الفصل الرابع

العقل العربي والتوجُّه المستقبلي١

أولًا: تشخيص المشكلة

من المعروف أنَّ هناك ارتباطًا وثيقًا بين التفكير المستقبلي وبين النظرة العلمية. ونحن لا ننكر أنَّ التفكير المستقبلي قد اتخذ، خلال فترات طويلة من التاريخ، أشكالًا غير علمية، تمثَّلَت في العرافة والتنجيم وقراءة الطالع بوسائل متعددة. ولكن هذه الأشكال كانت ترتبط كلها بنظرة إلى المستقبل على أنَّه شيء مقدَّر مقدمًا، رسمَته وخطَّطَت له قُوًى خارقةٌ للطبيعة، ولا تُتاح معرفة هذا المستقبل المقدَّر و«قراءته» إلَّا لأولئك الذين يملكون بدَورهم قُدراتٍ خارقة. كذلك كان التفكير في المستقبل يتخذ أشكالًا خيالية، فيتفنَّن الروائيون والأدباء في رسم صورة لما سيكون عليه العالم بعد زمن يطول أو يقصُر، دون أن يكون لهذه الصورة أساس سوى تخيُّلاتهم وحدها، وبرغم ذلك كله فإنَّ المعرفة العلمية هي التي أتاحت، لأول مرة، وضع المستقبل في إطار دقيق. وكان الأساس الذي بُني عليه هذا التحوُّل هو أنَّ المستقبل، في الميدان البشري، ليس شيئًا مُعَدًّا سلفًا، وإنَّما هو شيء يسهم الإنسان بصورة متزايدة في صُنعه، أمَّا في الميدان الطبيعي فإنَّ المعرفة الكافية للعالم في وضعه الحاضر كفيلة بإيجاد تنبؤات دقيقة عنه، وكان الفرق بين تنبؤات العلم وتنبؤات العرَّافين واضحًا كل الوضوح؛ فالأولى مبنية على دراسة كاملة للواقع الحاضر، والثانية مبنية على «قراءة» لأوضاع يُفترض أنَّها مكتوبة في مكانٍ ما، لا يمكن إدراكُها بقُوى الإنسان العادية.

ويمكن القولُ بأنَّ الاتجاه إلى المستقبل كان يزداد أهميةً بقدْر سيطرة النظرة العلمية على حياة مجتمعٍ ما، كما كان نطاقه يتسع بحيث يمتدُّ إلى ميادين لم يكُن من الممكن إخضاعها لأيِّ نوع من التنبؤ من قبل. وهكذا فإنَّ ازدياد أهمية الدراسات المستقبلية أو علم المستقبل Futurology يُعبِّر في الواقع عن سيادة الأسلوب العلمي في ميادين جديدة؛ إذ إنَّ الدراسات المستقبلية تتركز أساسًا على الأوضاع المتوقَّعة للحياة البشرية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا تتناول الطبيعة إلَّا بقدْر ما تُمثِّل بيئةً أو وسطًا يتعامل معه الإنسان ويسعى إلى التحكم فيه. ولو تأمَّلنا درجة ازدهار هذه الدراسات في المجتمعات المتقدمة علميًّا، لتبيَّن لنا أنَّ النظرة الاستباقية وعدم انتظار الأمور بطريقة سلبية حتى تحدث، هي سمة أساسية من سمات المجتمعات التي يسودها الأسلوب العلمي في معالجة الأمور.

هذه الدراسات المستقبلية لا تزال محدودةً جدًّا في العالم العربي، وحين يتمُّ إجراءُ دراسات من هذا النوع، فإنَّها لا تخرج عن النطاق الأكاديمي، ولا تُكوِّن جزءًا من نسيج التفكير الاجتماعي، أو من الممارسة الفعلية، سواء على مستوى الحكومة وعلى مستوى الأفراد. فحين نفكر بعمق في حالة ربِّ الأُسرة، ذي الموارد المحدودة، الذي ينجب عشرة أطفال دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن الوسيلة التي سيدير بها احتياجاتهم في مختلف مراحل حياتهم المُقبِلة، نجد الموقف الفكري الكامن من وراء هذا التصرف هو أنَّ المستقبل في أساسه شيء «مجهول»، وبالتالي فهو يسمح بجميع الاحتمالات، وأنَّ مجرَّد رسم خطة في الحاضر لما يمكن أن يحدث في المستقبل هو تدخُّل من العقل الإنساني في أمور ينبغي أن تُترك لتأخذ مجراها تلقائيًّا. بل إنَّ هذا التصرف مصحوب — في معظم الأحيان — بنوع من الأمل الساذج في حدوث تطوُّر مُواتٍ غير متوقَّع، يختلف تمامًا عن الحاضر. وبعبارة أخرى فالفكرة الكامنة هنا هي أنَّ المستقبل ليس نتيجةً منطقيةً للحاضر، وليس تطورًا طبيعيًّا له، وإنَّما هو يحمل في طيَّاته إمكاناتٍ كثيرةً لا تُستمَدُّ من الوضع القائم في الحاضر. وصحيح أنَّ جميع الأفراد لا يتصرفون على هذا النحو، وأنَّ هناك مَن يخططون، على المستوى العائلي، وصحيح أيضًا أن هناك عوامل معروفة ترتبط بهذا النوع من التصرف، مثل انخفاض المستوى التعليمي والاقتصادي … إلخ. ولكن ما يُهِمُّنا في الموضوع هو تحليل الاتجاه الفكري الذي يكمن خلف مثل هذا السلوك الذي لا ينكر أحد أنَّه واسع الانتشار في العالم العربي.

ولنتأمَّل أمثلةً أخرى على مستوى الحكومات، ولنبدأ بمثال من حكومات الدول المحدودة الموارد، فالأوضاع التي أصبحَت عليها مدينة كالقاهرة، تكفي للحكم بأنَّها ستصبح — لو استمرَّت على ما هي عليه — مختنقةً تمامًا بعد سنواتٍ قلائل، بل إنَّ جوانب للحياة فيها ستُصاب بالشلل التام، كالمرور في مناطق رئيسية، وخدمات المياه والكهرباء والمواصلات العامة … إلخ. وليست المسألة هنا متعلقة بالازدحام أو صعوبة الحياة اليومية، بل إنَّها تتعلق بمجرَّد إمكان الحياة أصلًا، ولا شكَّ في أنَّ معظم المشكلات الراهنة كان من الممكن توقُّعُها، ومع ذلك فقد تُرِكَت المرافق ليَلحَق بها الخراب دون أن يُحرك أحدٌ ساكنًا. كذلك فإنَّ المشكلات المُقبِلة في التسعينيات أو في بداية القرن الجديد، واضحة منذ الآن، ولكن تَرْك الأمور تسير يومًا بيوم، وتسكين المشكلات مؤقتًا بدلًا من حلِّها جذريًّا، هو القاعدة السائدة. وحين يسود في وقتٍ ما اتجاهٌ إلى الاهتمام مستقبليًّا بمشكلة أساسية، يكون ذلك في الأغلب من قَبيل الدعاية التي لا تؤخَذ مأخذ الجِد. فمنذ سنوات انتشرَت في مصر موجة من الاجتماعات والدراسات والكتابات الصحفية حول شعار «إعادة بناء القرية المصرية في مدى عشرين عامًا»، وبقدْر ما شاركَت الحكومة والهيئات الأكاديمية في هذه الموجة، لم تسفر في النهاية عن شيء ملموس، ويتضح الآن بعد مُضيِّ أكثر من نصف المدَّة المحدَّدة لإعادة البناء، أنَّ الموضوع كله كان شعارًا دعائيًّا فحسب، وأنَّ الطاقات الفكرية والعلمية التي استُنفِدَت في بحثه قد ضاعت هباءً، ممَّا يوحي بأنَّ المسألة لم تكُن قد أُخِذَت بجدية من بادئ الأمر. ومثل هذا يُقال عن كل الجهود التي بُذِلَت من أجل بحث موضوع «مصر في سنة ٢٠٠٠م»؛ وهو الموضوع الذي استُنفِدَت فيه طاقات عديدة، ولكن نتائجها ستظلُّ نظرية، وستظلُّ الفجوة بينها وبين الممارسة الفعلية غير قابلة للعبور. إنَّ الموقف الفكري الرسمي، في هذه الحالات، لا يختلف كثيرًا عن موقف ربِّ الأُسرة الذي عرضناه منذ قليل، وعقلية «ربنا يفرجها» هي السائدة في الحالتَين، دون أن يبذل الإنسان أيَّ جهد لكي يساعد على تحقيق هذا «الفرج» المرتقَب.

ولننتقل إلى الطرف الأعلى في سُلَّم الثروة، ونتأمَّل وضع البلاد الغنية بالبترول، التي تمرُّ حاليًّا بفترة ازدهار هائل، وإن كان الجميع متفقين على أنَّه ازدهار مؤقَّت، وعلى أنَّ الثروة الخيالية التي تتمتع بها هذه البلاد موقوتة بفترة لن تمتدَّ — في رأي المتفائلين — أكثر من خمسين عامًا، ولا نودُّ أن نطيل الكلام في تلك الحقيقة التي لا يكاد ينكرها أحد، وهي أنَّ هذه الدول لم تعمل حتى الآن على الإفادة من تلك الفرصة الهائلة التي أُتيحَت لها في وقتنا الراهن، للمرة الأولى والأخيرة في تاريخها، كيما تشيِّد بناءً اقتصاديًّا متينًا قادرًا على الاستمرار بقواه الذاتية وإعاشة الأجيال التالية على مستوًى معقول بعد أن تنضب مواردها البترولية. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الجزء الأكبر من تلك الثروة يضيع في تحقيق رغبات استهلاكية ومُتَع وقتية تنطوي على إسراف خيالي في الترف، ولكنَّها كلها ترتبط بتحقيق لذة «اللحظة الحاضرة»، ولا تعمل حسابًا للمستقبل إلَّا على المستوى الفردي بالنسبة إلى مَن يملكون تأمين هذا المستقبل لأبنائهم فحسب. ولو قارنَّا بين الفرصة المتاحة لهذه الدول وبين ما حدث في أوروبا، في عصر النهضة وأوائل العصر الحديث، لتبيَّن لنا الفارق الهائل بين نمطَين في التفكير؛ ففي أوروبا تراكمَت ثروات كبيرة في عصر النهضة والقرن التالي نتيجةً لازدهار التجارة وفَتْح أسواق جديدة. وعلى الرغم من أنَّ هذه الثروات لا تُقارَن بما جلبَته الثروة النفطية، فإنَّ ذلك الرخاء الأوروبي قد استُغِلَّ كله في إيجاد تراكم رأسمالي كان هو الأساس المباشر للنهضة الاقتصادية، وللتحوُّل الصناعي، في أوروبا الحديثة. وقد كشف لنا كثير من الكُتَّاب الغربيين عن صفات رجل المال ثم رجل الصناعة في أوروبا في ذلك الحين، وأوضحوا كيف كان أشبه بالزهَّاد فيما يتعلق بمتعته الشخصية، وكيف كان طموحه كله يتجه إلى التوسع في أعماله ودَعْم قاعدتها الاقتصادية. ومثل هذا التفكير مستقبلي في الأساس؛ لأنَّه يرتكز على تجاهل المتعة الحاضرة في سبيل تحقيق أهداف لن تُؤتيَ ثمارها الكاملة إلَّا في المستقبل. وحين نقارن بين هذا النمط وبين النمط العادي للثراء البترولي العربي في الوقت الحاضر، نستطيع أن ندرك بوضوحٍ الاختلافَ بين العقلية المستقبلية والعقلية التي تستبدُّ بها إحساسات اللحظة الحاضرة.

ومن الجدير بالذكر أنَّ كلَّا من البلاد الغنية والبلاد الفقيرة، في العالم العربي، لا تفتقر إلى الدراسات والتخطيطات ذات الاتجاه المستقبلي، فالفنيُّون والأخصَّائيُّون يقدِّمون للمسئولين، بلا انقطاع، تِلالًا من الأبحاث والتقارير، ولكن الفجوة تظلُّ قائمةً بين البحث التخصُّصي والممارسة الفعلية للمجتمع، وممَّا له دلالته أنَّ كثيرًا من البلاد العربية لا توجَد بها وزارة للتخطيط، وحتى في البلاد التي يوجَد فيها وزارة كهذه، فإنَّها تكون عادةً من أقلِّ الوزارات قُدرةً على تنفيذ برامجها وإلزام الآخرين بها، مع أنَّ الواجب، في بلاد العالم الثالث بالذات، أن تكون هذه أكبر الوزارات أهمية. وعلى أيَّة حال فإنَّ النمط السائد، على مستوى السياسة الفعلية، هو «إسكات» المشكلات بدلًا من إيجاد حلول طويلة الأمد لها. وأسلوب العمل هو العيش يومًا بيوم، والخروج من الأزمة المباشرة على أيِّ وضع، وليحدث بعد ذلك ما يحدث. أمَّا الوعود التي تصدُر بشأن المستقبل فليست لها أيَّة دلالة جدية. ولقد كان بعض النقَّاد يحاولون، من آنٍ لآخر، تسجيل هذه الوعود ومتابعة مدى تنفيذها على مدى السنوات التالية، وكانوا يخرجون من ذلك بنتائج سلبية طريفة. ولكن حتى هذه المتابعة توقَّفَت الآن، وأصبح الناس «يفترضون مقدَّمًا» أنَّ الوعود تُقدَّم إليهم للاستهلاك الوقتي فحسب، ولا يجدون لذلك ضرورةً لمحاسبة أصحابها عليها فيما بعد. ولو اقتصرنا على تفسير هذا الإخلال بالوعود على أنَّه علامة من علامات الضعف الأخلاقي، أو على أنَّه برجماتية سياسية، لكان هذا التفسير غير كافٍ على الإطلاق. والحقيقة أنَّ هناك، بالإضافة إلى العوامل السابقة، موقفًا مُعيَّنًا من المستقبل، يحُول دون السعي الجاد إلى التحكيم فيه وتحديد اتجاهه مسبقًا، وتوجُّه عام نحو تَرْك المستقبل يحدث عندما يحدث، لأنَّ من طبيعته أن يظلَّ مجهولًا، ولأنَّه يأتي دائمًا على صورة غير متوقَّعة، ومن ثَم فمن العبث أن نحاول استباقه بالفكر، أو التحكم فيه بالفعل.

ثانيًا: تعليل المشكلة

هذه الظاهرة التي قدَّمنا من قبلُ تشخيصًا لها على مستويات مختلفة، تحتاج إلى تعليل، فمن الضروري أن نبحث عن الأسباب التي تؤدِّي بالعقل العربي — على المستوى الشعبي والرسمي، وكذلك على المستوى الفردي والجماعي — إلى تجنُّب الاقتراب من منطقة «المستقبل»، وتركيز كل جهوده في اللحظة الراهنة وفيما هو وقتي مباشر، وتَرْك الميدان المستقبلي للظروف دون محاولة للتدخل المسبق فيه. ويبدو لي أنَّ تحليل هذه الأسباب سيكشف لنا عن ثلاث فئات رئيسية؛ أسباب دينية، وحضارية، واجتماعية سياسية.

(أ) الأسباب الدينية

عندما نُحلِّل طبيعة هذه الأسباب، لا نودُّ أن ندخل في معركة حول النصوص الدينية لكي نرى إن كانت تؤيد هذا الرأي أم ذاك. فمثل هذه المعركة، في رأينا، لن تكون أبدًا حاسمة، وإنَّما ستكون نقطة انطلاقنا من الواقع نفسه، أيْ من الطريقة التي يفكر بها المسلمون فعلًا ويتصورون أنَّها هي المطابِقة للدين، سواء أكانت هذه المطابقة صحيحةً — بمعنًى مطلق — أم لم تكُن.

  • (١)

    قد تختلف الآراء حول صفة «التواكلية»، وهل هي أصيلة في الإسلام أم دخيلة، ولكنَّ الأمر الذي لا شكَّ فيه هو أنَّ السلوك الفعلي لأعداد كبيرة من المسلمين، المبني على طريقة فهمهم الخاصة للدين، ينطوي على قدْر غير قليل من التواكلية، والإيمان بالمكتوب والمحتوم، وفي ظلِّ هذا الاعتقاد يكون من الطبيعي أن تسود الفكرة القائلة إنَّ المستقبل ليس شيئًا يصنعه الإنسان، وإنَّما يدخل في نطاق «المجهول» و«المُخبَّأ». بل إنَّ أيَّة محاولة لتدخُّل الإنسان في تحديد مصيره أو تغيير مجراه يُنظَر إليها على أنَّها خروج من جانب الإنسان على وضعه الفاني المحدود، وإقحام لنفسه فيما ينتمي أساسًا إلى نطاق المشيئة الإلهية. وهكذا ينبغي أن نترك المستقبل في غموضه، ونتقبل أيَّة تطورات مفاجئة تحدث فيه، لأنَّ هذا هو الميدان الذي تتجلَّى فيه الإرادة الإلهية. وحين يقول المَثَل الشعبي الشائع «المستقبل بيد الله»، فإنَّه لا يشير فقط إلى تأكيد القدرة الإلهية على التحكم في المجرى القادم للأحداث، بل إنَّه يمنع الإنسان — بطريقة ضمنية — من التدخُّل في هذا الميدان الذي لا يملك فيه شيئًا. وحين يوصَف التكهُّن بالمستقبل في التعبير الشعبي أيضًا، بأنَّه «رجمٌ بالغيب»، فإنَّ الكلمات المستخدمة في هذا التعبير تكشف عن فلسفة كاملة تجاه التفكير المستقبلي. فالمستقبل هنا يرتبط ﺑ «الغيب»، والغيب يجمع بين المجهول والمقدس وما يخرج عن نطاق العقل البشري وما لا تتحكم فيه سوى المشيئة الإلهية. فليس من حقِّ الإنسان إذَن أن يتلاعب بهذا الميدان المحفوف بالمخاطر، وإنَّما يجب أن يقف إزاءه صامتًا ويتلقَّاه، حين يحدث، راضيًا. صحيح أنَّ وصف «الرجم بالغيب» قد حال دون تمادي العرَّافين في نبوءاتهم الخرافية، ولكنه — في استخدامه الشائع على الأقل — لا يرمي إلى محاربة الخرافة وحدها، بل إلى النهي عن أيَّة محاولة للتدخُّل في ميدان لا شأن للإنسان به أصلًا.

  • (٢)

    إنَّ الشكل الوحيد من أشكال المستقبل، المُعترَف به صراحةً من وجهة النظر الدينية، هو المستقبل «الأخروي». وهذا المستقبل نتيجة لأفعال الإنسان في هذه الدنيا وجزاء عليها، ولكنَّه في واقع الأمر كان، حسب تفسير كثير من المُتديِّنين العاديين، يقف بوصفه قوةً مضادةً للمستقبل «الدنيوي». وهذا التضادُّ يتمثل على وجهين؛ الأول هو أنَّ المستقبل الدنيوي بيد الله، والأخروي بيد الإنسان، وهذه مفارقة غريبة، ولكنَّها تظلُّ مع ذلك صحيحة، لأنَّ ما يطرأ على مستقبل الإنسان من تحولات في هذه الدنيا يدخل — كما قُلنا من قبل — في مجال المجهول أو «الغيب»، بحيث لا تستطيع الإرادة الإنسانية أن تتحكم فيه إلَّا في أضيق الحدود. أمَّا المستقبل الأخروي فهو النتيجة المنطقية لأفعال الإنسان في هذه الحياة، وهو الجزاء العادل على تصرفاته. وصحيح أنَّ الله هو الذي يأمر بهذا الجزاء، ولكن العدل الإلهي يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه كاملًا في الحياة الأخرى. وبعبارة أخرى فإنَّ نوع المستقبل الذي يستطيع الإنسان أن يتحكم في تحديده تحكُّمًا كاملًا هو المستقبل الأخروي، بينما يفلت منه زمام المستقبل الدنيوي. وهنا نصل إلى الوجه الثاني من أوجه التضادِّ بين المستقبل الأخروي والدنيوي؛ فالاتجاه الأخروي يبدو، بناءً على ما سبق، قوةً تقف في وجه الاتجاه الدنيوي. وإذا كان العدل الحقيقي الذي يكتسبه الإنسان والجزاء الوِفاق على أفعاله الحاضرة، هو ما يناله في الحياة الأخرى، فقد يؤدِّي ذلك بالكثيرين إلى الاعتقاد بأنَّ عدم تحقُّق العدل في هذا العالم لا يُهم، فيكفُّون عن بذل الجهد اللازم لإقراره. وإذا كان المستقبل الوحيد الذي يضمن الإنسان التحكم فيه هو المستقبل الأخروي، فقد يدفع ذلك الكثيرين إلى الارتكان على هذا الأمل تاركين المستقبل الدنيوي بوصفه مجهولًا خارجًا عن سيطرة البشر، وهكذا يمكن القولُ بأنَّ الاتجاه الأخروي، مفهومًا بالمعنى السابق، ليس على الإطلاق اتجاهًا «مستقبليًّا» بالمعنى الصحيح، على الرغم من أنَّه يشير إلى مصير الإنسان في حياة مُقبِلة.

  • (٣)

    حين نتأمل جيدًا موقع العقيدة الإسلامية والوحي القرآني في التاريخ العام للبشر، كما تُحدِّده وجهة النظر الدينية، يتكشَّف لنا أحد الأسباب الهامة التي تحُول دون سيادة الاتجاه المستقبلي في الفكر الإسلامي؛ ذلك لأنَّ الإسلام هو آخر الرسالات التي بُعثَت للبشر، ورسول الإسلام هو خاتم الأنبياء، والوحي الذي كان يهبط على البشرية منذ أقدم عهود الأنبياء قد اكتمل بنزول القرآن. وبمجيء الإسلام تكون البشرية قد بلغَت سنَّ الرشد، واستُكمِل كل ما كان ينقُص الرسالات السابقة. وهكذا ينطوي الإسلام على عقيدة أساسية هي أنَّه دين البشرية التالية كلها، وتعاليمه هي أعلى قمة للتشريع والأخلاق والحكمة يمكن أن يهتديَ بها الإنسان.

    في وضع كهذا، كيف يمكن أن يوصَف التاريخ التالي للبشرية؛ أعني تاريخها الذي أعقب وصولها إلى تلك القمة؟ لن يكون هذا التاريخ، في واقع الأمر، سوى شروح على متن، هو الوحي في صورته المكتملة، أو — إذا جاز في هذا السياق أن نستخدم تعبيرًا فنيًّا — تنويعات على لحن أساسي، هو الرسالة المحمدية. وفي إطار وجهة نظر كهذه، كيف يمكن أن يكون للمستقبل دَور جوهري في فكر الإنسان المسلم؟ إنَّ مسار التاريخ، بعد الإسلام، إمَّا أن يكون تدهورًا، وإمَّا أن يكون — على أحسن الفروض — محاولةً دائمًا للعودة إلى الإشعاع الأول، وفي كلتا الحالتَين لا ينطوي المستقبل على جديد، ولا يُمثِّل تطوُّر البشرية خطًّا صاعدًا إلى أعلى. وربما تصوَّر المؤمن المتمسِّك بحَرفية عقيدته أنَّ الأمل في مستقبل أفضل من أيِّ شيء عُرف في الماضي، ينطوي على نوع من التجديف؛ إذ يتضمن الاعتقاد بأنَّ التاريخ سيبلُغ يومًا ما نقطةً تعلو على المستوى الذي بلغه عند نزول الوحي، وهو أمر ممتنع بالنسبة إلى عقيدة اكتمل بها رشد الإنسان؛ أعني عقيدة يستحيل — بحُكم تعريفها ذاته — أن يتمَّ تجاوزُها في أيَّة لحظة لاحقة من تاريخ البشر.

  • (٤)

    فإذا انتقلنا إلى قلب العالم المعاصر، وجدنا أنَّ التفكير في احتمالات المستقبل يحمل في طياته خطرًا يُهدِّد، في نظر البعض، قيمًا كثيرةً مرتكزةً على أساس ديني. فحين يفكر الإنسان المعاصر في المستقبل، يتجه ذهنه، في الأغلب، إلى تلك الكشوف المستمرة التي يوسع بها العلم والتكنولوجيا نطاق معرفته بنفسه وبالعالم وسيطرته عليهما. والطابع العام الذي يجمع بين هذه الكشوف كلها هو اتجاه الإنسان إلى تأكيد قدرته وانتقاله التدريجي من مرحلة قبول الطبيعة، على ما هي عليه، إلى مرحلة تغييرها وتشكيلها وفقًا لأغراضه، ممَّا يؤدِّي به إلى منافسة الطبيعة وإحداث تحوُّل جذري في مسارها والوصول إلى بدائل أفضل لنواتجها.

    مثل هذا الجهد العلمي والتكنولوجي يتخذ، في عالمنا المعاصر، طابعًا يؤدِّي إلى التصادم مع كثير من القِيَم الدينية، صحيح أنَّ هذا التصادم قد حدث من قبل، في الغرب أولًا ثم في الشرق الإسلامي بعد ذلك، في صدد فكرة دوران الأرض ونظرية التطور والتحليل النفسي … إلخ، ولكن الوضع الراهن أخطر من ذلك بكثير. فالعلم يسير الآن في أول الطريق المؤدِّي إلى كشوف تقف على مدخل تلك المنطقة المحظورة التي كانت من قبلُ وقفًا على التفسير الديني وحده. والتفكير المستقبلي في العلم يؤدِّي مباشرةً إلى توقُّع التحكم في المخ البشري ومختلف القُدرات الإنسانية، وإلى أطفال الأنابيب، وتخليق الحياة الصناعية، والتحكم في جنس المواليد، بل وفي صفاتهم الجسمية والنفسية والعقلية. هناك إذَن قُوًى مخيفةٌ توشك على الانطلاق من داخل مُختبَرات العلماء، وهي قُوًى لا تقتصر على التحكم في الطبيعة المادية، بل تسعى إلى التحكم في الطبيعة البشرية بدَورها. وكل اتجاه إلى التفكير في مستقبل هذه التطورات، يثير بالضرورة حساسياتٍ ومخاوفَ لا حصر لها؛ فالمستقبل يحمل في طياته احتمالاتٍ مزعجة، تؤدِّي إلى زعزعة قِيَم ظلَّت مستقرةً ومريحةً زمنًا طويلًا. وإذا كانت هذه التجديدات المستقبلية تثير حيرة المُفكرين الإنسانيين في المجتمعات الغربية التي تصنع التغيير ذاته، فإنها بلا شكٍّ خليقة بأن تثير مزيدًا من الجزع في المجتمع العربي الإسلامي الذي يُفاجأ بالتغييرات ولا يصنعها، والذي لا يزال متوقفًا عند مرحلة مبكرة من مراحل المقاومة الذهنية والنفسية للتجديد، فنحن ما زلنا، في كتاباتنا، نقاوم مبدأ التطور البيولوجي بقوة، على أُسس دينية بحتة، بل إنَّ فينا مَن لا يزال يعترض على فكرة دوران الأرض. ويذكر كاتب هذه السطور أنَّه وُوجِهَ بمقاومة عنيفة، في بعض أوساط الطلاب الجامعيين، عندما أشار إلى تلك الحقيقة البسيطة، التي يمكن أن يتضمنها أيُّ كتاب إحصائي تُصدِره إحدى الإدارات الصحية في أيِّ بلد، وأعني بها أنَّ تحسين أساليب الوقاية والعلاج في الطبِّ الحديث قد أدَّى إلى زيادة متوسط أعمار البشر. فإذا كانت أمثال هذه المواقف لا تزال قائمةً في مجتمعاتنا، فهل نتصور أنَّ التفكير المستقبلي، بما ينطوي عليه من احتمالات تَزعزُع أشدِّ القيم رسوخًا، أو على الأقلِّ تدفع الأذهان إلى إعادة التفكير فيها من جديد بطريقة جذرية، هل نتصور أنَّ مثل هذا التفكير سيجد أرضًا خصبةً في عقولنا؟

(ب) الأسباب الحضارية

  • (١)

    سبق أن عرضنا لتلك النظرية التي ترى في الوحي أعلى قمة بلغَتها الحكمة والشريعة في أيِّ عصر (لو شئنا الدقة لقُلنا إنَّ هذه القمة تعلو على الزمن لأنَّها كانت موجودةً منذ الأزل، وإن كانت قد أُبلِغَت إلى البشر في لحظة زمنية مُعيَّنة، وفي منعطف أساسي للتاريخ). ولقد كان من الطبيعي أن تؤدِّي هذه النظرة إلى فلسفة للتاريخ ترى في مسار البشرية، بعد عصر الوحي الأول، تدهورًا، وتُعلِّق أقصى الآمال على التشبُّه بهذا العصر الأول، أمَّا تجاوزُه فمُحال. تلك هي الصورة التي اتخذَتها فكرة «العصر الذهبي المجيد» في العالم الإسلامي، مع ملاحظة أنَّ هذا العصر الذهبي ليس عصر أمجاد بشرية، بل هو ذلك الذي تحقَّقَت فيه أرقى صورة من صور اتصال الألوهية بالإنسانية في وحي يُمثِّل كلمة الله الحَرفية والمباشرة. وعندما يكون المستقبل بالضرورة أدنى مستوًى من الماضي، وعندما يكون قُصارى الأمل هو أن نكرِّر في المستقبل لحظةً مُعيَّنةً من لحظات الماضي، فعندئذٍ يفقد المستقبل قيمته بوصفه غايةً يتجه إليها نشاط الإنسان، ومن ثَم لا تعود هناك حاجة إلى جَعْله موضوعًا أساسيًّا للتفكير.

    وحسبُنا هنا أن نستشهد بأقوال وردَت في اثنين من أحدث الكتب التي عالجَت هذا الموضوع، مع ملاحظة أنَّ هذه الشهادة تؤيدها آراء كُتَّاب كثيرين أسبق عهدًا انتهَوا بدَورهم إلى نتيجة مماثلة. فالدكتور فهمي جدعان، في كتابه القيِّم «أُسس التقدم عند مُفكري الإسلام في العالم العربي الحديث»٢ يقتبس الحديث النبوي الصحيح، ذا الدلالة البالغة في موضوعنا، وهو «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، ويرى أنَّ التاريخ الإسلامي، بعد عصر الخلفاء الراشدين كان ينطوي على حتمية «التقدم إلى الأسوأ».٣ وهو حين يعرض لآراء بعض الشخصيات الإسلامية التي تعترف بشكل من أشكال فكرة التقدم (وكل اعتقاد بالتقدم هو بالضرورة تفكير مستقبلي، وإن كان العكس ليس صحيحًا دائمًا)، يرى أنَّ هذه الشخصيات كانت هامشيةً ولا تُمثِّل المجتمع كله: «يمكننا القولُ إنَّ الذين حملوا في نفوسهم الأمل بالتقدم لم يكونوا إلَّا نخبةً معزولةً أو شِبه معزولة اجتماعيًا … ثم … إنَّ هذه الأفكار لم ترافقها الممارسة … ولذا لا عجب إذا ما رأينا أنَّ الإحساس بتقهقُر الحياة الاجتماعية والسياسية في الإسلام قد وجد … صدًى عظيمًا وقوةً عارمةً في حياة الناس.»٤
    أمَّا الشاهد الثاني فهو الأستاذ محمود أمين العالم، الذي يصل، بعد بحث لمفهوم الزمن في الفكر العربي، إلى أنَّ «النظرة العربية الإسلامية في العصر الوسيط كان يسودها بشكل عام مفهوم للزمن يخلو من الرؤية التطورية، بل كان يغلب عليه الطابع الارتدادي. فبالرغم من الأحلام المتعلقة بالمهدي المُنتظَر، وبالرغم من الممارسات الفكرية والاجتماعية والتكنولوجية المختلفة، التي كانت تتطلع إلى تغيير في الحاضر أو المستقبل، فإنَّ مرحلة الدعوة الأولى كانت تُمثِّل نقطة إشارة إلى ما هو الأفضل والأمثل، ممَّا يجعل من حركة الزمن المتصل ارتدادًا ونكوصًا وتدهورًا من ناحية القيم».٥
  • (٢)

    على أنَّ هذه النظرة إلى التاريخ على أنَّه يسير في خطٍّ هابطٍ بالقياس إلى مصدر الإشعاع الأول، أيْ عصر الدعوة الإسلامية، لم تخلُ من محاولات للإحياء كانت مشوبةً بالتفاؤل، وليس من مهمَّتنا ها هنا أن نعرض لهذه المحاولات الكثيرة، وإنَّما الذي يُهِمُّنا هو الأُسس الفكرية التي قامت عليها، وهل استطاعت أن تترك في عقول الناس صدًى يمكن أن يكون دعامةً لاتجاه مستقبلي تفاؤلي بالمعنى الصحيح. فلقد استشهد الكثيرون بالحديث النبوي الذي يُعبِّر عن رؤية تكسر حِدَّة النظرة التشاؤمية إلى التاريخ، وتبعث أملًا في تجديد حياة العقيدة، ومن ثَم بَعْث دماء جديدة في حياة المجتمع، وأعني به «يبعث الله على رأس كل مائة عام مَن يجدِّد هذه الأمة أمر دينها.» ولكنْ، ما نطاق النظرة المستقبلية التي تترتب على هذا الحديث؟ إنَّ المسألة هنا تتعلق بإحياء أمر الدين، ففي كل قرن يظهر مُصلح لكي يعيد دماء الحياة التي جفَّت في شرايين الفكر الديني نتيجةً لسوء الفهم وفساد الممارسة. ومهمَّة هذا المُصلح هي أن يتدارك الخطأ، ويحُول دون أن يصبح التدهور وقوعًا في الهاوية، ولكن ليس من مهمَّته — على الإطلاق — أن يتجاوز نطاق الإشعاع الأول للعقيدة، أو يعلوَ على المستوى الذي سبق بلوغه في نقطة مُعيَّنة من الماضي.

  • (٣)

    ولو قفزنا عبر الزمان قفزةً كبرى لنصل إلى الوضع السائد في العصر الحاضر، لوجدنا أنَّ عددًا غير قليل من الجماعات الدينية المعاصرة في العالم العربي، تُلخِّص فلسفتها الإصلاحية في عبارة واحدة هي: «لقد كان المسلمون الأوائل منتصرين في جميع الميادين، وهزموا أعظم دول العالم في زمانهم، عندما كانوا يتبعون تعاليم دينهم، ثم تدهورَت أمورهم لمَّا انصرفوا عن الدين. إذن فلنعُد إلى حظيرة الدين كيما نصبح مرةً أخرى أعظم أمم العالم.» قد تختلف التعبيرات من جماعة إلى أخرى، ولكني أعتقد أنَّ هذه العبارة تُلخِّص الدعوة الفكرية لعدد من أهمِّ الجماعات الإسلامية الحالية، وإذا لم يكُن من مهمَّتنا أن ندخل في جدل يكشف عمَّا في هذه «الوصفة» من سذاجة وقصور (يتمثَّل، قبل كل شيء، في تجاهل الفوارق النوعية الهائلة بين عصر الدعوة الإسلامية والعصر الحاضر، وإسقاط كل التغيرات التي طرأَت على العالم كله في الفترة الواقعة بين الحقبتَين)، فإنَّنا نستطيع أن نكتشف بسهولة، في هذه المعادلة المُبسَّطة التي تقتنع بها أعداد هائلة من العرب المعاصرين، نفس السمة التي كُنَّا نشير إليها منذ قليل، وهي أنَّ أقصى حُلم يتمنَّاه هذا الفكر للمستقبل هو أن يتخذ شكل الماضي البعيد، وأنَّ الإحياء والتجديد هو الأمل الأكبر، أمَّا التجاوز فمستحيل.

    وتقترب من ذلك تلك الدعوة المُلِحَّة، التي نجدها عند أوساط أكثر تفتُّحًا وعصرية، إلى «فتح باب الاجتهاد». فالدعوة مبنية بالطبع على أساس أنَّ باب الاجتهاد ظلَّ مغلقًا وما زال، أيْ إنَّ القاعدة التي يرتكز عليها الفكر السائد، في مجال تفسير أحكام الشريعة، هي قاعدة الثبات على أحكام ماضية، وما تستتبعه من اعتقاد ضمني بأمرين؛ أولهما أنَّ الاجتهادات التي ظهرَت حتى عصر مُعيَّن في الماضي هي الأصلح، وأنَّه لم تظهر طوال الفترة اللاحقة ظروف جديدة تدعو إلى إضافة الجديد إليها. أمَّا الداعون إلى فتح باب الاجتهاد فإنَّهم أكثر تطلعًا إلى الأمام، إذ يرَون أنَّ أيَّ عصر يحقُّ له أن يخوض ميدان الاجتهاد وفقًا لظروفه الخاصة، وأنَّ مقدار التغير في العصر الحاضر بالذات، يُبرِّر عدم الاكتفاء بالأحكام الماضية. ومع ذلك فإنَّ لهذا التطلع إلى الأمام حدودًا لا يتعدَّاها؛ ذلك لأنَّ الدعوة تنطوي على «إعادة»، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ مثقلة بالإشارة إلى الماضي، فضلًا عن أنَّ الاجتهاد نفسه يظلُّ يلتزم بالنَّص الأصلي، محاولًا تفسيره وفقًا لمتطلبات العصر الجديد، أيْ إنَّ الإطار العام المنتمي إلى اللحظة العُليا في الماضي يظلُّ هو المرجع الأساسي، وتظلُّ الفكرة الكامنة هي أنَّ المستقبل لا يستطيع أن يأتي بشيء يتجاوز الماضي.

  • (٤)

    وأخيرًا فقد رأى البعض في فكرة «الإمام» أو «المهدي المُنتظَر» اتجاهًا مستقبليًّا؛ لأنها تُمثِّل أملًا دائمًا في أن يأتي اليوم الذي يظهر فيه ذلك الذي يدحر قُوى الظلم ويملأ الدنيا عدلًا. ومن الواضح أنَّ النَّص الذي اقتبسناه من قبلُ للأستاذ محمود العالم يسير في هذا الاتجاه؛ إذ ينطوي على الاعتقاد بأنَّ فكرة المهدي المُنتظَر استثناء من الاتجاه العام الذي ينظر إلى التاريخ نظرةً ارتدادية، ولكني أعتقد أنَّ التحليل الدقيق لفكرة «المهدي المُنتظَر» كفيل بأن يُدرجها ضمن الإطار التقليدي الذي يجعل الزمن اللاحق لعصر الوحي والرسالة ارتدادًا وتراجعًا.

    ذلك لأنَّ أقصى ما يصل إليه حكم «المهدي المُنتظَر» هو «عودة» العدل إلى ربوع الإسلام مرةً أخرى، ومهمَّته، كما يتصورها الخيال الشعبي، هي أن يقضيَ بسيفه البتَّار على تلك القُوى الظالمة التي أفسدَت حياة المسلمين، ويعود بهم مرةً أخرى إلى العصور الزاهية الأولى. ولا شكَّ أنَّ اشتراط كون «الإمام» أو «المهدي المُنتظَر» من آلِ البيت، أمر له دلالته البالغة في هذا الصدد؛ ذلك لأنَّ انتماءه إلى بيت الرسول يرمز للاستمرار بين الماضي والحاضر، ويحدِّد سمات المستقبل المنتظر والمأمول بأنها «بعث» لعصر العدل الأول من جديد، صحيح أنَّ هذا الانتماء إلى آلِ البيت كان، في البداية، ردَّ فعل على الاضطهاد الذي لحق أنصار هذه الفكرة على يد الأمويين، ولكن استمراره حتى اليوم يدل على أنَّ نوع الأمل المرتقَب في المستقبل هو العودة إلى ذلك العصر الذي كان فيه العدل مستتبًّا على يد أكرم بيتٍ في الإسلام.

    هذه الفكرة، التي اكتسبَت في أيامنا هذه، قوةً مُتجددةً بفضل الثورة الإيرانية، تُعبِّر في الواقع عن اتجاه مستقبلي وارتدادي في آنٍ معًا، ولا يمكن أن تُعَدَّ فكرةً ثوريةً أو تجديديةً بالمعنى الصحيح، فالخيال الشعبي لا يتصوَّر في هذه الحالة ثائرًا، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة، ينبع من قلب الشعب، بغضِّ النظر عن حسبه ونسبه، لكي يقيم عدلًا من نوع جديد لم تعرفه البشرية من قبل، وإنَّما يضع هذا الخيال ضوابطَ تربط هذه الثورة بالماضي، ولا تجعلها «مستقبلية» بكل معاني الكلمة. والواقع أنَّ الأمل في «المهدي المُنتظَر» كان من الممكن، في ظروف أخرى، أن يؤدِّي إلى تصوُّر «يوتوبيا» مستقبلية مُحدَّدة المعالم، يُسقط عليها الإنسان المُضطهَد كل آماله في مجتمع أفضل وأعدل، ويتخلص فيها الإنسان من قيود الماضي والحاضر مُطلِقًا العنان لخياله كيما يبني هذا المجتمع المثالي بصورة حُرة طليقة، ولكن كل ما قِيلَ عن «المهدي المُنتظَر» لم يشكِّل «يوتوبيا» بالمعنى المعروف لهذه الكلمة. وكان السبب الحقيقي لذلك هو أنَّ حُلم العدالة هذا لم يكُن حرًّا طليقًا، بل كان مقيَّدًا بجميع القيود التي تحكَّمَت في نظرة المجتمع الإسلامي إلى التاريخ، وهي النظرة التي لا يُطلب فيها من المستقبل، في حالة التفاؤل الشديد، أكثر من أن يكون ترديدًا لأزهى العصور الماضية.٦

(ﺟ) الأسباب الاجتماعية والسياسية

  • (١)

    من المؤكَّد أنَّ التدهور الفعلي الذي مرَّت به البلاد الإسلامية، وخاصةً في المنطقة العربية، بعد عصور الإسلام الظافرة الأولى، كان له تأثيره القوي في سيادة النظرة إلى التاريخ على أنَّه يسير في خطٍّ هابط، وهي النظرة التي نراها مسئولةً عن ضآلة دَور التفكير المستقبلي في العقل العربي، فمن الطبيعي أن يؤدِّيَ الانحلال والسقوط على مستوى الواقع الفعلي إلى شيوع مفهوم السقوط والتردِّي على مستوى الفكر، ومن الطبيعي أن تكون فلسفة التاريخ، في جزء منها على الأقل، انعكاسًا للأوضاع المتدهورة التي كانت قائمةً بالفعل. ويكفي المرء أن يُلقيَ بنظرة سريعة على الأوضاع العامة للتاريخ الإسلامي، في معظم فتراته التي أعقبَت عصر الرسالة والفتوح وتكوين الدولة الكبرى، لكي يدرك الأسباب التي جعلَت تفكير الناس قدَريًّا تشاؤميًّا لا مكان فيه لنظرة مستقبلية. ولا شكَّ أنَّ حقائق الانحلال الداخلي، والتصارع بين فئات السُّلطة، واستبداد الحكم، وتربُّص القُوى الخارجية كالتتار ومختلف الشعوب المسيحية؛ هذه الحقائق معروفة للجميع، وهي تقدِّم تفسيرًا لجانب هام من جوانب الاعتقاد بتدهور التاريخ وعدم جدوى التفكير في المستقبل، ومع ذلك فإنَّنا لا نؤيد الرأي القائل بأنَّ هذا هو التعليل الوحيد، لأنَّ مجموعة الأسباب التي أوردناها في هذا البحث كفيلة بإقناعنا بأنَّ الواقع الهابط لم يكُن هو المصدر الوحيد للفكرة القائلة إنَّ الزمن والتاريخ كله يسيران في اتجاهٍ هابط.

  • (٢)

    ونستطيع أن نضيف من بين العوامل التي تؤدِّي إلى هذه النتيجة، عامل البيئة الطبيعية وما يترتب عليها من آثار اجتماعية؛ ذلك لأنَّ البيئة العربية إمَّا صحراوية وإمَّا زراعية، وفي كلتا الحالتَين يكون إيقاع التغير في الحياة بطيئًا، بل في أحيان كثيرة غير ملموس. وهكذا تغلب الأشكال السكونية الثابتة على تفكيرنا، ويصعُب أن تجد مفاهيم الدينامية والتحول السريع والدائم مكانًا لها في أذهاننا. وفي مثل هذه الأوضاع لا تتوقف الأذهان طويلًا عند احتمالات حدوث تغييرات حاسمة في المستقبل، يتعيَّن علينا أن نتأهب لمواجهتها قبل حدوثها. وعلى العكس من ذلك فإنَّ المجتمعات التي يتسارع فيها إيقاع التغير (لكونها تنتمي إلى بيئة صناعية)، لا تجد صعوبةً في إعداد نفسها — ذهنيًّا على الأقل — لاحتمالات مستقبلية مفاجئة، مختلفة اختلافًا جذريًّا عن الواقع القائم، كاحتمالات انتقال الحياة البشرية إلى قاع المحيط أو الفضاء الخارجي، والتحكم في قُدرات المخ البشري وفي الخلية الوراثية، واحتمال حدوث تغييرات حاسمة في أساليب التعليم والاتصال، بل في الأنظمة السياسية والاجتماعية وتركيب الأُسرة بوصفها نظامًا اجتماعيًا. هذه الأمور كلها تُعَدُّ، بالنسبة إلينا، خيالًا قد نقرأ عنه لطرافته، ولكي نعرف ما قد يحدث ﻟ «الآخرين»، ولكننا لا نتوقف عنده طويلًا؛ إذ إنَّنا نؤمن في قرارة أنفسنا أنَّ هذا لن يحدث «لنا». ففي نظر عقلية سكونية لم تهيئ نفسها للتغيُّر السريع، لا يمكن أن تكون صورة المستقبل مختلفةً جذريًّا عن الحاضر، ولا يكون هناك استعداد أصلًا لأخذ هذه الاحتمالات بجدية، كما لو كانت شيئًا يمكن أن نواجهه بالفعل في يومٍ ما.

  • (٣)

    ولو تأمَّلنا صورة الواقع المعاصر للإنسان العربي، لوجدنا أنَّها ترتكز على ممارسة فعلية مُركِّزة بقوة على الحاضر، وأيديولوجية موجَّهة أساسًا نحو الماضي، وفيما عدا ذلك لا يبقى للبُعد المستقبلي مكان حقيقي.

إنَّ الإنسان العربي، سواء أكان شديد الثراء أم شديد الفقر، يمارس حياته في اللحظة الحاضرة بتكثيف شديد. فالحاضر، بالنسبة إلى الثَّري، يعني إمتاع الحواس بترف اللحظة والانغماس في مُتَع الحياة إلى حدِّ الإغراق. هذه الحياة المُترَفة لا تترك مجالًا كبيرًا للتفكير في المستقبل، الذي قد يحمل في طيَّاته احتمالاتٍ غير مريحة تتنافى مع «مذهب اللذة» الذي يسيطر على سلوك العرب الأثرياء. ومجرَّد عمل حساب الاحتمالات المستقبلية بجدية، يعني التنازل عن متعة الحاضر وأَخْذ الحسابات العقلية في الاعتبار بدلًا من الملذات الحسيَّة. فلماذا ينتزع الإنسان نفسه من متعة اللحظة الحاضرة المضمونة ومن هدوئها وسكينتها، من أجل توقُّعات قد تكون مُقلقةً مُزعجة، وقد تدفعه في النهاية إلى التضحية بقدْر كبير أو قليل من رخاء الحاضر ونعمته؟

أمَّا الإنسان العربي في المجتمعات الفقيرة فقد تدهورَت أحواله إلى حدِّ الانشغال الكامل بالتغلُّب على مشكلات اللحظة الراهنة، بحيث لم يعد ذهنه يملك ترف التفكير في المستقبل أو التخطيط له. فالصعوبة الشديدة التي يواجهها مثل هذا الإنسان في كافة جوانب حياته اليومية، تستحوذ على تفكيره استحواذًا كاملًا لا يترك فراغًا للاهتمام بأيِّ شيء يخرج عن النطاق الفوري المباشر.

ففي الصراع بين التفكير في الآني وفي الآتي، تُحسَم المعركة نهائيًّا لصالح الأول نتيجةً للتراكم الهائل للمشكلات والتعقيدات التي يتعيَّن مواجهتُها لحظةً بلحظة. ولا شكَّ أنَّ ممَّا يدعم هذا الاتجاه إلى الاكتفاء بالتفكير في الحاضر، انعدام الثقة في تلك الوعود التي تُقدِّمها إليه أنظمة الحكم من آنٍ لآخر، بصورة منتظمة، كيما تبعث فيه نوعًا من الأمل يساعدها هي ذاتها — قبل أن يساعده هو — على اجتياز صعوبات اللحظة بأكبر قدْر من الأمان. وكلَّما استمرَّت عملية الإلهاء هذه، التي تحشد لها كل القُدرات الإعلامية الحديثة، وتبيَّن زيف وعودها مرةً بعد مرة، قلَّت ثقة المحكومين في المستقبل ذاته، لا في وعود السُّلطة المسئولة عنها فحسب. وحين تُعرَض على الناس صورة تتسم بشيء من الواقعية، كالقول مثلًا إنَّ الشعب المصري سيبلغ تعداده سبعين مليونًا في سنة ٢٠٠٠م، في الوقت الذي يعاني فيه العدد الموجود حاليًّا أشدَّ المعاناة من الحاضر المظلم، فإنَّ صورة المستقبل تبدو مصدرًا لمزيد من التعاسة، ومن ثَم فإنَّها تُستبعَد بسرعة لأنَّ في تعاسة الحاضر ما يكفي.

وهكذا فإنَّ الإنسان العربي، في حالة الاستقطاب الاقتصادي التي تميز حياته في الرُّبع الأخير من القرن العشرين، بين ثراءٍ خيالي وفقرٍ مُدقِع، يجد في كلتا الحالتَين ما يدفعه إلى استبعاد التفكير المستقبلي، فهو في الحالة الأولى يعيش في حُلم وردي جلبه ثراءٌ مفاجئ، لم يتوَّلد عن جهد وعمل متدرِّج، ويرفض الخروج من حالة الحُلم لكي يواجه مستقبلًا قد يتطلَّب منه جهدًا شاقًّا، وقد يحمل في طيَّاته احتمالاتٍ مزعجة، وهو في الحالة الثانية يملك في حاضره من الهموم ما يكفيه، وما يسدُّ أمامه طريق الامتداد بتفكيره لحظةً واحدة إلى الأمام.

وفي كلتا الحالتَين تلعب أيديولوجية العودة إلى الماضي المجيد دَورها في إبعاد الأذهان عن المواجهة الحقيقية للمشاكل المتراكمة. ونظرًا إلى أنَّ الماضي قابل للتفسير على أنحاء عِدَّة تجعل من السهل تشكيله وفقًا للأهداف المطلوبة، فإنَّ هذا الغطاء الأيديولوجي يؤدِّي دَوره بكفاءة تامة، وبلا أيَّة خسائر أو أضرار في كلتا الحالتَين؛ ففي حالة الثراء الخيالي يُقدِّم الماضي غطاءً «روحانيًّا» يتستَّر على الحسيَّة المُفرِطة التي تسود مجتمعاتٍ تعيش في متعة اللحظة الحاضرة، فتنتشر هنا الدعوات السلفية، التي يصل بعضها إلى حدِّ التطرف، والتي يموِّلها في كثير من الأحيان أعظم أفراد المجتمع ثراءً، بحيث تجمع في داخلها على نحوٍ فريدٍ بين الروحانية الداعية إلى الزهد والانصراف عن مُتَع الحياة على مستوى الدعوة الأيديولوجية، وبين المادية المُغرِقة في الجري وراء المكاسب الدنيوية، على مستوى الممارسة الفعلية. وفي حالة الفقر المُدقِع تُقدِّم أيديولوجيةُ الماضي الروحاني المجيد تعويضًا تخديريًّا فعَّالًا عن هُزال الحاضر وتعاسته، وقد تصل هذه الأيديولوجية إلى حدِّ التصوف الذي يُنسي الناسَ بؤسَ الحاضر ويصرف فكرهم إلى آفاق يسهُل فيها عليهم تحمُّلُ شدائد الحياة الواقعية ومصاعبها. وهنا أيضًا تلعب أجهزة الإعلام، التي تُوجِّهها الدولة في الأغلب، دَورًا أساسيًّا؛ لأنَّ إبعاد الأذهان عن كشف تعاسة الأوضاع الحاضرة، هو أيسر السُّبُل للتستُّر على تقصير المسئول عن هذه الأوضاع، وهو أيضًا أيسر السُّبُل لتجنُّب المسئولية الفادحة التي ينطوي عليها التفكير الجاد في المستقبل.

خاتمة

في اللغة العربية يُسمَّى الاتجاه إلى تحسين الأوضاع، في الحاضر أو المستقبل، «تقدُّمًا»، وهكذا نتحدث مثلًا عن «تكنولوجيا متقدمة»، ونعني بذلك تكنولوجيا بلغَت مستوًى رفيعًا، أو ستبلُغه في المستقبل، ولكن لفظ «التقدُّم» يُعبِّر، في الوقت ذاته، عمَّا هو قديم. وهكذا، فإنَّك حين تتحدث في العربية عن «عصر متقدِّم»، لن تكون واثقًا إن كان المقصود هو أنَّ هذا العصر أفضل وأرفع، بالمقاييس الحديثة، من عصور سابقة، أم إنَّ المقصود هو «أحد العصور القديمة أو الغابرة». فالتعبير — بغضِّ النظر عن سياقه — يؤدِّي المعنيَين معًا، وبعبارة أخرى فإنَّ في لغتنا لفظًا واحدًا، مشتقًّا من جذر واحد، يؤدِّي معنى الحركة إلى الأمام والحركة إلى الوراء، أو الاتجاه إلى المستقبل والاتجاه إلى الماضي، في آنٍ معًا، فهل لهذا الازدواج في المعنى دلالة خاصة؟ وهل هو يُعبِّر عن سمة أساسية في حضارة يكون فيها النمو والتطور والتحسين، على الدوام، عودةً إلى نموذج قديم؟٧ يبدو أنَّ الحقائق التي عرضناها في الصفحات السابقة تؤكد هذا الاستنتاج بقوة.

لقد حاولنا في هذا البحث أن نقدِّم تشخيصًا لمظاهر الابتعاد عن التفكير المستقبلي في الحياة والفكر العربيَين، مع الاهتمام بالجذور القديمة الممتدَّة حتى حياتنا المعاصرة، وهي الجذور التي تقوم بدَور لا يقلُّ أهميةً عن دَور الظروف الراهنة في إعاقة ظهور فكر مستقبلي مبني على أُسس علمية وعقلانية.

على أنَّ العصر الحاضر لا يحتمل مثل هذا التجاهل لاحتمالات المستقبل، فمهما كانت مجتمعاتُنا تقليديةً بطيئةَ الإيقاع، فإنَّ التغير لا بدَّ أن يَلحَقها، ولا بدَّ أن يكون وقعُه أشدَّ على مَن لا يُهيِّئون أنفسهم عقليًّا ونفسيًّا له. وإنَّه لمن المفارقات الغريبة أن نرى المجتمعات التي تصنع التغيير وتمارسه وتفرضه على العالم كله، منذ أربعة قرون على الأقل، تشعر بالجزع من سرعة معدَّل التحولات المُنتظَرة في المستقبل القريب، ومن التغيرات الاجتماعية والنفسية التي لا بدَّ أن تطرأ على الإنسان عندما يكون معدَّل التغير في مجتمعه متجاوزًا لطاقته على الاستيعاب والتكيُّف. بل إنَّ هذه المجتمعات التي كانت حياتها كلها تحولًا يسيرُ بإيقاع شديد السرعة، تطلق على الاختلال الذي يمكن أن يُصيب الإنسان نتيجةً لذلك اسم «صدمة المستقبل»، وتُخصِّص لها عددًا هائلًا من الكتابات والمؤتمرات ومراكز البحث.

فماذا نفعل نحن حين تجرفنا ثورة المعلومات، والثقافات العالمية الجديدة، والنتائج الاجتماعية والنفسية المترتبة على إعادة توزيع مراكز القوة والثروة في المجتمع، والقِيَم الجديدة المترتبة على كشوف علمية ستعمُّ نتائجُها على الجميع؟ ماذا نفعل حين نواجه ذلك بأبنية فكرية تقليدية، تتجه إلى الماضي وتسجن نفسها في اللحظة الحاضرة، أمَّا المستقبل فتتركه للظروف، وتنتظر حتى يأتيَ ذلك «المجهول» الذي لا تريد أن تشارك في صُنعه؟

هذا، في رأيي، سؤال أساسي لأنَّ التوجُّه الذهني نحو المستقبل هو، كما نعلم جميعًا، أول وأهمُّ شروط الإبداعية والابتكار.

١  بحث قُدِّم لندوة الإبداع الفكري الذاتي في العالم العربي، الكويت، ١٩٨١م.
٢  المؤسَّسَة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٧٩م.
٣  المرجع المذكور، ص٢٢.
٤  المرجع نفسه، ص٤٧.
٥  مفهوم الزمن في الفكر العربي الإسلامي قديمًا وحديثًا؛ مقال في دراسات في الإسلام، تأليف عِدَّة مؤلِّفين، بيروت، دار الفارابي، ١٩٨٠م، ص١١٩-١٢٠.
٦  هل يستطيع المرء أن يربط بين هذه القيود التي لا يمكن أن تخرج عنها فكرة «الإمام» و«المهدي المُنتظَر»، أيْ بين عجزها عن تكوين نظرة مستقبلية متحرِّرة تمامًا من الماضي، وبين ما يلاحظه الكثيرون، بعد عام ونصف من نجاح الثورة الإيرانية، من افتقارها حتى الآن إلى برنامج ثوري بالمعنى المتكامل، يفي بمقتضيات الحاضر ويكفل مواجهة المستقبل في تغيُّره السريع والدائم؟
٧  من المصادفات العربية أنَّ مقال الأستاذ محمود العالم في كتاب «دراسات في الإسلام»، الذي أشرتُ إليه من قبل، قد وقع في يدي بعد تدوين هذه الملاحظة مباشرةً، خلال فترة الإعداد لهذا البحث، وقد تبيَّن لي أنَّه قدَّم في ص١٢٠-١٢١ إشارةً مماثلةً إلى المعنى المزدوج لكلمتَي «المتقدِّم» و«المتأخِّر» في اللغة العربية. غير أنَّ الأستاذ العالم يرى أنَّ المعنى الذي يشير إلى الماضي، في لفظ «المتقدِّم» كان هو المعنى المُستخدَم قديمًا، على حين أنَّ المعنى الذي يشير إلى المستقبل هو المعنى الحديث، ولذلك يستنتج أنَّ القدماء كانوا موجَّهين إلى الماضي، بينما أصبح محور الإشارة عند المُحدِثين هو المستقبل. وربما كانت هذه هي نقطة الخلاف بيني وبينه في هذا الموضوع؛ لأنَّ لغتنا المعاصرة تستخدم الكلمة بالمعنيَين معًا في آنٍ واحدٍ، كما يدلُّ على ذلك المَثَل الذي أوردتُه في هذه الصفحة، ولذلك فإنَّني أعتقد أنَّ إشارتي إلى تلازم المعنيَين اللذَين يدلَّان على القديم والجديد في آنٍ واحدٍ، ما زالت صحيحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤