الفصل الثالث

التجارب الإنجليزية في حقن الدم

أثارت فكرة الدورة الدموية الشكوك على مستوى جوهري في كل التصورات عن ماهية الدم ووظيفته. وأخذ علماء أكسفورد يقيمون سبيلين محتملين للدراسة، وهما حقن الدم ونقله. وفي عام ١٦٣٩ — أي قبل مولد دوني بعام — بدأ فرانسيس بوتر العالم الأكسفوردي يدرس فكرة نقل الدم من حيوان لآخر. وقال إن هذه الفكرة خطرت له بينما كان يفكر في حدث يدور في قصة جيسون والمغامرون لبابليوس أوفيديوس ناسو. ففي قصة أوفيد، أعادت الساحرة ميديا الشباب لوالد جيسون العجوز بإعطائه شرابًا يجمع بين ضوء القمر والصقيع وقطع من طيور البوم والسلاحف والذئاب والظباء والغربان. وسكبت ميديا شرابها في فمه بينما تركت دمه يسيل من جرح في رقبته. وطبقًا للأسطورة، استعاد العجوز شبابه على الفور؛ فعاد لشعره الأبيض لونه الأسود السابق، وامتلأت أوردته بالدم، واستحال شحوب بشرته إلى نضارةٍ.

وتساءل بوتر إن كان من الممكن استبدال الدم القديم والمستهلك. وكانت محاولته لعلاج المرض المتكرر مسألة شخصية، حيث كان يعاني من نوبات صرع. وشهدت سنواته السبع والعشرون في كلية الثالوث في أكسفورد حصار المدينة، كما شهدت تلك المرحلة تسجيله تعليقاته في مدوناته على عدد المرات التي جاء فيها هارفي ليلقي نظرة على بيض الدجاج في حضَّانات الكلية. وكان ذلك لأن هارفي تابع تطور أجنة الدجاج داخل البيض، كما كان يزور حجرة زميله رالف باتهورست بصفة شبه يومية. وبحلول عام ١٦٥١، أصبح بوتر وهارفي صديقين حميمين، واستمتع كلٌّ منهما بتوسيع مدارك الآخر. واتضح أن ذلك عاد بفائدة كبيرة؛ إذ لم يكن بوتر — على عكس هارفي — محبًّا للقراءة إلى حد كبير.

وبمجرد انتهاء الحصار، انتقل بوتر إلى منزل كاهن الأبرشية في كيلمينجتون بمنطقة سومرست، حيث ارتدى ملابس ناسك أو راعٍ قديم وعاش وحيدًا، سعيدًا بخروجه من صخب المدينة المليئة برجال الحاشية. كان بستانيًّا شغوفًا، وكان وجهه الطويل الشاحب يُرى من فوق الشجيرات الطويلة المشذبة بعناية على شكل مربعات. كما أنشأ مختبرًا خاصًّا، وأجرى فيه سلسلة من التجارب. كان يحب اختراع الماكينات، فعمل نجارًا وحدادًا في آنٍ واحدٍ ليحول حلمه إلى حقيقة. وكانت إحدى آلاته نظام بكرات مصممًا خاصة لرفع أواني بحجم البراميل من بئرٍ غائرة العمق. وكان أوبري أحد أصدقائه الأقرباء القلائل، وكان منبهرًا بتلك الآلة. كما كان بوتر مهووسًا بالدراسات اللاهوتية التي تهدف إلى إثبات أن البابا عدو للمسيح، وفي كتابه الوحيد «تفسير الرقم ٦٦٦»، سعى مثل كثيرين غيره لإيجاد تفسير رياضي لرقم الوحش في سفر الرؤيا.

بدأ بوتر — في المنزل المخصص له في الأبرشية — السعي وراء هدفه الذي يرمي إلى سحب الدم من دجاجة وحقنه في أخرى. لكنه واجه مشكلتين؛ الأولى: أنه واجه صعوبة في استخراج الدم، والثانية: أن الدم كان يتجلط قبل أن يتمكن من نقله إلى أي حيوان آخر. ولم يكن إجراء التجربة على الدجاج بالفكرة المثلى لأن الدجاج صغير في الحجم وكان إدخال الأنابيب إلى أوعيته الدموية من الصعوبة بمكان.

وفي السابع من ديسمبر عام ١٦٥٢، كتب بوتر إلى أوبري واصفًا الموقف:

سيدي العزيز

يؤسفني أنني لا أستطيع أن أقدم لك الآن رواية أفضل للتجربة التي ترغب في معرفة تطوراتها. إنني أشعر بالإحباط بدايةً (والمشكلة هي قلة خبرتي؛ حيث إنني لم أُجرِ مثل هذه التجربة على أي مخلوق من قبل) لأنه بالرغم من محاولاتي المتكررة، لا أستطيع الوصول إلى الوريد وسحب الدم منه بقدرٍ كافٍ.

لقد صنعت وعاءً شفافًا رقيقًا قليلًا من حوصلة دجاجة — هذا الوعاء يشبه المثانة قليلًا. وثبَّتُّ أنبوبًا عاجيًّا في أحد عنقيه. وقد أدخلت هذا الأنبوب في وريد في أدنى مفصل في الساق. وهو وريد كبير وظاهر. إلا أنني لم أستطع استخراج أكثر من قطرتين أو ثلاث من الدم عبر الأنبوب إلى الوعاء الذي يشبه المثانة.

كنت سأرسل الوعاء والأنبوب إليك مرفقين بخطابي، لكني خشيت ضياع الخطاب. في المقابل، رسمت رسمًا تقريبيًّا لهما لترى ما أحاول فعله:

(أ) عنق الحوصلة الذي يصل إلى فمي لأتمكن من الشفط.

(ب) العنق الآخر الذي يصل إلى الأحشاء. ويمكن توصيل أنبوب آخر بطرفه وإدخاله إلى وريد كائن حي آخر في الوقت ذاته.

(د) أنبوب عاجيٌّ منحنٍ قليلًا، وموصول بالحوصلة.

(ﻫ) تجويف الوعاء أو الحوصلة.

سيدي، يسعدني أن أكون في خدمتك دائمًا، إليك خالص تمنياتي، مع كل المودة.

فرانسيس بوتر
كيلمانتون، ٧ ديسمبر ١٦٥٢
رغم عدم النجاح، لم يستسلم بوتر بسهولة وتشجَّع على الاستمرار في المحاولة عندما أرسل إليه أوبري مشرط جراحة. وبعد عام كتب إلى أوبري مرةً أخرى ذكر فيها أنه حسَّن طريقته وأنه يستخدم منفاخًا صغيرًا لجمع الدم. كما استعاض عن أنابيب العاج ﺑ «القصبة الهوائية لبعض الحيوانات الصغيرة»، ملمحًا إلى أنه حقق نجاحًا هامشيًّا في إدخالها إلى أوردة حيوانين مختلفين ومبادلة دميهما. إلا أنه من غير المرجح أنه لاقى أي نجاح فعليٍّ؛ ذلك أنه لم يكن هناك أي فرق في الضغط ليدفع الدم من أحد الحيوانين للآخر، بل الأرجح أن الأنبوب امتلأ ببطء ثم تجلَّط الدم به.
fig5
شكل ٣-١: خطاب من فرانسيس بوتر إلى جون أوبري بتاريخ ٧ ديسمبر ١٦٥٢، مكتبة بودليان، أكسفورد، مخطوطة أوبري ٦/إف ٦١ آر، وبه مخطط للوعاء الذي يشبه المثانة. نُسخ بتصريح من مكتبة بودليان، جامعة أكسفورد.

كما تشير الطرق التي ذكرها خطاب بوتر أنه كان يحاول سحب الدم من الأوردة بينما كان يتجاهل الشرايين. ربما يرجع ذلك إلى أن الوصول إلى الأوردة أسهل، ولم تكن تنفجر بالدماء عند قطعها. ولسوء حظ بوتر فإن الأوردة التي تنقل الدم من الشعيرات إلى القلب ليس بها ضغطٌ كبير يحرك الدم، ومن ثم تنغلق هذه الأوعية بسهولة. فلو كانت تجري داخل العضلات، لكان من السهل أن تنضغط وتنسد. أما جريانها على السطح تحت الجلد مباشرة فيبقيها مفتوحة. إلا أن سهولة انغلاق الأوردة كان يمثل مشكلة لرواد نقل الدم الأوائل؛ فإذا حاولوا استخدام إبر الحقن لسحب الدم من الوريد بسرعة كبيرة، انغلق الوريد نتيجة قوة الشفط. ومن هذا المنطلق، كان احتمال النجاح أكبر لو سُحِب الدم من الشرايين التي تمتلئ بضغط أعلى، ومن ثم فإنها أقل عرضة للانغلاق.

لم يكن رحيل بوتر نهاية التجارب في أكسفورد — بل كان الوضع أبعد ما يكون عن ذلك. لكن من بقوا في أكسفورد، اتَّبعوا مسارًا مختلفًا بعض الشيء في الدراسة؛ إذ أخذوا في البداية يجربون فكرة حقن محاليل داخل مجرى الدم. وكان بويل أحد أهم رواد المجال، الذي جاء إلى أكسفورد حوالي عام ١٦٥٦؛ ولطالما كان مندهشًا من احتمال أن يؤدي تلوث الجرح إلى إصابة الإنسان بالعجز. وتساءل كيف يمكن لخراج في اليد أو الساق أن يتسبب في معاناة الجسد بالكامل؟ ربما كانت دورة هارفي هي التفسير. فربما كان الجرح يطلق سمومًا في الدم، فينشرها الدم بدوره في جميع أجزاء الجسم. كان الوقت قد حان لإجراء التجارب.

أطعم بويل في البداية كلبًا رأس أفعى وذيلها ومرارتها. وكانت هذه هي الأجزاء التي يعتقد أنها تحتوي على سم الثعبان. مع ذلك لم يتأثر الكلب؛ وكان هذا لغزًا محيرًا؛ إذ كان بويل مدركًا تمام الإدراك أن عضة واحدة من الثعبان قاتلة؛ لذا لم تكن تلك الملاحظة منطقية عنده، فإذا كان الطعام يتحول إلى دم مباشرة فإن إطعام السم للكلب ينبغي أن يكون له ذات تأثير حقنه عن طريق أنياب الثعبان. وفي ذلك الوقت، كان هناك تصور ضئيل للغاية، إن وجد، عن عملية الهضم. فكانت المعدة — على حد علم الجميع — تذيب الطعام وتطحنه حتى يتحول إلى عجين سائل. ولم يفكر أحد في احتمال أن مكونات الطعام — التي نسميها اليوم الدهون والبروتينات والكربوهيدرات — كانت تتفكك لتتحول إلى سائل من العناصر المكونة. وفي حالة السم، فإن الهضم يحوله إلى مادة غير ضارة.

اتبع بويل — الذي لم يكن على دراية بما ذكرناه سابقًا — مسارًا استدلاليًّا مختلفًا؛ إذ فكر أنه لا بد أن هناك شيئًا جوهريًّا في غضب الثعبان يجعل عضته قاتلة. فالجميع يعرف بأي حال أنه عندما تصاب الكلاب المسعورة بنوبة غضب وتعض شخصًا فإنها تصيبه بمرض خطير. ولم يكن هناك أي علامة على أن الكلاب تفرز سمًّا؛ لذا فإن من المؤكد أن هناك شيئًا في الشعور بالغضب في حد ذاته ينقل المرض. (وقد بتنا الآن نعلم أن ذلك ينتج عن البكتيريا المسببة لداء الكلب الموجودة في أسنانه وتدخل إلى جسم المصاب عندما يغرس الكلب أسنانه في جسم الضحية. أو على الأقل هذا هو فهمنا الحالي لما يحدث!)

خلص بويل في كتابه «اعتبارات بشأن أهمية الفلسفة الطبيعية التجريبية» الذي نشره عام ١٦٦٣ إلى أن خير طريقة لاختبار هذه الفكرة هي غمس إبرة ما في السم ثم غرسها في أوردة الكلب. وسيؤدي ذلك إلى نقل السم وليس إلى الغضب. لكن ليس لدينا أي سجل يشير إلى أن بويل أجرى تلك التجربة بالفعل، رغم أنه لو كان فعل لاكتشف أن السم قادر على القتل رغم انعدام الغضب في الطريقة التي أُدخل بها السم إلى جسم الكلب. ولو أنه كان أدخل الإبرة في الوريد لكانت أول تجربة للحقن في الدم.

بدلًا من ذلك، انضم بويل إلى فريق من أعضاء نخبة أكسفورد في ربيع ١٦٥٦. وكان أحد أعضاء الفريق الشاب الرائع كريستوفر رين الذي طُرِد من كامبريدج في وقت سابق بسبب أصوله الملكية. وكان هذا هو الرجل نفسه الذي اشتُهِر لاحقًا عندما أتاح له اهتمامه الثانوي فرصة العمر؛ فبعد حريق لندن الكبير أُوكِلت إليه مهمة تصميم مبنى جديد لكاتدرائية القديس بولس. لكن في تلك المرحلة العمرية كان هذا الشاب القصير ذو الشعر الأسود المنسدل أكثر ميلًا ناحية شغفه الذي لازمه طيلة حياته بالتشريح والفلك. كذلك كان من ضمن نخبة أكسفورد رجل الدين والعالم جون ويلكنز الذي كان متزوجًا لتوه من إحدى أخوات أوليفر كرومويل المترملات، والذي سيُنقَل بعد ذلك الوقت بثلاث سنوات إلى كامبريدج على يد ريتشارد كرومويل ليصبح عميدًا لكلية الثالوث.

لعدة سنوات كان تأييد عائلة كرومويل طريقًا جيدًا للنجاح؛ فقد أُعدِم الملك تشارلز الأول بضرب عنقه قبل ذلك بست سنوات؛ وبدت استعادة الملكية غير محتملة. ومن أجل موازنة الرهان حرصت عائلة بويل على تقسيم ولاء أفرادها بين المعسكرين الملكي والبرلماني.

التقى بويل ورين وويلكنز في يوم ما عند شقة بويل المفروشة في هاي ستريت بأكسفورد والمطلة على كلية بريزنوز ولا تبعد كثيرًا عن مكتبة بودليان المشهورة بالفعل. كانت الشقة فوق صيدلية ميزها الهاون ويد الهاون المتدليان من أحد أعواد البلوط المتقاطعة التي تشكل سورًا. فتح رين وويلكنز الباب الخشبي الثقيل ورحب بهما مالك الصيدلية جون كروس وهو رجل بدين في أواخر العقد الخامس من عمره يرتدي ذلك النوع من المعاطف ذات اللون البني الفاتح المقصوصة بإتقان التي كانت شائعة بين التجار الناجحين. وكانت صيدليته معرضًا للأوعية الزجاجية اللامعة التي تحتوي على الصخور والمساحيق والأعشاب والتوابل؛ وكانت الأوعية مصفوف بعضها فوق بعض بعناية على أرفف من خشب الأرز.

أرشدهما كروس إلى الطريق، لكن لم تكن الإشارة ضرورية؛ فقد كان رين وويلكنز يعرفان إلى أين يذهبان؛ إذ لم تكن تلك الزيارة الأولى. عبَر الاثنان الأرضية البلوطية ودلفا عبر باب وصعدا الدرج. كان بويل في انتظارهما — متأهبًا — فقد اشترى كلبًا صغيرًا من السوق ذاك الصباح. وبعد عدد من المداعبات، شرع الثلاثة في العمل، مرتدين مآزر فوق ملابسهم لتحميها من الرذاذ الحتمي الوشيك. أخرج رين البالغ من العمر ٢٤ عامًا ومساعدوه أحد الأوعية الدموية الكبيرة من الساق الخلفية للكلب، وربطوا حولها قطعة من الكتان. وأدى ذلك لغلق الوريد لكنه مكنهم من إمساكه بإحكام. وبعد أن «تجاوزوا المصاعب التي سببتها مقاومة الكلب المتألم» أدخلوا إبرة في الوريد وحقنوا مادة الأفيون بعد إذابتها في نبيذ أحمر. ويروي بويل ما حدث بعد ذلك قائلًا إن الدورة الدموية نقلت الجرعة سريعًا لدماغ الكلب وباقي أجزاء جسمه. وكان التأثير سريعًا لدرجة أنهم لم يكادوا يفكون رباط قطعة الكتان حتى «بدأ مفعول الأفيون التخديري في الظهور، وبمجرد وقوف الكلب على قوائمه أخذ يومئ برأسه ويترنح ويتعثر في مشيته.» وفقد الكلب اتزانه لدرجة أن رين وبويل بدآ في المراهنة على كون الكلب سيبقى على قيد الحياة من الأساس. لقد كانت تلك أول حالة مسجلة يجري فيها حقن جرعة زائدة من عقار تخديري.

لكن الكلب ظل على قيد الحياة بل صار بدينًا، ربما لأن الشهرة التي اكتسبها أدت إلى عدم توقف الناس عن إطعامه. لكن بويل يوضح في كتابته عن التجربة قائلًا: «لكني لم أستطع مشاهدة أثرها عليه طويلًا؛ فما لبث أن سُرق مني بعد تلك الشهرة التي حظي بها نتيجة هذه التجربة.»1
أحيانًا ما يغتر الباحثون بأعمالهم، وأحيانًا ما يشعرون بالخجل منها. أما رين فكان متواضعًا؛ فلم يذع كثيرًا من المزاعم المؤكدة، بل كتب لمعلم التشريح السابق السير ويليام بيتي الذي كان قد انتقل في وقت سابق إلى دبلن، فقد أرسل خطابًا مع زميله روبرت وود الذي كان مرتحلًا إلى المدينة نفسها طلبًا للثراء. لم يكن قد مضى على تعيين بيتي طبيبًا للجيش في أيرلندا وقت طويل، وكان رين متأكدًا من أنه سيهتز طربًا لمعرفة النجاحات التي حققها تلميذه. ووصف رين في الخطاب العمل الشيق الذي يجري في أكسفورد، فتحدث عن المجاهر والمناظير التي تتيح رؤية جديدة متميزة كاشفة للعمليات التي تدور في الكون بأكمله. وكتب عن تشريح الأسماك والديوك ودراسة الكبد والمخ والأعصاب. لم يكن أي من ذلك بالنسبة إلى رين بنفس أهمية التجربة الأكثر محورية التي جرى فيها حقن النبيذ والجعة في أوردة كلب. وكتب يقول: «لا يتسع المجال لأخبرك بتأثير الأفيون ونبات المحمودة وغيرهما من المواد التي جربتها بالطريقة نفسها. إنني مستمر في التجربة التي أرى أنها على أهمية كبيرة وأنها سيكون لها بالغ الأثر في نظرية الطب وممارسته.»2

كانت الفكرة الرئيسية هي أن الحقن يمكن أن يكون وسيلة فعَّالة لإدخال المواد العلاجية إلى الدم. وكان من المعروف أن الأفيون مسكِّنٌ فعالٌ، وكان نبات المحمودة يشبه اللبلاب، وعند غليه في الماء ينتج ملينًا قويًّا للأمعاء. ولم يستغرق الأمر طويلًا قبل أن يدرك العلماء أن الأثر الفعَّال لم يكن قويًّا فحسب، بل إن التأثير نفسه كان ينتج من كميات أقل من اللازم يتم تناولها بالطرق التقليدية.

أجرى رين وأصدقاؤه — والحماس يملؤهم — مزيدًا من التجارب. أُجريَ عددٌ من هذه التجارب في منزل صديق قديم لهارفي هو هنري بييربوينت، أول نبلاء دورتشستر وأول زميل شرفي في الكلية الملكية للأطباء. أتاحت تلك التجارب لأفراد الفريق أن يتقنوا الأسلوب الذي يتبعونه، وسرعان ما استخدموا حوصلة مثبتة بإبرة بدلًا من المحقن. وعلمتهم التجربة أن الكلب يجب أن يكون كبير الحجم ونحيلًا لكي يمكنهم العثور على الأوردة التي يريدونها، ويتمكنوا من إدخال الإبرة بها. اندهش رين حينما وجد أنه بعد وهلة قصيرة من حقن «كمية كبيرة» من النبيذ والجعة في أوردة الكلب «ثمُل الكلب إلى درجة قصوى، لكنه سرعان ما تخلص من أثرها عن طريق البول». وفي مواقف أخرى، ذكر رين أثر حقن أوقيتين من الزعفران، وهو صورة غير نقية من الأنتيمون يعمل عمل الملين والمقيئ في آن واحد. وما لبث الكلب بعد تناول هذا المقيئ أن بدأ في التقيؤ بقوة كبيرة جدًّا لدرجة أنه لفظ أنفاسه الأخيرة ومات.

باستعراض تلك التجارب في ضوء ما نعتبره الآن أخلاقيات القرن الحادي والعشرين، يتضح لنا فورًا أن مسألة حقوق الحيوان لم تكن قضية ذات شأن في إنجلترا في القرن السابع عشر. ومع ذلك، كان الباحثون يميلون إلى استئناس أي حيوانات تنجو من التجارب، والعجيب أنه رُوي أن بويل كان قلبه يرق للحيوانات الخاضعة للتجارب.

لقد كان هناك ولع شديد بالتجارب العلمية، وفي بعض الأحيان، كان الناس يجلبون حيواناتهم المريضة ليتمكن «الفضوليون» من تجربة آخر أفكارهم عليها. وإن نجحت فقد تستعيد الحيوانات حيويتها وصحتها مرة أخرى، ويمتلك أصحابها تحفةً ثمينةً؛ أما إن فشلت فقد استمتعوا على الأقل برؤية العلم يأخذ مجراه. وكانت فائدة ذلك للعلم هي مشاهدة العامة تلك المحاولات الجديدة مباشرةً، إلا أنها من السهل أن تتدنى إلى مستوى عرض سيرك ترفيهي. وبعد مرور ثلاثمائة وخمسين عامًا، لم يحدث تغيير كبير. فمعظم التغطية الإعلامية التي أحاطت بالنعجة دوللي، والمناقشات اللاحقة التي تناولت تكنولوجيات الاستنساخ العلاجي لم تبذل جهدًا كبيرًا لترفع مستوى الإدراك العلمي لدى عامة الناس. على العكس، كانت هذه المحافل العلمية تعتبر في بعض الأحيان فرصةً للترفيه «الغريب والمدهش» أو وسيلة لتوليد الرعب والصدمة. وفي كلتا الحالتين، كان العلم ولا يزال أداةً للترفيه، وكان من الصعب جعل أي شخص ينظر إلى القضايا الكامنة بجدية.

كانت حقوق الإنسان تُرى هي الأخرى في القرن السابع عشر من منظور مختلف عن يومنا هذا؛ إذ كانت عقوبة الإعدام تُطبَّق على نطاق واسع للقضاء على المجرمين اتباعًا للحكم الإنجيلي الوارد في العهد القديم. وأكسب هذا حياة الإنسان قيمة عالية، وكان ذلك يعني أن قتل شخص بريء عملٌ خطير، بل كان الشخص المدان بارتكاب جريمة شنعاء مثل القتل يُحرَم مما نسميه اليوم «حقوق الإنسان». وانطبق هذا بصفة خاصة على أصحاب الطبقات الاجتماعية الدنيا.

لكن القتل لم يكن الجريمة الوحيدة التي كان من الممكن أن توقع مرتكبها في مشكلات خطيرة. فقد كان ذلك عالمًا يرى في اعتناق الآراء الدينية أو السياسية الخاطئة ما يخرج صاحبها من عناية الرب وحبه، وكان ضحايا العدالة في بعض الأحيان يُحرقون أو يُشنقون ويُسحلون ويقطعون إربًا. وبالمقارنة بهذا، كان من الممكن أن يبدو الاشتراك في التجارب العلمية أمرًا يسيرًا بالتأكيد.

لذا، لا بد أن اتجاه العلماء إلى تجربة حقن الخمور في دم الإنسان فور نجاحهم في حقنها في دماء الحيوانات لم يُثر كثيرًا من الدهشة. وكان أول من خضع لتلك التجربة خادم دوق بوردو، وهو السفير الفرنسي الذي كان يعيش بلندن. ويعلق بويل قائلًا إن الرجل كان خادمًا وضيعًا «استحق الشنق»؛3 وبذلك ينفي عن نفسه أي اتهام بسوء الممارسة الطبية. جرت التجربة في خريف عام ١٦٥٧، أي بعد بضعة أشهر من وفاة هارفي حيث كان رين قد انتقل إلى لندن في وقت سابق ليتولى وظيفة أستاذ في علوم الفلك بكلية جريشام. وحقن رين بمساعدة زميله والطبيب الرائد تيموثي كلارك مستخلص الزعفران في جسم الرجل المسكين. وبمجرد أن بدآ الحقن فقدَ الرجل الوعي وسقط أرضًا — إما على نحو مصطنع أو بحق. وقرر العالمان إيقاف التجربة خشية قتل الخادم؛ إذ لم تكن هناك محاكم عديدة ستسبب لهما إزعاجًا لمجرد إجرائهما تجربة على شخص مؤذٍ، لكنهما كانا سيقعان في مأزق لو قتلا الرجل. فما لم تُدِن المحكمة الشخص، كان من الممكن اعتبار موته جريمة قتل دون ريب، وهذا يعني بالطبع تطبيق عقوبة الإعدام.

كانت لدى رين فكرة أخرى إلى جانب دهشته من الآثار الفعالة لحقن المواد المخدرة أو السامة في مجرى الدم؛ إذ هل كان من الممكن حقن المواد الغذائية مباشرةً في الأوعية الدموية، متجاوزين الحاجة إلى هضم أي شيء؟ لقد أدرك أنه في حالة نجاح الفكرة سيكون بمقدوره صناعة جهاز طبي كبير يُمكِّن الأطباء من إبقاء المرضى ذوي الحالات الحرجة على قيد الحياة حتى يتحسنوا بدرجة كافية ليعاودوا تناول الطعام من جديد. وبالتعاون مع كلارك حاول رين حقن أجسام الكلاب بكل أنواع السوائل التي تحوي العناصر الغذائية بما فيها المرق واللبن ومصل اللبن وحتى الدم ذاته. وكان واضحًا أن لمعظمها آثارًا ضارة على الحيوانات، لكنها لم تكن خطرة بدرجة تكفي لدفعهما لإيقاف تقصي الاحتمالات.

كانت إقامة رين في لندن قصيرة، حيث عاد بعد ثلاث سنوات — في عام ١٦٦٠ — إلى أكسفورد ليتولى كرسي سافيل في الفلك. وبذلك عاد وسط تطورات جديدة في دراسة الدم هناك. ورغم أن التاريخ يعتبره «أول من أجرى تجربة حقن الخمر في أوردة الحيوانات التشريحية العظيمة»، فإن دراسات علم الأحياء التي أجراها يبدو أنها كانت تدور حول اكتشاف تركيب الجهاز العصبي ووصفه.

التقدم الذي أحرزه لوور

بينما كان قليلون آخرون يطرحون أفكارًا عن حقن السوائل في الدم، شرع شاب من كورنوول يُدعى ريتشارد لوور في تحقيق تقدم ملموس. ويلخص الأستاذان الأمريكيان إب وفيبي هوف شخصية لوور في إحدى ترجماته في القرن الثامن عشر بأنها مثال فريد للقوة والعناد المنتظرين من شخص نشأ في كورنوول: «يبدو من المنطقي أن يكون رجل في عبقرية لوور قد قدم من كورنوول. فأهل كورنوول شعب عريق؛ وحتى في يومنا هذا تُذكر أعينهم الداكنة التي يكسوها الغموض ووجوههم الرقيقة في الأساطير الغريبة التي انتشرت عنهم منذ عهد الفينيقيين الأوائل وما قبله إلى المهربين وناهبي السفن الغارقة من المتأخرين. فقد جمعوا بين الخيال المشرق والمثابرة الدءوبة التي اكتسبوها بعد سنوات من الكفاح مع الأرض الصخرية والبحر اللجاج. فهم رجال يتسمون بالشجاعة البالغة والدهاء الشديد والمزاج الغريب.»4

وُلد لوور عام ١٦٣١ في عصر ساده التغيير والشك. كان تشارلز الأول على عرش إنجلترا، وكانت الاضطرابات السياسية والدينية تعم البلاد. وكان كثيرٌ من الناس يتركون إنجلترا، مستقلين السفن ليسافروا عبر الأطلسي في رحلة محفوفةٍ بالمخاطر، أملًا في حياة وحريات جديدة في إقليم نيو إنجلاند في أمريكا. وفي سن الرابعة عشرة، صحب لوور أباه إلى لندن والتحق بمدرسة ويستمنستر. ونظرًا لموقع المدرسة على بعد مئات الأمتار من كنيسة ويستمنستر وقاعة ويستمنستر التي تمثل مقر الحكومة، فقد نشأ لوور في وسط فريد أتاح له أن يكون على دراية بمجريات الأحداث التاريخية. كان كرومويل في الوقت ذاته يبني جيشه النموذجي الجديد، كما أُلقي القبض على تشارلز الأول الذي لم يلبث أن فر من الأسر، ليُلقى القبض عليه ثانية بعد سنة ويُعدَم بضرب عنقه في ٣٠ يناير عام ١٦٤٩، وهو العام الذي أعلن فيه كرومويل أن الإنجليز ليسوا رعية للتاج بل هم مواطنون في اتحاد الكومنولث.

انتقل لوور في العام ذاته إلى أكسفورد للدراسة في كنيسة المسيح. وليس هناك مؤشر على أن تلك الخطوة وراءها دوافع سياسية، لكن أكسفورد كانت تضم عددًا من الشخصيات البارزة التي تتمتع بالجرأة الكافية للتمسك بالتوجه الملكي.

لم يمض وقت طويل على وصول لوور إلى أكسفورد، حتى التقى بالطبيب وعالم التشريح والكيمياء الإنجليزي توماس ويليس. كان الاثنان على وفاق وألهم كلٌّ منهما عمل الآخر. فكان ويليس يولِّد الأفكار، بينما كان لوور يطور مهارات تشريح ساعدت على اختبار تلك الأفكار. في الواقع، كان ويليس من أول من أقروا أنه لولا لوور لما وصل كثير من أفكاره إلى أي شيء. ففي كتابه «تشريح الدماغ» يقول:

لكن في سبيل إتمام هذه المهمة، لم يكن لدي الوقت الكافي وربما لم تكن لديَّ القدرة الكافية؛ لذا لم أتحرَّج من أن أطلب العون من الآخرين. فاستعنت بمساعدة ريتشارد لوور؛ وهو طبيب واسع الاطلاع، وعالم تشريح فائق المهارة. وأعترف أن حدة مشرطه وحدة ذكائه مكنتاني من دراسة كلٍّ من التكوين والوظائف في الجسم الذي كانت أسراره غير معروفة من قبل.

وفي ١٧ فبراير عام ١٦٥٣ نال لوور درجة البكالوريوس، وفي يونيو التالي نال درجة الماجستير. وكان ذلك هو العام نفسه الذي أعلن فيه كرومويل نفسه سيدًا حاميًا لإنجلترا.

استغل لوور الشغوف بالتعلم الفرصة ليوسع نطاق معارفه بالدراسة مع الكيميائي بيتر شتايل عندما نزل بأكسفورد عام ١٦٥٩. وكان بويل قد دعا بيتر — الذي كان يعيش في ستراسبورج في مملكة بروسيا قبل ذلك — ليأتي إلى أكسفورد، وذلك رغم اعتقاد كثيرين بأن الكيمياء لم تكن سوى ضرب من السحر ليس في جعبتها كثير لتقدمه للعلم الحقيقي. آنذاك كان مجال الكيمياء لا يزال مرتبطًا في رأي كثيرين بالخيمياء ارتباطًا وثيقًا. لكن بويل اختلف معهم، حيث اعتقد أنه إذا مورست الكيمياء كما ينبغي، فستصبح فرعًا من الفلسفة الطبيعية، وإذا مورست جيدًا، فمن الممكن أن تكون أساس كل الجهود العلمية. وكان يتشوق بلا شك لمعرفة تطور المجال في القرن اللاحق.

كما بدأ لوور بتشجيع من رين وبويل في دراسة الحقن، ومع توجيه بويل صار لوور متحمسًا لإمكانية أن يحل الحقن في الدم محل تناول الطعام. وفي عام ١٦٦٢، كرر تجربة بويل السابقة حيث حقن ربعي جالون من مياه آبار تانبريدج ويلز في كلب. وفي ذلك الوقت، كان الطلب على المياه الجوفية كبيرًا نظرًا لخصائصها العلاجية. وبعد فترة قصيرة «تبول الكلب» وأصبح لوور مقتنعًا بأنه قادر على إبقاء الكلب حيًّا «بدون اللحم، من خلال حقن كمية مناسبة من المرق مضاف إليها النترات لتكون حامضية الطعم مثل الكيلوس باستخدام إبرة في الوريد».

وكتب لوور لبويل في ١٨ يناير ١٦٦٢ مقترحًا أنه ربما من الممكن زرع أنبوب دائم يمكن من خلاله إدخال السوائل إلى جسم المريض، ليتخلى بذلك عن الحاجة لفتح جرح جديد في كل مرة يحتاج فيها إلى العناصر الغذائية. وبذلك حلم لوور بالإجراء الذي أصبح فيما بعد جزءًا أساسيًّا من العلاج في وحدات العناية المركزة؛ وهي عملية جرى تحسينها ويطلق عليها اسم التغذية الكاملة بالحقن.

وفي عام ١٦٦٤، تقدم لوور بأفكاره خطوة إلى الأمام بحقن نصفي لتر لبن في كلب؛ لكن الكلب مات في غضون ساعة. وعند فحصه عن كثب، اكتشف لوور أن العروق انسدت «بالدم المختلط باللبن وكأنهما تخثَّرا معًا». وكان استنتاج لوور هو أن الاختلاف كبير بين الدم واللبن، وأنه يجب أن يستخدم سائلًا أقرب شبهًا بخصائص الدم من أجل نجاح هذه التجربة.

لم يكن هناك سائل أشبه بالدم من الدم ذاته. إلا أن الدم ليس بالسائل الذي يسهل التعامل معه. فكل الفلاسفة والعلماء الذين عكفوا على دراسته اصطدموا بمسألةِ تغيُّر طبيعته في غضون دقائق من استخراجه من الجسم؛ سواء أكان جسم إنسان أم جسم حيوان. في داخل الجسم يظل الدم سائلًا، لكن بمجرد خروجه من الجسم يتحول إلى كتلة حمراء متجلطة وسط كمية من سائل بلون القش أو اللون الوردي الباهت.

وحسبما ذكر أبقراط، كان هذا دليلًا واضحًا على أن الدم حتمًا يفسد عند إخراجه من الجسم، واتفق معه معظم أطباء القرن السابع عشر، بل أضافوا أن هذا التلوث كان سببه فقدان الحرارة وفقدان الحياة؛ إذ إن إبقاء الدم دافئًا باستخدام لهب شمعة أو شعلة نار صغيرة لم يمنع التجلط، فكان من الواضح أن جسم الحيوان الحي يمنح الحرارة الضرورية بنحوٍ سحريٍّ؛ إنها حرارة القلب الغامضة.

ظل لوور منشغلًا بعمليات التشريح والتجارب ودراسة الكيمياء معًا، وفي عام ١٦٦٥ — مع اجتياح الطاعون للندن وجنوبي إنجلترا — نشر كتابه الأول «أصل الحمى». وفيه ذكر اكتشافه المثير؛ وهو أن لون الدم يتغير عند مروره في الرئتين والقلب. بعدها انتقل إلى قضية مهمة أخرى طرحها هارفي؛ إذ كيف كان نوعَا الدم — الدم الوريدي الأزرق والدم الشرياني الأحمر — هما الشيء ذاته؟

fig6
شكل ٣-٢: ريتشارد لوور (١٦٣١–١٦٩١) عالم التشريح. وهذه لوحة زيتية رسمها جيكوب هوسمانس. نُسخ بتصريح من مكتبة الصور الطبية التابعة لمؤسسة ويلكوم تراست.

سيدهشك أن ترى كيف أن الظنون كانت توجه كثيرًا الملاحظات. فمنذ نشر كتاب هارفي الشهير، اجتهد كثيرون في شرح دور القلب. ولم يزل معظم العلماء يؤمنون أن دوره الرئيسي هو إكساب الدم الحرارة وأن هذه الحرارة التي تحمل الحياة كان يُعتَقَد أنها ستكون تفسير التغيرات التي تطرأ على طبيعة الدم. كان هذا الاعتقاد منطبعًا في ذهن لوور وهو يفحص القفص الصدري في حيوانات مختلفة، محاولًا فهم ما يجري بها. ولم تكن المهمة سهلة. فبدايةً، تتمدد الرئتان مع تكوُّن فراغ جزئي بين الرئتين والغشاء الداخلي للقفص الصدري؛ غشاء الجنب. ويحدث ذلك مع كل نَفَس؛ حيث تنقبض العضلات بين الضلوع لتوسع القفص الصدري، وينقبض الغشاء العضلي المكوِّن للحجاب الحاجز ويسحب نفسه للأسفل. وما إن شق لوور القفص الصدري، سمح للهواء بدخول تلك الفجوة وقضى على ذلك الفراغ، ومن ثم منع الرئتين من التمدد.

ومع عدم دخول الهواء إلى الرئتين، تنخفض قدرة الدم على التزود بالأكسجين؛ لذا لا يتغير لون الدم الذي يدخل إلى الرئتين عن الدم العائد إلى القلب كثيرًا. وكثيرًا ما يواجه العلماء هذا التحدي؛ إذ بمجرد أن يحاولوا قياس شيء، ينتهي بهم المطاف على نحو شبه دائم إلى إفساده. ولم يكن ذلك بالشيء السيئ إذا كانوا على علم بالمشكلة؛ إذ يمكن توفير البدائل لها. لكن لوور إذ لم يكن مدركًا وظيفة الرئتين لم يكن في وضعٍ يسمح له بحل المشكلة. فالحصول على قياسات صحيحة دائمًا ما يكون في غاية الصعوبة، ولم يتمكن لوور من إجراء التجربة على نحو صحيح إلا بعدما بدأ يستخدم منفاخًا لضخ الهواء إلى الرئتين في أثناء التجارب.

أما المشكلة الأخرى التي كان على لوور — مثل غيره من علماء التشريح — أن يتجاوزها فهي أن الأعضاء في منطقة الصدر كانت متزاحمة، وكان الجزء العلوي من القلب متواريًا خلف فصوص الرئتين. وتلك هي المنطقة التي يتصل فيها أربعة أوعية دموية كبيرة بالقلب. والأوعية الدموية في هذه النقطة قصيرة وقابلة للتمزق إذا جرى جذبها أو التعامل معها بخشونة. وواجه لوور صعوبة كبيرة في رؤية تلك الأوعية الدموية في حيوان على قيد الحياة رغم أنه كان على أتم الاستعداد لإجراء تشريح هو الأشنع للكلاب البائسة التي ساقها سوء حظها إليه.

لذا أجرى لوور التجربة دون أن يضع في اعتباره ملاحظة تغير لون الدم في أثناء مروره عبر الرئتين، وعليه لم يكن من المستغرب كثيرًا أنه لم يلاحظه. وفي المقابل لم يلاحظ تغير لونه إلا بعد خروجه من البطين الأيسر للقلب. ويبيِّن هذا أنه غالبًا في ميدان العلم يمكن ألا ترى أوضح الأشياء إن لم تبحث عنها.

وفي ضوء ذلك، بدا أن ملاحظات لوور الدقيقة تقدم دليلًا جديدًا يدعم النظرية القائلة بدور القلب في تغير الدم من حالته الوريدية إلى حالته الشريانية، رغم أنها لم تفسر الطريقة العلمية لتغير اللون. وكتب لوور إلى بويل في ٢٤ يونيو ١٦٦٤ — وهو سعيد بهذا الاكتشاف — قائلًا إنه كان ينوي معرفة «السبب في اختلاف لون الدم بين اللون الأحمر الوردي والقرمزي واللون القاتم الأميل إلى السواد». واستغرق الأمر عدة سنوات أخرى ليتمكن لوور من حل هذا اللغز.

القليل من النجاح في لندن

كان ثمة آخرون في لندن يتحدثون عن قضيتي الحقن ونقل الدم في غير جدية. فقبل شهر سجَّل صامويل بيبيس كاتب اليوميات المشهور أنه كان قد حضر عرضًا خاصًّا تمكن فيه كلارك وزملاؤه في الجمعية الملكية من قتل كلب عن طريق حقن الأفيون في قائمته الخلفية. لكن لم يبد أن بيبيس كان منبهرًا ببراعتهم الفنية:

١٦ مايو ١٦٦٤

أُجبرت على النهوض من أجل الذهاب إلى رؤية دوق يورك في سانت جيمس حيث أدينا عملنا المعتاد؛ وبعدها زرنا منزل السيد بيرس الجرَّاح تلبيةً لدعوته، حيث قابلت زوجته التي لم أقابلها لعدة أشهر … ولم يمض وقت طويل حتى شاهدنا تجربةً لقتل كلب عن طريق حقن الأفيون في قائمته الخلفية. وقد فشل هو والدكتور كلارك فشلًا ذريعًا في إصابة الوريد، ومن ثم لم ينجحا في التجربة بعد محاولات كثيرة؛ لكن مع الكمية الصغيرة التي تمكَّنَا من إدخالها نام الكلب فورًا وظل راقدًا إلى أن شرَّحه. وكان هناك كلب آخر صغير جعلاه يبتلع الأفيون فترنح في البداية، وفقد وعيه، وظل نائمًا؛ ولا أعلم ما إذا كان قد أفاق بعد مغادرتي أم لا؛ لكن هذا كان تأثيرًا غريبًا ومفاجئًا.

يقدِّم بيبيس باعتباره مراقبًا ذكيًّا ومهتمًّا عرضًا قيمًا للطريقة التي نظر بها العامة إلى تلك المساعي العلمية. كان يشعر بحماسة واضحة لعديد من التجارب التي شهدها، ورأى أنها كانت أفضل أوقات الترفيه في أسبوعه. إلا أن تدويناته المختلفة التي تتناول تجارب علمية في مذكراته تبين أن بيبيس كان مهتمًّا بالعرض أكثر من اهتمامه بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها. ومثل عديدين من متابعي التجارب العلمية منذ ذلك الوقت فصاعدا، كان مهتمًّا بما يمكن للعلم فعله في ضوء التكنولوجيا القابلة للاستخدام أكثر من التفاصيل المعرفية الدقيقة التي تشكل أساسًا لها.

الخطوات الأولى

ظل مركز إنجلترا السياسي والفكري بين الدول يتغير خلال العقود القليلة السابقة، وفي عام ١٦٦٥ وقعت البلاد في الفوضى مرة أخرى. فلم يكد تشارلز الثاني يعلن نفسه ملكًا في لندن حتى ضرب الطاعون المدينة وفرَّ الناس. وسرعان ما وجد لوور أن أعدادًا متزايدة من الأكاديميين وأعدادًا كبيرة من الحاشية الملكية تتوافد إلى أكسفورد.

وصل بويل إلى أكسفورد في منتصف يونيو مباشرةً بعد انتهائه من اجتماع في الجمعية الملكية طرح فيه ويلكنز فكرة حقن الدم. وفي ظرف أيام كان قد اجتمع مع لوور لبحث كيفية إجراء نقل الدم بين الحيوانات.

زعم لوور أن فكرة نقل الدم خطرت بباله عندما كان يحقن محاليل مختلفة في أجسام الحيوانات خلال اجتماعات عُقدت في أكسفورد، وسجل سلسلة الأحداث التي تلت ذلك في الفصل الرابع من كتابه «علاج القلب» الذي نُشر لأول مرة عام ١٦٧١. وقال إنه «رغم أنه لا يوجد عذر يبرر القفز إلى استنتاجات من تجربة واحدة، إلا أنه وبينما كنت أُدخل سوائل غذائيةً مختلفة، لاحظت أن دم الحيوانات المختلفة يختلط بسلاسة … وخطرت الفكرة ببالي. فتساءلت إن كان من الممكن خلط كمية أكبر من الدم من حيوانات مختلفة دون تغيير حالته بأي شكل.»

كان لوور أكثر إدراكًا من أغلب الناس بقدر سرعة تجلط الدم بمجرد خروجه من الجسم: «بدا أنه ربما يكون من الأفضل نقل الدم غير المتجلط من حيوان حي يتنفس إلى حيوان آخر». كما أدرك أنه إذا قُطع الوعاء الدموي الصحيح فإن كل الدم في جسم الحيوان سيندفع إلى الخارج في لحظات. وقال: «في أولى محاولاتي لنقل الدم، استخدمت أنبوبًا رفيعًا لتوصيل الوريد الوداجي من كلب بالوريد نفسه لدى كلب آخر. لكن التجربة باءت بالفشل؛ فالدم يسيل من الأوردة ببطء؛ لذا فقد تجلط فورًا في الأنبوب وسدَّه.»5

عند هذا الحد تنتهي تقريبًا قصة نقل الدم في إنجلترا. وخلال فصل الصيف، أخذ لوور ونديمه أنطوني وود يبحثان احتمال زواج لوور بالسيدة اتش — وهي أرملة في البلدة. وكانت السيدة اتش تسكن في جارسينجتون القريبة، وكتبت في ٨ أغسطس ١٦٦٥ رسالةً تعرب فيها عن رفضها عرض لوور للزواج. من غير المرجح أن يكون قلب لوور قد انفطر، لكن المؤكد أن آماله بالتخلي عن العزوبية وإيجاد زوجة ثرية قد تحطمت مؤقتًا. فكان الحل أمامه هو العودة إلى موطنه، إلى كورنوول. وبعد يومين من تلقي لوور الرفض التقى هو ووود وعدد من الأصدقاء في قلعة تافرن وشربوا نخب لوور متمنيين له التوفيق في مسعاه.

وقد أحبط ذلك بويل إحباطًا شديدًا. فقد كانت خبرة لوور ضرورية لأي عمل يتعلق بالحقن أو نقل الدم، ومن ثم توقفت التجارب بمغادرته. وزاد شعوره بالإحباط من عدم القدرة على مواصلة هذا العمل في ٢٥ سبتمبر ١٦٦٥ عندما وصل الملك وحاشيته إلى أكسفورد ومعهم نسخة من كتاب ألماني نُشر مؤخرًا. وتضمن كتاب «الحقن الحديث» الذي كتبه يوهان سيجيسموند إلشولتس وصفًا مفصلًا لحقن محاليل مختلفة في أجسام المرضى. كان من الواضح أن ثمة آخرين في أرجاء القارة مشتغلون بدراسة هذه القضية، وكانت إنجلترا معرضةً لخطر فقدان مكانتها الريادية في البحث في مجال الدم.

مع ذلك — على المدى القصير — لم يكن بإمكان بويل فعل الكثير إزاء هذا الشأن. إضافة إلى ذلك، خلق قدوم الملك إلى أكسفورد مشكلة جديدة تتمثل في رجال الحاشية. فقد كانوا في كل مكان، بل الأسوأ — عند بويل — أنهم عكفوا على زيارته. ربما لم يكن لديهم ما يفعلونه طوال اليوم، لكن بويل كان لديه عمل سيؤديه. وكان عليه طلب العلم. وفي النهاية سئم المقاطعة المستمرة لعمله ففرَّ من المدينة في منتصف نوفمبر، وانتقل إلى ستانتون سانت جون، وهي قرية تقع على بُعد ثلاثة أميال شمال شرقي أكسفورد. وهناك نسي كل أفكاره حول نقل الدم، وانشغل بتدوين الاكتشافات التي توصل إليها جراء سلسلة من التجارب الهادفة إلى فهم الضغط الجوي والهيدروستاتيكا أو علم توازن السوائل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤