبلُ إنَّها تُشكِّل قوام العلمانية؛ أعني قِيَم العقلانية وروح النقد والتزام المنطق العلمي والاستقلال عن السُّلطة الفكرية، ليست على الإطلاق قِيَمًا تنفرد بها الحضارة الغربية (كما يقول نُقَّاد العلمانية، الذين يمنحون تلك الحضارة — من حيث لا يدرون — شرفًا لا تستحقُّه)، بل إنَّ لهذه القِيَم أصولًا في صميم الحضارة الإسلامية بدَورها. فدُعاة العلمانية المعاصرون في العالم الإسلامي لا يتعيَّن أن يكونوا نُسخًا مشوَّهةً من المُفكرين الغربيين المُحدِثين، وإنَّما هم بالأحرى امتداد لتراث المعتزلة والفارابي وابن رشد وابن الهيثم. ومن المؤكَّد أنَّ هؤلاء الأخيرين بدَورهم كانت لهم معاركهم ضدَّ أنصار التقيُّد الحَرفي بالنَّص والخضوع الكامل للسُّلطة، وربما خاضوا هذه المعارك تحت راية الصراع بين «العقل والنقل» أو محاولة التوفيق بين «الحكمة والشريعة»، وهي بالطبع مصطلحات لا تُستخدَم في عصرنا الحاضر، ولكن جوهر المعركة الفكرية واحد، بل إنَّه ليبدو أحيانًا أنَّ هؤلاء القُدامى قد خاضوا معاركهم في ظلِّ ظروف أفضل من تلك التي يخوض فيها العلمانيون المعاصرون معاركهم ضدَّ السلفية والتراثية على أعتاب القرن الحادي والعشرين.

والواقع أنَّ أحدًا من العلمانيين المعاصرين لا يفكر في الدعوة إلى قطع جميع الجسور مع الماضي، ربما كانت هذه الدعوة قد ظهرَت لدى بعض علمانيي أوائل القرن، أمَّا في الوقت الراهن فإنَّ الفكر العلماني لا يُدير ظهره للتراث بأيِّ معنًى من المعاني، بل إنَّ بعضًا من أهمِّ المؤلَّفات العربية المعاصرة التي عالجَت موضوع التراث واتَّخذَت منه موقفًا واعيًا، قد كتبها مُفكرون علمانيون، وليس هذا بالأمر المُستغرَب، لأنَّ مَن يدعو إلى التفكير في مشكلات العصر من خلال منطقها الخاص، لا يتعيَّن على الإطلاق أن يكون داعيةً إلى مواجهة المستقبل بغير جذور من الماضي، وليس للتعارض بين الموقفَين من وجود إلَّا في أوهام أولئك الذين يحترفون التجريح والتشنيع.

ولدينا مثال لعدم التعارض بين العلمانية والاهتمام بالتراث في موقف الأوروبيين أنفسهم، الذين يعترف الجميع بأنَّهم أشدُّ شعوب الأرض تحمُّسًا لمبدأ العلمانية. ففي الوقت نفسه الذي انتشرَت فيه الدعوة إلى العلمانية في عصر النهضة الأوروبية، ردًّا على جمود الكنيسة الكاثوليكية، ظهرَت أكبر حركة لدراسة التراث وإحيائه في أوروبا، وهي الحركة المعروفة باسم «النزعة الإنسانية» Humanism، وأُعيد نشر أهمِّ مؤلَّفات الفلاسفة والأدباء اليونانيين القُدامى بعد تحقيقها بأفضل الطرق العلمية المتاحة في ذلك الحين. وعرفَت أوروبا صورة حضارتها القديمة بقدْر من الدقة والوضوح لم يكُن متاحًا لها في أيِّ وقت مضى، وذلك في اللحظة نفسها التي أخذَت فيها تتأهب لنفض غبار الماضي، والسير بكل قوة في طريق المستقبل. ومن المؤكَّد أنَّ هذه الحركة المزدوجة نحو إحياء الماضي من جهة، ونحو القفز إلى المستقبل من ناحية أخرى، تبدو شديدة التناقض من وجهة النظر الشكلية التي تسود لدينا في تلك الصيغة المشهورة: «الأصالة (التراث) أو المعاصرة». ولكن أوروبا لم تحبس عقلها في إطار ثنائية كهذه، بل كسرَت هذا التناقض، أو على الأصحِّ تجاوزَته، وبقدْر ما أصبحَت تؤكِّد مبادئ العقلانية والعلمانية في عصرها الحديث، حرصَت في الوقت ذاته على كشف أدقِّ تفاصيل تراثها وبعث الحيوية والتجدُّد في أوصال ماضيها القديم. وما زالت الحضارة الأوروبية (التي تعني هنا الغرب بأَسره) تُدهِش العالم وتُفاجئه بالتجديد المستمر الذي لا يدع للإنسان لحظةً يلتقط فيها أنفاسه، وتعكف في الوقت ذاته على تحليل تراثها الثقافي القديم والتعمُّق فيه إلى حدٍّ لا نجد له نظيرًا في أيَّة حضارة أخرى، دون أن تمنعها علمانيتها الراسخة من العكوف الدائب على تراثها.

وعلى ذلك فإنَّ العلمانية لا يتعيَّن، من حيث المبدأ، أن تكون رافضةً للتراث، والتضاد المزعوم بينهما لا يعدو أن يكون أسطورةً من الأساطير الباطلة التي ينشرها خصوم العلمانية. غير أنَّ جوهر الخلاف بين الموقفَين هو أن العلمانيين، حين يُبدون اهتمامهم بالتراث، لا يفكرون على الإطلاق في إعادة صياغة حياتهم وفِكرهم على مثاله، على حين أنَّ جوهر الدعوة السلفية الجديدة في بلادنا هو الهجرة من الحاضر إلى الماضي، واستخلاص المبادئ الأساسية التي توجِّه الحياة من تلك المُثُل العُليا التي كانت سائدة — أو يُقال إنَّها كانت سائدة — في عصور ماضية تُمثِّل بالنسبة إليهم الحلم والأمل.

إنَّ العلمانية، مهما تعمَّقَت في التراث، تظلُّ تضعه في إطاره التاريخي، وتربطه بظروف الزمان والمكان التي حدَّدَت معالمه، وهي لا تقع أبدًا في خطأ الاستعاضة عن الحاضر، مهما كان هُويَّتُه بالماضي، مهما كان مجيدًا. ولذلك كان موقف العلمانية من التراث جامعًا بين الحفاظ عليه وتجاوزه، بل إنَّها ترى أنَّ التراث لا يُصان ولا يُحفظ إلَّا من خلال عملية النقد والتجاوز. وعلى سبيل المثال، فإنَّ الرياضيات التي استوعبَت، في وقتٍ ما، كشوف جابر بن حيان ثم تجاوزَتها، قد صانت تراث جابر على نحوٍ أفضلَ بكثير ممَّا يفعل أولئك الذين يعتقدون أنَّ المبادئ العامة للعلم القديم ما زالت صالحةً للتطبيق حتى عصرنا الحاضر (كما يفعل جميع المتحمِّسين ﻟ «الطبِّ الإسلامي»، على سبيل المثال). ولو نظرنا إلى الأمر بشيء من الموضوعية، لتبيَّن لنَّا أن اختزان التراث بعيدًا عن إطاره التاريخي، هو الذي يؤدِّي حتمًا إلى هدمه (على عكس ما يبدو للوهلة الأولى)، وأنَّ تجميد الماضي إلى الحدِّ الذي يُعَدُّ معه «صالحًا لكل زمان ومكان»، هو الذي يسلب هذا الماضي كل نضارته وحيويته.

(٥) العلمانية ضرورة اجتماعية وسياسية

بعد أن قُمنا بتفنيد الاتهامات الخطابية والعلمية التي تُوجَّه إلى العلمانية، وتبيَّن لنا أنَّ العلمانية ضرورة عقلية لا تتقيَّد بمجتمع مُعيَّن ولا ترتبط بعصر بعينه من عصور التاريخ، تظلُّ أمامنا مهمَّة أخرى لا تقلُّ أهميةً عن السابقة، وإن كانت مبنيةً على ما توصَّلنا إليه فيها من نتائج، وهي مهمَّة إثبات أنَّ العلمانية ضرورة اجتماعية وسياسية لمجتمعاتنا الإسلامية في مرحلتها التاريخية الراهنة. ولا مفرَّ خلال معالجة هذا الموضوع الحيوي من الالتجاء إلى الجانب السلبي، فضلًا عن الجانب الإيجابي، من الحُجَج التي نسوقها؛ أعني أنَّنا لن نكتفي بتأكيد ضرورة العلمانية على المستوى الاجتماعي والسياسي، بل سنُبيِّن في الوقت ذاته مدى الأخطار التي تُصيب مجتمعاتنا إذا لم تأخذ بها.

  • أولًا: أصبح تسييس الدين، في العقدَين الأخيرَين، أمرًا يتسع نطاق الاعتراف به يومًا بعد يوم، بل يبدو أنَّ المعترضين عليه بدءوا يتراجعون، فأصبح اعتراضهم مُنصبًّا على التفاصيل، على حين أنَّ المبدأ العام أصبح مقبولًا لدى أعداد متزايدة منهم. وأصبح من الاعتقادات المتداوَلة على أوسع نطاق، القول إنَّ إبعاد الدين عن السياسة ينطوي على انتقاص من قدْر الدين، وتضييق غير مشروع لنطاقه، ووصل الأمر بأحد المُفكرين الذين يحرصون على الاحتفاظ بصورة «الاعتدال» أمام الرأي العام الإسلامي، إلى حدِّ ابتداع تعبير «الإسلام السياحي»، للدلالة على موقف خصوم «الإسلام السياسي».
    ومن المؤكَّد أنَّ الزحف المتزايد لقُوى الإسلام السياسي قد نجح، إلى حدٍّ لا يُستهان به، في تأكيد مبدأ كان حتى عهد قريب مرفوضًا رفضًا قاطعًا؛ هذا المبدأ هو تدخُّل الدين في شئون السياسة، أو تنظيم السياسة وفقًا لمبادئ الدين، فحتى الستينيات من هذا القرن كانت نسبةٌ كبيرةٌ من المشتغلين بالسياسة، حتى المتدينين منهم، تؤمن بأنَّ فصل الدين عن السياسة من الأمور البديهية التي لا تعني على الإطلاق انتقاصًا من قدْر الدين.٧ ولكن جو الإرهاب الديني الذي فُرض علينا منذ السبعينيات أرغم الكثيرين على قبول الفكرة القائلة إنَّ الدين ينبغي أن يكون شاملًا لجميع جوانب الحياة، وضمنها الجانب السياسي والاجتماعي، وإنَّ مَن يقولون بغير ذلك يسعَون إلى خنق العقيدة وحبسها في أضيق الأُطر.

    والواقع أنَّ السياسة، بمعنى إدارة شئون الحكم في مجتمع مُعيَّن، هي بطبيعتها فن متغير، يقوم على الممارسة المرتكزة — في الأحوال المُثلى — على مجموعة من المبادئ القابلة بدَورها للتغير. ولا معنى في السياسة لعبارة «صالح لكل زمان ومكان»؛ لأنَّ المرونة — حتى بالنسبة إلى المبادئ الأساسية — تُشكِّل جوهرها. وأبسط معرفة بتاريخ البشرية يُثبت أنَّ السياسة لا تعرف شيئًا أزليًّا، وأنَّها هي فن التواؤم مع أوضاع البشر الشديدة التقلُّب.

    ومن ناحية أخرى، فإنَّ السياسة تفترض الاختلاف وتعدُّد وجهات النظر وتبايُنها، وأساس مهمَّتها هو العمل على تغليب اتجاه مُعيَّن على الاتجاهات الأخرى، على حين أنَّ الأديان تسعى إلى أن تكون شاملة، وكل دين يهدف إلى أن يسري على الإنسانية جمعاء.

    وأخيرًا فإنَّ أغلب الممارسات السياسية تنتمي إلى عالم الوسائل، وتُستخدم فيها أساليب ومراوغات تخرج عن عالم الغايات والمُثل العُليا الذي ينتمي إليه الدين. وبهذا المعنى فإنَّ تسييس الدين يُلحق به ضررًا بالغًا؛ إذ يُنزله من عليائه ويربطه بجو المناورات والصفقات والمصالح، الذي ينبغي أن يظلَّ الدين مترفعًا عنه.

    وهكذا يؤدِّي تسييس الدين إلى مأزق لا مخرج منه؛ فإذا مارسنا هذه السياسة المرتكزة على الدين بالطرق المألوفة في عالم السياسة، كان معنى ذلك الهبوط بالدين إلى مرتبة الانتهازية والتآمر، وإذا تمسَّكنا في تلك السياسة بالمثاليات الدينية كانت نتيجة ذلك عجزًا كاملًا عن التعامل مع عالم يمارس السياسة بطرق دنيوية خالصة.

  • ثانيًا: أثبتَت التجربة التاريخية أنَّ نطاق الحريات يتسع كثيرًا في ظلِّ الحكم العلماني عنه في أيِّ مجتمع تُدار فيه شئون السياسة على أساس ديني، فالحكم الديني يغري الأغلبية باضطهاد الأقلية، ويغري الحكَّام باستغلال قداسة الدين من أجل تبرير تصرفاتهم وإضفاء العصمة على أخطائهم. وكثير من حقوق الإنسان الأساسية، ولا سيِّما حرية الاعتقاد والتفكير، تُقيَّد أو حتى تُهدَر إذا كان الحكم يرتكز على وجود حقيقة مطلقة يُعَدُّ كل ما يخالفها زندقةً وتجديفًا. وبالطبع فإنَّ الردَّ الجاهز على هذا الاعتراض هو الإشارة إلى ذلك المدى الواسع من التسامح مع الأقليات، الذي عرفته عصور إسلامية زاهية، كالعصر الأندلسي على سبيل المثال. وتلك حقيقة تاريخية لا تُنكَر، غير أنَّ تفسيرها لا يتعارض مع رأينا السابق؛ إذ إنَّ الحكم الإسلامي قد كفل تلك الحريات بقدْر ما ابتعد عن التعصُّب وعن حَرفية التفسير في فهم الأحكام الدينية، ولجأ إلى الاجتهاد والتحرُّر الفكري بقدْر لا يختلف كثيرًا عمَّا يدعو إليه العلمانيون. ولا شكَّ أنَّ الحكم العربي في الأندلس لم يكُن إسلاميًّا إلَّا بمعنًى فضفاض إلى أبعد حد، أمَّا العصور التي غلب عليها التعصُّب والتمسُّك بحَرفية النَّص فقد أُهدِرَت فيها معظم الحريات الأساسية للإنسان.
  • ثالثًا: تُضفي العلمانية على الإنسان المكانة التي يستحقُّها، فهي لا تؤلهه ولا تقول بعصمته من الخطأ، وإنَّما هي تعترف بمحدودية عقل الإنسان وعجزه عن تحقيق الكثير ممَّا يتجه إليه طموحُه، غير أنَّها تعترف في الوقت ذاته بأنَّ عظمة الإنسان تكمن على وجه التحديد في سعيه الدائم إلى تجاوز عجزه وقصوره، وتدرك عن وعي أنَّ الإنسان حقَّق في هذا المضمار إنجازاتٍ رائعة، وما زال ينتظر ما هو أعظم كثيرًا ممَّا حقَّقه. فالحضارة البشرية ليست إلَّا سعي هذا الكائن، الذي يعي جيدًا حدوده وقصوره، إلى تجاوز ذاته. وهذا ينطبق على كافة مجالات الحضارة، ولكن ما يعنينا هنا هو الميدان السياسي والاجتماعي.

    فليس في وسع أحد الادِّعاء بأنَّ النظُم التي وضعها الإنسان لنفسه كاملة. غير أنَّ إدراك الإنسان لقصور هذه النظُم هو الذي يدفعه إلى تحسينها بلا انقطاع. وخلال كل مرحلة في هذه العملية التي لا تنقطع، يكتسب الإنسان مزيدًا من الخبرات، ويعمل على تقليل أخطائه والارتفاع بمستوى إنجازاته. والأهمُّ من هذا كله، أنَّ الإنسان يكتسب مزيدًا من الثقة في نفسه، ويُصحِّح مساره كلما تراكمَت تجاربه، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات.

    غير أنَّ خصوم العلمانية يحملون في داخلهم قدْرًا هائلًا من الاحتقار للإنسان، لا يعلنونه عن الملأ، وربما لم يكونوا على وعي تام به، ولكنه كامن في صميم تعاليمهم، فأكبر الكبائر عندهم، في ميدان السياسة وتدبير شئون المجتمع، هو أن تستمدَّ السُّلطة السياسية شرعيتها من الإنسان، ومن الشعب، وأن يكون تشريعها مستمَدًّا من التجارب والخبرات التي تتراكم لدى المجتمعات البشرية؛ ذلك لأنَّ كل ما يصدُر عن الشعب، أو عن الإنسان عامة، موصوم لديهم بالتقلُّب والتخبُّط والإخفاق. ولفظ «الوضعي» الذي يصفون به القوانين البشرية، ويعنون به ما هو من وضع الإنسان، أصبح من ألفاظ التجريح والتحقير، ولدى معظم هذه الاتجاهات بُغض كامن للديمقراطية، لمجرَّد أنَّها تعني «حكم الشعب»، وهو البُغض الذي يُغلَّف بإطار من التمسُّك بالتراث، فيُقال إنَّ اللفظ يوناني يُعبِّر عن تجربة غريبة عن أصالتنا. ويتخذ هذا البُغض للديمقراطية، وهذا الاحتقار الدفين للشعب، شكلًا مؤسَّسيًّا حين توضَع «الشورى» في مقابل الديمقراطية، ثم يُترك الأمر للاختلاف حول ما إذا كانت الشورى مُلزِمةً للحاكم أم غير مُلزِمة. وفي غمار هذا الاختلاف ينسى الجميع أنَّ نقطة البدء في الشورى تأتي من الحاكم؛ لأنَّه هو الذي «يشاور»، على حين أنَّ نقطة البدء في الديمقراطية لا بدَّ أن تأتي من القاعدة، أيْ من الشعب، وهو فارق هائل. كما ينسَون أنَّ الشورى إذا ما طُبِّقَت تطبيقًا يتلاءم مع ظروف العصر، لا بدَّ أن تصبح في نهاية الأمر شكلًا من أشكال الديمقراطية، ولا بدَّ أن تُحكَم بضوابط المؤسَّسات الديمقراطية إذا ما شاءت أن تخرج عن الإطار الفردي الاستبدادي.

    ولا جدال في أنَّ فكرة «حاكمية الله»، التي طرحها سيد قطب، وردَّدَتها من بعده جماعات كثيرة اتَّخذَت من تعاليمه نقطة انطلاق لها، تُلخِّص موقف هذه الجماعات في عدم الثقة بالإنسان. ويرتكز هذا الموقف على استغلال الأخطاء التي يقع فيها الشعب لكي يُثبت أنَّ هذا الشعب ينبغي أن يظلَّ في حالة وصاية دائمة، وأنَّه بالتالي عاجز عن تدبير أموره بنفسه. ومن جهة ثانية، فإنَّ هذه الحاكمية الإلهية تُمثِّل — كما قُلنا في مواضع كثيرة أخرى — فكرةً مستحيلة التطبيق؛ لأنَّ الشرع الإلهي لا يُطبَّق إلَّا بواسطة البشر، ولأنَّ توسُّط الإنسان لا غَناء عنه عند إنزال أيِّ حُكم إلهي من السماء إلى الأرض، ومن ثَم يمكن بسهولة أن تتحوَّل حاكمية الله إلى حاكمية للبشر. ومن جهة ثالثة، فإنَّ هذه الحاكمية الإلهية التي تزعم أنَّها تنقل رسالة السماء إلى الأرض، أخطر وأشدُّ ضررًا بما لا يُقاس، من أيِّ حُكم بشري يتقدَّم إلى مجتمعه بوصفه بشريًّا، لأنَّ الأخير قابل للتخطئة والتغيير، بينما الأول يُضفي على الإنسان الذي يُطبِّقه عصمةً لا يملكها، ويخلع عليه قداسة المصدر السماوي الذي يزعم أنَّه هو الناطق باسمه، فيصبح من المستحيل ردُّه إلى الصواب، ويغدو القمع والاضطهاد هو القاعدة في تعامله مع كل مَن يحاول تنبيه المجتمع إلى أخطائه.

  • رابعًا: وأخيرًا، فإنَّ التعامل السياسي بين مختلف المجتمعات البشرية يصبح أمرًا بالغ الصعوبة إذا لم يستند على أُسس علمانية، فحين يصبح أساس التعامل دينيًا، قد ينقسم الولاء داخل المجتمع الواحد ما بين أصحاب العقائد المختلفة، فيتجه ولاء مسلمي الفلبين، مثلًا، إلى إندونيسيا، ويتجه ولاء مسيحيي لبنان، مثلًا، إلى فرنسا، ويستتبع ذلك وقوع الكوارث الطائفية التي لا تزال مجتمعاتنا المعاصرة عاجزةً عن التحرُّر منها. ومن جهة أخرى فإنَّ تطوُّر التاريخ والحضارة جعل أصحاب الدين الواحد، المنتشرين في دول مختلفة، يحملون اتجاهاتٍ شديدة التباين في أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد. ولو حلَّ الولاء الديني محلَّ الولاء الوطني أو القومي لدبَّت الفوضى في العلاقات بين أمثال هذه المجتمعات، وذلك لسبب بسيط هو أنَّ اشتراك المجتمعات المختلفة في دين واحد لم يصبغها بصبغة واحدة في تفكيرها السياسي واتجاهاتها الاقتصادية والاجتماعية، وإنَّما نجدها في واقع الأمر مختلفة في كل شيء ما عدا الدين. ومن هنا أصبح من الطبيعي أن تُحدِّد الدول مواقفها مع الدول الأخرى وفقًا لمصالحها، لا وفقًا لدينها، فتميل دول إسلامية كثيرة إلى الانحياز لموقف المسيحيين في النزاع بينهم وبين المسلمين في قبرص، أو إلى جانب الهند في صراعها مع باكستان الإسلامية، وهلُمَّ جرًّا. وبالطبع فلسنا في حاجة إلى الإشارة إلى تلك الحقيقة التي نبَّه إليها الكثيرون من قبل، وهي أنَّ إقامة تكتُّل من الدول على أساس إسلامي لا بدَّ أن يترتَّب عليه إقامة تكتُّل آخر على أساس مسيحي، وبتعدُّد التكتُّلات الدينية تختلُّ الموازين الدولية، وتقوم صراعات من نوع جديد، يُعيد إلينا صورة الحروب الصليبية وغيرها من حروب الطوائف والأديان.

    لو تأمَّلنا الأمر بنظرة واقعية لوجدنا أنَّ جميع الدول التي أعلنَت رفضها الصريح لأيِّ مبدأ علماني، وقرَّرَت إقامة سياستها على أُسس دينية، لا تُطبِّق هذه الأُسس فعليًّا في معاملاتها الدولية، بل إنَّ هذه الدول، حين تخلَّت عن العلمانية، أصبحَت من أقلِّ دول العالم استقلالًا، وأشدِّها خضوعًا للنفوذ الأجنبي (الذي تفرضه دول الغرب المسيحي). ويكفي في هذا الصدد أن نقارن بين إندونيسيا سوكارنو وإندونيسيا سوهارتو، وبين باكستان بوتو وباكستان ضياء الحق، وبين سودان الأحزاب الديمقراطية وسودان النميري. وهكذا تبدو العلمانية شرطًا ضروريًّا من شروط التعامل السليم بين الدول في المجتمعات الحديثة، على حين أنَّ العودة إلى أُسس أسبق تاريخيًّا منها، كالأساس الديني، تؤدِّي إلى الاختلال الشديد في العلاقات الدولية.

خاتمة

إنَّ الأخطاء الفادحة التي تشيع حول مفهوم العلمانية من أوضح مظاهر التدهور الفكري الذي وصلنا إليه في العقدَين الأخيرَين. ولا يقتصر هذا التدهور على موضوع العلمانية وحده، وإنَّما تسود بين جماهير غفيرة من الناس، وخاصةً المُنتمين منهم إلى جماعة إسلامية، مجموعةٌ من الأفكار الباطلة التي يُردِّدها الجميع بلا تفكير، ولا يحاول أحد أن يتحقَّق بنفسه من صحَّتها، وتظلُّ تُردَّد وتُتناقل، لا على مستوى الأفراد العاديين فحسب، بل على مستوى الكُتَّاب والمُفكرين أنفسهم، فالجميع يتحدَّثون بلا فهم عن العلم «المادي» الأوروبي، وعن تلك الفلسفة «المادية» التي تجعل من الإنسان الغربي مجرَّد «غريزة» أو كتلة مُعقَّدة من المادة، وتستبعد كل عنصر روحي استبعادًا تامًّا. والجميع يتوهَّمون أنَّ العلم إذا تجاوز المجال المادي أو التجريبي المباشر أو المحسوس كان معنى ذلك أنَّه ينتقل إلى «عالم الغيب» الذي لا سبيل إلى معرفته إلَّا بشكل من أشكال الوحي. والكل يؤمنون بأنَّ الإنسان الأوروبي يعيش في حالة انحلال خُلقي دائم، ولا يُفكر إلَّا في الجنس الذي يُمارسه بتحرُّر تام، ولا مجال في حياته لأيِّ نوع من القِيَم الأخلاقية، وأنَّ التشريع في الدول الأوروبية يستهدف حماية «الشواذ جنسيًّا»، ويدافع عن الزنا، إلى آخر هذه الأوهام التي تكوِّن صورةً مشوَّهةً يتألَّف منها الزاد الفكري الوحيد لملايين من الناس. مثل هذه القضايا الخُرافية يستحيل أن تسود وتتردَّد من كاتب إلى كاتب، ومن خطيب إلى خطيب، ومن قارئ إلى قارئ، إلَّا في عصور الانحدار الفكري، والتسليم الساذج بما يقوله دُعاة مُغرِضون، أو كُتَّاب لا يعرفون ولا يقرءون. ولو كانت الدعوة الإسلامية المعاصرة تحمل ذرةً من التفتُّح العقلي والاستنارة والرغبة الحقيقية في التحرُّر من سيطرة الفكر الأجنبي، لكان أول وسائلها إلى تحقيق هذا الهدف فهم الخصم فهمًا صحيحًا، وتكوين صورة صادقة ومتوازنة عنه، ولعملَت على غرس روح البحث والنقد في نفوس أتباعها، بدلًا من أن تغرقهم في ظلمات القوالب المحفوظة.

ولقد حاولنا في هذا البحث أن نُبدِّد أهمَّ الأوهام التي تتردَّد على الألسنة المُذعِنة المُستسلِمة حول العلمانية، والأهمُّ من ذلك أنَّنا حاولنا أن نستثير لدى القارئ روح النقد، التي تكاد تغيب غيابًا تامًّا عن مناقشات الدُّعاة الإسلاميين المعاصرين. ونأمُل أن نكون قد ألقَينا الضوء على المعاني الحقيقية للعلمانية، من خلال تفنيد الأخطاء الفادحة التي تُحيط بهذا اللفظ.

ولا بدَّ أن تكون قد اتضحَت لدى القارئ الواعي صورة العلمانية كما ينبغي أن تُفهَم في مرحلتنا التاريخية الراهنة، وفي ظلِّ الأوضاع التي يمرُّ بها الآن مجتمعنا العربي والإسلامي، فليست العلمانية على الإطلاق «مشروعًا» متكاملًا، وليست «أيديولوجية» بالمعنى الواسع لهذا اللفظ، وليست برنامجًا يصلُح لحزب سياسي أو لدعوة إصلاحية شاملة، وإنَّما العلمانية — في وضعنا الراهن — محاولة لصدِّ تيار ظلامي يزحف على بلادنا بقوة متزايدة، وتساعده قُوًى داخلية وخارجية عاتية. وهي إطار فضفاض شديد الاتساع، يمكن أن يحتوي في داخله على شتَّى أنواع المواقف السياسية والأيديولوجيات. فمن الممكن أن يكون هناك علماني يميني وعلماني يساري، وعلماني ليبرالي، وعلماني ماركسي، وعلماني مُتديِّن، وعلماني غير مُتديِّن. وهكذا فإنَّ العلمانية لا تكشف لنا عن الطريق الذي ينبغي أن نسير فيه، وإنَّما تشير بوضوح إلى الطريق الذي ينبغي أن نتجنَّبه، ثم تترك لنا بعد ذلك حرية اختيار المسار.

إنَّ العلمانية — على عكس ما يقول نُقَّادها — ليست نتاج مجتمع مُعيَّن في مرحلة مُعيَّنة من تطوُّره، وإنَّما هي حاجة دائمة تفرض نفسها من جديد على كل مجتمع مُهدَّد بطغيان التفكير الغيبي السُّلطوي، وتتعرض عقول الملايين فيه لحملة مُنظَّمة تسعى إلى صبِّها في قالب واحد، وإلى انتزاع قدرتها على النقد والتساؤل والبحث المستقل. فالعصور الوسطى تُهدِّدنا في صميم حياتنا المعاصرة، وهي خطر دائم لم يتوقَّف تأثيرُه عند حدود أوروبا في الألف الأولى من تاريخها الميلادي. وإذا كان الإسلاميون قد أباحوا لأنفسهم إخراج مفهوم «الجاهلية» من إطاره التاريخي في عصر ما قبل الإسلام، وأصبحوا يعُدُّونه وضعًا قابلًا للتكرار حتى في صميم العصر الحاضر، ينطبق على أيِّ مجتمع لا يحكم بالشرع الإلهي، فإنَّا نُعطي أنفسنا الحق، وفقًا لهذا المبدأ نفسه، في الخروج بمفهومي العصور الوسطى، والعلمانية التي هي ردُّ فعل عليها، من نطاق الزمان والمكان اللذَين ظهرَا فيهما للمرة الأولى، وجَعْلهما مفهومَين قابلَين للانطباق على أيِّ مجتمع معاصر يمرُّ فكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا بظروف مماثلة لما حدث في أوروبا خلال تجربتها الأولى.

إنَّ العلمانية، بهذا المعنى، ضرورة حضارية. وحين نتأمَّل أوضاع العالم الإسلامي المعاصر، ومدى إغراقها على نحوٍ متزايدٍ في ظلام التعصُّب والبَغضاء وضِيق الأفق، وحين نسمع عن مظاهرات دامية لملايين المسلمين ضدَّ كاتب تافه ذي نزعة استعراضية مكشوفة، أراد بعمله الأدبي السخيف أن يفضح ضِيق الأفق السائد في العالم الإسلامي، وحين نقرأ عن التهديدات المتلاحقة لأديب كان هو المسلم الأوحد — بعد طاغور — الذي نال جائزة نوبل، من أجل عمل أدبي لم يقرأه معظم الذين يهدِّدون صاحبه؛ عندئذٍ ندرك أنَّ العالم الإسلامي ما زال يحمل الكثير من سمات التخلف المميزة للعصور الوسطى، وأنَّ الحاجة إلى العلمانية والاستنارة ما زالت مُلحَّة لدينا بقدْر ما كانت لدى أوروبا لحظة خروجها من عصور الظلام.

١  محمد مهدي شمس الدين، «العلمانية»، المؤسَّسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية ١٩٨٣م، ص٧.
٢  أنور الجندي، «سقوط العلمانية»، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى ١٩٧٣م.
٣  د. محمد يحيى، ورقة ثقافية في الرد على العلمانيين، دار الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الثانية ١٩٨٨م، ص١٣.
٤  أنور الجندي، «سقوط العلمانية»، ص١٧.
٥  المرجع نفسه، ص١٦.
٦  د. محمد يحيى، ورقة ثقافية في الردِّ على العلمانيين، ص١٢.
٧  في الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور، قرأتُ في صحيفة الوفد (عدد أول، يوليو ١٩٨٩م) حديثًا عن الأستاذ إبراهيم فرج، يروي فيه كيف أعرب النحَّاس باشا للزعيم الهندي نهرو، خلال زيارة الأخير له عام ١٩٥٤م، عن أمله في أن تكون الجمهورية المصرية التي أُعلِنَت في يوم الزيارة ذاته، جمهوريةً علمانية، ومعروف أنَّ النحاس باشا كان من أكثر الزعماء المصريين تدينًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤