تمهيد

وصل بنا المطاف في «الجزء الثامن من تاريخ أرض الكنانة» إلى فترة حاسمة أخذت بعدها البلاد تتجه وجهة أخرى غير التي كانت عليها أكثر من نحو خمسة وعشرين قرنًا من الزمان؛ فقد فقدت البلاد وحدتها الداخلية بانتهاء أسرة الرعامسة الضعفاء حوالي عام ١٠٨٥ق.م، ثم انقلبت إلى حالتها الأولى من الانقسام قبل أن تتوحد على يد بطلها الأول «مينا». فمصر المتحدة أصبحت مصر الشمالية أو الوجه البحري وعاصمتها «تانيس»، ومصر العليا أو الوجه القبلي وعاصمتها «طيبة»، وكانت حكومة الوجه البحري حكومة سياسية تسيطر على كل البلاد المصرية من جميع أقطارها، ولكنها سيطرة اسمية، كما كانت حكومة الجنوب حكومة دينية تدين لها مختلف بقاع الوجه القبلي بالزعامة الدينية المعقودة لطيبة، وكان أمراؤها يحكمون باسم الإله وأوامره وما يوحى به إليهم، ولم يكن لهم من الأمر شيء ظاهر إلا تنفيذ أحكام إلههم «آمون» — ملك الآلهة — التي كان يصدرها بالوحي في صوره المختلفة، وقد ظلت الحال في البلاد على هذا المنوال طوال عهد الأسرة الواحدة والعشرين كما فصلنا القول في ذلك في «الجزء الثامن» من هذا المؤلَّف.

وفي تلك الفترة من تاريخ البلاد — التي مُزِّقتْ فيها وحدتها على أيدي أبنائها أنفسهم — كان ملوك «تانيس» يستعينون على قضاء مآربهم وتنفيذ أغراضهم بالجنود المرتزقة الأجانب الذين كانوا قد وطدوا أقدامهم في داخل البلاد باحتلال المناصب العالية والتدخل في شئون إدارة البلاد اجتماعيًّا وحربيًّا منذ أوائل الأسرة العشرين، وذلك عندما أخذ ملوك الرعامسة يُكثرون من استخدام جنود لوبيا الأشداء البطش، ولا غرابة في أن يصير لهم هذا الشأن؛ فقد اشتبك معهم المصريون في مواقع حربية جبارة عَجَمُوا فيها عُودهم، وخبروا قوتهم؛ ولذلك ألَّفوا منهم فرقًا عديدة وضعوها في العاصمة وفي أمهات المدن المصرية حامياتٍ لحفظ النظام وقمع الثورات التي كانت تهب من وقت لآخر، ولم تلبث هذه الحاميات أن تَكَاثَرَ عددها واشتد بأسها وأصبح رؤساؤها هم المسيطرون على أهم المدن وأعظمها خطرًا من الناحيتين الإدارية، والسياسية، فكسر ذلك من شوكة ملوك «تانيس» وأمراء طيبة شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح ملوك «تانيس» لا حول لهم ولا قوة، كما أصبح أمراء طيبة في خوف ووجل من سلطان طوائف الجنود اللوبيين المرتزقة وتزايد قوتهم في مختلف جهات القطر.

ولم يمضِ طويل زمن حتى وجدنا أحد كبار رجال اللوبيين يعتلي عرش الكنانة ويلبس التاج الأبيض والتاج الأحمر إيذانًا بأنه صار ملك مصر الموحدة ثانية.

وهذا الأمير الكبير الذي أصبح ملك مصر هو «شيشنق الأول» فاتحة ملوك الأسرة الثانية والعشرين، ومؤسس الدولة اللوبية في مصر حوالي عام ٩٥٠ق.م.

وملوك هذه الأسرة كانوا في ظاهرهم أجانب، غير أنهم قد تمصروا بمكثهم في البلاد أجيالًا عديدة. ومَثَلُ ملوك هذه الدولة اللوبية كمَثَلِ ملوك المماليك من نواحٍ كثيرة؛ فقد دخلوا كالمماليك لخدمة المَلِك والاشتراك معه في شن الحروب على أعداء مصر، ولكن بعد أن قَوِيَ سلطانهم واستولوا على كثير من مرافق البلاد وانتشروا في جهات متفرقة من المملكة أخذوا يعملون في الخفاء على إضعاف المَلِك وسحب السلطة منه شيئًا فشيئًا إلى أن حان الوقت، وقفزوا إلى عرش المُلك دون كبير عناء، أو عنيف مقاومة.

وقد دلت الوثائق التاريخية التي في متناولنا على أن أسرة «شيشنق» هذا كانت تقطن مصر منذ ثلاثة عشر جيلًا في «أهناسية» المدينة التي اتخذوها موطنًا ومعقلًا لهم، وقد توارث حكم مقاطعة هذه المدينة هؤلاء الأمراء اللوبيون الذين يُنسبون إلى قبيلة «المشوش» صاحبة الكلمة النافذة في عهد الأسرة العشرين في بلاد لوبية.

وكان لأمراء مقاطعة «أهناسية المدينة» شأن يذكر في عهد الأسرة الواحدة والعشرين، كما تدل على ذلك الوثائق التي وصلت إلينا عنها؛ فقد كانت فروعها منتشرة في أنحاء البلاد وبخاصة «منف»؛ فقد ظهر أن أصل الكهنة العظام للإله «بتاح» في هذه العاصمة القديمة من قبيلة «المشوش»، ولهم صلة رحم «بشيشنق الأول». وقد دلت الآثار فيما بعد على أنه عند فتح «بيعنخي الكوشي» للبلاد المصرية وتوحيد كلمتها كرَّة أخرى في عهد الأسرة الخامسة والعشرين أن كان كل الأمراء حكامُ المقاطعات من أصل لوبي يلبسون على رءوسهم الريشة التي كانت تعد شعارهم الخاص، وهنا نجد نقطة تشابه بينهم وبين المماليك عندما تولى «محمد علي» ملك مصر؛ إذ كانت كل مديريات القطر في قبضة حكام من المماليك. فإذا كانت الحالة على هذا الوضع عندما تولى «شيشنق الأول» مقاليد الأمور في مصر، فإنه لم يكن أمامه صعوبات أو عقبات يجتازها ليصل بعدها إلى اعتلاء عرش الفراعنة.

والواقع أنه لم تصل إلينا حتى الآن تفاصيل عن كيفية اعتلاء «شيشنق الأول» مؤسس هذه الأسرة عرش الكنانة، وتدل شواهد الأحوال على أنه قد تسلم مقاليد الحكم دون أية مقاومة، وكيف تكون هناك مقاومة وكل البلاد في قبضة أتباعه؟ والظاهر أن طول مقام اللوبيين في مصر علَّمهم كيف يستطيعون الاستيلاء على الملك دون أن يقاومهم الشعب المصري، وذلك بالحرص الشديد على تقاليد المصريين السياسية والدينية الموروثة من أقدم عهود التاريخ.

والواقع أن «شيشنق» كان قبل اعتلاء عرش الملك في موقف حرج؛ لأنه لم يكن من دم ملكي خالص، ولم يكن متزوجًا من أسرة يجري في عروقها الدم الملكي ليكون أهلًا لتولي عرش الملك، ولكنه خرج من هذا المأزق بأنْ زوَّج ولي عهده وابنه «أوسركون الأول» من ابنة «بسوسنس» آخر ملوك الأسرة الواحدة والعشرين؛ ولذلك استتب له الأمر وحكم البلاد في هدوء وسكينة، وكان جُلُّ همِّه أن يعيد إلى مصر قوتها ووحدتها، ويسترجع لها عظمتها ومجدها الإمبراطوري في الخارج، كما فعل ملوك المماليك، وكان له بعض ما أراد؛ فقد قام في بادئ الأمر ببناء ما تهدم من المعابد وإعادة أوقافها والقضاء على الفوضى وإرجاع الأملاك إلى ذويها، وبعد ذلك عمل على توحيد البلاد ثانية، واتبع في ذلك سياسة حكيمة لم يلجأ فيها إلى القوة، وذلك أنه بدلًا من أن يضم حكومة طيبة المستقلة إلى حكومته في عاصمته الجديدة «بوبسطة» اكتفى بتنصيب أحد أبنائه في وظيفة الكاهن الأكبر لآمون في الكرنك، وكان الكاهن الأكبر يُعَدُّ الحاكمَ الديني المطلق للوجه القبلي حتى بلدة «طهنة الجبل». وبهذا التغيير الجديد قضى على أسرة الكهنة القدامى الذين كانوا يتوارثون هذا المنصب الخطير منذ أوائل الأسرة الواحدة والعشرين في أفراد أسرتهم. ويقال: إن هذا العمل قد أغضب أسرة كهنة «آمون» لدرجة أنهم خَفُّوا إلى «نباتا» في بلاد النوبة العليا عند الشلال الرابع تقريبًا، وهي التي كان يأوي إليها منذ الأسرة الثامنة عشرة طائفة من الكهنة في معبد أقامه «التحامسة» في هذه الجهة.

وقد ظل هؤلاء اللاجئون — على ما يقال — هناك إلى أن سنحت لهم فرصة العودة إلى مصر في العهد الكوشي. وهذا الرأي تحوم حوله الشكوك بما حدث من كشوف حديثة.

كما يقال إن هذا العمل — وهو تنصيب ابن «شيشنق» في وظيفة رياسة الكهنة — قد أعاد للبلاد وحدتها، أو على الأقل أصبحت حكومة «طيبة» الدينية وحكومة «بوبسطة» الدنيوية محصورة في أسرة واحدة موحدة جغرافيًّا لفترة من الزمن إلى أن قامت المنازعات ثانية وأخذ الكهنة يسعون وراء الانفصال عن حكومة «بوبسطة»؛ مما أدى إلى تمزيق شمل البلاد مرة أخرى. وبعد قيام «شيشنق» بهذه الإصلاحات الداخلية وتوطيد أركان السلام في جميع أنحاء البلاد — حتى الواحات نفسها التي كان يحكمها أحد أولاده — ولَّى وجهه شطر الفتح الخارجي. والظاهر أن «شيشنق» كان غرضه الأول استرجاع مجد مصر في آسيا وفي السودان.

وقد كان أول همٍّ له في سياسته الخارجية أن يستولي أولًا على فلسطين المتاخمة لحدود بلاده، وكانت وقتئذ في يد اليهود والإسرائيليين. وقد جاء ذكر «شيشنق الأول» — الذي حكم من حوالي (٩٥٠–٩٢٩ق.م) — في التوراة باسم «شيشق» في موضعين بمناسبة حروبه مع الإسرائيليين كما سيرى القارئ بعد، ولكن مما يؤسف له جد الأسف أن المتون المصرية المهشمة التي بقيت لنا من عهده لم تزد في فهمنا للغزوات التي قام بها في فلسطين بدرجة يمكن القول بها إنها أضافت معلومات جديدة أكثر مما جاء في التوراة.

والواقع أن المعلومات الوحيدة التي وصلت إلينا عن مملكة إسرائيل وعلاقتها بمصر مستقاة من الكتاب المقدس. وقد بدأ الاتصال بمصر يظهر جليًّا في عهد «داود» ملك اليهود، ويحتمل جدًّا أنه كان معاصرًا للملك «بسوسنس» آخر ملوك الأسرة الواحدة والعشرين حوالي ٩٦٠ق.م وفي نهاية عهد «سليمان» — عليه السلام — كان «شيشنق» فرعون مصر قد انتهز ما كان في بلاد اليهود من خلاف وتدابُر وأغار على فلسطين حوالي عام ٩٣٠ق.م وانتصر على العبرانيين انتصارًا عظيمًا.

وتدل شواهد الأحوال على أن «شيشنق» لم يَتَعَدَّ في حملته هذه الحدود الشمالية لبلاد «جليلى» (بيت أنات).

ولا نزاع في أن حملة «شيشنق» هذه كانت لها نتائج عظيمة؛ إذ قد انتشر بعدها النفوذ المصري ثانية في هذه الأصقاع الآسيوية، كما أنها عادت على خزانة مصر بالثراء العظيم؛ فإن «داود» و«سليمان» قد جمعا أموالًا طائلة في بلادهما واستولى عليها «شيشنق»، ولا بد أن «أورشليم» بوجه خاص كانت من أوفر بلاد الشرق غنًى وثروة. وذكرت لنا التوراة أن «شيشنق» قد استولى على كل كنوزها واستغلها في بلاده، وهذا نفس ما تثبته ظواهر الأحوال في مصر في تلك الفترة؛ فقد عاشت بعدها مصر مدة تقرب من قرنين من الزمان تنفق من الغنائم التي حملها «شيشنق» من فلسطين، يدل على ذلك العمائر التي أخذ في إقامتها ملوك هذه الأسرة في الكرنك وغيرها مما يدل على بسطة في الحال، وسعة في الرزق، مما لم يكن يُنْتَظَرُ من مصر الفقيرة التي مزقتها الحروب الداخلية في عهد الأسرة العشرين بصورة لم يسبق لها مثيل.

وهذه الآثار التي أقامها «شيشنق» وأحلافه في الكرنك و«بوبسطة» لا تزال باقية معالمها حتى الآن، ويلفت النظر بوجه خاص القناطير المقنطرة من الذهب والفضة التي أنفقها «أوسركون» بن «شيشنق» على إصلاح المعابد المصرية وإقامتها، وإعادة أوقافها من جديد؛ مما يؤكد ما كان «لسليمان» من الكنوز الضخمة التي نقلها «شيشنق» إلى مصر.

غير أن هذه الكنوز لم تلبث أن نفدت وعادت البلاد إلى ما كانت عليه من فقر مدقع؛ لفقدانها الموردين الهامين من موارد ثروتها، وأعني بذلك ممتلكاتها في «آسيا» وضياع «السودان» منها؛ فبلاد «فلسطين» أصبحت مستقلة، وبلاد «النوبة» بدأت تبتعد عن مصر بعد أن قهرها «شيشنق» وأعادها إلى حوزة مصر وأجبرها على دفع الجزية، فلم نعد نعرف عنها شيئًا في تلك الفترة الغامضة من تاريخ البلاد، ولكن ذلك لم يكن عائقًا لإقامة علاقات سياسية جديدة بين «مصر» وبلاد «فلسطين»؛ فقد دلت الآثار المكشوفة من عهد «أوسركون الثاني» على تبادل الهدايا بين ملوك مصر وملوك العبرانيين؛ فقد وُجِد إناءٌ فاخرٌ من المرمر في بلدة «السامرة» عليه اسم «أوسركون الثاني»، هذا إلى أشياء أخرى تدل على وجود علاقات وُدٍّ ومصافاة بين البلدين.

وبانقطاع موارد البلاد الخارجية — وبخاصة الذهب الذي كان يُجبَى من بلاد «النوبة» — لم يجد الفراعنة الطموحون أمامهم موارد رزق مفتوحة لإقامة المعابد لآلهتهم ونحت التماثيل لهم ولآلهتهم إلا هدم معابد ملوك مصر السالفين، واستعمال أنقاضها في بناء العمائر وعمل التماثيل دون أن يراعوا في ذلك إلًّا ولا ذمة.

وتدل شواهد الأحوال على أنهم كانوا أحيانًا يعجزون عن هدم هذه المعابد الضخمة؛ لِمَا كان يكلفهم ذلك من مجهود جبار، فكانوا يكتفون بمحو اسم صاحبها من الملوك السالفين ووضع أسمائهم بدلًا منها، وتلك كانت سليقة متأصلة في نفوس الملوك المصريين من الأزمان الغابرة، غير أنها قد اشتدت وطأتها في العهد الذي بدأت فيه مصر تتدهور ويختل ميزان قوتها. حقًّا وجدنا أن «رعمسيس الثاني» كان يغتصب كثيرًا من آثار أسلافه، ولكنه في مقابل ذلك ترك لنا آثارًا أقامها بنفسه أكثر عددًا وأعظم ضخامة مما اغتصبه، ولكن ملوك الأسرة الثانية والعشرين الذين نتحدث عنهم لم يتركوا لنا من آثارهم غير المغتصبة شيئًا يُذكر، ولا أدل على ذلك مما فعله «أوسركون الثاني» في «بوبسطة»؛ فقد محا اسم «رعمسيس الثاني» من كل أجزاء معبدها الكبير وأهداه للإلهة «باست» (القطة) بعد أن غير اسم الآلهة الأصليين الذين أهدى لهم المعبد في الأصل، وكذلك نجد أن نفس القبر الذي دفن فيه هذا الفرعون — وهو من أكبر فراعنة هذه الأسرة — كان مُغْتَصَبًا.

وقد اتخذ ملوك هذه الأسرة بلدة «تانيس» — («صان الحجر» الحالية) التي كانت تعد أعظم البلاد الأثرية في أرض «الكنانة» بعد «طيبة» — بمثابة منجم لانتزاع الأحجار من مبانيها التي مثلت فيها كل العصور التاريخية؛ لإقامة مبانيهم وصنع تماثيلهم وتوابيتهم. ولقد غالى «شيشنق الثالث» أحد ملوك هذه الأسرة في هذا النوع من التخريب والتعمير المزدوج، لدرجة أنه أقام بوابته الهائلة التي شيدها في «تانيس» من عمائر أخرى يرجع تاريخها من عهد الدولة القديمة حتى الأسرة الواحدة والعشرين، فهي في الواقع سجل تاريخي لما أنشئ من مبانٍ في هذه البقعة ومن معابد وتماثيل. ومن الغريب أنه لا يوجد في هذا المبنى الضخم حجر واحد قطعه «شيشنق الثالث» هذا من محجر خارج «تانيس»! وهذا العمل إن دل على شيء فعلى فقر البلاد وإفلاس ملوكها إلى درجة قاسية. والواقع أن البلاد كانت ترزح تحت عبء من الفقر شديد بَدَا بصورة واضحة في مظهر ملوكها في مختلف النواحي، وبخاصة في إقامة مقابرهم؛ فقد انتحوا لأنفسهم ناحية في معبد «تانيس» الكبير الذي أقامه «رعمسيس الثاني»، وأقاموا فيها مقابرهم التي كُشِفَ عن بعضها حديثًا، فهي — على الرغم مما وجد فيها من آثار ذات قيمة — تتضاءل بجانب ما كُشِفَ عنه من مقابر سليمة، ولا نقول لملوك الأسرة الثامنة عشرة، بل لأفراد عظماء الدولة الذين كُشِفَ عن مقابرهم سليمة في هذه الأسرة الأخيرة، هذا إلى حقارة مباني مقابر هؤلاء الملوك؛ إذ لا يجد الباحث في مبانيها حجرًا واحدًا غير منزوع من مبنى آخر من مباني المعبد الذي أقيمت داخله، أو من المباني القديمة الأخرى التي في «تانيس»، وكل هذه المباني فوق ذلك قد أقيمت على الرمال. والطريف في أمر هذه المقابر الملكية أنها على الرغم من حقارة مظهرها قد جمع ملوكها فيها معهم بعض آثار جنازية غاية في دقة الصنع، وجمال الذوق، مما أسبغ عليها طابعًا مميزًا لها، ولقد كُشِفَ لنا، فضلًا عن ذلك، بعض حقائق تاريخية ظلت مجهولة لنا حتى الآن، وبخاصة عن بعض الكهنة العظام الذين كانوا يتولون مهام الأمور في «طيبة» ومع ذلك فإنهم قد دُفِنُوا على ما يظهر في «تانيس»، ونخص بالذكر منهم الكاهن الأكبر لآمون «حورنخت» الذي وُجِدَ قبره بجوار قبر والده «أوسركون الثاني»، وعلى الرغم من أن قبره قد سلب فإن ما بقي منه يدل على عظم ما كان مودعًا معه من آثار جنازية فخمة تمتاز بدقة الصنع، وحسن الذوق بالنسبة لعصره.

والظاهر أنه في عهد «أوسركون الثاني» أخذ سلطان كهنة «آمون» يظهر ثانية في «طيبة»؛ إذ نجد منذ هذه الفترة أنهم أخذوا يستقلون في «طيبة» عن عاصمة الملك في «بوبسطة» على الرغم من نسبتهم لملوكها، والاتصال بهم اتصالًا وثيقًا؛ فقد كان الكاهن الأكبر، فضلًا عن أنه من أسرة «شيشنق» اللوبية، يحمل لقب «القائد الأكبر لكل جنود الفرعون»، و«حاكم الجنوب»، والظاهر أنه منذ ذلك العهد أخذت الخلافات الأسرية والأحقاد الشخصية تظهر في البلاد بصورة واضحة، مما أدى إلى انفصال كهنة «آمون» عن ملوك «بوبسطة»، وقد أدى هذا الخلاف إلى حروب داخلية غامضة قطعت أوصال البلاد كرة أخرى.

وفي هذه الفترة من تاريخ البلاد — أي: في نهاية عهد «أوسركون الثاني» — نصَّب الكاهن الأكبر «حورسا إزيس» نفسه ملكًا على «طيبة»، وخَلَفَهُ هناك «بدوباست» الذي يَعُدُّهُ «مانيتون» مؤسسَ الأسرة الثالثة والعشرين. والغالب أنه من نفس الأسرة اللوبية، وهذه الأسرة — كما فصلنا القول في ذلك — لم تَخْلُفِ الأسرةَ الثانية والعشرين، بل كانت معاصرة لها تحكم في «بوبسطة»، وقد عرفنا بعض تفاصيل عن تاريخ هاتين الأسرتين الغامضتين من تماثيل عظماء القوم التي وجدت في خبيئة الكرنك، وبخاصة أن نقوشها تحدثنا عن سلسلة نسب هؤلاء العظماء ومصاهرتهم للملوك وما بينهم من صلات قرابة لم تكن من قبل في الأسرات السالفة بهذه الصفة، هذا إلى سلوكهم مسلكًا جديدًا في أسلوب نحت تماثيلهم مما أسبغ عليها طابعًا جديدًا مميزًا.

وقد انتهز ملوك «كوش» — الذين كانوا يحكمون على بلاد «النوبة» السفلية والعلوية حتى الشلال الرابع — فرصة هذا الانقسام في الديار المصرية، فزحف «كاشتا» ملك «كوش» من عاصمته «نباتا» على مصر حتى وصل إلى «طيبة» حوالي عام ٧٥٠ق.م، والظاهر أنه لم يجد في طريقه أية مقاومة، بل سُلمت له المدينة، فاتخذها عاصمة لملكه في مصر، ولم يمد فتوحه إلى أبعد من هذا، وكان ذلك حوالي عام ٧٥٠ق.م، والظاهر أن كلًّا من «أوسركون الثالث» و«تاكيلوت» كانا يحكمان البلاد بالاشتراك في تلك الفترة في «طيبة»، وقد كانت «شبنوبت» بنت «أوسركون الثالث» تحمل لقب «المتعبدة الإلهية» أو «الكاهنة العظمى لآمون»، فأجبر «كشتا» هذه الكاهنة العظمى على أن تتبنى ابنته «أمنردس»، وهذا التبني قد منح أسرة «كشتا» الكوشي حقوقًا زادت في ادعائه لعرش مصر. وبعد اختفاء «رود آمون» خلف «تاكيلوت الثالث» وهو آخر ملوك هذه الأسرة أصبح تولي «أمنردس» عرش رياسة كهنة «آمون» بعد موت «شبنوبت» مضمونًا؛ وذلك لاختفاء أسرة الأخيرة نهائيًّا وحلول الأسرة الكوشية محلها.

ومما تجدر ملاحظته هنا أن لقب «الكاهن الأكبر» لآمون قد اختفى من هذه اللحظة، وحل محله لقب «المتعبدة الإلهية» في «طيبة»، وقد كان هذا اللقب موجودًا من قبل، ولكن نجد الآن أن حاملته قد رفعت نفسها إلى مرتبة لم يكن يتمتع بها إلا الكاهن الأكبر لآمون. وتدل شواهد الأحوال على أن «أوسركون الثالث» هو الذي فكر في هذا التغيير حتى لا يجعل أحد أبنائه أو أي رجل آخر يستولي على وظيفة الكاهن الأكبر التي كانت تعد غاية في الأهمية من حيث القوة والسلطان في البلاد؛ لدرجة أن حاملها كان في مقدوره أحيانًا أن يضعف من قوة الملك ونفوذه إلى حد بعيد جدًّا يسهل عليه أن يعتلي عرش الملك، ومن أجل ذلك ألغى «أوسركون» وظيفة الكاهن الأكبر وأنشأ بدلًا منها وظيفة الكاهنة العُظْمى الملكية أو «المتعبدة الإلهية»، ونصب فيها ابنته «شبنوبت»، وهي التي أجبرها «كشتا» على تبني ابنته «أمنردس» لتَخْلُفَها في هذا المنصب الفذ، وبذلك تنتقل بعد موت «شبنوبت» قوة «طيبة» من أسرة «أوسركون» إلى أسرته. وهكذا أصبح للسودان حق شرعي في عرش مصر، كما سنفصل القول في ذلك في الجزء التالي عند الكلام على حكم السودان لمصر.

ولما تولى «بيعنخي» عرش الملك في «نباتا» بعد والده «كشتا» أخذ في فتح مصر الوسطى والدلتا، وفي تلك الأثناء كانت البلاد في يد عصابة من حكام الأقطاع، ولكنه هزمهم وأصبح ملكًا على كل مصر في عام ٧٢١ق.م وذلك بعد أن وقف له «تفنخت» الذي يَعده بعض المؤرخين مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين في «سايس» القريبة من بلدة «كفر الشيخ» الحالية. وبتسليم «تفنخت» هذا أصبح «بيعنخي» ملكًا على مصر كلها، وبذلك طُوِيَتْ صفحة الحكم اللوبي في مصر بعد حكم البلاد قرابة قرنين ونصف قرن من الزمان قد انتعشت في خلالها أرض الكنانة بعض الشيء في الداخل والخارج، غير أنه كان انتعاشَ نهاية الشمعة المحترقة؛ إذ لم تقم للبلاد بعدها قائمة؛ على الرغم مما بُذِلَ من محاولات لإنعاشها والنهوض بها، وبخاصة أن سقوطها قد جاء في فترة كانت فيها الأمم التي حولها أخذت تنمو وتترعرع حتى بلغت فتوتها في عهد كانت فيه مصر في غاية الضعف، فكان طبيعيًّا أن تصير نهبًا مقسَّمًا بين تلك الأمم الفتية، فتوالى عليها بعد الكوشيين (السودان) الأشوريون، ثم احتلها الفرس فاليونان فالرومان فالعرب، وهكذا دولة بعد أخرى إلى يومنا هذا في عهد الإنجليز البغيض الذين يسيطرون على البلاد بيدٍ سياسية خفية، وبوضع جيش قوي عند قناة السويس.

وعلى الرغم من حكم البلاد في تلك الفترة بطائفة تعد من أصل أجنبي عن مصر، فإنهم لم يغيروا من سير الحياة في البلاد، بل ساروا بها وسارت بهم في طريقها الطبيعي في كل مرافق الحياة، سواء أكانت اجتماعية أم دينية أم سياسية؛ وذلك لأن اللوبيين الذين كان في يدهم زمام الأمر في مختلف مقاطعات البلاد كانوا بطبيعة الحال قد تمصروا، وأصبحوا جزءًا لا يتجزأ من أهل البلاد في طباعهم وأخلاقهم وعاداتهم، ولا غرابة في ذلك فإنهم من أصلٍ حاميٍّ، وقد اختلطوا بالمصريين جيرانِهم منذ فجر التاريخ، وكانوا يتكلمون بلغة القوم ويدينون بدينهم.

والواقع أن الحكام اللوبيين لم يغيروا شيئًا في البلاد، بل ساروا على نهج أسلافهم ملوك الأسرة الواحدة والعشرين في كل شيء، وزادوا مع ذلك بأنهم نهضوا بالبلاد نهضة حربية مباركة أعادت لها بعض مجدها في «آسيا» و«السودان» لوقت ما. هذا من الناحيتين: السياسية، والحربية. أما من الناحية الدينية، فنجد أن الملوك اللوبيين على الرغم من محاولتهم توحيد كلمة البلاد لم يفلحوا في ذلك إلا فترةً وجيزة لم تلبث بعدها أن عادت إلى ما كانت عليه من الانقسام في عهد الأسرة الواحدة والعشرين، فكانت «طيبة»، أو بعبارة أخرى الوجه القبلي، يحكمه الكاهن الأكبر مستترًا وراء الإله «آمون» الذي كان يعد وقتئذ ملك الآلهة والناس أجمعين، فكان ما يوحي به هذا الإله في كل أمور الدنيا هو القول الفصل ولا راد لحكمه، وكانت تُهْرَعُ إليه الناس في أثناء الأعياد لتقديم شكاياتهم ومختلف مظالمهم، كما كانت الجهات الأخرى من البلاد تصنع تماثيل لهذا الإله وتسميها بأسماء أماكنها، وتقدم لها مظالمها للفصل فيها بصور مختلفة؛ فقد كانت أحيانًا تقدم الشكاوى في صورة بطاقات مكتوبة يجيب عنها تمثال الإله الذي كان يُحْمَلُ في قارب خاصٍّ على أعناق الكهنة بإيماءة خاصة تدل على الرضا، وبأخرى تدل على الرفض.

ومن أجل ذلك أصبح الإله «آمون» في تلك الفترة من تاريخ البلاد هو الإله الأحد، الفرد الصمد، الذي لا معبود سواه، أما الآلهة الآخرون فلم يكونوا بالنسبة له إلا مخلوقاته وخدامه، وإن كان القوم يتقربون إليهم زلفى تمسكًا بالقديم، وبذلك خطت الديانة المصرية خطوة أخرى جبارة نحو التوحيد الحقيقي الذي أخذت تبدو مظاهره عند العبرانيين جيرانهم في صورة الإله «يهوه». ولا نزاع في أن التوحيد العبراني يرجع منشؤه إلى عبادة «آمون»؛ فقد كان إله العبرانيين يدل على معناه اللفظي وهو الهواء (يهوه) أي: الذي لا يرى، كما أن «آمون» معناه (الخفي)، ومن صفاته أنه يمثل الهواء. وكان رمز «يهوه» هو التابوت عند العبرانيين، كما كان «آمون» يُحمل في قارب على الأعناق، أو يوضع في قدس الأقداس في أعماق المعبد، وغير ذلك من أوجه الشبه الأخرى التي تَحَدَّثْنا عنها في هذا المؤلَّف، ومنها نجد أن الديانة اليهودية قد تأثرت كثيرًا بعبادة «آمون».

وكان من جراء تمسك كهنة «آمون» بالسلطة في البلاد أن جعلوا إلههم «آمون» ملكًا حقيقيًّا، وادعوا أنهم ليسوا إلا منفذين لتعاليمه وما يوحي به، حتى إنهم وضعوا اسمه في طغراءين كاللتين يوضع فيهما اسم الملك الحقيقي، وبهذا أصبحوا — وعلى رأسهم الكاهن الأكبر — الحكام الحقيقيين للبلاد، وبخاصة الوجه القبلي. وظلت الحال على هذا المنوال إلى أن جاء «أوسركون الثالث» آخر ملوك الأسرة الثانية والعشرين البارزين، ونصب ابنته كاهنة كبرى في معبد آمون؛ ليضعف من شوكة هؤلاء الكهنة الذين كانوا قد ابتلعوا كل ثروة البلاد، كما استولوا على كل مرافق الحكم فيها، وبهذا تلاشت سلطة هذه الفئة نهائيًّا.

أما دَهْمَاءُ الشعب — الذين يعيشون في كل أطوار التاريخ المصري على هامش الحياة في حالة فقر — فقد دلت الأحوال على أنهم قد انتعشوا بعض الشيء في عهد «شيشنق» وربما في عهد أخلافه أيضًا؛ إذ نجد في وثيقة من الوثائق التي تحدثنا عنها في هذا المؤلف ببعض التفصيل أن الضرائب كانت تصاعدية، فلم يؤخذ من أحد أكثر مما كان يجب أن يدفعه على أملاكه، كما نعرف أن هذه الضرائب كانت تُجْبَى من الغني والفقير، ومن مختلف أهل الحرف والصناعات بصورة تدل على العدالة الاجتماعية التي ننشدها الآن ولا نجدها، لا في الداخل، ولا في الخارج. والظاهر من الوثائق التي فحصناها هنا أن حالة الفلاح لا تدل على أنه كان يعيش في ضنك من العيش، أو على أقل تقدير لم يكن الفلاحون جميعهم عبيدًا لأصحاب الإقطاع؛ بل كان من بينهم مُلَّاك صغار يملكون مقادير صغيرة من الأرض يتصرفون فيها كيفما شاءوا، ويدفعون عنها ضرائب عادلة؛ فقد شاهدنا أميرًا من البيت المالك يشتري أرضًا من أسرة صغيرة ويدفع لها ثمنًا نقدًا على حسب نوعها؛ وذلك لأن أرض مصر كانت في تلك الفترة والتي قبلها مقسمة أنواعًا حسب جودة الأرض وسهولة ريها، ومن أجل ذلك كان يُجْبَى منها الخراج على مقدار جودتها بصورة تصاعدية؛ أي إن الفقير كان لا يدفع إلا خراجًا ضئيلًا. هذا، وتدلنا نفس الوثيقة التي استقينا منها هذه المعلومات عن الأراضي على أن نظام شراء العبيد وبيعهم كان شائعًا في البلاد.

وكانت طبقات الشعب على حسب ما ذكره لنا «هردوت» مقسمة سبع طوائف وهي: طائفة الكهنة، وطائفة المحاربين، وطائفة رعاة الخنازير. وطائفة التجار، وطائفة المترجمين (مما يدل على أن البلاد كان يزورها أجانب أو يقطنونها في تلك الفترة) ثم طائفة الملاحين. وذكر المؤرخ «ديودور» ثلاث طوائف فقط وهم: الرعاة، والفلاحون، وأصحاب الحرف.

ويلاحظ هنا أن «هردوت» لم يذكر طائفة الفلاحين، وربما لم يكن ذلك من باب النسيان؛ لأن السواد الأعظم من السكان كان من الفلاحين بطبيعة الحال فلم يكن هناك ما يدعو لذكرهم. والظاهر أن هذا التقسيم الذي أورده «هردوت» كان ينطبق بوجه خاص على عهد حكم «الفرس» لمصر وما قبله بقليل وحسب. وعلى أية حال تدل الأسانيد التاريخية التي في متناولنا على أن نظام وراثة الوظائف والحرف كان شائعًا في مصر منذ أقدم العهود، غير أنه لم يكن حتميًّا كما ذكر لنا «هردوت»؛ فابن المغني لا بد أن يكون مغنِّيًا ولو كان صوته يخدش الآذان، وابن الكاهن لا بد أن يكون كاهنًا ولو كان مُلحدًا، وابن الجندي لا بد أن يكون جنديًّا ولو كان جَبَانًا مُخَنَّثًا. ولكن لا غرابة في ذلك؛ لأن المصري كان بطبعه محافظًا في كل مظاهر حياته بدرجة لا تُعْرَفُ في أية أمة أخرى من أمم العالم، ولا أدل على ذلك من أننا نجد بعض التقاليد والعادات المصرية لا تزال باقية حتى يومنا هذا.

هذه إلمامة عابرة عن عهد حكم طائفة اللوبيين في مصر الذي انتهى بدخول الكوشيين — أو كما يسميهم المؤرخون «الأثيوبيين» في مصر — وتولي الحكم فيها. وهذا العهد من تاريخ مصر يمتاز باحتكاكه بدولة العبرانيين الجديدة التي ظهرت في هذه الفترة من تاريخ العالم بصورة جلية، وقد أقاموا لهم ملكًا في فلسطين، ووضعوا مبادئ التوحيد الصحيح الذي تعتنقه شعوب العالم كما نزله الله عليهم. منذ تلك الفترة أخذت العلاقات تنمو بين ملوك مصر وملوك إسرائيل على أسس الصداقة والمهادنة؛ إلى أن اجتاح الأشوريون كلًّا من مصر وبلاد إسرائيل وضموهما إلى مُلك «أشور» الشاسع فترة من الزمن لم تلبث أن استَرَدَّتْ مصرُ بعدها استقلالها.

وقد أوردنا في نهاية هذا المؤلف فصلًا خاصًّا مختصرًا عن تاريخ العبرانيين؛ ليكون عونًا لقراء تاريخ الشرق المقارن عامة، وتاريخ مصر خاصة، على تفهم سير الأحوال العالمية. ويبدو لزوم هذه النبذة عن تاريخ العبرانيين جليًّا عندما نعلم أن هؤلاء القوم هم رابع أقوام قد استوطنوا بلاد سوريا المجاورة، وهؤلاء الأقوام هم: الأموريون، والكنعانيون، والأراميون، ثم العبرانيون. وكان لكل قوم من هؤلاء مركزُ جاذبيةٍ خاصٌّ به، واتصالٌ بمصر كما فصَّلنا القول في ذلك في أماكن مختلفة من هذه الموسوعة عن تاريخ مصر؛ ففي العهد الأموري كان مركز الجاذبية للشئون السورية في الشمال، وفي العهد الكنعاني انتقل مركز الجاذبية إلى الشاطئ، وفي عصر الأراميين كان في الداخل، وفي زمن العبرانيين كانت القوة في جنوبي فلسطين، وقد بقي العبرانيون هناك مدة طويلة، وقد أخذوا ثقافتهم عن الكنعانيين. وتدل الآثار على أن العبرانيين قد دخلوا أرض فلسطين في ثلاث هجرات لم تحددها لنا الوثائق التاريخية تحديدًا شافيًا. والظاهر أن هجرتهم الأولى كانت من بلاد ما بين النهرين في خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد، والهجرة الثانية كانت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والهجرة الثالثة — وهي التي نعرف عنها الشيء الكثير بالنسبة لسابقتيها — كانت على ما يقال من مصر ومن الجنوب الشرقي لآسيا في عهد «موسى». وقد تحدثنا في هذا الموجز عن تقلبات الأحوال في فلسطين في زمن هؤلاء القوم الذين مكث ملكهم في فلسطين منذ عهد «رعمسيس الثاني» إلى أن قُضِيَ عليهم نهائيًّا ومُحِيَتْ مملكتهم من الوجود على يد الكلدانيين حوالي عام ٥٨٦ق.م ومما يؤسف له جد الأسف أن المصادر التاريخية لا تزال تعوزنا عند فحص تاريخ هؤلاء القوم فحصًا دقيقًا، وليس لدينا مصدر نعتمد عليه إلا ما جاء في التوراة، وهذا المصدر على الرغم من عظم قيمته من الوجهة التاريخية قد وصل إلينا عن طريق الرواية، وهو في ذلك كالأحاديث النبوية التي وصلت إلينا من طريق السند، وهو يحتاج إلى روية وإمعان نظر، وبخاصة عندما نعلم أنه قد كُتب في أزمان مختلفة ولم يدون كالقرآن في زمن واحد معين.

وسيرى القارئ أننا قد اعتمدنا في كتابة هذا الفصل في معظم الأحيان على هذا المصدر الديني الوحيد وغيره — عندما تسنح الفرصة — من المصادر التي كشفت عنها الآثار. ومع هذا فقد وجدنا في كثير من الأحيان أن المصادر المعاصرة في تواريخ الأمم المجاورة تتفق مع ما جاء في التوراة إلا في نقط قليلة لا تزال غامضة لا تغير مجرى التاريخ.

•••

وإني أتقدم هنا بعظيم شكري لصديقي الأستاذ محمد النجار ناظر مدرسة الحلمية الابتدائية لِمَا قام به من مراجعة أصول هذا الكتاب وقراءة تجاربه بعناية بالغة، كما أتقدم بوافر الثناء على حضرة الأستاذ محمد زكي خليل مدير مطبعة جامعة فؤاد الأول لِمَا بذله من مجهود مشكور وعناية ملحوظة في إخراج هذا المؤلَّف.

أما ما بذله صديقي وتلميذي الأستاذ أحمد عزت بجامعة إبراهيم من مجهود عظيم في مراجعة الأصول على المتون الأصلية، والعناية الفائقة بتنظيم فهرس الأعلام ووضعه؛ فإني أتركه للقارئ المحقق الذي يتصفح هذا المؤلَّف بعين فاحصة. وإني أقدم له بالغ شكري وعظيم تقديري لهذا المجهود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤