الفصل الرابع

موقف الجماعات الإسلامية المعاصرة من قضية المرأة

تحتلُّ مشكلة المرأة مكانةً بالغة الأهمية في تفكير الجماعات الإسلامية المعاصرة وممارساتها. ولا تتضح هذه المكانة الهامة في كتاباتهم المباشرة فحسب، بل إنَّها تظهر أيضًا، وبصورة لا تقلُّ وضوحًا، في عدد هائل من الأفكار غير المباشرة، وفي كثير من الأمثلة التي تُعبِّر بها هذه الجماعات عن مواقفها النظرية والعملية.

ولكن هذه المكانة الهامة لا تُعبِّر، في الواقع، عن إعلاء لشأن المرأة، أو انشغال بمشاكلها الحقيقية، في فكر هذه الجماعات، بل إنَّ هدفها الفعلي يسير في طريق مضاد تمامًا لما يوحي به، للوهلة الأولى، طابعُها الظاهري. فهذا الاهتمام الكبير والتأكيد المستمر للموضوعات المتعلقة بالمرأة، ووضعها في الأُسرة وعلاقتها بالرجل، يهدف في حقيقة الأمر إلى شيئين أساسيين؛ أولهما صرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية للمجتمع، والتغطية على الرؤية السطحية لتلك المشكلات في فكر هذه الجماعات، وثانيهما تشويه مشكلات المرأة ذاتها والعودة بها إلى وضع شديد التخلف، كان يُفترض أننا تجاوزناه منذ أمد بعيد.

ولنبدأ بكلمة عن الهدف الأول؛ ففي ندوة عُقدَت أخيرًا في مبنى نقابة الأطباء حول «الإسلام والعلمانية»، وشارك فيها كاتب هذه السطور، أراد الشيخ يوسف القرضاوي، وهو أحد كبار مُفكري الحركة الإسلامية المعاصرة، أن يضرب مثلًا لابتعاد التشريعات الوضعية عن قيمنا وعاداتنا وأخلاقنا، فلم يجد إلَّا المَثَل الخاص بعقوبة الزنا. وهكذا تصوَّر حالاتٍ افتراضيةً ارتُكب فيها الزنا دون أن يقضيَ القانون الوضعي فيها إلَّا بعقوبات طفيفة، وربما استطاع المحامي البارع أن يحصل لموكله فيها على البراءة، ووجد أنَّ هذا التساهل الذي يتسم به موقف القوانين الوضعية إزاء هذه الجريمة يتعارض بشدة مع القيم والأعراف السائدة في مجتمعاتنا، والتي تُعبِّر عنها الشريعة الإسلامية تعبيرًا أصدق حين تضع للزنا حدودًا رادعة.

هذا المَثَل القريب العهد يحمل دلالاتٍ واضحةً على موقف التيارات الإسلامية المعاصرة من مشكلة المرأة؛ فهو أولًا يُعبِّر عن اهتمام مُبالَغ فيه بهذه المشكلة، لأنَّه اختار موضوعًا يتصل بالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، لكي يُثبت وجهة نظره القائلة إنَّ القوانين الوضعية ليست مُستمَدَّة من قيمنا وأخلاقنا وموروثنا الأصيل. ولقد كان في استطاعته أن يختار أيَّ موضوع آخر أوثق صلة بمشكلات الحياة الفعلية، وبالخبرات والتجارب التي يعيشها الناس في كل يوم، ولكنَّه انتقى هذا المَثَل، وافترض لكي يشرح وجهة نظره، حالاتٍ خياليةً يمكن أن يقع فيها الزنا دون أن ينال مرتكبه العقاب، وكأنَّ الناس المطحونين بمشكلات الحياة اليومية والغلاء والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يفكرون إلَّا فيما يمكن أن يحدث لو صادفتهم واقعة الزنا. وهو ثانيًا يستثير مشاعر الغيرة والاستنكار، لدى الرجل الشرقي بوجه خاص، عن طريق ضرب مثال تُهدَر فيه قيمة «الشرف» — بمعناها المألوف، الذي يفتقر كثيرًا إلى الدقة — ويعجز القانون الوضعي عن فرض القِصاص الرادع على مَن يرتكب ذلك الفعل، الذي هو في نظر الرجل الشرقي أفدح الآثام. وحين يتنبَّه المستمعون — ومعظمهم من الرجال — إلى أنَّ الشريعة الإسلامية هي التي تفرض العقاب الرادع على هذا الفعل الآثم، بينما القانون الوضعي يتهاون فيه، يصحون مُهيَّئين ذهنيًّا للاقتناع الكامل بالرأي الذي يدافع عنه المحاضر، وهو أنَّ قواعد الشريعة ذات المصدر الإلهي هي الأقدر على تنظيم حياتنا من أيِّ قانون يضعه الإنسان.

هنا تُعطى إحدى المشكلات المتعلقة بالمرأة، في جانبها الجنسي على وجه التحديد، أهميةً هائلة، ويتكرَّر هذا النوع من الأمثلة بصورة ملحوظة في كتابات الإسلاميين المعاصرين وأحاديثهم. ولكن هذا الاهتمام المُفرط يعكس في الواقع رغبةً في التغطية على المشكلات الحقيقية التي يعاني منها الإنسان، أيًّا كان جنسه، في المجتمع. ففي أيَّة معالجة عقلانية لمشكلة كهذه، ينبغي على الباحث، حتى لو كان يعتقد أنَّ لمشكلة الزنا مثل هذه الأهمية، أن يعود إلى الجذور الاجتماعية للمشكلة، وبدلًا من أن يسخَر من القانون الوضعي لأنَّه يتهاون في عقوبة الزاني والزانية، أو أن ينظر إلى الجريمة وعقوبتها كما لو كانا شيئَين مجردَين لا علاقة لهما بالأوضاع التي يعيش فيها الإنسان، يتعيَّن عليه أن يناقش مشكلة نقص المساكن والأسعار الخيالية التي تجعل أيَّ مسكن بسيط بعيدًا عن متناول أيدي معظم الشبَّان والشابَّات، واستحالة تكوين أُسرة لدى النسبة الكبيرة ممَّن بلغوا سنَّ الزواج، فضلًا عن الغلاء العام للأسعار وصعوبة تربية الأطفال، وغير ذلك من العوامل التي يعاني منها الناس حقيقة، والتي تؤدِّي — على نحوٍ متزايد — إلى جَعْل الزواج المتكامل في مسكن مستقل (وهو أمر كان متاحًا لمعظم الشباب والشابَّات فيما مضى) يتجه إلى أن يصبح وضعًا طبقيًّا لا تقدر عليه، في بلد كمصر، إلَّا فئات محدودة في المجتمع. في ضوء هذه العوامل كان ينبغي النظر، أو على الأصح إعادة النظر، في مشكلة الزنا، لو كان الباحث يقيم وزنًا للاعتبارات الإنسانية ويحرص على التصدِّي الصريح للأسباب الحقيقية التي تكمن في جذور المشكلة. غير أنَّ شيخنا الذي استقينا من كلماته هذا المَثَل، اكتفى بالنظرة المجرَّدة، المعزولة عن أيِّ سياق اجتماعي، لظاهرة اختارها لأنَّها تؤدِّي إلى استفزاز مشاعر مستمعين لم يعتادوا استخدام عقولهم، وتُعبِّر ظاهريًّا عن اهتمام بالغ لدى أقطاب الحركات الدينية المعاصرة بمشكلات المرأة، ولكنَّه في حقيقته اهتمام يؤدِّي إلى صرف أنظار الناس عن المشكلات التي يعانون منها بالفعل، ويُعبِّر عن رؤية سطحية تجريدية للعلاقة بين المرأة والرجل. وما هذا إلَّا نموذج واحد لطريقة في المعالجة يسهُل علينا أن نجد لها عددًا هائلًا من الأمثلة في الكتابات والخُطَب الناطقة بلسان التيارات الإسلامية المعاصرة.

ولكن النقطة التي نودُّ أن نركز جهدنا عليها هي أنَّ ذلك الاهتمام الكبير الذي تُبديه التيارات الإسلامية المعاصرة بموضوع المرأة، يُخفي وراءه حركة تشويه واسعة النطاق لمشكلات المرأة، ورؤيةً شديدة التخلف لما يُطلَق عليه، بطريقة فضفاضة، اسم «طبيعة المرأة». ويتمثَّل هذا التشويه في سلسلة من الازدواجيات التي يجمع كلٌّ منها بين متناقضَين؛ أحدهما الذي يُعْلَن على الملأ، والآخر هو المقصد الحقيقي الباطن، الذي لا يُصرَّح به في العلن.

(١) ازدواجية التحرر والعبودية

من أبرز سمات الحُكم الدكتاتوري أنَّ الحاكم فيه يتملَّق شعبه، على المستوى اللفظي، أيْ على مستوى الخُطَب والبيانات، ويكيل المديح له في كافة المناسبات، ولكنَّه في قرارة نفسه يحتقر شعبه أشدَّ الاحتقار، ولا يقيم له وزنًا في قراراته، وكلَّما أمعن في التنكيل به، ازداد تملقًا له، منوِّهًا أنَّه يُداري بذلك إذلاله لشعبه واضطهاده له، وكنا نعلم أنَّ أشدَّ الحكَّام ترفُّعًا عن شعوبهم لا يكفُّون عن وصف هذه الشعوب، بأنَّها ذكية وحكيمة وأصيلة وطيبة … إلخ.

ويمكن القول إنَّ شيئًا مماثلًا لهذا يحدث في موقف الحركات الإسلامية المعاصرة من المرأة، فكل دعوة تحاول من خلالها هذه الجماعات أن تحصر المرأة في إطار ضيِّق لا تخرج عنه، وتضمن استمرار خضوعها للرجل، ومكانتها الثانوية أو الهامشية بالنسبة إليه، تُقدَّم في إطار من التمجيد والتكريم، وتُعرض كما لو كانت هي التي تُحقِّق أكبر قدْر من التحرُّر للمرأة.

فحياة المرأة، وفقًا لهذا النوع من التفكير، ينبغي أن يكون محورها الأساسي بُعدًا واحدًا؛ هو البعد العائلي، على حين أنَّ للرجل، إلى جانب البُعد العائلي، أبعادًا اجتماعية وسياسية … إلخ. ولكن هذا الانكماش في دَور المرأة، والتطبيق الشديد للإطار الذي يُفرض عليها أن تتحرك فيه، يُغلَّف عادةً بعبارات الإطراء والإغراء الشديد، التي تمتدح الدَّور العظيم للأم والزوجة والأخت، وتؤكِّد أهمية دَور المرأة داخل الأُسرة بوصفها نواةً لتوحيد جميع أفرادها ومصدرًا يستمدُّ منه الجميع الدفء والحان … إلخ، وفي جميع الأحوال تقريبًا، لا يُعرض إلَّا هذا الجانب الأخير من القضية؛ ذلك الجانب الذي يمتدح الدَّور العائلي للمرأة ويتملَّق مشاعرها، ولا ترد أيَّة إشارة إلى النتائج المترتبة على هذا الوضع، وأعني بها استمرار اعتماد المرأة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وعقليًّا، على الرجل، ممَّا يتيح له إحكام سيطرته عليها، ويضمن حلَّ جميع المواقف المُعقَّدة في علاقتهما لصالحه.

وعلى حين أنَّ النتيجة العملية لهذه الدعوة إلى ارتباط المرأة بالعائلة وحدها وانتماء الرجل إلى جميع الميادين الأخرى لنشاط المجتمع، هي تأكيد لتفوُّق الرجل ووصايته على المرأة، فإنَّ هذه الوصاية تُغلَّف عادةً بالمبالغة في امتداح الدَّور التقليدي للمرأة، ووصفه بعبارات ظاهرها الإطراء وباطنها النفاق. ولعلَّ أكثر هذه الأوصاف شيوعًا في كتابات الإسلاميين المعاصرين عن المرأة، هو وصف «الجوهرة المَصونة»، كنايةً عن ضرورة المحافظة على المرأة في إطارها العائلي الخاص، بعيدًا عن تعقيدات الحياة وصعوبات المجتمع. فالمرأة هي «ربَّة الصَّون والعفاف». وهما، حتى لو أُخِذَا بمعناهما الظاهري، صفتان سلبيتان تتعلقان بحماية المرأة لنفسها، أو حماية النظام الاجتماعي لها، من رذائل مُعيَّنة، ولكنهما لا تدلان مطلقًا على قيام المرأة بأيِّ دَور إيجابي أو اقتحامها لأيِّ ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية. إنَّ المرأة لا تكون مَصونة، أو «ربَّة الصَّون» إلَّا لأنَّها معزولة عن المجتمع، وبالفعل فإنَّ الدعوة تتجه إلينا، نحن الرجال، لكي «نصونها»، أيْ نحافظ عليها في حالة ابتعاد عن خضمِّ الحياة ومعترك المشاكل الاجتماعية، بما تستلزمه من اختلاط واندماج وضياع ﻟ «الصَّون» وربما خدش للعفاف.

إنَّ «الجوهرة المَصونة» هي في المحلِّ الأول شيء قيِّم يُمتلَك ويحرص مالكُه على أن يحافظ عليه. ومن هنا فإنَّ النظرة الكامنة من وراء هذا المديح تنطوي على «تشيُّؤ» المرأة، أيْ إحالتها إلى شيء ينبغي أن يُحفظ ويُصان، حتى يظل، في نظر مالكه، محتفظًا بقيمته. ومهما بدَت العبارة برَّاقة، ومهما كانت تنطوي في ظاهرها على امتداح للمرأة ورغبة في المحافظة عليها، فإنَّ المحافظة التي تدعو إليها العبارة هي من ذلك النوع الذي نتعامل به مع «الأشياء»، أيْ مع ما نمتلك من نفائس. وأبسط دليل على ذلك هو أنَّ أحدًا لا يفكر في امتداح الرجل لأنَّه «مَصون»؛ ذلك لأنَّ الرجل هو الذي يتولَّى اقتحام ميادين الحياة وخَوض معاركها، ومن ثَم يتعيَّن عليه أن يخرج من إطار «الصَّون» لكي يسلك في حياته سلوكًا إيجابيًّا فعَّالًا.

إنَّه مثال واحد لموقف يتكرر مرارًا في كتابات أقطاب الحركة الإسلامية المعاصرة وأحاديثهم عن المرأة؛ ذلك الموقف الذي يتسم بازدواجية ظاهرها التمجيد وباطنها القهر والإذلال. فالدعوة في حقيقتها استمرار للوضع المتدني أو الهامشي للمرأة، ولكنها لا تُصاغ أبدًا بصورتها الصريحة، بل تُعرض دائمًا كما لو كانت تُمثِّل قمة التحرُّر وأقصى مظاهر التكريم.

وفي الحالات التي يوجَّه فيها انتقاد شديد، بلُغة عصرية، إلى هذا الربط بين كيان المرأة وفكرة الصَّون، ويُكشَف المضمون المتخلِّف لهذه الدعوة، فإنَّ المدافعين عن هذا الموقف يتخذون لأنفسهم موقعًا غير مُتوقَّع، يتصوَّرون أنَّه كافٍ لإقناع العقول بأنَّ آراءهم تُمثِّل ذروة التحرُّر بالنسبة إلى المرأة؛ إذ يتَّجهون على الفور إلى المقارنة بين وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الجاهلية، لكي يثبتوا أنَّها قد أحرزَت مكاسب هائلة. ولا أجد نفسي في حاجة إلى أن أقتبس إشاراتٍ في كتابات هؤلاء الإسلاميين، إلى تلك المقارنة المتكررة بين الجاهلية والإسلام، كلَّما نُوقِشَت مشكلة المرأة، لأنَّ أيَّ قارئ لديه أبسط إلمام بما يقوله الإسلاميون المعاصرون عن المرأة في كُتُبهم وأحاديثهم وندواتهم وخُطَبهم، لا بدَّ أنَّه صادف مثل هذه المقارنة مئات المرات. ومع ذلك فإنَّ أحدًا من هؤلاء الدُّعاة لا يُكلِّف نفسه عناء التساؤل: ما لنا نحن والجاهلية؟ وهل يمكن أن نحصر مشكلة المرأة العصرية، التي تعيش حياةً معقَّدةً تكتنفها الصعوبات والمشاكل من كل جانب، في إطار المقارنة مع وضعها في عصر شِبه بدائي مضَت عليه عشرات القرون؟ وهل وجود المرأة في وضع أفضل ممَّا كانت عليه في عصر الجاهلية، يكفي لكي نقتنع — في عصرنا الحالي — بأنَّها قد تحرَّرَت بالفعل؟

هذا، على أيَّة حال، نموذج لطريقة الإسلاميين المعاصرين في التفكير، وهو كما قُلنا مَثَل صارخ للازدواجية بين ادِّعاء تحرير المرأة، على المستوى الكلامي واللفظي، ووضعها المقهور على مستوى الواقع الفعلي.

(٢) ازدواجية العاطفة والعقل

تؤكد كتابات الإسلاميين السمات العاطفية للمرأة، ويتخذ هذا التأكيد بدَوره طابعًا مزدوجًا؛ فمن جهة تُعَدُّ عاطفية المرأة عنصرًا إيجابيًّا جديرًا بالإشادة والتمجيد؛ ذلك لأنَّ عنصر العاطفة هو الذي يبعث في الأُسرة مشاعر الحنان والدفء والرعاية والحب، أيْ إنَّه هو القوة الجاذبة التي تعمل على تحقيق التماسك والمودَّة والتراحم في الأُسرة. غير أنَّ عاطفية المرأة توضَع في مقابل عقلانية الرجل؛ إذ تُنسب إلى الرجل القدرة على اتخاذ القرار والبتِّ في الأمور الحاسمة والتوجيه العام لدفَّة الحياة العائلية، على حين أنَّ المرأة «تكمل» الرجل بأن تضيف إلى عقلانيته عنصر الرقَّة والحساسية، فتكتمل — من خلال هذا التقسيم للقُدرات والمَلَكات بين الجنسين — مُقوِّمات الحياة العائلية. وربما تغزَّل البعض في هذه العاطفية المفرطة، بوصفها ضعفًا ظاهريًّا يُخفي وراءه قوة، وربما تحدَّثوا عن انقلاب الأدوار بين الرجل والمرأة، حيث تستطيع المرأة أن تتحكم في الرجل من خلال «دموعها»، أيْ أن تمارس عليه القوة باتخاذ مظهر الضعف، ولكن المهم أنَّ سمة «العاطفية» تُعَدُّ في هذه الحالة صفة إيجابية يمتدحها الرجل في المرأة.

على أنَّ التقابل بين عاطفية المرأة وعقلانية الرجل لا بدَّ أن يؤدِّي إلى ظهور الوجه الآخر للصورة المزدوجة؛ وأعني به ذلك الوجه الذي يربط بين سيطرة العاطفة عند المرأة، وبين سيادة النزعة اللاعقلية في تفكيرها، وسيطرة الاندفاع والهوى والعاطفة (بالمعنى السلبي هذه المرة) على نظرتها إلى الأمور، والعجز عن إصدار حُكم موضوعي مُنزَّه عن الأهواء والأغراض. ويجد هذا الوجه الآخر دعمًا من التراث الديني عندما يحكم على النساء بأنَّهنَّ «ناقصات عقل ودين»، ويحظر على المرأة تولِّي شئون القضاء، ولا تُقبل شهادتها أمام المحاكم إلا باعتبارها مساويةً لشهادة «نصف رجل».

وربما استطاع أصحاب هذا الرأي أن يضيفوا إليه صفةً تزعم أنَّها علمية، إذ يشيرون إلى بحوث تؤكِّد بطريقة إحصائية، مثلًا، أنَّ الأحكام الانفعالية أكثر شيوعًا لدى المرأة، ويقفزون من هذه المقدِّمات إلى تعميم متسرِّع، هو أنَّ المرأة ﺑ «طبيعتها» عاطفية. ولكن مثل هذا التعميم يفقد تمامًا شروط الحُكم العلمي، لأنَّ من المستحيل الكلام عن «طبيعة» لأحد الجنسين بعد هذا التاريخ الطويل من سيطرة الرجل وتَرْكه الأعمال الهامشية للمرأة، وبعد أن تراكمَت عوامل التنشئة الاجتماعية، عبر ألوف السنين لكي تفرض على المرأة هذه الاتجاهات العاطفية فرضًا. وبطبيعة الحال فإنَّ من السهل الخلط بين ما يرجع إلى عوامل اجتماعية وما يرجع إلى عوامل «طبيعية» ثابتة عندما يكون الأمر متعلقًا بأوضاع دامت آلاف السنين. ومن هنا فإنَّ المنطق السليم لا يرفض القول إنَّ ما يُسمَّى ﺑ «عاطفية المرأة»، إنَّما هو ظاهرة اجتماعية، وليس على الإطلاق جزءًا من طبيعة ثابتة للمرأة.

ولا بدَّ لنا أن نعترف بأنَّ هذه النظرة الازدواجية إلى سمة «العاطفية» في المرأة، لا تقتصر على الاتجاهات الإسلامية المعاصرة وحدها، بل إنَّها ترجع إلى تاريخ طويل، وتشيع في العصر الحاضر بين اتجاهات فكرية متعددة، تشترك كلها في الخلط بين العوامل الناتجة عن تأثير أوضاع اجتماعية واقتصادية للمرأة، كانعدام الاستقلال والمركز الأدنى في التشريع والشعور الدائم بالعجز وعدم الأمان، وبين العناصر التي تنتمي إلى «طبيعة ثابتة»، ومع ذلك فإنَّ الاتجاهات الإسلامية تستثمر هذا الخلط وتستخلص منه نتائج هامة، تظهر فيها ازدواجيتها التقليدية بوضوح؛ إذ تمتدح المرأة بوصفها القلب النابض بالحنان والعاطفة في الأُسرة، وتطالبها في الوقت ذاته بأن تلتزم هذه الحدود وتترك للرجل زمام القيادة والقوامة وسُلطة اتخاذ القرار.

(٣) ازدواجية الروح والجسد

لعلَّ أهمَّ الازدواجيات جميعًا، وأقربها إلى واقعنا الراهن الملموس، هي ازدواجية الروح والجسد، التي تُعبِّر عنها ظاهرة التحجُّب أوضح تعبير. ولا شكَّ أنَّ الاهتمام الهائل الذي تُبديه الجماعات الإسلامية المعاصرة بتحجُّب المرأة، والاعتقاد بأنَّ المعيار الأول، والأساسي، لسلوك المرأة طريقَ الإسلام الصحيح هو اختيارها للحِجاب، دليل على أنَّ إخفاء الجسد أو إلغاء مَعالمه الظاهرة هو، في نظر هذه الجماعات، المدخل الأول إلى عالم الروح.

ولكن المسألة في حقيقتها ليست أحادية الاتجاه على هذا النحو، وليس الأمر متعلقًا بحجاب يُخفي الجسد أو يُبْعِد تأثيره عن ذهن الآخرين فيؤدِّي ذلك تلقائيًّا إلى مزيد من الروحانية في فكر المرأة وسلوكها. بل إنَّ الموضوع في حقيقته أعقد من ذلك بكثير، وفي هذه الحالة بدَورها يتخذ هذا التعقيد شكل ازدواجية أشدَّ حِدَّة وعنفًا من كل ما عداها من الازدواجيات.

إنَّ عملية حجب الجسد يُفترض أنَّها صَون له عن طريق نقله إلى مستوى الأشياء الخافية عن الأعين، أو الأشياء غير المرغوب فيها، وأحيانًا المُنفرة (إذا حكمنا على الأمور في ضوء بعض مظاهر التحجُّب التي تؤدِّي إلى تشويه مقصود ومتعمَّد لأيَّة صورة جمالية للمرأة). والمفروض أنَّ عملية التحجُّب هذه ترفع الجسد فوق مستوى «السفور» الذي يبتذله ويتفنَّن في إظهاره للآخرين وعرضه عليهم لأغراض أقلُّها خطرًا انتزاع إعجابهم به، ومع ذلك فإنَّ العلاقة بين الحِجاب الكثيف وأشدِّ أنواع السفور تطرفًا؛ أعني السفور «المتبرج»، أقوى ممَّا نظن. فهما معًا وجهان، أحدهما سلبي والآخر إيجابي، لعملة واحدة. أمَّا هذه العملة الواحدة التي يشترك فيها الحِجاب والسفور المتطرفان فهي تأكيد أهمية الجسد والإصرار على أنَّه موضوع دائم للرغبة ومصدر دائم للإغواء. وهكذا فإنَّ المُحجَّبة، التي تنطلق من هذا الاعتقاد، تعمل على إخفاء الجسد حتى تسلبه هذه الصفات. أمَّا السافرة المتبرجة، التي تنطلق من اعتقاد مماثل، فإنَّها تعمل على إبرازه وكشفه حتى تزيد من قدرته على إثارة الرغبة والجذب والإغراء. إنَّ الاثنتين معًا — برغم كل ما يبدو بينهما من تناقض — تؤكدان في سلوكهما أنَّ أهمَّ ما في المرأة هو جسمها. وتجعلان من نظرة الرجل إلى المرأة حقيقةً أساسيةً في حياتها، فتعمل إحداهما على صدِّ هذه النظرة، وتعمل الأخرى على جذبها. وفي كلتا الحالتَين يسود الاعتقاد بأنَّ الهدف الوحيد للرجل هو اقتناص المرأة. ولا أُغالي إن قُلتُ إنَّ نظرة الاثنتين معًا إلى الطبيعة البشرية تؤكِّد جانبها الجنسي، حتى حين يكون الهدف إبعاد هذا الجانب أو الحماية منه. وأبسط دليل على ذلك هو أنَّ هناك بديلًا ثالثًا، تُمثِّله المرأة التي لا تحجِّب جسمها ولا تكشفه بابتذال، لأنَّها واثقة من أنَّ في شخصيتها جوانب أخرى أهم من الجسد، ولأنَّها تتوقع من الآخرين أن يركزوا اهتمامهم على هذه الجوانب، لا على الجسد.

وهكذا، فإنَّ التحجُّب يقع عند نقطة الالتقاء بين إهمال الجسد والترفُّع عنه من جهة، وبين الاهتمام المُفرط به والاعتقاد بخطورته على صاحبته وعلى الآخرين، ومن ثَم ضرورة إخفائه عنهم من جهة أخرى. ويصل هذا الاعتقاد الضمني بخطورة الجسد إلى حدِّ النظر إلى أيِّ نوع من الملامسة العابرة، كالمصافحة مثلًا، على أنَّه ينطوي حتمًا على سوء نية وعلى استثارة رغبة محرَّمة لدى الجنسين. ولا يمكن أن تكون هذه الحساسية الزائدة لأيِّ تلامس عابر مع الجنس الآخر سوى الوجه السلبي والوقائي، للنظرة الحيوانية إلى طبيعة الإنسان.

وتؤدِّي هذه الدلالة المزدوجة للحِجاب إلى ازدواجية أخرى، تتعلَّق بالسلوك المنتظَر من المرأة المحجَّبة نفسها. فالمطلوب منها أن تكون متقشِّفة المظهر، حاجبةً لنظرات الآخرين وأطماعهم، متباعدةً قدْر الإمكان عن الجنس الآخر، وأن تكون في الوقت ذاته أنثى كاملةً مع الزوج. ولا شكَّ أنَّ الكثيرين سيرَون في هذه الازدواجية أمرًا طبيعيًّا، على أساس أنَّ من واجب المرأة المسلمة التمنُّع على الحرام والإقبال على الحلال. ولكن المشكلة من الوجهة النفسية أشدُّ تعقيدًا بكثير، لأنَّها تفترض في المرأة القدرة على الجمع بين العفَّة المُفرطة من ناحية، والإقبال المُفرط على الجنس من جهة أخرى؛ ذلك لأنَّ على هذه المرأة نفسها أن تعوِّض زوجها عن خشونة مظهرها الخارجي، وتُثبت له أنَّها لا زالت الأنثى القادرة على تحقيق جميع رغباته.١ فكيف يمكن أن تجمع شخصيةٌ واحدة، ونفسيةٌ واحدة، بين هذين النقيضَين؟ ألا يؤدِّي هذا التناقض بين المظهر الخارجي والممارسة الخاصة إلى أزمة نفسية أو تعقيد في التكوين الداخلي للمرأة؟

إنَّ المظهر الخارجي الذي يُراد تحقيقُه عن طريق الحِجاب، أشبه ما يكون بمظهر الراهبات؛ اللون الداكن، الرداء الواسع الذي لا يكشف أيَّة تفاصيل، حجب الشعر، وأحيانًا الكفَّين والوجه. فالحِجاب نوع من الرهبنة، ولكنه رهبنة جزئية، تتعلَّق بمظهر المرأة الخارجي، أو مظهرها الاجتماعي فقط، على حين أنَّ رهبنة العقائد الأخرى، كالمسيحية، رهبنة كاملة، تسري على المرأة ظاهرًا وباطنًا. وعلى الرغم من التعارض بين الرهبنة الكاملة وبين الطبيعة البشرية السويَّة، فإنَّ فيها مزيدًا من الاتساق، لأنَّها تُزيل التناقض بين الظاهر والباطن، ولا تُعرِّض المرأة لازدواجية المظهر الملائكي المتعفِّف أمام الناس، والجوهر المُقبِل على المُتَع الحسيَّة داخل البيت، ومن الصعب أن يتخيَّل المرء هذا الجمع بين الرهبنة في الخارج، أمام المجتمع، وبين الأنوثة الفيَّاضة في الداخل، بدون اضطراب، ولو جزئي، في الشخصية، أو قدْر من النفاق في ممارسة أحد الدَّورَين.

ولا بدَّ أن نشير، في هذا الصدد، إلى العلاقة الجدلية المتصاعدة بين التحريم والرغبة، فممارسات الإسلاميين المعاصرين تحتشد بسلسلة مترابطة من التحريمات؛ تحريم الاختلاط خوفًا على المرأة، تحريم النظرة الثانية، تحريم السلام باليد، تحريم أيِّ كشف، مباشر أو غير مباشر، للجسد. ولكن هذه التحريمات ذاتها تؤدِّي إلى مزيد من الرغبة، فالشابُّ الذي لا يستطيع رؤية فتاة أو الكلام معها تشتعل رغبته في الجنس، ويتحوَّل إلى إنسان جائع، وكذلك الحال في الفتاة. وكلَّما اتسع نطاق التحريم ازدادت الرغبات اشتعالًا، فتشتدُّ التحريمات مرةً أخرى لمواجهة الموقف الحرِج والحدِّ من خطورته، وهلُمَّ جرًّا. وهكذا فإنَّ كلًّا من التحريم والرغبة المُعقَّدة يزيد الآخر تطرُّفًا، بحيث يصعُب الاهتداء إلى حلٍّ للمشكلات النفسية المتعلقة بالجنس عن هذا الطريق، ويمكن القول إنَّ مجتمع الحرمان المُفرط يولِّد عُقَده الخاصة، تمامًا كما أنَّ مجتمع الإباحية المُفرطة (في الغرب الذي ننتقده دائمًا، كما لو كنَّا نحن وحدنا أصحاب الفضائل) يخلق أيضًا تعقيداته الخاصة.

(٤) ازدواجية النظرة إلى الرجل

لا يمكن أن تكتمل معالجتنا للازدواجيات التي تترتَّب على نظرة الإسلاميين المعاصرين إلى المرأة، إلَّا بإشارة إلى الازدواجية المقابلة التي تكمن في نظرتهم إلى الرجل، فالتحجُّب يفترض أنَّ لدى الرجال نهمًا دائمًا إلى النساء، وأنَّ نظرة الرجل إلى المرأة هي نظرة «الذنب»، ومن ثَم فإنَّ من أكثر العبارات تداولًا عند دعوة النساء إلى التحجُّب، مناشدتهن بأن يحفظن أجسامهن من «عيون الذئاب». فالرجل ذئب، وعيونه جسورة مقتحمة طامعة على الدوام، وهي لا ترى في المرأة إلَّا موضوعًا للجنس. وصفة «الذئب» هذه تعمُّ الجميع، ولكن الذئب هو دائمًا «الرجل الآخر». فالزوج يحرص على أن يصون زوجته بالحِجاب من عيون الذئاب الأخرى، ولكنه هو نفسه يتحول إلى ذئب في نظر الأزواج أو الأبناء أو الإخوة الآخرين. وهنا تعود مرةً أخرى فكرة «التشيُّؤ»، والربط بين المرأة وبين الملكية الخاصة، بحيث يحرص الرجل على صَون أعزِّ ممتلكاته، وهو المرأة، وحَجْبها عن عيون الآخرين. فالامتلاك في هذه الحالة يصبح كاملًا، ويحرص عليه صاحبه أكثر ممَّا يحرص على أيِّ شيء آخر يقتنيه؛ ذلك لأنَّ في حياة الإنسان أشياء كثيرة «مرغوبة»، كالسيارة أو البيت الفاخر. وبقدْر ما يحرص الإنسان، في هذه الحالة الأخيرة، على ألَّا يستخدم هذه المقتنيات أحدٌ سواه، فإنَّه لا يمنع نظرة الآخرين إليها، ولا يَعُدُّ هذه النظرة انتقاصًا من ملكيته لها. أمَّا في حالة المرأة وحدها، وعلى خلاف الأشياء الأخرى المرغوبة، فإنَّ الرؤية تُعَدُّ جريمة، ونوعًا من الانتهاك، لأنَّ فيها قدْرًا من المشاركة، ولذلك فإنَّ حَجْب المرأة عن عيون الذئاب الآخرين، يعني ضمان استحواذ المالك وحده على حقِّ الرؤية، إلى جانب حقِّ الاستمتاع.

إنَّها بالطبع صورة بشعة لمجتمع يُعَدُّ كل الرجال فيه لصوصًا أو مُعتدين مُحتمَلين على النساء، ولا يكون هناك علاج لهذه العدوانية الجنسية الشاملة سوى الإخفاء والحَجْب، تمامًا كما توضَع الأموال في خزائن مُصفَّحة غير قابلة للكسر حين يخشى صاحبُها من أن تمتدَّ إليها أيدي اللصوص. وأبشع ما في هذه الصورة أنَّها تعزل الرجل والمرأة تمامًا عن كل المشاكل الواقعية التي يعيشان فيها وتختزلهما إلى مجرَّد جنسين يرغب كلٌّ منهما في الآخر، ويُشكِّل في الوقت ذاته خطرًا عليه، وتنسى تمامًا أنَّ كليهما إنسان يعيش في مجتمع، ويكافح في سبيل العيش، ويعاني من أزمات في الحياة اليومية والاقتصادية والسياسية، ويحلم بمستقبل أفضل لأجياله المُقبِلة.

ولكن النقد الذي نودُّ أن نركز عليه ها هنا، تمشيًا مع بقية أجزاء هذا البحث، هو أنَّ هذا الموقف ينطوي على ازدواجية في النظرة إلى الرجل، توازي الازدواجيات المناظرة لدى المرأة، وإن كانت تسير في اتجاه عكسي، فالرجل كما رأينا يُتَّهم بأنَّه ذئب، وبأنَّ نظراته وأطماعه الدائمة لا تُصَدُّ إلا بحَجْب موضوع رغبته عنه، ومع ذلك لا يدعو الإسلاميون إلى اتخاذ أيِّ إجراء ضدَّ هذا «الذئب»، وإنَّما يُفترض دائمًا أنَّه ذئب لا علاج له، ومن ثَم فإنَّه يُترك لكي يمارس «ذئبيته» بلا عقاب، ويقع العبء كله على المرأة؛ فهي وحدها التي تُكلَّف بحماية نفسها من أخطاره، وهي وحدها المُلزَمة بارتداء الثياب الثقيلة التي تُغطِّي كل أطراف جسمها في قيظ الصيف (ومعظم البلاد الإسلامية، كما نعلم، ذات صيف طويل شديد الحرارة).

وهكذا تنكشف لعبة الرجل في عملية التحجُّب بوضوح قاطع؛ ذلك لأنَّ الرجل هو الذي يُمسك بزمام الأمور، وهو الذي يضع قواعدها لصالحه منذ البداية. إنَّه رجل شرقي يغار على ما يملك ويودُّ أن يستحوذ عليه إلى الحدِّ الذي لا يسمح للآخرين حتى بمجرَّد التطلع إليه. ولكن من أصول اللعبة، قبل أن يعزل المرأة عن كل الوظائف الجادة في الحياة، أن يوجِّه إليها عبارات المديح والتمجيد والتكريم، لكي يقنعها في النهاية بأن تترك له المهام الكبرى وتتفرغ لتربية أطفاله وتغذيته وإمتاعه. ومن أصول اللعبة أيضًا أن يذمَّ نفسه ويتَّهم أبناء جنسه بأنَّهم ذئاب عدوانيون طامعون في نساء الغير، دون أن يوقع على نفسه أيَّ غُرم، بل يترك المرأة وحدها تتحمل تبعة خصاله السيئة، أيْ إنَّ المدح الموجَّه إلى المرأة كان لفظيًّا ظاهريًّا، أمَّا النتيجة العملية فهي خسارة لها على جميع الجبهات، بينما يوجَّه اللوم والذم إلى الرجل على المستوى الكلامي، ويظلُّ على المستوى العملي، هو الرابح على طول الخط، ومن المؤكَّد أنَّ المديح إنَّما وُجِّه إلى المرأة، في الحالة الأولى، لكي يساعدها على «ابتلاع» الخسارة الفادحة التي تلحق بكيانها كإنسانة، على حين أنَّ الذم، في الحالة الثانية، يُوجَّه إلى الرجل للتخفيف ظاهريًّا من حِدَّة المكاسب التي يحرزها على كافة الجبهات، ولو لم تكُن المسألة في حقيقتها لعبةً بارعةً أتقنها الرجل لكي يُخدِّر بها المرأة ويُحقِّق بها مصالحه، لاتجهَت دعواتُه إلى أن يتحمل هو جزءًا من العبء على الأقل، وذلك — مثلًا — بأن يُتخذ إجراء ضدَّ نظرات الرجال وأطماعهم الجنسية التي تُرغِم المرأة على حَجْب نفسها من عيونهم. ولكن شيئًا من هذا لا يحدث، لأنَّ الرجل وحده هو الذي يضع قواعد اللعبة.

•••

حاولنا في الصفحات السابقة أن نُلقيَ الضوء على بعض الجوانب المُعقَّدة في الموقف الذي تتخذه الحركات الإسلامية المعاصرة من مشكلة المرأة. ولا يمكن أن توصَف محاولة كهذه بأكثر من أنَّها مجموعة من التحليلات التي تسعى إلى التنقيب عمَّا وراء الشكل الظاهري الذي يُطرح به هذا الموقف في العلن. فللموضوع جوانبه الأشدُّ خفاءً وتعقيدًا إلى حدٍّ بعيد، ويكفينا أن نكون قد أطللنا من فجوة صغيرة تنفذ بنا إلى تلك الأعماق البعيدة التي لا يريد أحدٌ أن يعلنها أو أن يعترف بها. ولا جدال في أنَّ مجال البحث والتفكير يظلُّ مفتوحًا على مصراعيه في هذا الموضوع الشديد التعقيد، الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمصيرنا الاجتماعي والحضاري.

ولو شئتُ أن ألخص الخطأ الأكبر في معالجة الإسلاميين المعاصرين لمشكلة المرأة. لقُلتُ إنَّه الإصرار على النظر إلى هذه المشكلة بطريقة تجريدية خالصة. وأقوى مظاهر هذا التجريد، عزل هذه المشكلة عن كل التغيرات بحُجَّة أنَّها محكومة بقواعد تعلو على الزمان والمكان. وهكذا تُفصل مشاكل المرأة عن السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي، ويُنظر إليها كما لو كانت جنسًا مجرَّدًا في مقابل جنس آخر، لا على أنَّها كيان يغوص في قلب التاريخ ويندمج في التقلبات التي تطرأ على عالم سمته الأساسية هي التغير. وحصيلة هذه النظرة التجريدية هي تثبيت مجموعة من الأوضاع التي خضعَت لها المرأة في ظروف خاصة ولحظة محدَّدة من لحظات التاريخ، كما لو كانت وضعًا دائمًا يتمشى مع «طبيعتها» الثابتة. وفي اعتقادي أنَّ هذه النظرة المجرَّدة، المعزولة عن السياق الاجتماعي والتاريخي، هي المسئولة قبل غيرها عن جميع العيوب التي تشوب نظرة الإسلاميين المعاصرين إلى المرأة.

تبقى بعد ذلك كلمة أخيرة عن عبارة «الإسلاميين المعاصرين» أو «الاتجاهات الإسلامية المعاصرة» التي استخدمناها طوال هذا البحث. فأنا أُدرك تمامًا أنَّ من السهل توجيه انتقاد أساسي إلى هذه الورقة، يتَّهمها بأنَّها ارتكزَت على تعميم جارف، فجمعَت في إطارٍ واحدٍ عددًا كبيرًا من التيارات الإسلامية التي تتباين فيما بينها كل التباين. وأنا اعترف بصحة هذا النقد، ولكني أودُّ أن أركز على ما بين هذه التيارات المتباينة من نقاط مشتركة، لا على ما بينها من خلافات. وعلى سبيل المثال، فإنَّ أكثرها اعتدالًا وأشدَّها تطرُّفًا يتفقون على تأييد الحِجاب بكل ما يترتب عليه من نتائج عقلية ونفسية، وإن كانوا يتفاوتون في أمور فرعية مثل شكله ودرجة كثافته … فمع التسليم الكامل بأنَّ التيارات الإسلامية المعاصرة تتباين اعتدالًا وتطرُّفًا، ينبغي أن نعترف في الوقت ذاته بأنَّ البحث العلمي يُحتِّم علينا التنقيب عن النقاط المشتركة القابلة للتعميم في قلب الظواهر المتباينة. ولو اكتفى المرء بتناول الجزئيات واحدةً واحدةً لَمَا تقدَّم العلم خطوةً واحدةً إلى الأمام. ومن هنا فإني طرحتُ الاختلافات الجزئية بين هذه التيارات جانبًا، وبحثتُ عن العناصر المشتركة التي تكاد جميع هذه التيارات أن تكون متفقةً عليها، وفي هذه الحدود أرجو أن يُصدِر القارئ حكمه على هذه المحاولة.

١  وصل الأمر بداعية إسلامي، في إحدى الدول العربية، إلى حدِّ مخاطبة مجموعات من المحجَّبات، كنَّ يستمعن إلى أحد دروسه، قائلًا: أيَّتها المحجَّبة، كوني عاهرةً مع زوجك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤