الفصل الثالث

التصنيع والقِيَم الأخلاقية في العالم الإسلامي١

ليس هدفنا في هذا البحث هو إثبات ضرورة التصنيع بوصفه حلًّا للمشكلات الاقتصادية للعالم الإسلامي، إذ إنَّ الرواية الاقتصادية من هذا الموضوع قد عُولجَت مرارًا، وعلى أيدي مُفكرين وعلماء أقرب إلى هذا الموضوع، وأقدر على خوض تفاصيله، من كاتب هذه السطور. بل إنَّنا نودُّ أن نعالج موضوع التصنيع بوصفه ضرورةً «أخلاقيةً» بالنسبة إلى العالم الإسلامي، ونبحث في العلاقة بين التصنيع وبين نظام القِيَم التقليدي في المجتمع الإسلامي؛ أعني في التأثير الذي يمكن أن يمارسه التصنيع على قيمنا الموروثة، وفي التعديلات التي تستطيع قيمنا هذه أن تُدخلها على النمط الأخلاقي الذي ارتبط بالتصنيع في البلاد التي سبقَتنا إليه.

إنَّ التصنيع، إلى جانب كونه ضرورةً اقتصاديةً في عالمنا الإسلامي، هو أيضًا ضرورة أخلاقية. فقد انقضى ذلك العهد الذي كان من الممكن فيه تكوينُ تصوُّر تجريدي للأخلاق، بمعزل عن الصورة المتكاملة لحياة الإنسان، التي تضمُّ جوانب متعددة، من أهمِّها النُّظم الاجتماعية والاقتصادية التي يتبعها في حياته. ولم تعد هناك وسيلة تُمكِّن الإنسان المسلم من تحقيق كرامته، في عالم تعتمد فيه القوة المعنوية على الأخذ بأسباب القوة المادية، سوى السَّير في طريق التصنيع.

ولا بدَّ لنا من أن نعترف بأنَّ العالم الإسلامي يتلقَّى من آنٍ لآخر نصائح يوجهها إليه حكماء غربيون، يحذِّرونه فيها من السَّير في طريق التصنيع الذي أدَّى بالغرب إلى فراغ معنوي قاتل، ويزينون له نمط الحياة البسيط الذي درج أجدادُه على السَّير فيه، بحُجَّة أنَّه هو الضمان الأوحد للمحافظة على قيمه الروحية، وتجنُّب الانحلال، الذي أدَّى إليه التصنيع في الغرب. هؤلاء الحكماء، حتى لو كانوا يصدرون في نصائحهم هذه عن نوايا طيبة — وكثير منهم بالفعل يُروِّجون هذه الأفكار في إطار من التعاطف مع العالم الإسلامي، ويودُّون من صميم قلوبهم ألَّا تتكرر في هذا العالم نفس الأخطاء التي ارتُكبَت في الغرب — متأثرون بتلك النظرة التي أُحبُّ أن أطلق عليها اسم «النظرة المُتحفية» إلى الإسلام؛ أعني تلك النظرة التي تؤدِّي، عن قصد أو بغير قصد، إلى أن تظلَّ البلاد الإسلامية متحفًا لأنماط عتيقة من الحياة والفكر، يتفرج عليها الآخرون بشغف واهتمام شديد، لأنَّها تُمثِّل في نظرهم ما هو «مختلف» وما هو «غريب»، وربما وصل بهم التعاطف إلى حدِّ إيهام أنفسهم بأنَّ هذا العالم العتيق الغريب هو الترياق الشافي من سموم الحضارة الصناعية الحديثة … ولكنَّهم مع هذا كله لا يمكن أن يرضَوا لأنفسهم بأنماط الحياة هذه بديلًا دائمًا عن أسلوب الحياة الذي يعيشون في ظلِّه؛ ذلك لأنَّك مهما أُعجِبتَ بالمتحف، فلن ترضى لنفسك أن تقيم فيه إقامةً دائمة، بل إنَّ أقصى ما تريده منه هو أن تزوره زياراتٍ متقطعةً فحسب.

إنَّ الافتقار إلى التصنيع في العالم الإسلامي يؤدِّي، من الوجهة الأخلاقية، إلى إحدى نتيجتَين؛ فهو بالنسبة إلى البلاد الإسلامية الفقيرة في المواد الخام، وفي الثروة الطبيعية، يعني استمرار الحياة في مستوًى للمعيشة لا يكفل للآدمي ضرورات الحياة المادية. وفي مثل هذا المستوى من الحياة المادية يستحيل أن نتوقع من الإنسان أيَّ نزوع إلى السمو الأخلاقي؛ لأنَّ كل تفكيره، وكل رغباته، ستكون مُتجهةً إلى إشباع الضرورات الحيوية المُلِحَّة، على نحوٍ لا يترك أيَّ مجال لتنمية الجوانب المعنوية في الإنسان.

على أنَّ هناك بلادًا إسلاميةً أخرى غنيةً بمواردها الطبيعية، وخاصةً البترول. وهذه البلاد لا تعاني من هبوط مستوى المعيشة، وإنَّما تعاني من شيء مضاد لذلك؛ أعني من الارتفاع الزائد في مستوى المعيشة (مع الاعتراف بوجود حالات لا مُبرِّر لها من الفقر حتى في هذه البلاد). هذه البلاد الإسلامية مُهدَّدة بخطر الانحلال الأخلاقي الناجم عن سهولة العيش ويُسره، وعدم اضطرار الإنسان إلى بذل جهدٍ شاقٍّ من أجل كسب الرزق، أيْ بالاختصار، عن الثروة التي تأتي بلا مجهود. ومن جهة أخرى فإنَّ الأجيال الحاضرة في هذه البلاد الغنية تنعم بمستوًى للمعيشة لم يكُن يطرأ حتى بخيال الأجيال السابقة، ولا يُتوقَّع للأجيال المُقبِلة، التي ستعيش في عصرٍ ما بعد البترول، أن تنعم بشيء مُشابه له. وهكذا يصبح التصنيع في هذه البلاد ضرورةً أخلاقيةً بمعنًى مزدوج؛ فهو دواء للترف الزائد ولمختلف أنواع الانحرافات الناجمة عن اكتساب الثروة الخيالية بلا مجهود، وهو من جهة أخرى دليل على خروج الجيل الحاضر من الدائرة الضيِّقة للمتعة الشخصية، وتفكيره في مستقبل الأجيال التي ستعيش بعد أن تنتهيَ فترة الحُلم الوردي القصير الأمد، التي تمرُّ بها هذه البلاد في عصر البترول الحالي.

على أنَّ البلاد الإسلامية، حين تنتقل إلى عصر التصنيع، لن تكون رائدةً في هذا الميدان، ولن تخوض ميدانًا لم يطرقه أحد، بل ستجد أمامها تجربةً طويلة، هي تجربة الغرب، الذي مهَّد لمرحلة التصنيع، عقليًّا ومعنويًّا وعلميًّا، منذ عصر النهضة الأوروبية، وانتقل إليه بالفعل منذ قرنَين من الزمان. ومن الضروري للعالم الإسلامي أن يدرس هذه التجربة، التي سبقَت العالم كله، دراسةً مُتعمِّقة، ويتنبَّه جيدًا إلى إيجابياتها وسلبياتها، حتى يُعوِّض التخلف الزمني الذي يفصله عن الغرب في هذا المجال.

فصحيح أنَّ السؤال: «هل نتجه إلى التصنيع أم لا؟» هو سؤال يبدو غريبًا في نظر العقلية الغربية، التي لم تعد تضع هذا الأمر موضع التساؤل. ولكن هذا السؤال ما زال يحتفظ بأهميته الحيوية في عالمنا الإسلامي، ومن المؤكَّد أنَّ هذه الحقيقة تُعبِّر عن تخلُّف عالمنا هذا أصدق تعبير. ولكنْ يقابل ذلك أنَّ خَوْض تجربة التصنيع في الجزء الأخير من القرن العشرين لا بدَّ أن يكون مختلفًا عن البدء بهذه التجربة، لأول مرة في تاريخ العالم، في القرن الثامن عشر، ولا بدَّ أن يكون القرار الحاسم الذي اتخذَته كثير من المجتمعات الإسلامية بالاتجاه إلى التصنيع، مصحوبًا بقرار آخر لا يقلُّ عنه أهمية؛ هو الإفادة من تجارب الآخرين حتى لا تتكرر لدينا أخطاؤهم، وحتى تبدأ التجربة لدينا على أساسٍ أسلم.

إنَّ البحث في النتائج الأخلاقية للتصنيع، في العالم الإسلامي، يحتاج إلى أن يُعالَج من زاويتَين؛ الزاوية الأولى هي استكشاف مظاهر التغيير التي يؤدِّي إليها التصنيع في قيمنا التقليدية، إذ إنَّ هذه القِيَم لن تظلَّ معزولةً عن عملية التغير الحاسمة التي لا بدَّ أن يُحدِثها التصنيع في أيِّ مجتمع يُطبَّق فيه، أمَّا الزاوية الثانية فهي السمات المميزة التي يمكن أن تختلف فيها الجوانب المعنوية لحياتنا، بعد التصنيع، عن نظيرتها في العالم الغربي؛ أعني التعديل الذي يمكن أن تُدخِله القِيَم الإسلامية على النمط الأخلاقي الغربي المرتبط بالتصنيع. هذان الجانبان متكاملان، ويُعَدُّ الأول منهما سلبيًّا (لأنَّه يبحث في تلك العناصر التي ستتقبَّلها حياتنا الأخلاقية نتيجةً للتصنيع)، على حين أنَّ الثاني إيجابي (لأنَّه يبحث في الإسهام الذي سنُقدِّمه نحن إلى النمط الأخلاقي المألوف في الغرب). ولذلك كان من الضروري أن نبحث كلًّا منهما على حِدَة، وأن ننتهي إلى استخلاص العلاقات المتبادَلة بين هذين الوجهين، السلبي والايجابي، للموضوع الذي نبحثه.

وفي اعتقادي أنَّ أهم عناصر التحوُّل الذي يمكن أن يُحدِثه التصنيع في فكر العالم الإسلامي وسلوكه، هو تأكيد مبدأ التغير ذاته؛ ذلك لأنَّ هذا الفكر قد أصبح يتسم بنزعة سكونية Static لا تخطئها العين، تسيطر على أسلوبنا في النظر إلى العالم وطريقتنا في السلوك. والأرجح أنَّ الطريقة الشائعة في فهم الدين، وفي تطبيق تعاليمه، عامل من أهم العوامل التي أدَّت إلى هذه النتيجة. فنحن نتصوَّر الدين على أنَّه مجموعة ثابتة من التعاليم، لا على أنَّه أسلوب متجدِّد في الحياة، ونحن نحاول في كل المناسبات أن نُثبت حُسْن إيماننا بالرجوع إلى النصوص كلما اعترضَتنا مشكلة أو اختلفنا في رأي. على أنَّ النَّص الديني، كما هو معروف، «حمَّال أوجه»، وتعاليمه في بعض الأحيان تبلغ من العمومية حدًّا تُقبَل معه أشدُّ التفسيرات تعارضًا، فضلًا عن أنَّ انتقاء نصٍّ بعينه عملية تخضع، في كثير من الأحيان، للاتجاه الفكري الذي كوَّنه المرء مسبقًا، ورغم هذا كله فإنَّ «لعبة النصوص» هذه ما زالت مستمرةً بيننا، حتى في أكثر الأمور حيويةً وإلحاحًا وتأثيرًا في حياة الإنسان اليومية. وليس لهذه اللعبة من نتيجة عملية سوى إضفاء طابع سكوني على تفكيرنا وسلوكنا، وافتقادنا القدرة على اكتساب المرونة التي تُحتِّمها الظروف المتغيرة في الحياة.

ومن المؤكَّد أنَّ التصنيع سيؤدِّي بنا إلى أن نتخلص، عاجلًا أو آجلًا، من هذه النزعة السكونية. فالتصنيع مرتبط ارتباطًا عضويًّا بفكرة التحوُّل والتغير. والمجتمعات الصناعية تؤمن بأنَّ مستقبل الإنسان أفضل من ماضيه، ولا تتشبَّث بهذا الماضي تشبُّثًا مَرَضيًّا، كما يبدو أنَّنا نفعل في أحيان كثيرة. وفي عصر الصناعة تتغير الأُسس المادية التي تُبنى عليها حياة الناس بسرعة، ومن ثَم يكون من الضروري أن تتطوَّر أساليب تفكيرهم وسلوكهم لمواكبة هذا التغير، حتى لا يتخلَّفوا عن الرَّكب السريع التطور.

ومعنى ذلك أنَّنا لو تصوَّرنا أنَّنا نستطيع الجمع بين التصنيع وبين العودة الجامدة إلى الماضي وتعلُّق كل آمالنا ومُثُلنا العُليا ونماذجنا في الحياة به، فإنَّنا نكون في ذلك واهمين، وأنا لا أعني بذلك مطلقًا أنَّ التصنيع سيجعل العالم الإسلامي يتنكَّر لماضيه، بل إنَّ كل ما أعنيه هو أنَّه سيُخلِّصنا من عادة يبدو أنَّها قد استحكمَت فينا، وأعني بها العودة الدائمة إلى نماذج ماضية من أجل حلِّ مشكلات الحاضر، والعجز عن رؤية التطور والتغير الساحق الذي طرأ على حياة الإنسان طوال قرون عديدة، وتجميد الزمان عند نقطة واحدة يبدو أنَّها أصبحَت بؤرةً مركزيةً تدور حولها كل تصوراتنا للحاضر والمستقبل. أمَّا النظرة المُستنيرة إلى الماضي بوصفه مُمهِّدًا للحاضر، في إطار من فهم المتغيرات الأساسية التي طرأت على المجتمعات البشرية خلال تطوُّرها، فلن يحُول دونها التصنيع. ويكفي أن نعلم أنَّ أرقى المجتمعات الصناعية تتعمَّق في فهم ماضيها، بكل تفاصيله، وتستخلص منه نماذج مضيئة دون أن تغفل عن حقيقة التغير الذي طرأ على حياتها، والذي جعل من هذا الماضي مجرَّد فترة منتهية من تاريخها فحسب.

وكما أنَّ التصنيع يرتبط، ضرورةً، بالنظرة المتغيرة والمتطورة إلى القِيَم الإنسانية، فإنَّه يرتبط في الوقت ذاته بنظرة أرحب وأوسع نطاقًا إلى معايير الأخلاق. ففي المجتمع الإسلامي تسود نظرة إلى الأخلاق تجعل للسلوك الجنسي مكانةً رئيسية. بل إنَّ هذا السلوك، في نظر الإنسان العادي، يكاد يكون مرادفًا للأخلاق، فالأخلاق الصحيحة تعني، قبل كل شيء، العفَّة الجنسية، والنموذج الأكمل للإنسان هو الذي يتقِّي الله في شئون الجنس قبل غيرها، وكثير من رجال الدين الإسلامي حين يُعدِّدون مظاهر الانحلال في المجتمعات الحديثة، يركزون حديثهم على الاختلاط بين الجنسين، وعلى ملابس المرأة، وعلى الأعمال الفنية الخليعة، بوصفها، أساس الشرور التي يعاني منها الإنسان.

على أنَّ الانتقال إلى التصنيع يستتبع حتمًا توسيع نظرتنا إلى الأخلاق، بحيث لا يقلُّ اهتمامنا بالجانب الاجتماعي العام من سلوك الإنسان عن اهتمامنا بسلوكه الشخصي؛ ذلك لأنَّ التصنيع يُولِّد علاقاتٍ مُعقَّدةً متشابكةً بين البشر، ويتيح فُرصًا لا حدَّ لها لاستغلال الإنسان للإنسان. ويترتَّب على ذلك ازدياد تدريجي في أهمية الأخلاق التي تُنظِّم «السلوك العام» للإنسان، في علاقته بالمجتمع ككل. ومن هنا فإنَّ على رجل الدين أن يتخذ مواقف واضحة في أمور مثل استغلال النفوذ، والمضاربة، والتهرُّب من الضرائب، وجمع الثروات الفاحشة بلا مجهود، وعليه أن يعطي هذه المسائل حجمها الذي تستحقُّه بالقياس إلى السلوك الشخصي الذي يبدو أنَّ التركيز ينصبُّ عليه في الوقت الحاضر.

وأغلب الظنِّ أنَّ الاهتمام بالجانب الشخصي من سلوك الإنسان كان مرتبطًا بوقتٍ كانت فيه العلاقات الاجتماعية أبسط بكثير ممَّا هي عليه الآن، وبنظام من القِيَم الثابتة التي كان يفرضها على الناس عُرفٌ سائد. وهكذا كان كل خروج شخصي عن هذه القيم، في مثل هذا المجتمع البسيط المستقر، يُشكِّل مخالفةً صارخةً ينبغي إدانتُها بكل قوة، أمَّا حين تتعقَّد الحياة نتيجةً للدخول في عصر التصنيع، فإنَّ الجانب الاجتماعي العام للسلوك يكتسب أهميةً متزايدةً بالقياس إلى الجانب الشخصي، ممَّا يُحتِّم توسيع نطاق القواعد الأخلاقية، بحيث تغطي هذا الجانب، وتُبدي به اهتمامًا يتناسب مع أهميته المتزايدة في الحياة الحديثة. وهكذا فإنَّ أبسط ما يُنتظر من رجل الدين المسلم هو أن يُدين صاحب العمل المُستغِلَّ على نحوٍ لا يقلُّ عن إدانته للزاني، وأن يكافح التاجرَ الذي يضارب في أقوات الناس بقوة لا تقلُّ عن مكافحته لملابس المرأة القصيرة، وأن يهاجم نُظم الحُكم الدكتاتورية الاستبدادية بعنف لا يقلُّ عن ذلك الذي يهاجم به المناظر المكشوفة في أفلام السينما.

ومع ذلك فنحن في أغلب الأحيان نفتقر إلى رجل الدين الذي يقول كلمته صريحةً مدويةً في هذه الموضوعات، والذي يتسع مفهوم الأخلاق عنده، بحيث يشمل السلوك العام مثلما يشمل السلوك الخاص. صحيح أنَّ هناك حالاتٍ فردية، واجتهاداتٍ خاصة، يقوم بها أفراد قلائل هنا وهناك، ولكن يندر أن تُستثار حماسة المجموع العام من رجال الدين في بلد إسلامي في حادثة ذات أصداء اجتماعية عامة، كقضية اختلاس، أو تهريب، أو سرقة للمال العام، بقدْر ما تستثيرها الحوادث ذات الطابع الفردي، التي تدخل في إطار المفهوم التقليدي الضيِّق للأخلاق. وهذا نقص ينبغي تلافيه إذا شاء العالم الإسلامي أن يواجه عصر التصنيع بما فيه من علاقات اجتماعية عامة شديدة التعقيد.

على أنَّ أهمَّ النتائج الأخلاقية التي يؤدِّي إليها التصنيع حين يُطبَّق في مجتمع إسلامي متمسِّك بروح الدين، هي إزالة التعارض الظاهري بين القِيَم الدينية والقِيَم الاشتراكية. وممَّا يدعو إلى الأسف، أنَّ هذا الموضوع قد تعرَّض لتشويهات لا حدود لها، وتدخَّلَت فيه المصالح الذاتية إلى حدٍّ أصبح من الصعب معه مناقشته بطريقة موضوعية نزيهة، فضلًا عن أنَّ الجدل الدائر حوله يثير من الانفعالات أكثر ممَّا يثير من الأفكار، ولهذه الأسباب كلها أصبح هذا، في السنوات الأخيرة بوجهٍ خاص، موضوعًا شائكًا. وسأحاول فيما يلي أن أبيِّن أنَّ هذا الحرج لا ضرورة له، وأنَّ الرأي الصحيح في المشكلة واضحٌ لا غموض فيه.

إنَّ من الأمور المؤسفة أن يتصوَّر كثير من المسلمين المتحمِّسين أنَّ الطريق الاشتراكي في التصنيع متعارض مع الدين، وبذلك يعملون — عن وعي أو بغير وعي — على دعم الاتجاه الرأسمالي، حتى بعد كل ما أثبتَته تجارب البلاد الرأسمالية من أخطاء. صحيح أنَّ الحُجَّة التي تُقال في هذا الصدد هي أنَّنا لا نريد مبادئ مستورَدة، سواء أكانت اشتراكية أو رأسمالية، وكل ما نريده هو الأخذ بالنظام الإسلامي الأصيل، ولكن هذه الحُجَّة، التي تبدو في ظاهرها مُقنِعة، تنتهي آخر الأمر إلى اختيار بين المذهبَين العصريَّين؛ إذ إنَّ عمومية الأحكام الدينية تترك مجالًا واسعًا للاجتهاد في التفسير، ولا بدَّ أن يتحدَّد اتجاه كل مُفكر في التفسير بالمؤثرات العصرية التي أسهمَت في تكوين نظرته العامة إلى الأمور، بحيث يميل ذلك الذي تأثر أصلًا بالأفكار الاشتراكية إلى الأخذ بالتفسير الاشتراكي، والعكس بالعكس. وفضلًا عن ذلك فإنَّ المواقف التي نواجهها في عالمنا المعاصر تبلغ من التعقيد حدًّا يكاد يستحيل معه الاهتداءُ إلى كل الإجابات التفصيلية في النصوص الدينية. ومن هنا كان من الضروري الاستعانةُ بالتجارب الحديثة التي مرَّت بها أممٌ أخرى من أجل سدِّ هذه الثغرات، وفي كلتا الحالتَين لا يكون هناك مفرٌّ من الرجوع آخر الأمر إلى الأيديولوجيات الكبرى المعاصرة، بحيث يؤدِّي العداء للاشتراكية على نحوٍ آلي إلى خدمة الرأسمالية.

ولمَّا كان المجال الذي يقتصر عليه هذا البحث هو مجال القيم، فلا بدَّ لنا من التعرُّض لموضوع العلاقة بين القِيَم الإسلامية ونظام القيم الذي تدعو إليه كلٌّ من الرأسمالية والاشتراكية، حتى يتبيَّن لنا مدى خطأ الموقف الذي يشيع اتخاذُه إزاء هذه الأيديولوجيات في عالمنا الإسلامي.

إن النظام الرأسمالي مبني أساسًا على قِيَم فردية. وعلى الرغم من المظهر البرَّاق الذي يتخذه هذا النظام، حين يؤكد أنَّه هو المُدافع حقًّا عن الحرية الفردية، وعن حقِّ الفرد في أن يتحرر من تدخُّل الدولة في شئونه، وحقِّه في الكلام والتعبير الحر عن الرأي، إلى آخر هذه الحريات الليبرالية المعروفة، التي يتخذ منها المُدافعون عن النظام الرأسمالي محورًا لدعايتهم؛ على الرغم من هذا كله، فإنَّ الحرية التي يدافع عنها هذا النظام، هي في واقع الأمر حرية استغلال القوي للضعيف، وكل ما عدا ذلك من حريات تظلُّ ذات طابع شكلي ما دامت غير متحقِّقة في إطار من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفُرص.

هذه النزعة الفردية، التي لا ينكرها دُعاة الرأسمالية أنفسهم، بل يجدون فيها مَدعاةً للزهو، تتعارض بغير شكٍّ مع القِيَم الإسلامية تعارضًا أساسيًّا، فروح الدين الإسلامي تتجه إلى تأكيد الأخوَّة والتضامن والتعاون بين الناس، وتأبى أن يوضَع القويُّ في مركز يسمح له باستغلال الضعيف، ثم يزعم أنَّ لهذا الضعيف كل الحرية في أن يعترض كما يشاء. وما كانت رسالة الأديان، في حقيقتها وفي جوهرها الباطن، إلا سعيًا إلى إقرار نظام جديد للحياة، يحلُّ فيه الإخاء بين البشر محلَّ التطاحن والمنافسة القاتلة، التي لا يمكن تصوُّر النظام الرأسمالي بدونها.

ولا بدَّ أنَّ كل مثقف قد استمع، في وقت أو آخر، إلى أحد دُعاة الرأسمالية وهو يهاجم الاشتراكية لأنها لا تعترف ﺑ «حافز الربح»، وربما أدَّى عدم اعترافها هذا إلى إخفاق التجربة الاشتراكية ذاتها، كما يبدو أنَّه حدث في بعض الحالات. ولو أمعنَّا الفكر في دلالة هذا المبدأ — أعني مبدأ «حافز الربح» — لأدركنا مدى الخطأ الذي يقع فيه مَن يُردِّدون عباراتٍ محفوظةً عن تعارض القِيَم الاشتراكية والإسلام، أو يتصورون — دون أن يجرءوا على التصريح بما في نفوسهم — أنَّ الرأسمالية هي حامية حمى الأديان، وضِمنها الإسلام.

ذلك لأنَّ الرأسمالية حين تؤكد أنَّ ما يُحرِّك الإنسان إلى العمل والإنتاج هو رغبته في الربح، وأنَّ إنكار هذا الحافز يؤدِّي إلى هبوط الإنتاج كمًّا وكيفًا، وإلى إخفاق المجتمع في بلوغ أهدافه؛ إنَّما تبني موقفها هذا على أساس أنَّ الإنسان مخلوق أناني، مادي، لا يتحرك إلى العمل إلَّا من أجل إشباع حاجاته وأطماعه الخاصة فحسب. وإنَّه لمن المؤسف حقًّا أنَّ الواقع يُثبت صحة هذا التصوُّر في أحيان كثيرة، ومن هنا كانت الرأسمالية أكثر واقعيةً في هذه الناحية. غير أنَّ هذا النوع من الواقعية يرتكز على قبول الإنسان، بكل عيوبه، على ما هو عليه. وكل مذهب يتسم بقدْر من السمو المعنوي لا يمكن أن يَقبَل الإنسانَ على ما هو عليه. فالفلسفات الرفيعة كانت كلها تدعو إلى إصلاح الإنسان، والأديان كلها إنَّما هي رفض للإنسان في واقعه التلقائي اللاأخلاقي، ومحاولة لخلق إنسان يتجاوز في سلوكه مستوى السعي المباشر إلى المنفعة والتحرُّك بفعل الحوافز المادية. وحتى لو أخفق هذا المسعى بحُكم الواقع الغاشم، فإنَّ الأديان، والإسلام بوجه خاص، ترسم لنا صورةً لعالم آخر تتحقَّق فيه المُثُل العُليا للإنسانية على النحو الذي يبلغ بها ذلك الكمال الذي تعجز عن بلوغه في عالم الفناء الذي نعيش فيه.

إذَن، فالنظرة التي تسود في النظام الرأسمالي تتضمن تأكيدًا للطبيعة «المادية» للإنسان، وإنكارًا لجوانبه الروحية. ومن هنا كان من التناقض، بل من النفاق الصريح، أن تقف الرأسمالية مُدافعةً عن الروحانية، وتتهم خصومها بالمادية، مع أنَّ النظرة المادية إلى الإنسان جزء لا يتجزأ من المبدأ الأساسي الذي ترتكز عليه، وهو مبدأ «المشروع الخاص» و«حافز الربح»، ومن المؤسف حقًّا أن تتردَّد هذه الحُجَج نفسها على ألسنة كثير من المُدافعين عن النظرة الإسلامية إلى الحياة، فيُقدِّمون الرأسمالية كما لو كانت أقرب إلى روحانية الأديان من الاشتراكية.

والواقع أنَّ مهاجمي الاشتراكية، دفاعًا عن الدين، يعطون الشكل أهميةً تفوق المضمون، ومن المؤكَّد أنَّ كثيرًا من الاشتراكيين قد صدرَت عنهم تصريحات تتضمن هجومًا على الأديان. ولكن مضمون المذهب ذاته يُحقِّق أسمى ما تهدف إليه رسالات الأديان، فالاعتقاد أنَّ الإنسان ينبغي أن يبذل جهده في العمل لصالح المجموع، لا لصالح فرد مُعيَّن، ولا من أجل الكسب الشخصي، يُمثِّل قيمةً أخلاقيةً رفيعةً تتمشى مع كل ما تدعو إليه العقائد من قيم. والسعي إلى إلغاء استغلال الإنسان للإنسان، وإلى تذويب الفوارق بين الطبقات أو إلغائها، لا يمكن أن يكون متعارضًا مع عقيدة لا تجعل لعربي فضلًا على أعجمي إلا بالتقوى، والدعوة إلى تحرير الإنسان من عبودية العمل الشاق، حتى يُحقِّق أفضل إمكاناته وتكتمل مُقوِّمات إنسانيته، لا يمكن أن تتناقض مع عقيدة ترى أنَّ الإنسان كيان متكامل، وأنَّ للروح مطالبها مثلما أنَّ للجسم حاجاته ورغباته.

وهكذا، فإنَّ ما يستطيع الإسلام أن يسهم به، لكي يتخلَّص من الآفات التي شابت عملية التصنيع في الغرب، هو أن يمزج بين القيم الإسلامية الأصلية وقِيَم الفكر الاشتراكي، ويدعو إلى مجتمع تسوده المبادئ، لا الرغبة في الكسب المادي، ويقوم على التراحم والتعاون، لا على التزاحم وسَحْق الخصوم في المنافسة «الحرة». ولو أقبلنا على التصنيع بهذه الروح واستطعنا أن نجمع بين تجارب الفكر الاشتراكي والقِيَم الإسلامية الأصيلة، لاستطعنا أن نتخلَّص من مظاهر الانحلال والتفكُّك التي ارتبطَت بالاتجاه إلى التصنيع في الغرب.

ذلك لأنَّ هذا الانحلال إنَّما هو الترجمة الأخلاقية للمبادئ الرأسمالية نفسها، فمبدأ الحرية الفردية والمنافسة في العمل والسعي إلى الربح، حين يُطبَّق على العلاقات الأُسرية، يتحوَّل إلى تفكُّك للأُسرة وتباعُد بين أفرادها، الذين يستهدف كلٌّ منهم تحقيق رغباته الخاصة دون اهتمام بهدف مشترك يعلو على الأفراد، وهذه مساوئ لا يمكن أن تُصيب مجتمعًا يسعى إلى التصنيع وهو حريص على قيمه الدينية الرفيعة، مُتمسِّك في الوقت ذاته بمبادئ الإيثار الاشتراكية.

على أنَّ الأخذ بهذه القِيَم لن يعصمنا فقط من مظاهر الانحلال التي تفشَّت في مجتمعات الغرب اللاهثة وراء السيطرة والربح، بل سيعصمنا أيضًا من مظاهر الانحلال المضادَّة، التي تنتشر في مجتمعاتنا الإسلامية الحالية، إمَّا بسبب الفقر ونقص الإنتاجية وما يولِّده ذلك في النفوس من يأس يبعث على الانحراف، وإمَّا بسبب الثراء السهل غير المصحوب بالعمل والجهد. وفي كل هذه الحالات لن يكون لنا مستقبل يتناسب مع ماضينا الذي طالما تفاخرنا به إلَّا إذا قرَّرنا أن ندخل مرحلة التصنيع من أوسع أبوابها، واضعين نُصب أعيننا أنَّنا قبل كل شيء مجتمع ذو قِيَم إسلامية أصيلة، وأنَّ هذه القِيَم تجد أقرب تعبير عنها — بالنسبة إلى العصر الذي تعيش فيه — في التجارب الاشتراكية التي تمكَّنَت من تحقيق نظرة متكاملة إلى الإنسان، تستجيب لمطالبه المادية والمعنوية معًا على نحوٍ متكامل.

١  بحث قُدِّم إلى الملتقى العاشر للفكر الإسلامي، المجلد الرابع، الجزائر، يوليو (تموز) ١٩٧٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤