الفصل الخامس

الأصالة والمعاصرة١

رأي جديد في مشكلة قديمة

لستُ أدري مَن الذي أدخل تعبير «الأصالة والمعاصرة» في حياتنا الفكرية، فقد كانت المشكلة نفسها معروفةً ومطروحةً أمام جمهور المثقفين، منذ القرن التاسع عشر، وكانت مجادلات الروَّاد المُحدِثين من مُفكري العرب حول الموقف الذي ينبغي أن نتخذه من التراث الماضي ومن علوم العصر تنتمي إلى صميم هذه المشكلة. ومن المؤكَّد أنَّ استمرار مناقشة المشكلة نفسها حتى اليوم، واستمرار التساؤل عمَّا ينبغي أن نأخذه من أسلافنا وما ينبغي أن نقتبسه من معاصرينا، واستمرار الخلاف بين مدارس تُعبِّر عن نفس المواقف التي اتخذها أجداد روحانيون لنا منذ أكثر من قرن من هذا الزمان؛ هذا الاستمرار هو في ذاته علامة من علامات الاعتلال، لا الصحة العقلية. ففي الوقت الذي ظَلِلْنا خلاله نتجادل حول ما نأخذ وما نقتبس وما نتخلَّى عنه أو نرفضه، وما يلائم ظروفنا وما يتنافى مع أوضاعنا أو أخلاقنا أو عقيدتنا؛ في هذا الوقت كانت أوروبا قد انتقلَت من عصر الخيل إلى عصر الصواريخ، ومن طاقة الفحم إلى طاقة الذرة، وكانت اليابان قد تحوَّلَت من بلد شرقي منسي متخلِّف إلى أكبر منافس لأعظم القُوى الصناعية في العالم.

(١) الأصالة والمعاصرة

كان المفروض أن تُحسَم المشكلة منذ وقت طويل، وأن تنتقل من الحسم النظري إلى الفعل، وحتى لو عجزنا عن حسمها، فقد كان الواجب ألَّا نحصر أنفسنا في إطارها طوال أكثر من قرن كامل، تغيَّرَت خلاله البشرية بأكثر ممَّا تغيَّرَت منذ عصر ميلاد المسيح، ومع ذلك فقد ظَلِلْنا ندور في نفس الحلقة، ونحصر أنفسنا في نفس الإطار، ونتصوَّر أنَّ حلَّ مشكلاتنا الحيَّة المُلحَّة التي تستصرخنا من كل جانب، ينبغي أن يظلَّ مُعلَّقًا حتى نجيب عن هذا السؤال الأساسي، وبعدئذٍ، ومن خلال الإطار الذي سنستقرُّ عليه (إذا قُدِّر لنا يومًا ما أن نستقر)، سيصبح من الميسور أن نحلَّ كل شيء.

وإحقاقًا للحق؛ فإنَّ طرح المشكلة، طوال الفترة التي تزيد عن قرن من الزمان، لم يكُن يحدث بطريقة واحدة، ولم تكُن كل مرة أُثيرَت فيها المشكلة صورة طِبقَ الأصل من الأخرى. فقد كانت مشكلة المواجهة بين القديم والجديد تُثار كل مرة في ظروف مختلفة، ويُعاد طرحُها من خلال منظورات مغايرة، واستجابةً لمواقف متجدِّدة. فهي تارةً تُثار في مواجهة العلم الأوروبي المُكتشَف حديثًا، أو في مواجهة نظريات علمية مُعيَّنة (كنظرية التطور مثلًا) صدمَت العقل الشرقي الإسلامي، وحفزَته إلى مراجعة موروثات كثيرة، وتارةً أخرى تُثار في سياق الكفاح من أجل الاستقلال الوطني والتحرُّر من المُستعمِر فكريًّا وماديًّا، وتارةً ثالثةً تُطرح في مواجهة التفوق العلمي والتكنولوجي لثقافة دخيلة احتلَّت أرضًا عربيةً وهدَّدَت الكيان العربي ذاته بأخطار فادحة.

وهكذا فإنَّ صيغة «الأصالة والمعاصرة» هي أحدث صيغة لمشكلة طرحها العقل العربي على نفسه منذ أمد بعيد. ويبدو لي أنَّ هذه الصيغة قد راجت رواجًا خاصًّا، إنْ لم تكُن قد ابتُدِعَت ابتداعًا، بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وطُرحَت في سياق عملية مراجعة النفس، الشاقة والأليمة، التي قام بها العقل العربي لكي يفهم سرَّ هذه الهزيمة، أو يُخفِّف عن نفسه وقعها، أو يبحث عن الوسائل الكفيلة بتعويضها. ويبدو لي أنَّ اختيار الألفاظ ذاتها كان راجعًا إلى مؤثرات أجنبية، مباشرة أو غير مباشرة، فقد شاع في بلادنا مصطلح «الأصالة» ترجمةً للمصطلح الفرنسي Authenticité الذي استخدمه بعض المُفكرين الغربيين المعنيين بأمور العالم الثالث، ووضعوه في مقابل مصطلح «الحداثة Moderntié»، الذي يقترب معناه المقصود كثيرًا من لفظ «المعاصرة». وكان من أهمِّ هؤلاء المُفكرين الغربيين، المؤرِّخ وعالم الاجتماع الفرنسي جاك بيرك، الذي عمل على ترويج هذا المصطلح في كُتُبه، وبين تلاميذه من العرب، وهم كثيرون، ومعظمهم يحتلُّ في حياتنا الثقافية مكانةً هامة. وأنا لا أزعم أنَّني أتتبع تاريخ هذَين المصطلحَين، بل إنني أتمنَّى أن يقوم بهذه المهمَّة باحثٌ جاد، يكشف لنا بدقة عن الظروف التي أُدخِلا فيها، في حياتنا الثقافية، للمرة الأولى، ولكنْ إذا صحَّ أنَّ مُفكرًا غربيًّا هو الذي يرجع إليه الفضل في إشاعة هذه الصبغة في جوِّنا الثقافي، في العقدَين الأخيرَين، كانت هذه الحقيقة، في حدِّ ذاتها، مظهرًا من مظاهر الأزمة، ومفارقةً لا تخلو من السخرية المريرة؛ أعني أن يستعير مثقفو أمَّة من الأمم من حضارة أخرى نفس الصيغة التي يريدون أن يُعبِّروا بها عن رغبتهم في الاستقلال الفكري عن الآخرين، والعودة إلى جذورهم، وبعث كل ما هو مضيء في تراثهم.

على أيَّة حال، ظهرَت صيغة «الأصالة والمعاصرة» في حياتنا الثقافية في وقتٍ ما خلال العقدَين الأخيرَين (على الأرجح)، وسرعان ما تلقَّفَتها أيادي الكُتَّاب والباحثين، وكوَّنَت نواةً أساسيةً تحلَّقَت حولها بلورةٌ ظلَّت تتضخم وتتضخم حتى ضمَّت في داخلها قدْرًا كبيرًا من نتاجنا الفكري والثقافي منذ فترة ظهورها. وشاعت الصيغة بين الكبار والصغار، وأصبحَت حاضرةً في كل الندوات والمؤتمرات والحلقات، وصارت ضيفًا دائمًا على مجلَّاتنا الفكرية، وصفحاتنا الأدبية، وأصبح كل مُفكر يستقبل شابًّا مثقفًا يودُّ أن يُجريَ معه حديثًا أو مقابلة، يتوقع سؤالًا واحدًا على الأقلِّ حول مشكلة الأصالة والمعاصرة، ويصدُق توقُّعُه في الغالبية الساحقة من الحالات.

خلال هذا كله لم يتوقَّف أحد لكي يُحلِّل الصيغة نفسها، ويتبيَّن مدى قدرتها على التعبير عن المشكلة المطروحة، وهذا — للأسف — أمر شائع في جوِّنا الثقافي؛ إذ تُطرح الصيغ فتتداولها الألسن على الفور، دون أن يتوقف أحدٌ لكي يتساءل عن مدى سلامة الصيغة ذاتها ودقتها. وحين تكون الصيغة غير دقيقة، ينعكس ذلك سلبًا على كل الجهود الفكرية التي نبذها في سبيلها.

وفي اعتقادي أنَّ المفيد إلى أقصى حدٍّ أن نتريَّث قليلًا لكي نُحلِّل هذه الصيغة التي أصبحَت جزءًا لا يتجزأ من الحياة الثقافية على مستوى العالم العربي كله. وأستطيع أن أقول إنَّ تحليلًا كهذا كفيلٌ بأن يكشف لنا عن عيوب أساسية في هذه الصيغة، وهي عيوب تمر — للأسف الشديد — على كل مَن يستخدمونها (وما أكثرهم)، دون أن ينتبه إليها أحد، وتؤدِّي إلى اختلال واضح في الإطار الفكري الذي تحصرنا فيه، وإلى وضع بدائل غير دقيقة لمعالجة تلك المشكلة الحيوية.

وآمل، من خلال التحليل الذي سأقدِّمه في هذا البحث، أن أُثبت أنَّ هناك ثلاثة عيوب أساسية في الطريقة الشائعة التي تُطرح بها مشكلة الأصالة والمعاصرة:
  • أولًا: إنَّنا نتصوَّر وجود تعارُض أو تقابُل بين اللفظَين، مع أنَّه لا تعارُض بينهما على الإطلاق.
  • ثانيًا: إنَّنا نفرض على أنفسنا، في مواجهة هذه المشكلة، اختيارًا بين بديلَين (أو توفيقًا بينهما)، وبذلك نحصر أنفسنا في هذا الإطار الضيِّق، مع أنَّ هناك بدائل أخرى لا تنتمي إلى هذا الطرف أو ذاك.
  • ثالثًا: إنَّ الصيغة بأكملها لا تحلُّ المشكلة الحضارية لمجتمعنا بقدْر ما تُعبِّر عن فراغ أساسي في حاضر المجتمع الذي نعيش فيه.

(٢) ماذا تعني الأصالة؟

في تصوري أنَّ لمفهوم الأصالة معنيَين رئيسيَّين، بينهما تشابُك واتصال وثيق:

المعنى الأول زمني، فالأصيل، أو العريق، هو الذي تمتدُّ جذورُه إلى الماضي و«تتأصل» فيه. بهذا المعنى نتحدَّث عن أُسرة أصيلة، أو عن فرس أصيل، فنقصد في الحالتَين امتداد الجذور إلى أصول بعيدة يمكن تتبُّعُها والزهو بها. ولكن هذا الذي تمتدُّ جذورُه في الماضي لا بدَّ أن يكون موجودًا معنا اليوم، أيْ لا بدَّ أن يكون معاصرًا. فالفرس الأصيل هو السليل الذي نراه حولنا، ونستطيع أن نتتبع شجرة نسبه إلى أجداد مشهود لهم بعلوِّ المكانة. وبعبارة أخرى فإنَّ الأصالة، في معناها الزمني، تُطلَق على تلك الحالة التي يكون فيها المعاصر، أو الموجود معنا اليوم، ضاربًا بجذوره في الماضي، وفي التاريخ.

وبهذا المعنى الزمني، لا تكون الأصالة، على الإطلاق، نقيضًا أو حتى مقابلًا للمعاصرة، بل إنَّ كلًّا منهما تُشكِّل جزءًا من معنى الأخرى؛ فالأصيل لا بدَّ أن يكون معاصرًا، يتميَّز بعمق جذوره التاريخية، بينما يوجَد، بالطبع، معاصر سطحي بلا جذور. والمعاصر قد يكون أصيلًا أو غير أصيل، وبعبارة أخرى، فهناك تداخُل لا يُستهان به في المعنى بين الأصالة والمعاصرة، عندما تُفهَم الأصالة بمعناها الزمني، على حين أنَّ الطرح الشائع، الذي لا يُناقشه أحد، لهذه الصيغة، يُصوِّر الأمر كما لو كانت الأصالة تشير إلى الماضي أو التراث وحده، والمعاصرة تلتزم الحاضر فحسب.

على أنَّ للأصالة معنًى ثانيًا، لا صلة له بالزمان، هو الصدق مع النفس والتعبير الحقيقي عن الذات. وفي هذا المعنى نتحدث عن «أصالة العاطفة» أو «أصالة الشاعر»، فلا نقصد بالطبع العودة إلى الأصول التاريخية العائلية للشاعر، وإنَّما نقصد أنَّه في فنه يُعبِّر عن نفسه بلا تزييف، أو أنَّ العاطفة تُعبِّر بالفعل عن المشاعر الداخلية لصاحبها، وليس فيها زيف أو خداع.

وفي هذا المعنى الثاني بدَوره، لا تجد أدنى تعارُض، أو حتى اختلاف جوهري في المعنى، بين الأصالة والمعاصرة، لأنَّ المعاصر يشتمل على ما هو أصيل، وما هو غير أصيل؛ أعني ما هو صادق مع نفسه، وما ينطوي على زيف أو خداع.

هذان هما المعنيان الرئيسيان للأصالة، وهما كما نرى لا يتضمنان أيَّ تعارُض مع «المعاصَرة»، ولكن وضع اللفظين أمامنا — في كل المعالجات الحاليَّة للمشكلة — كما لو كانا بديلَين يتعيَّن علينا أن نختار بينهما، أو على أحسن الفروض أن نوفِّق بينهما، هو في صميمه طرح باطل، يؤدِّي إلى تشويه للمشكلة برُمَّتها، وإلى تضليل العقول التي تُضني أنفسها في البحث عن حلٍّ لها. فنحن، ببساطة شديدة، نُجهد أنفسنا في اقتفاء أثر لا يوصل إلى شيء، ونبحث عن باب متاهة ليس لها مخرج.

ولو شئنا أن نبحث عن المقابل الحقيقي للأصالة، بالمعنى الذي حدَّدناه، لوجدنا أنَّه الزيف، والسطحية، والمحاكاة الحَرفية. وللمقابل الأخير — أعني المحاكاة — أهمية خاصة في حياتنا المعاصرة؛ ذلك لأنَّ حالة التخلف التي نعانيها تؤدِّي بنا إلى أن نلتمس أسباب التقدم في محاكاة نماذج أحرزَت نجاحًا في مجتمعات أخرى. وهكذا يدعو البعض إلى اقتباس النموذج الأوروبي الأمريكي — أي النموذج الغربي الرأسمالي — ويرى في هذا النموذج حلًّا أمثل لمشكلاتنا المادية والمعنوية. وفي مقابل ذلك يدعو البعض إلى الأخذ بالنموذج الاشتراكي — بدرجة من درجاته — على أساس أنَّه هو وحده الكفيل بإنقاذنا من خطر التخلف والانتقال بنا إلى الطريق المؤدِّي إلى النهوض. والاقتباس أو الاقتداء بالتجارب الأخرى ليس عيبًا في ذاته، فمن المُحال، بعد كل هذا التاريخ الذي مرَّت به المجتمعات البشرية، أن يبدأ مجتمع تجربته من الصفر، وحتى لو استطاع ذلك فلن تُفيده هذه البداية المطلقة كثيرًا، بل إنَّ النماذج التي تقدِّمها التجارب الأخرى تغنينا عن كثير من الجهود والمحاولات التي جُرِّبَت من قبلُ فلم توصل إلَّا إلى طريق مسدود. غير أنَّ الأمور كثيرًا ما تصل إلى حدِّ المحاكاة الببغائية الساذجة، فنجد أنصار النموذج الغربي الرأسمالي يقلِّدون أنماط الحياة الترفية الاستهلاكية التي بلغَتها المجتمعات الغنية بعد معاناة طويلة، مع أنَّ مجتمعات هؤلاء المقلدين ما زالت تفتقر إلى أبسط ضرورات الحياة الآدمية في كثير من جوانب معيشتها. بل قد نجد منهم مَن يحاكي الغربيين في أسلوب تعاملهم وطريقة كلامهم وتفصيل إشاراتهم وإيماءاتهم، وربما امتدَّت المحاكاة إلى أمور يعترف الغربيون أنفسهم بأنَّها من عيوبهم الأساسية. ومن جهة أخرى فإنَّ أنصار النموذج الاشتراكي كثيرًا ما يحصرون جهودهم في محاولة التطبيق الحَرفي لنظريات ظهرَت في مجتمعات ذات بناء وتاريخ مخالف، دون أيِّ اجتهاد في إعادة صياغة النظريات وفقًا لظروف المجتمع المحلية. بل إنَّ كفاحهم كثيرًا ما ينحصر في ترديد عبارات وصيغ مكرَّرة محفوظة، لا تفهمها الجماهير، ولا تجد فيها تعبيرًا عن واقعها أو اقترابًا من مشاكلها، وبذلك يعطي هؤلاء الفرصة لخصومهم كي يتهموهم ﺑ «العمالة»، وهو لفظ، إن لم يكُن يُعبِّر عن الاشتغال لمصلحة الغير لقاء مقابل مادي، فهو على الأقلِّ يُعبِّر عن التبعية الفكرية التي قد تصل، في الحالات المتطرفة، إلى حدِّ تلقِّي التعليمات الجاهزة وتطبيقها دون أيِّ تصرُّف.

تلك إذَن أنواع من المحاكاة الحَرفية، تتضمن كلها ضياعًا للأصالة، وعجزًا عن التعبير الصادق عن الذات، وتنشأ عن فراغ وخواء داخلي، لا يكون هناك مفرٌّ من مَلئه بمضمون مستمدٍّ من نموذج خارجي، فأين إذَن تكمن الأصالة في مثل هذه الحالات؟ من الواضح أنَّ النموذج لو كان نابعًا من واقع المجتمع نفسه، ومُعبِّرًا عن ظروفه الفعلية، أو لو كان يتضمن إعادة تشكيل أساسية لنموذج مجرَّب في مجتمعات أخرى، بحيث يتلاءم مع الواقع الذي نعيشه بكل عناصره، لكان عندئذٍ نموذجًا أصيلًا. وهنا تكون الأصالة هي أن نتأمَّل أنفسنا جيدًا من الداخل، ونلتمس الحلول لمشاكلنا من عناصر الواقع الذي نعيش فيه، أو نجعل من واقعنا محورًا يدور حوله كل ما نستمدُّه من غيرنا.

غير أنَّ هناك نوعًا آخر من المحاكاة، يوصَف بأنَّه لا يتضمَّن أيَّ خروج عن الأصالة، بل يُقال إنَّه هو نفسه التعبير الحقيقي عن الأصالة، وأعني به محاكاة أسلافنا والعودة إلى نموذج الحياة الذي كان سائدًا إبَّان انتشار دعوتهم وازدهار دولتهم. وقد يتخذ هذا النموذج شكلًا إسلاميًّا، فيُقال إنَّ صيغة التقدم الوحيدة المتاحة لنا هي أن نعود إلى إسلام السلف الصالح، ما دام هؤلاء قد تمكَّنوا بفضل إيمانهم من تثبيت دعائم دولة كبرى وقهر أعظم إمبراطوريات التاريخ القديم. وقد يتخذ شكلًا عربيًّا، فيشير أنصاره إلى أمجاد العروبة في عصرها الذهبي، على الصعيد العسكري والسياسي والحضاري والعلمي، ويدعون إلى بعث هذه الأمجاد والتشبُّه بها من جديد. وفي معظم الحالات يتخذ هذا النموذج شكلًا يجمع بين الاثنين؛ أيْ بين الإسلام والعروبة.

هذا النوع من محاكاة الأجداد، أو — حسب العبارة التقليدية — الاقتداء بالسلف الصالح، يُعَدُّ في نظر الكثيرين الحلَّ الأمثل لمشكلة الأصالة، فنحن في هذه الحالة نعود إلى جذورنا، ونرتدُّ إلى أصولنا، ومن ثَم فإنَّنا في واقع الأمر لا «نحاكي» أحدًا، لأنَّ المحاكاة إنَّما تكون بين طرفَين متغايرَين، وهو ما لا ينطبق على العودة إلى الذات في منابعها الأصلية.

ولكنْ، هل تكمن الأصالة في مثل هذه العودة إلى الماضي بحق؟

من المؤكَّد أنَّ معظم الأذهان تربط بين مفهوم الأصالة وفكرة الرجوع إلى الجذور البعيدة في الماضي، حتى لو لم تكُن توافق على أنَّ هذا الرجوع هو الصيغة المثلى لحلِّ المشكلات الحضارية الراهنة للمجتمع. ومع ذلك يبدو لي أنَّ الأمر يحتاج إلى وقفة متأنية نُحلِّل فيها عملية العودة إلى الماضي، لكي يتبيَّن لنا إن كانت تلك أصالة خالصة، أم إنَّ فيها قدْرًا — يزيد وينقص — من المحاكاة، وبالتالي من الافتقار إلى الأصالة.

إنَّ أنصار الاقتداء بالسلف الصالح يركزون دعوتهم على فترة مُعيَّنة من التاريخ، هي على وجه التحديد فترة صدر الإسلام. والنموذج الذي يدعون إلى الاقتداء به هو نموذج الإسلام الأول؛ إسلام الدعوة والكفاح والانتصار وبناء الحياة الجديدة، أيْ عصر النبي والخلفاء الراشدين، وربما توسَّع بعضهم فامتدَّ إلى نهاية القرن الأول والثاني من الهجرة، ولكن المهمَّ في الأمر أنَّ بؤرة الاهتمام، ومركز الإشعاع، هو أقدم عصور الإسلام. ويعترف أنصار هذه الدعوة أنفسهم، بأنَّ الفترة التي تلَت ذلك؛ أعني الفترة التي تفصلنا عن عصر الانتصار الأول، كانت في معظم الأحيان فترة تدهوُر وتراجُع وخروج عن الخطِّ القويم وعن النموذج الرائع الذي ضربه لنا المسلمون الأوائل.

وبعبارة أخرى، فإنَّ معظم فترات التاريخ الإسلامي كانت — باعتراف أنصار هذا الرأي — «انقطاعًا» عن المسار الذي بدأ بدايةً مجيدة، وخروجًا أو انحرافًا عن الاتجاه القويم، أيْ إنَّنا حين يُراد منَّا أن نعود اليوم إلى هذا النموذج، لا بدَّ أن نقفز قفزةً هائلةً فوق الجزء الأكبر من التاريخ العربي الإسلامي، ونعود إلى أول فتراته، ونُسقط من حسابنا جزءًا كبيرًا من الزمن الذي يفصل بيننا وبين هذا العصر الأول.

هذا الانقطاع، وهذه القفزة فوق فترة زمنية طويلة، تُسقط شرطًا أساسيًّا من شروط الأصالة، وهو «الاستمرار»، فصحيح أنَّ العصر الذي يُراد منَّا أن نقتديَ به، ينتمي إلى جذور تاريخنا البعيد، ولكنَّه لم يظلَّ ممتدًّا على نحوٍ متصلٍ حتى وقتنا الراهن. فنحن في حالة النموذج الإسلامي، نعترف صراحةً بالانقطاع حين نقول إنَّنا تنكَّبنا طريق السلف الصالح منذ القرون الأولى، أيْ إنَّ معظم فترات تاريخنا كانت خروجًا على النمط الأول. ونحن نعلم أنَّ الأصالة في نسب إنسان أو فرس، إنَّما تعني أن يكون هذا النسب مستمرًّا أو متصلًا من فترة مُعيَّنة في الماضي حتى الوقت الحاضر، ولو حدث أيُّ انقطاع في النسب خلال هذا المسار، لَمَا عاد هذا أو ذاك أصيلًا.

وهكذا نجد لزامًا علينا أن نعيد النظر في موقف أولئك الذين يُحدِّدون الأصالة بأنَّها العودة إلى جذورنا الضاربة في أعماق الماضي. فحدوث انقطاع أساسي بين الحاضر وبين هذا الماضي البعيد، يؤدِّي إلى الإحساس بنوع من «الاغتراب» بين الإنسان وبين جذوره البعيدة. وكما أنَّنا في حالة محاكاة النماذج الأجنبية المعاصرة، نشعر باغتراب «مكاني»، لأنَّ هذه النماذج دخيلة علينا، تنتمي إلى بقاع تفصلنا عنها مسافات مادية ومعنوية كبيرة، فكذلك نشعر باغتراب «زماني» حين يُطلب إلينا أن نقفز فوق الزمن قفزةً هائلة، ونتجاهل معظم فترات تاريخنا، ونقتديَ بنموذج قديم، في ظروف أصبحَت مختلفةً عنه كل الاختلاف، وفي عالم لا تربطه بعالم الأسلاف أيَّة صلة، في الوقت الذي نعترف فيه صراحةً بأنَّ الخيط الذي كان مفروضًا أن نظلَّ ممسكين به، منذ ذلك العصر الذهبي القديم، قد انقطع منذ أمد بعيد.

وهكذا تؤدِّي هذه الملاحظة إلى نتيجة هامة، هي أنَّ الربط بين الأصالة والعودة إلى الماضي قد لا يكون صحيحًا على الدوام؛ وذلك حين ينقطع الخطُّ المتصل، الذي يربط بين الماضي والحاضر. وفي مثل هذه الحالة نستطيع أن نتصوَّر نوعًا من «الاغتراب الزمني» الذي يشعر به الإنسان المعاصر إزاء تراث يُراد منه بعثه بعد انقطاع طويل، وفي ظروف أصبحَت مغايرةً إلى أبعد حد.

•••

فإذا كان من الصحيح أنَّ الأصالة لا ترتبط ضرورةً بالرجوع إلى الماضي، فإنَّ مشكلة الأصالة والمعاصرة تكتسب عندئذٍ طابعًا أعقد بكثير ممَّا تبدو عليه للوهلة الأولى.

ذلك لأنَّ الوضع الشائع للمشكلة هو إيجاد تقسيم ثنائي؛ فأنتَ إمَّا أن تكون أصيلًا أو معاصرًا، إمَّا من المتعاطفين مع الماضي أو من دُعاة الحاضر، إمَّا داعيةً إلى الرجوع إلى التراث أو نصيرًا للتحديث، فإن لم تكُن من أنصار القديم، فأنتَ حتمًا «متغرِّب»، ولفظ التغرُّب يُستخدم في هذا السياق ببراعة؛ إذ يجمع بين غربة المرء عن مجتمعه، وبين انحيازه ﻟ «الغرب» الذي هو حامل لواء الحضارة المعاصرة. أمَّا محاولة التوفيق بين الطرفَين فلا تُشكِّل في واقع الأمر موقفًا ثالثًا، لأنَّها لا تعدو أن تكون أخذًا من كلٍّ منهما بطرف.

على أنَّ في هذا التقسيم الثنائي تبسيطًا مُفرطًا، فعالم الواقع ليس دائمًا على صورة «إمَّا هذا وإمَّا ذاك وإمَّا كلاهما معًا»، بل إنَّ هناك حالاتٍ أشدَّ تعقيدًا من أن تُردَّ إلى مثل هذه الصيغة المبسَّطة. وفي الحالة التي نحن بصددها، يصادفنا أولئك الذين يغتربون عن التراث القديم لأنَّهم يرونه أضيق نطاقًا بكثير من الواقع المعقَّد الذي يعيشون فيه، ولأنَّهم يرونه عاجزًا — بحُكم الظروف التي نشأ فيها — عن الإجابة عن كثير من الأسئلة التي توجِّه إنسان اليوم، وحتى لو استخلصنا منه إجاباتٍ كهذه بالاجتهاد، فسيكون مقدار الجهد الذي نبذله في عملية الاستخلاص والاستنباط هذه معادلًا للجهد الذي نبذله لو بدأنا من جديد. وبغضِّ النظر تمامًا عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع هؤلاء، فإنَّهم يُمثِّلون فئةً مخلصة، لا تسعى إلى الهدم أو التنظير للماضي، وإنَّما تحرص على أن تعطي الحاضر حقَّه كاملًا. ولكن المهمَّ في الأمر أنَّ هؤلاء، مع شعورهم بالاغتراب إزاء الماضي البعيد، قد لا يكونون «متغرِّبين» على الإطلاق؛ أعني أنَّهم قد لا يكونون منحازين آليًّا إلى حضارة الغرب، على الصورة التي ترسمها كثير من الكتب الشائعة لكل مَن يُبدي تحفظًا على فكرة العودة إلى التراث القديم.

هنا نجد موقفًا أشدَّ تعقيدًا ممَّا تُصوِّره لنا القسمة الثنائية التي تحصرنا فيها مشكلة «الأصالة والمعاصرة»، فنحن هنا إزاء عقول لا تتحمَّس لحضارة الغرب أو تحاكيها محاكاةً عمياء، وتدرك على وجه الخصوص أنَّ القِيَم واتجاهات السلوك الإنساني لا تُنقل آليًّا من حضارة إلى حضارة، ولكنَّها تدرك في الوقت نفسه أنَّ الخلاص الذي يُقدَّم إليها في صورة عودة إلى نمط الحياة والفكر السائدين في عصر ذهبي غابر، لن يحلَّ المشكلة، ولن يُقدِّم إلَّا إطارًا شديد العمومية، يتعيَّن علينا أن نملأه بمضمون لا بدَّ أن يُستمدَّ كله من ظروف حياتنا الراهنة. هذه الحالة الحقيقية، التي تكاد تكون مأساوية، موجودةٌ بيننا، ولكنْ أين موقع أصحابها على خريطة «الأصالة والمعاصرة» كما يرسمها سيل الكتابات التي عالجَت هذا الموضوع؟

•••

ويؤدِّي بنا إمعان التفكير في النقطتين السابقتين، اللتين تخفق فيهما صيغة «الأصالة والمعاصرة»، إلى نتيجة هامة، تكشف عن قصور ثالث في هذه الصيغة؛ ذلك لأنَّنا، حين نضع أنفسنا أمام بديلَين، يتعيَّن علينا أن نُحدِّد موقفنا منهما، أحدهما هو ماضي حضارتنا الخاصة، والآخر هو حاضر حضارة أخرى مستقلة وغريبة عنَّا، فإنَّنا لن نجد عندئذٍ إجابةً عن تساؤل أساسي: وأين حاضرنا نحن، وواقع الحضارة التي نعيش فيها من هذين البديلَين؟! إنَّنا سواء اخترنا أن نعود إلى تراثنا القديم، أو أن نقتبس أفكار حضارة الغرب وأساليبها، أو حتى أن نبحث عن صيغة للتوفيق بين الاثنين، فسوف نتعامل خلال ذلك كله مع طرفَين خارجَين عن الواقع العربي الراهن؛ فالماضي البعيد تفصلنا عنه مسافة تاريخية شاسعة، وتطورات وخبرات هائلة، اكتُسبَت خلال حقبة طويلة من الزمن. وحاضر الغرب تفصلنا عنه قِيَم وتقاليد وتراث يصعُب أن يتلاقى طرفاها بعد أن تشعَّب مسارهما منذ وقت طويل في طريقَين مستقلَّين. ومعنى ذلك أنَّ الطرح الشائع للمشكلة يحصرها في إطار بديلَين لا ينطبق أيٌّ منهما على الحاضر العربي، على مفاهيمه وظروفه ومقولاته وإشكالاته المميزة، وإنَّما ينطلق أحدهما من الماضي العربي، والآخر من الحاضر غير العربي. فعلامَ تدلُّ هذه الطريقة في طرح المشكلة؟ إنَّها لا تدلُّ إلَّا على خواء الحاضر والعجز عن مَلئه بمحتوًى مُستمدٍّ من طبيعته الخاصة، لا من عناصر بعيدة عنه زمانيًا أو مكانيًّا، بل إنَّ الصيغة ذاتها إنَّما هي تعبير مبطن، غير مباشر، عن واقع التخلف، أو تخلُّف الواقع. ويظهر ذلك بوضوح تام حين نقارن الإشكال الحضاري الذي تُعبِّر عنه هذه الصيغة في مجتمعاتنا بالإشكال الحضاري لبلاد العالم المتقدمة. ففي هذه الحالة الأخيرة، لا تجد التماسًا للحلول في تراث قديم، أو في اقتباس عناصر حضارات أخرى، وإنَّما تتعلَّق الإشكالات كلها بطبيعة الواقع القائم بالفعل، وتُستمدُّ من عناصر الحياة المحيطة بإنسان هذه المجتمعات. وعندئذٍ تكون المشكلات المطروحة من نوع: مشكلة القِيَم الإنسانية في مقابل القِيَم المادية، أو علاقة الإنسان بأدوات عمله ونتاج عمله، أو تأثير المعرفة العلمية على مصير الإنسان … إلخ.

مُجمَل القول أنَّ الإشكال الحضاري، في هذه الحالة الأخيرة، يُعبِّر بوضوح عن حاضر ممتلئ، على حين أنَّ إشكالنا، كما نُعبِّر عنه بصيغة «الأصالة أو المعاصرة» يُغفِل الواقع المحلِّي القائم، ومن ثَم فهو إشكال «الحاضر الفارغ» الذي يُراد مَلؤه بمضمون غير منبثق من داخله.

(٣) أين إذَن تكمن الأصالة؟

لنعُد مرةً أخرى إلى المعنى اللغوي للفظ، كيما نستمد منه التوجُّه السليم. إنَّ الأصالة هي أن نكون صادقين مع أنفسنا، وأن نستوحيَ لمشكلاتنا حلولًا مُستمَدَّة من واقعنا، وهي بهذا المعنى ليست على الإطلاق بديلًا لمعايشة العصر، وإنَّما هي على الأصحِّ أفضل شكل لتلك المعايشة، أيْ هي الشكل «الأصيل» للمعاصر.

وهكذا يمكننا أن نَعُدَّ الأصالة نقطة تلاقي بُعدَين أساسيَّين:
  • أولهما: الابتكار والإبداع، لأنَّ المواجهة «الأصيلة» للمشكلات تنطوي حتمًا على عنصر إبداعي أساسي يتيح لنا أن نبتكر الحلول دون أن نَجريَ وراء الآخرين، الذين توصَّلوا إلى حلولهم في ظروف مختلفة، وفي مواجهة مواقف مغايرة.
  • وثانيهما: البُعد الزمني؛ إذ إنَّ محو التعارض بين الأصالة والمعاصرة لا يعني إلغاء البُعد التاريخي. والتزام المجتمع الحريص على أصالته بظروفه الخاصة ورفضه للمحاكاة العمياء، لا يعني أنَّ هذا المجتمع قد رفض ماضيَه أو تَنكَّر له؛ ذلك لأنَّ كلًّا منَّا يحمل ماضيَه على أكتافه في حاضره، وحين نقول إنَّ الحلول الأصيلة هي تلك التي تُستمدُّ من واقع المجتمع، فإنَّ مفهوم الواقع هنا يحمل في طيَّاته كل ماضي هذا المجتمع وتراثه. ومن المؤكَّد أنَّ تاريخ المجتمع وتجاربه الموروثة كلها تُشكِّل جزءًا لا يتجزأ من واقعه الذي يحياه. وعلى ذلك فإنَّ الحلول التي نقول إنَّها ينبغي أن تُستمدَّ من الواقع الذي نعيش فيه، لا بدَّ أن تتضمن — في الوقت ذاته — حكمة الماضي وخبرة التراث، بقدْر ما تتضمن من عناصر الإبداع والتطلع إلى المستقبل.

ومُجمَل القول أنَّ الأصالة الحقيقية تكمن في قلب المعاصرة، دون أن تتنكَّر للماضي، ومقياسها الحقيقي هو أن تعرف كيف تبتكر حلولًا صادقةً وملائمةً لمشكلاتك التي تعيشها في عصرك، مستعينًا بكل ما تحمله من خبرات ماضيك، دون أن تخدع نفسك أو تُغالطها، أو تنقل عن الآخرين بغير وعي بالاختلاف بين ظروفك وظروفهم.

وحين تُفهَم الأصالة على هذا النحو، يتضح زيف التقابل التقليدي الذي يضعها في مواجهة المعاصرة، ويتبيَّن خطأ التفسير الذي جعل اللفظَين مرادفَين لمعايشة الماضي ومعايشة الحاضر، فقد تكتمل كل شروط الأصالة في مجتمع يعايش عصره معايشةً كاملة، وقد تضيع كل مقومات الأصالة في مجتمع لا يعرف لنفسه مخرجًا إلَّا أن يحاكيَ ماضيَه البعيد.

١  مجلة فصول، العدد الأول، أكتوبر (تشرين الأول) ١٩٨٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤