الفصل الخامس

التجارب الإنجليزية في نقل الدم

لو استمرت مجموعة مونتمور في عقد لقاءاتها آنذاك، لسمع دوني على نحو شبه مؤكد بالأحداث التي جرت في إنجلترا خلال العامين ١٦٦٥ و١٦٦٦. فقد جرت نقاشات حول العمل الجاري في إنجلترا وقتها خلال الاجتماعات القليلة التي حضرها. لكن مع تراجع نشاط تلك المجموعة قل احتكاك دوني بمجالس القيل والقال المتعلقة بالأوساط العلمية، ومع عدم قدرته على قراءة الإنجليزية بنفسه لم يكن لديه أدنى فكرة عن زيادة الاهتمام بتجارب الحقن في الدم ومحاولات نقل الدم على الضفة الأخرى من القنال الإنجليزي. كذلك ليس ثمة سبب للاعتقاد بأنه كان مهتمًّا بتلك التطورات على أي حال؛ فعلى كلٍّ كان المجال البحثي الرئيسي لدوني هو الرياضيات.

أما في إنجلترا، فقد كانت الدراسات حول الدم تجري على قدم وساق. وقد زاد من وتيرتها في الواقع إبلاغ أولدنبرج الجمعية الملكية بأن يوهان دانييل مايور، وهو طبيب ألماني، قد نشر كتابًا يدافع فيه عن حقن المواد الكيميائية مباشرةً في الأوعية الدموية. فقد كان ذلك العالِم الألمانيُّ ملمًّا بدرجة واضحة بتلك المسألة، فلاح خطر أن يصبح مايور هو رائد ذلك المجال على مستوى العالم. وكان الاعتزاز الوطني يملي ضرورة اتخاذ خطوات فورية. فبمجرد معرفة الجمعية الملكية بالخبر قرر عدد من الأعضاء أن ينزلوا بأنفسهم إلى هذا الميدان. وتسجل دورية الجمعية الملكية تسلسل الأحداث التي تلت ذلك:

١٧ مايو ١٦٦٥

اقترح الدكتور ويلكنز إمكانية إجراء تجربة لحقن دم كلب في وريد كلب آخر.

٢٤ مايو ١٦٦٥

كُلِّف كلٌّ من الدكتور ويلكنز والسيد دانييل كوكس والسيد توماس كوكس والسيد هوك بتولي تجربة حقن دم كلب في أوردة كلب آخر؛ وطُلب من السيد توماس كوكس تحديدًا محاولة تبديل جلد الكلبين.

وروى السيد توماس كوكس أنه قد أجرى في السابق تجربة حقن دم حمامة في وريد حمامة أخرى، وذلك من خلال فتح وريد الأولى وتركها تنزف حتى كادت تلفظ أنفاسها؛ ثم استخرج دم حمامة أخرى وحقنه في الحمامة المحتضرة، وبذلك أبقاها على قيد الحياة لمدة نصف ساعة، نفقت بعدها كما نفقت الحمامة الأخرى وإن كان بعد فترة من الوقت.

٣١ مايو ١٦٦٥

طُلب أن تُجرى تجربة حقن دم الكلب في أوردة آخر صباح اليوم التالي؛ وهو ما اقترح الدكتور كرون أن يتم باستخدام أنبوب عادي لكلا الكلبين من أجل أن يُسحب الدم من أحد الكلبين إلى الآخر.

ويعكس القول بأن الحيوان المستقبِل «سيسحب» الدم وجهة النظر السائدة آنذاك أن أطراف الجسم تسحب الدم؛ وسيذكر العلماء اللاحقون أن الدم يُضخ إلى الأطراف عن طريق القلب.

٧ يونيو ١٦٦٥

أعد الدكتور ويلكنز تقريرًا بالتجربة التي جرت تحت إشرافه، وهي فتح بطن كلب واستخراج الدم من الوريد الأجوف بمقدار ٥ أو ٦ أوقيات في حوصلة يخرج منها أنبوب نحاسي صغير مثل أنبوب الحقنة الشرجية ينتهي طرفه في وريد في قدم كلبة، وجرى ضخ نحو أوقيتين من الدم في ذلك الوريد بالضغط على الحوصلة المذكورة، لكن لم يُلحظ أي تغير ملموس على الأنثى.

من الصعب فهم السبب في اعتبار هذه التجربة نجاحًا ساحقًا، لكنه كان بالنسبة إلى المشاركين فيها خطوة إلى الأمام على الأقل. ولم يحدث شيء آخر في لندن ذلك العام؛ فقد اجتاح الطاعون المدينة في عام ١٦٦٥.

محاولة أخرى

عاد لوور إلى أكسفورد وقد ضمن زوجة أخرى محتملة؛ وحاول أن يستكمل ما بدأه؛ حيث التقى وود لتتناول شرابًا معه، لكن هذه المرة في مطعم بلو بور في وسط أكسفورد في ٢٤ فبراير ١٦٦٥  (أو ١٦٦٦) (من الصعب تتبع التواريخ في هذه الفترة من التاريخ؛ نظرًا لاستخدام تقويمين في ذلك الوقت. فعلى مدار الجزء الأكبر من القرن السابع عشر، ظلت إنجلترا ملتزمة بالتقويم اليوليوسي (الأسلوب القديم)، في حين غيرت بقية القارة إلى التقويم الجريجوري (الطراز الجديد). ويختلف كلا التقويمين في المكان الذي يضعان فيه السنة الجديدة. ففي التقويم اليوليوسي، كانت السنة الجديدة تبدأ بنهاية مارس، بينما تبدأ السنة الجديدة في التقويم الجريجوري مع بداية شهر يناير. ومن ثم، حين يكتب الرجل الإنجليزي «فبراير ١٦٦٥» فإننا نفهم أنه يتحدث عن فبراير ١٦٦٦. في هذا الوقت، كان الإنجليز — المعروفون ببطئهم في تبني أي أفكار جديدة تأتيهم من أوروبا — قد شرعوا في بدء العام من شهر يناير بدلًا من مارس، وكثيرًا ما استخدموا طريقة كتابة العامين هذه للتعبير عن السنة. ومن ثم، فإن فبراير ١٦٦٥ (أو ١٦٦٦) يدل على ما يدل عليه في القارة كلها ١٦٦٦). وعلى الأرجح ظلت حياته الاجتماعية نسبيًّا كما هي، لكن العمل صار أصعب. فعلى الرغم من عودة البلاط إلى لندن في يناير، لم يعد بويل من خلوته في الريف، فكان لوور مجبرًا على الاستمرار وحده. وذكر في كتابه «علاج القلب»:

لاقت محاولتي التالية نجاحًا أكبر. وكنت قررت أن أقلد الطبيعة فيها على نحو أدق. فالطبيعة تجبر الدم على الانتقال من الشرايين إلى الأوردة؛ لذا فإن توصيل شريان حيوانٍ ما بوريد حيوان آخر لم يكن سوى تمديد للدورة الدموية للأول.

وضع لوور خطته، وجمع أدواته وحدد نهاية فبراير تاريخًا. ولاعتقاده أن الحدث كان على قدر من الأهمية، فقد أرسل مجموعة من الدعوات تطلب من أمثال واليس ودكتور توماس ميلنجتون ومختلف أعضاء النخبة الطبية في أكسفورد حضور «احتفاله». لم يتغيب سوى القليل، ووجد لوور نفسه محاطًا بحشد من المفكرين والأكاديميين المتحمسين وواحد أو اثنين من مروجي الأقاويل. وكتب لاحقًا يقول:

كانت التجربة التي أجريتها مذهلة؛ إذ انتقيت كلبًا متوسط الحجم وبعد أن شللت حركته أفرغته من معظم دمه. في البداية نبح الكلب بشدة، لكن سرعان ما خارت قواه وأخذ يتشنج ويرتعش. ومن أجل إنقاذ هذا الحيوان من فقدان الدم الكبير، فقد قيدت كلبًا أكبر بجانبه وثبَّتُّ أنبوبًا يصل بين الشريان في رقبته ووريد الكلب الأصغر.

استعاد الكلب الأصغر وعيه وواصل صراعه ليتحرر. ربما أعطيته كثيرًا من الدم. على أي حال، فقد ربطت الشريان في الكلب المانح ليتوقف نزيفه، وفرغت الدم من الكلب المستقبِل مرة أخرى، وذلك قبل أن أعيد ملء عروقه بالدم من كلب كبير آخر.

وبانتهاء التجربة عقدت الوريد الوداجي في الكلب الصغير وفككت قيده ونظرت ماذا سيحدث. فقفز الكلب من فوق المنضدة وبدا أنه لا يشعر بأي إصابة إطلاقًا. وجرى الكلب إلى صاحبه ثم تقلب على العشب لينظف الدم غير شاعر بالألم على ما يبدو كما لو كان ألقي في مجرى مائي وحسب.

كانت الاتصالات بين أكسفورد ولندن سريعة، حيث يمكن أن يصل خطاب إلى لندن في غضون يوم واحد إذا أُحضر إلى مكتب بريد أكسفورد. بيد أن الخطاب يمكن أن يستغرق خمسة أيام ليصل إلى باريس. لكن لم يكن ثمة اختلاف، فقد بدا أن لوور لم يكن في عجلة من أمره ليخطر الجمعية الملكية رسميًّا بالتطورات في عمله. ومن المحتمل أن ممانعته للنشر رجعت إلى سببين؛ الأول: هو أن العلماء كانوا يخشون أن يجعلوا من أنفسهم مثارًا لسخرية أقرانهم بنشرهم أي شيء بناءً على تجربة واحدة ثبت أنه لا يمكن تكرارها. والثاني: هو أن النشر يعني الكشف عن الأسرار والخفايا المهنية على الملأ، وسيمكن لأي عالم حول العالم أن يستغل الفرصة ومن ثم يفوز في سباق الاكتشافات المستقبلية.

ومع ذلك، كان لوور يطلع بويل على تقدمه في العمل أولًا بأول بطبيعة الحال. ولم يكد بويل يعلم النبأ حتى كتب إلى عالمين آخرَيْن، هما جون بيل، وهوك طالبًا رأييهما. ورد بيل من منزله في الريف الغربي معبرًا عن حماسه للفوائد العلاجية المحتملة التي قد يقدمها هذا العمل، بينما كتب هوك من لندن مقدمًا بعض الاقتراحات بشأن طرق جديدة لصناعة الأنابيب النحاسية وإعدادها في سبيل تحقيق قدر أكبر من النجاح في تلك التجارب.

كانت النزاهة من الأهمية بمكان لدى بويل، فعندما طُلب منه في ١٨ أبريل ١٦٦٦ خلال لقاء بالجمعية الملكية أن يتحدث عن آخر تطورات تجارب نقل الدم، لم يعطِ سوى جواب شديد الغموض؛ إذ كان كل ما قاله هو أنه جرى التعامل مع الصعوبات التي واجهت تلك العملية على حد علمه، وأن الأرجح أن الدكتور لوور في أكسفورد سيكون أول من ينجح فيها.

واستمر اللقاء بطرح والتر تشارلتون احتمالية أن تكون سيولة الدم وحيويته راجعة إلى التخمر الذي لا يحدث إلا داخل الأوعية الدموية. وفي هذه الحالة، فإن أي تجربة يخرج فيها الدم من هذه الأوعية ستفشل بالتأكيد؛ إذ إن الدم سيفسد. وفي المقابل، إن كان الدم يفقد حيويته عند تعرضه للهواء، فإن التجارب يمكن أن تنجح إذا أمكن إبقاء الدم بمعزلٍ عن الهواء. ومن المؤكد أن هذا الطرح قد قوبل بكثيرٍ من التمتمات والإيماءات المرحبة من قبل ذوي الشعر الطويل وأصحاب الشعر المستعار الذي يرتديه هؤلاء المرتبطون بصلات وثيقة مع البلاط الملكي.

لكن في الواقع، لم تستمر الجمعية الملكية في حالة الترقب هذه طويلًا؛ إذ لم يستطع كل من كشف لوور حجاب السرية عنهم الكتمان، وبعد أربعة أشهر من تجربة لوور التي أجراها في فبراير، كشف واليس السر في لقاء للجمعية بلندن. وبحسب ما ذكر أوبري، كان واليس معروفًا بخبثه، حيث نجح في إيجاد طريقه وصولًا إلى منصب رفيع في جامعة أكسفورد عن طريق نشر شائعات كيدية عن منافسه على المنصب. ويقول أوبري إن الحيلة كانت إشاعة أن الشخص الأقرب للفوز بالمنصب — ريتشارد زوش — قد هاجم كرومويل صراحة؛ وهو اتهام خطير لم ترد الكلية أن تبدو متساهلة معه.

ولم تكن تلك هي الرذيلة الوحيدة لواليس عند أوبري؛ إذ يتهمه أوبري كذلك بحضور مناقشات مع رين وهوك وغيرهما من الأكاديميين في أكسفورد، وكتابة الأفكار الرئيسية في صحيفته ثم نشرها باعتبارها أفكاره. ربما سبب له هذا بعض المشكلات لكنه أدى لنشر الأفكار؛ فلو انتظر العالم رين ليقترب حتى من تسجيل تلك الأفكار لظل منتظرًا إلى الآن؛ لذا إن كان أوبري صادقًا فلن يبدو من الغريب أن يكون واليس هو من وقف في أحد لقاءات الجمعية الملكية في يونيو وقدم تفاصيل عمل لوور. وفي ضوء معرفتنا بشخصيته، فإن فعلته تلك تفتح الباب أمام احتمال محاولته تقديم تلك المعلومات باعتبارها خاصة به.

إذا كان الأمر كذلك، فقد كان من حسن حظ لوور أن بويل كان حاضرًا الاجتماع. فمع طول قامته الذي كان يبلغ ستة أقدام، ومع مشيته منتصب القامة دائمًا، لم يكن أحد ليغفل عن حضوره خلال الاجتماعات. وكان يسافر باستمرار في عربته الخاصة إلى لندن، ويبيت عند أخته ليدي رانيلا في منزلها في بول مول. وأبقته تلك الزيارات على اطلاع دائم بالحياة في المدينة، كما مكنته من الاستمرار في العمل في المعمل الذي أنشأه في منزل ليدي رانيلا حيث كان يعين عديدًا من الخدم والغلمان للاستمرار في تجاربه أثناء غيابه. حين تحدث واليس، كانت دراية بويل بمجريات الأمور في أكسفورد تعني أنه فكر فورًا في لوور. فأسرع بإرسال خطاب إلى أكسفورد، يطلب فيه بأدب لكن بكل حسم تفاصيل تجاربه. وكان على لوور أن يكتب، وأن يكتب سريعًا، إذا كان له أن يُعرف برائدٍ في هذا المجال:

لندن، ٢٦ يونيو ١٦٦٦

لقد كنت حاضرًا يوم الأربعاء الماضي (سيدي العزيز) لقاء الجمعية الملكية المذكور الذي عُقد في كلية جريشام. وهنا سمعت من الدكتور واليس أنك نجحت أخيرًا (بحضوره) في إجراء تجربة شديدة الصعوبة لنقل دم من أحد كلبين إلى الآخر. ورأيت أن هذا الحدث يستحق فعلًا أن يُبلَّغ إلى هذا الجمع الموقر؛ لذا اقترحت أن يطلبوا من السيد الموقر أن يقدِّم بيانًا بالطريقة التي أجريت بها التجربة. ولم يكن وصفه بالذي يرفع من قدرك لدينا. لكنه عندما سئل عن التفاصيل المتنوعة لتجربة غير عادية انقطع عنها الرجاء، رد بأن الأفضل أن ترد أنت كتابةً على النقاط الفردية بدلًا من أن يحاول هو سردها شفاهة؛ لذا أعلنت أنك كنت قد وعدتني، قبل فترة، أنك ستشرح ليَ التجربة … وقد فعلت هذا دون أي ممانعة لعلمي أن من مصلحتك أن يعرفك هذا الجمع الموقر في هذه اللحظة الملائمة. فهناك كثير من بينِ أعضائه يقدرونك حق قدرك وهم أصدقاؤك لكن ليس أكثر من ذلك.

تحياتي
روبرت بويل
يُسلَّم إلى
أعز أصدقائي
ريتشارد لوور، الدكتور في الطب، أكسفورد
بالنظر إلى أن لوور أحاط عمله بالسرية لأربعة أشهر أو يزيد، فقد رد على بويل بسرعة كبيرة وتفصيل شديد. فمهما كانت دوافع واليس لهذا الكشف، فالأرجح أن لوور سُرَّ بمعرفة أن عمله كان محل نقاش في مقر العلوم الإنجليزية.

أكسفورد، ٦ يوليو ١٦٦٦
صديقي العزيز

لقد وصلني خطابك، واستجابةً لطلبك، أقدم لك شرحًا مختصرًا للطريقة الكاملة لنقل الدم. فلتختر كلبًا أو حيوانًا ترغب في استخدامه كمانح لإمداد حيوان آخر من النوع نفسه أو من نوع مختلف بالدم، واكشف شريانًا في الرقبة وافصله عن العصب الثامن، واكشف منه ما يقرب من طول الإصبع.

رد لوور دون إضاعة وقت في الديباجات وتناول الموضوع مباشرةً. وكان العِرق الذي تحدث عنه في خطابه هو الشريان السباتي، أما العصب المحاذي له الذي يطلق عليه الآن العصب المبهم فيعرف بالعصب القحفي العاشر. بعد ذلك، تابع لوور وصف الطريقة التي استخدمها عدد لا نهائي من علماء الفسيولوجيا التجريبية على مدار قرون تالية لإدخال أنبوب دقيق إلى الشريان أو الوريد:

اربط حبلًا بإحكام حول طرف الشريان من ناحية الرأس؛ لن تحتاج إلى فكه في أي مرحلة من العملية. واربط خيطًا آخر على الشريان على مسافة نصف إصبع أسفل الأول، واعقده عقدةً متغيرةً يمكن تضييقها وتوسيعها حسب الحاجة. وأحدِث قطعًا صغيرًا في الشريان بين الخيطين باستخدام مشرطٍ حادٍّ وأدخل قصبة باتجاه القلب تاركًا طرفها معلقًا بحرية كقضيب خشبي. ثم أحكِم الخيط الثاني وأضف إليه خيطًا آخر لضمان الإحكام.

وتابع هذا الجرَّاح الناشئ ليقدم وصفًا مفصلًا للطريقة التي استخدمها لوضع القصبة في الوريد الوداجي في الحيوان المستقبِل للدم. وكان الاختلاف هذه المرة في أنه وضع قصبتين واحدة باتجاه الرأس والأخرى باتجاه القلب. وكانت الفكرة هي أن يفرغ الدم من الدماغ ويدخل الدم الجديد إلى القلب. بعد ذلك يوضع الكلبان معًا بحيث تكون رقبتاهما متقاربتين لتقليل المسافة بين القصبتين قدر الإمكان. ووصف لوور عندئذٍ تجربة التفريغ وإعادة الملء وانتهى محذرًا:

لكن لدي تنبيه يا صديقي العزيز وهو أن تُثبِّت القصبات في الأوعية الدموية بأربطة محكمة قبل توصيلها معًا، وإلا فإنها ستخرج مع مقاومة الحيوانين وسيتعين عليك أن تبدأ من جديد.

من الواضح أن التجارب التي ذكرها لوور بالتفصيل مجرد بعض من محاولاته، وأن الكثير من المحاولات الأخرى انتهت بفشل ذريع:

مع اكتسابي مزيدٍ من الخبرة، صنعت مؤخرًا أنبوبًا فضيًّا لا يمزق الوعاء الدموي عند إدخاله، وله حلقة أو امتداد بارز عند طرفه. ويتيح لي هذا الأنبوب تثبيته بإحكام أكثر. ويمكن توصيل الأنبوبين باستخدام قطاع من شريان يؤخذ من بقرة أو حصان. ولهذا الشريان الوسيط مزايا عدة؛ إذ إن مرونته تجعله أقل عرضة لأن يُنتزع عندما يقاوم الحيوانان. كما أنه إن انسد بجلطة يمكنك أن تضغط عليها لتخرجها إلى الحيوان المستقبِل فيتدفق الدم من جديد. ويقدم هذا الخطاب المعلومات إلى الجمعية الموقرة وأثق أنها لن تجد فيها نقصًا من أي ناحية.

خالص تحياتي
ريتشارد لوور
مرسل إلى الصديق الأعز
روبرت بويل، في لندن
على مدار الأشهر القليلة التالية، كرر لوور التجربة عدة مرات ونقل في كل مرة الدم بين كلبين. إلا أنه رغب في توسيع نطاق تجاربه ليرى ما سيحدث إن استخرج الدم من عدة كلاب في الوقت نفسه، لكنه شكا لأصدقائه من أن قلة الوقت والكلاب المتاحة ثبط عزمه. ودفع هذا النقص لوور في ضوء شعوره بالفضول إلى إجراء التجربة بين خروفين، وبعدها وفي لحظة أصعب، حاول نقل دم خروف إلى كلب. «وجرت التجارب بنجاح ملموس» حسبما سجل.
وبعد بضعة أشهر، كتب بويل إلى لوور رسالة أخرى وضع فيها هذه المرة قائمة من ١٦ مقترحًا لتجاربه رأى أن على لوور أن ينفذها. وكان بويل مولعًا بإرسال مثل تلك القائمة إلى الأشخاص حيث تُظهر أنه قادر على التفكير في إجراء تجارب أكثر مما يتسع وقته لإجرائه بنفسه:
  • (١)

    هل يغير نقل الدم من طبيعة الحيوان؟ فماذا يحدث مثلًا إذا نقلت الدم من كلب مستأنس إلى كلب متوحش، أو العكس؟

  • (٢)

    هل يظل الكلب الذي استقبل الدم قادرًا على تمييز صاحبه ويتصرف كما كان من قبل؟

  • (٣)

    هل يفقد كلب الصيد الذي يمكنه تحديد الفريسة قدرته على ذلك إذا نُقل إليه دم من كلب لا يمتلك تلك القدرة؟

  • (٤)

    ماذا يحدث لكلب مُدرب على أداء خدع مثل إحضار العصا؟ هل يتسبب نقل الدم في فقدانه القدرة على أداء الحيل التي تدرب عليها؟

  • (٥)

    هل من علامات على أن نقل الدم يغير نبض الحيوان أو بوله أو غيره من الفضلات؟

  • (٦)

    إذا أُخذ الدم من كلب تناول مؤخرًا وجبة دسمة وأُعطي إلى كلب جائع، فهل يفقد الكلب الجائع رغبته في الأكل؟ كان المنطق هنا أن الكلب إذا أكل لتوِّه فإن دمه سيكون غنيًّا بالكيلوس. ورغم أن بويل قَبِل مفهوم هارفي عن الدورة الدموية، فقد ظل معتمدًا على فكرة تكوُّن الدم من الطعام مباشرة.

  • (٧)

    هل من الممكن إبقاء كلب على قيد الحياة عن طريق حقن الكيلوس باستمرار من كلب آخر؟

  • (٨)

    هل يمكن علاج كلب باستبدال دم حيوان آخر سليم بدمه؟ أو هل يمكن في تلك النقطة أن يصاب الحيوان السليم بمرض غير معدٍ بإعطائه دمًا من حيوان مريض؟

  • (٩)

    ماذا يحدث إذا أعطيت كلبًا عجوزًا دمًا من كلب يافع؟ هل يؤثر ذلك على حيويته وبلادته وحساسيته وما إلى ذلك؟ ماذا لو تم العكس؛ أي إعطاء دم العجوز لليافع؟

  • (١٠)

    إذا أعطيت كلبًا صغير الحجم دمًا من كلب ضخم، فهل يبدأ حجمه في الزيادة على نحو مفاجئ؟

  • (١١)

    هل يمكنك حقن الخمر المخلوط بمواد علاجية مع الدم؟ وهل يختلف الأثر عندما يجري حقن الخمر وحده أو عند تناول الدواء عن طريق الفم؟

  • (١٢)

    يمكن إجراء سلسلة من التجارب لمعرفة ماذا يحدث إن أعطيت مادة مُسهلة لحيوان ثم نقلت دمه إلى حيوان آخر.

  • (١٣)

    هل يمكنك تبديل الدم بين حيوانين من نوعين مختلفين مثل الكلب والعجل؟ وماذا يحدث إن أخذت الدم من سمكة أو ضفدع أو سلحفاة ذات دم بارد وأعطيته لحيوان من ذوي الدم الحار؟

  • (١٤)

    هل يغير نقل الدم من لون شعر الحيوان أو ريشه ليتحول إلى لون المانح؟

  • (١٥)

    إذا نقلت الدم بين نوعين مختلفين على نحو متكرر فهل يتغير نوع الحيوان؟ فهل يمكن مثلًا أن يتحول الكلب الرمادي الأيرلندي إلى كلب رمادي عادي؟

  • (١٦)

    هل يمكنك نقل الدم إلى الكلبة الحامل، وما أثر ذلك على جرائها؟

fig7
شكل ٥-١: رسم يوضح القُنيَّة (الكانيولا) في كتاب «علاج القلب» (ريتشارد لوور). نُسخ بتصريح من قسم المقتنيات الخاصة بمكتبة لين الطبية، جامعة ستانفورد.

اقترح بويل كذلك تحديد وزن المانحين والمستقبِلين قبل نقل الدم وبعده باعتبار ذلك وسيلة لتحديد كمية الدم التي جرى نقلها بنجاح.

كما لفت إلى نقطة أخرى كذلك، وهي التأكيد على أن النتائج السلبية كانت على نفس أهمية النتائج الإيجابية. فغالبًا عندما يفشل شيء، فإن العلماء يتجاهلونه ويواصلون عملهم، ولا يهتم الناشرون من جانبهم بذكره في دورياتهم؛ لأن الاكتشافات السلبية ليست مثيرة جدًّا للاهتمام. وكانت لدى بويل ثقة داخلية في مصداقية العلماء الذين عمل معهم. وبغض النظر عن أي شيء فإن اكتشافاتهم السلبية ستدع الوسط العلمي يدرك أن مواصلة البحث في منطقة معينة من المستبعد أن تكون مثمرة.

المداولات الفلسفية

قبل عامٍ، أي في عام ١٦٦٥، كان أولدنبرج قد بدأ مشروعًا سيربط على نحو مؤكد بين ما يجري في إنجلترا وجهود دوني في باريس. ففي تلك المرحلة، لم يكن أولدنبرج يتقاضى أجرًا من الجمعية الملكية نظير خدماته المكتبية، وكان يسعى لتوفير مصدرٍ للدخل. وكان رأس ماله يكمن في قدرته على القراءة والكتابة بجميع اللغات الرئيسية المستخدمة في الأوساط العلمية الأوروبية؛ وكان طليقًا على نحو خاص في اللغات الألمانية والفرنسية والإيطالية. كما كانت لديه دائرة واسعة من أصدقاء المراسلة الأوروبيين. ومع اهتمام بويل بجمع الأفكار من الدول الأخرى وامتلاكه الثروة التي تمكن من دفع مقابل تلك الأفكار، صار مصدر دخل ثمين، إذ كثيرًا ما كان يستعين بأولدنبرج كمترجم ومصدرٍ للأخبار والآراء العلمية.

لكن أولدنبرج كان يطمح للمزيد. فهل يوجد شيء أفضل من أن يسجل كل الأفكار المذهلة وينشرها في دورية تُرسل إلى القراء الذين يدفعون المال؟ لقد كان موقعه متميزًا من الناحية الجغرافية؛ إذ كانت تجارة الكتب في ازدهار وكانت لندن أحد أكبر مراكز النشر في أوروبا.

بصفة أولدنبرج أمين سر الجمعية الملكية، كان يشغل منصبًا مثاليًّا مكنه من الاطلاع أولًا بأول على آخر الأعمال. وكان يأمل أن تجمع هذه الدورية كل الأفكار والمفاهيم الهامة التي كانت تتولد لكنها كانت عرضة للضياع. وكان حلمه أن تُعرف دوريته على مستوى العالم إن اضطلع الناشرون بتوزيعها عبر أوروبا، وتحول هذا الحلم تدريجيًّا إلى حقيقة. ومكنت الدورية الباحثين في البلاد البعيدة من الاستفادة من الاكتشافات الإنجليزية. كما كان أولدنبرج يأمل — مع تنامي شهرة الدورية — أن يُعترف بأنها منشور يمكن للعلماء من خلاله إثبات أنهم أول من أجروا تجربة ما أو وضعوا نظرية ما. فعلى عكس واليس ومشاريعه في النشر، كان أولدنبرج حريصًا على أن ينسب الفضل إلى أهله.

كانت رؤية أولدنبرج هي أن تكون الدورية خاصة به وليس بالجمعية الملكية وأن تنشر أبحاث الأعضاء في الجمعية وغير الأعضاء. وبما أنه كان أمين سر الجمعية الملكية، فقد كان يحمل على عاتقه مسئولية يومية متمثلة في تسجيل ما يُقال في اللقاءات، بل تلقي الخطابات والتعليقات من أنحاء العالم. كما كان يكتب المراسلات بمعدل كبير، وكان يزعم أنه لم يكن يفتح خطابًا إلا وفي يده قلم لكتابة الرد. ومما ساعد أولدنبرج في دوره بوصفه مراسلًا دوليًّا أن ميثاق الجمعية الملكية جعل من تلك المراسلات الدولية إحدى السمات الرئيسية للجمعية. وكانت قدرات أولدنبرج اللغوية تساعده نسبيًّا في ترجمة الخطابات والدوريات الأجنبية واختيار أكثرها تشويقًا لينشرها في دوريته.

وكان الهدف من الدورية مذكورًا في عنوانها: «مداولات فلسفية: عرض للأبحاث والدراسات والأعمال الجارية على يد العباقرة في مختلف أنحاء العالم». ومع ذلك، كان بعضهم لا يزال يظن أنها نشرة الجمعية الملكية؛ لذا وفي العدد الثاني عشر المنشور في ٧ مايو ١٦٦٦، ذكر أولدنبرج صراحة انتماء الدورية إليه:

بعد ملاحظة أن أشخاصًا عدة يقنعون أنفسهم بأن هذه «المداولات الفلسفية» تابعة للجمعية الملكية … فقد رأى كاتبها أنه من المناسب أن يعلن أن هذا الاقتناع — إن كان له وجود فعلي — هو محض خطأ، وأنه بدأ، ويواصل، كلًّا من كتابة الدورية ونشرها على نفقته الخاصة.

لقد كان العدد الأول من الدورية هو العدد الذي اشتمل على وصف لوور لطريقته في نقل الدم بالكامل. والوصف المنشور خطاب لوور إلى بويل بجانب وثائق إضافية تشير إلى أن بويل شاهد عمل لوور مباشرة.

أصبح خطاب لوور إلى بويل علامة بارزة في التاريخ، ووضع لوور في بؤرة اهتمام الجمعية الملكية الجليلة. ويلخص لوور فيه أفكاره حتى حينه بجانب رأيه الذي مفاده أن أكبر ميزة لتجربته هي إمكانية «أن يعيش حيوان على دم حيوان آخر». وكانت تبعات ذلك أنه يمكن التبرع بالدماء الجديدة لأي حيوان يحتاج إلى مزيد من الدم وأن استبدال «الدم الفاسد» بدم سليم يمكن أن يعالج كثيرًا من الحيوانات المريضة.

لم يكن نشر التجربة يعني أن طريقة لوور سُجلت في الدورية المعروفة وحسب، بل كان يعني أن تفاصيل إجراء تجربة ناجحة قد انتشرت عبر أنحاء إنجلترا، بخلاف إرسالها إلى العلماء المشهورين وذوي المقام الرفيع في مختلف بقاع أوروبا. وأصبح من الممكن لكلِّ من يرغب أن يجري التجربة ما دام يستطيع أن يقرأ الإنجليزية. وسرعان ما شمل ذلك كلًّا من دوني وإميري.

في بعض الأحيان، يمكن أن تصاب بالإحباط من مجرد رؤية الآخرين يكررون عملك، ولا سيما عندما يستخدمون معلوماتك ليسبقوك إلى الخطوة التالية من الاكتشاف. لكن التأكد من إمكانية تكرار التجربة مبدأ أساسي في البحث العلمي. فالصدفة والملاحظة الفريدة قد تكون مذهلة، لكنها لن تكون ذات قيمة إذا لم يمكن تكرارها. ومن ثم، من أهم واجبات العالم أن يعرض وسائله ونتائجه بوضوح، بحيث تسمح للآخرين بالاختبار للتأكد من أن النتائج متطابقة. ويمكن لمقارنة الاستنتاجات المختلفة أن تُبيِّن أي النتائج كانت صدفة كما تمنع المبالغة أو الاحتيال.

النار وشعلة العمل

في غضون أسبوعين من الإعلان عن عمل لوور، كان الباحثون في لندن يحاولون نقل الدم بأنفسهم ويطلبون من أصدقائهم الحضور للمشاهدة. وفي ذلك الوقت، قبل ويليس وظيفة لدى جلبرت شيلدون — رئيس أساقفة كانتربيري — واستقر في شارع سانت مارتنز لاين، الذي تفصله مسافة قصيرة عن مسكن بويل في لندن في بول مول. ولأن ويليس لم ينسَ الرجل الذي مكنته مهاراته من النجاح في عمله، فقد ضغط على الجمعية الملكية لتدعو لوور إلى الانتقال إلى لندن والعمل كمسئول التشريح لديها. وقبل لوور — مسرورًا هذه الفرصة الجديدة — ووجد مكانًا يقيم فيه في هاتون جاردن قبل أن ينتقل إلى كوفنت جاردن في قلب المدينة الصاخبة.

كان ذلك عام ١٦٦٦، وكان الكثيرون يتحسبون من سوء الطالع؛ فالرقم ٦٦٦ يرمز في الإنجيل إلى الوحش، وهو الرقم الذي أقلق بوتر كثيرًا. بينما كان الآخرون يواسون أنفسهم؛ فقد تجاوزوا لتوِّهم أسوأ موجات الطاعون التي عرفتها البشرية، وهؤلاء الذين نجوا كان مقدرًا لهم النجاة. فما الأسوأ من ذلك؟! لكن عندما اندلع الحريق في الثاني من سبتمبر وظل مشتعلًا إلى السابع من سبتمبر وجدوا الإجابة. وبدا من الثابت للكثيرين أن الشيطان كان يصب جام غضبه على المدينة.

في مساء الأول من ديسمبر، خلد سكان لندن إلى النوم كالمعتاد. كانت الفوضى تضرب أطنابها في المدينة، ورغم وجود قانون يقضي بأن تُبنى البيوت من الحجارة ويكون لها أسقف من ألواح صخرية فقد كان كل شبر في المدينة مليئًا بالبيوت المبنية بالعوارض الخشبية والقش. وأدت الرغبة في بناء بيوت أكبر على مساحات أصغر من الأرض إلى أن وضع الحرفيون المهرة طريقة يَبرز فيها كل طابق مسافة قدم أو اثنين عن الطابق الذي أسفله، مما أدى إلى اتساع الطوابق العليا وإظلام الشوارع وتعفنها. وفي أماكن عديدة، لو صعدت الدرج في منزل إلى الطابق الثالث — بل إلى الطابق الرابع في بعض البيوت — كان يمكنك أن تفتح النافذة وتصافح جارك في المنزل المقابل. ربما وفر هذا طريقةً لاستغلال كل الفراغ المتاح، لكنه كان طريقةً مؤكدةً لانتقال الحرائق من منزل إلى آخر.

وبحسب ما كتب بيبيس، اندلع الحريق في الليل بعد موجة طويلة حارة وجافة:

٢ سبتمبر ١٦٦٦

كان بعض الخادمات مستيقظات حتى وقت متأخر من الليلة الماضية للإعداد للوليمة التي نقيمها اليوم؛ أيقظتنا جين في حوالي الثالثة فجرًا لتخبرنا أنهن رأين حريقًا هائلًا في المدينة؛ لذا نهضت وارتديت ثياب المساء وذهبت لنافذتها، وظننت أن الحريق عند أقصى نهاية شارع ماركيلين؛ لكني ومع عدم اعتيادي على الحرائق على النحو الذي أعقب ذلك، فقد رأيت أنها بعيدة بما يكفي؛ لذا عدت إلى الفراش وواصلت النوم.

وتحولت هذه الاستهانة إلى ذهول، عندما أخبرته خادمته في السابعة صباحًا أن ٣٠٠ منزل احترقوا في أثناء الليل. وزاد ضيق بيبيس عندما ركب قاربًا في نهر التيمز واكتشف حجم الحريق. وعندما التقى صديقه ملازم برج لندن، اكتشف بيبيس أن الحريق بدأ في منزل خباز الملك في بودينج لين. وفي منتصف فترة ما بعد الظهيرة، بدأ جنود الجيش في تفجير المنازل لعزل الحريق، ونجحوا في منع الحريق من الوصول إلى البرج. وبعد خمسة أيام ملأ الدخان نهارها وأضاء اللهب ليلها، أمكن السيطرة على الحريق، لكن ليس قبل أن تحترق كنيسة القديس بولس ومعها ١٣ ألف مبنى تضمنت ٩٧ أبرشية وبضائع قُدِّرَت وقتها ﺑ ٣٫٥ ملايين جنيه استرليني دُمرت تمامًا. ومن اللافت أن الحريق توقف قبل مسافة قصيرة من منزل بيبيس.

ورغم أن ستة أشخاص فقط هم من لقوا مصرعهم على إثر الحريق مباشرةً، فقد اجتاح الناس موجة من رهاب الأجانب؛ وهي صورة مبكرة تقريبًا من التطهير العرقي. وانتشرت شائعة عن أن الحريق نتج عن مؤامرة خسيسة، وقُتل عدد كبير من الأجانب، خاصةً من الهولنديين، دون محاكمة.

لم يشهد لوور هذا الدمار، حيث كانت لديه مشاغل أخرى ليهتم بها — بالتحديد بحثه عن زوجة — وهو ما تطلب رحلة أخرى إلى كورنوول. وخلال غيابه، اقترعت الجمعية الملكية في ١٧ أكتوبر لقبول انضمامه زميلًا للجمعية، وفي ١٧ نوفمبر، تزوج إليزابيث بيلينجز — وهي سيدة كانت تمتلك أرضًا. هكذا، بات يتمتع بصيتٍ أكاديميٍّ ذائع، ودعمٍ ماديٍّ من الأملاك بالقرب من تريميير في كورنوول؛ لذا كان عائدًا إلى ما تبقى من لندن أواخر ذلك العام بشعور بالانتصار الكبير.

ونظرًا لتدمير ستة من بين كل سبعة منازل داخل أسوار المدينة، خلق حريق لندن أزمة سكن. فيما نجت كلية جريشام، التي كانت في موقع البرج ٤٢ الآن (والمعروف سابقًا ببرج ناتويست)، من الحريق وأصبحت من الأصول القيمة؛ بل ربما كانت قيمتها أكبر من أن تشغل الجمعية الملكية مساحة كبيرة منها. ومع تحول مبنى سوق الأوراق المالية إلى أنقاض، انتقل هذا القلب المالي للمدينة إلى ذلك الموقع طاردًا العلماء خارجه ما بين عشية وضحاها. لكن برز متبرع جديد، وهو هنري هاورد الذي أصبح لاحقًا الدوق السادس لنورفولك؛ إذ لم يمس الحريق ممتلكاته هو الآخر، فدعا الجمعية الملكية للانتقال إلى أرونديل هاوس — المتفرع من طريق ستراند، وهو الموقع الذي تقع فيه كلية الملك (كنجز كوليدج) في الوقت الحالي.

أتاح أرونديل هاوس للجمعية موقعًا جيدًا لعقد اللقاءات والمناقشات، إلا أنه لم يكن مناسبًا لأي أعمال تشريح؛ لذا استأجرت الجمعية غرفة صغيرة وقريبة تقع في مواجهة نهر التيمز، وكانت مكانًا مناسبًا لأن يجري لوور فيها تجاربه في التشريح.

fig8
شكل ٥-٢: كلية جريشام. حقوق الطبع محفوظة للجمعية الملكية.
fig9
شكل ٥-٣: أرونديل هاوس. حقوق الطبع محفوظة للجمعية الملكية.
وفي ظل سعي نخبة لندن نحو الترفيه، فقد كانوا يطلبون إجراء التجارب، وسرعان ما أصبح نقل الدم حديث المدينة. ولم يمر وقت طويل حتى عاد بيبيس للكتابة عن تطوراته وذلك مع عودة العلوم للخروج من وراء حُجبها إلى المجال العام:

١٤ نوفمبر ١٦٦٦

أخبرني الدكتور كرون هنا في بيت بوبهيد العام أن هناك تجربة رائعة أُجريت في لقاء بكلية جريشام الليلة1 (وهو ما يبدو أنه يُعقد من جديد حاليًّا كل أربعاء) جرى فيها إفراغ دم كلب (إلى أن مات) في جسم كلبٍ آخر كان ينزف دمه من الناحية الأخرى. مات الأول في مكانه، والثاني حالته جيدة، ومن المرجح أن يظل في حالة جيدة. وفتح هذا الباب أمام أمنيات عديدة مثل نقل الدم من دجال إلى أسقف وغير ذلك. لكن وكما يقول الدكتور كرون، إذا نجحت العملية فستكون ذات فائدة كبيرة لصحة الإنسان ولعلاج الدم الفاسد بالاستعانة بالدم من جسم أصح.

زيارة للمسرح

كان أعضاء الجمعية الملكية الأساسيون يعتبرونها مكانًا للتعلم الجاد. فقد كانت مؤسسة يُسلط فيها الضوء على الاكتشافات الجديدة، حيث يمكن طرح الأفكار الجديدة وتحديها، ويمكن عرض التجارب المثيرة للاهتمام. أما العامة، فكانوا يرونها لغزًا ومصدرًا للتسلية التامة؛ وكانوا يستوعبون النظرة المعاصرة للعلماء باعتبارهم أشخاصًا مصابين بشيء من الجنون، يرتدون سترات بيضاء وتثير اهتمامهم الشديد تفاصيل لا يمكنها أن تلفت انتباه الأشخاص «الطبيعيين». ويشكو العلماء المعاصرون من أنهم نادرًا ما يؤخذون على محمل الجد، ويبدو أنهم يظنون أن تراجع مكانتهم في أوساط العوام شيء جديد. لكن حالة قلة تبجيل العلماء تلك قديمة قدم العلماء أنفسهم. وقد كتب بيبيس في إحدى المناسبات أنه قضى يوم ١ فبراير ١٦٦٣ (أو ١٦٦٤) ساعة أو اثنتين ممتعتين ساخرًا من السير ويليام بيتي، وهو يحاول عرض أفكار جديدة عن القوارب. وذكر بيبيس أن الملك شارك ضَحِكَ ساخرًا من أن أعضاء الجمعية قضوا معظم وقتهم منذ إنشائها محاولين قياس وزن الهواء؛ وهي مهمة من الواضح أنه رآها مضيعة للوقت!

وبعد عشر سنوات، سخر الكاتب المسرحي توماس شادويل من نقل الدم في مسرحيته «الباحث». وحضر الملك تشارلز الثاني أحد العروض الأولى لفرقة الدوق المسرحية عندما قدمت إلى مسرح جلالته الملكي في ٢٥ مايو ١٦٧٦، واستمتع تمامًا بالطريقة التي سخرت بها المسرحية من الجمعية الملكية بصفة عامة، ومن بعض التجارب المعينة بصفة خاصة. وتعكس أسماء الشخصيات — السير فورمال ترايفل (وتعني السطحي التافه) والسير صامويل هارتي (وتعني الحماسي المتقلب) وسنارل العجوز (وتعني المزمجر) وشخصية السير نيكولاس جريمكراك المحورية (وتعني الشق المظلم) — نظرة شادويل للجمعية. ويشبه اسم جريمكراك كلمة «جيمكراك» الإنجليزية التي تعني البهرجة أو الحلية عديمة الفائدة، حيث كانت الشخصية لرجل هاوٍ يعبث بالأفكار والأشياء عديمة القيمة. وهذه الشخصية على الأرجح تتلقى الإلهام من بويل وتقضي أغلب الجزء الأول للمسرحية منشغلةً بقياس وزن الهواء. ويتهكم شادويل من الفكرة بإعطاء جريمكراك قبوًا مليئًا بزجاجات النبيذ تحوي كلٌّ منها هواءً من أماكن مختلفة؛ وإن أراد جريماك أن يغير المشهد من حوله فليس عليه إلا أن ينزع السدادة ويسكب ما في الزجاجة.

وتركيزًا للنص على العمل الجاري في الجمعية الملكية، يتابع شادويل المسرحية ليتناول نقل الدم ويقدم تجربة أجراها توماس كوكس في ٤ مارس ١٦٦٧، وقرأها على الجمعية بعد شهر.

السير نيكولاس جريمكراك: … كما أنني وإن لم أكن أول من ابتكر نقل الدم فقد حققت نتائج مذهلة بأداء هذه التجربة؛ وذلك بنقل دم حيوان إلى آخر.

السير فورمال ترايفل: أشهد أنه نهض بنقل الدم إلى قمة الكمال وسبق كل الباحثين في تلك النقطة. لقد رأيته وهو يحقق نتائج مذهلةً على حيوانين: أحدهما حيوان مستأنس من نوع البولدوج السليم. فلتتكرم سيدي بنشر الخبر.

السير نيكولاس جريمكراك: إليكم السبب يا سيدي في جعل كلا الحيوانين مانحًا ومستقبِلًا في الوقت نفسه؛ فبعد أن ربطت الضمادات بأقصى إحكام ممكن (حذرًا من أن يختنق الحيوانان) من أجل أن يتضخم الوريد الوداجي، فتحت الشرايين السباتية والأوردة الوداجية في كليهما وجعلتهما يتبادلان الدم.

السير فورمال ترايفل: لقد كان ما تلا العملية معجزة؛ إذ شُفي الكلب السبنيلي المصاب بالصفراء وأصيب الكلب البولدوج بالصفراء.

السير نيكولاس جريمكراك: ليس هذا وحسب أيها السادة؛ فقد استحال الكلب السبنيلي كلب بولدج وتحول البلودج إلى كلب سبنيلي.

السير فورمال ترايفل: وهو ما يستحق أن يكون من العجب بالنظر إلى السلوك المهذب والذكي للكلب السبنيلي وتعليمه مقارنة بالطبيعة البربرية القاسية وغير المدربة لكلب البولدوج.

بروس: إنها تجربة تستحق أن يُبنى لك بها تمثال.2
عند هذه المرحلة، لم يكن الجمهور يعرفون أيضحكون أم يبكون؛ أيسعدون بالنتيجة المذهلة أم يخافون من أن يفكر أي شخص في إجراء تلك التجربة. لقد كان كثيرون على دراية بتجارب الجمعية الملكية لكن التفاصيل كانت ضبابية لديهم. ولم يكن من السهل معرفة الحد الذي انقلبت عنده الحقيقة إلى سخرية. لكن كوكس في الواقع ذكر أن الكلب السليم لم يتأثر بنقل الدم، وأن الكلب المصاب بالصفراء شُفي خلال ١٠ أيام من العملية.

تجارب إدموند كينج

في ١٨ أبريل ١٦٦٧، قرأ إدموند كينج تقريرًا على الجمعية الملكية. وفصَّل كينج في هذا التقرير آخر تطورات نقل الدم، زاعمًا أنه وجد طريقة أكثر أمانًا لإجراء تلك العملية. كان كينج طبيبًا ناشئًا في الثامنة والثلاثين من عمره وكان حديث الزواج. وكان قدره يزداد رفعة لدى كثيرين، وسرعان ما أصبح ضمن دائرة الملك من الأطباء الشخصيين. في الواقع، جاء السبب الرئيسي لشهرته بعد بضع سنوات عندما هرع إلى فراش الملك وقرر أن يجري له الفَصْد قبل وصول أي طبيب آخر ليعطي استشارات أخرى. ونجا تشارلز الثاني، وصار إدموند كينج بطلًا، وقد منحه مجلس بريفي (وهو مجلس استشاري) مكافأة قدرها ١٠٠٠ جنيه استرليني. وبالنظر إلى موارد تشارلز المالية المحدودة لم يكن من الغريب أن إدموند لم يتلق المكافأة.

أجريت التجربة، حسبما شرح كينج للأعضاء المجتمعين، في ٢٩ مارس ١٦٦٧. فبعد أن دفع ٥٠ شلنًا مقابل عجل متوسط الحجم و٣٣ شلنًا وأربعة بنسات لشراء أكبر خروف رآه، أخذ كينج الحيوانين إلى منزله. وكانت فكرته هي العودة إلى نقل الدم من الوريد للوريد. كان لذلك ميزتان؛ الميزة الأولى: هي أن الأوردة يسهل الوصول إليها دون الحاجة إلى جراحة كبيرة. والميزة الثانية: هي أن الدم لا يتدفق في كل مكان في حالة ارتكاب خطأ على عكس ما يحدث في حالة الشرايين.

وبدأ كينج بتفريغ ٤٩ أوقية من دم الخروف. وعند هذا الحد، ظن المراقبون جميعًا أن الحيوان الضعيف قد فقد وعيه. وكان كينج يأمل أن يتسبب إحداث هذا النقص في امتصاص الخروف الدم من العجل بمجرد توصيل أوردتهما معًا. وبعد وضع الأنبوب الموصل انتظر لخمس دقائق أملًا في أن يكون هذا وقتًا كافيًا لنقل كمية أكبر من الدم من الأوقيات التسع والأربعين التي فقدها الخروف. بعدها نهض الخروف وتحرك وبدا أنه سليم.

ربما لفتت التجربة إلى طريقة أكثر أمانًا لنقل الدم، لكنها لم تنفع الخروف. وبعد انتهاء تلك المرحلة من التجربة، أراد كينج أن يرى ماذا يحدث إذا أفرغ دم الخروف كله. وكما هو متوقع نفق الخروف. لكن كينج أخبر الجمعية الملكية «أن الخروف بدا لونه أبيض جميلًا وكان لحمه ألذ من المألوف بحسب رأي كثيرين ممن أكلوا لحمه.»

وبعد أن تخلص كينج من الخروف، التفت إلى العجل. كان العجل في حالة غير مستقرة حيث كان نصف دمه قد فُقِد أو نُقِل إلى الخروف. وصعَّب ضغط الدم المنخفض على كينج استخراج مزيدٍ من الدم من الوريد. يقول كينج: «عندها فتحت الشريان السباتي». كانت الفوضى الناتجة كبيرة، حيث اندفع الدم في جميع أركان الغرفة. وبرغم أن العجل قد قُيِّد بإحكام، فإنه كان يقاوم، مرسلًا كل دفقة دم إلى موضع مختلف. مع ذلك، ذكر كينج أنه تمكَّن من جمع ٢٥ أوقية من الدم قبل أن ينفُق العجل. على الناحية الأخرى، كان لحم العجل شاحبًا وأبيض، تمامًا مثلما كان الحال مع الحمل، وكان كل من اجتمعوا لفحص الجثة على يقين أن اللحم كان أكثر بياضًا عما ينتج عن طرق الذبح العادية.

ولم تشمل التجربة التالية التي وصفها كينج سوى كلب ماستيف عاثر الحظ. ففي ٤ أبريل ١٦٦٧، أفرغ كينج ١٨ أوقية من دم الكلب، وأراد عندها أن يحقنه بالقدر نفسه من اللبن الدافئ المذاب فيه بعض السكر. ومن الواضح أن كينج كان يعمل تبعًا لفرضية أن دور الدم هو توزيع المواد الغذائية على الجسم؛ وهي فكرة منطقية جدًّا وكانت صحيحة جزئيًّا على الأقل. إلا أن التجربة لم تجرِ كما خُطط لها. بدايةً، انتشر اللبن في جسم الحيوان بنحو أسرع مما أراد كينج. وبعدها أصبح الكلب أكثر اضطرابًا وكافح ليتحرر من قيوده. وبعد مرور بضع دقائق هدأ الكلب، بعد أن استُنفِدت طاقته على الأرجح لتخور قواه سريعًا، وهو ما مكَّن كينج من حقن اللبن المتبقي.

انتهت التجربة، وحل كينج قيود الكلب الذي قفز من فوق الطاولة ومر بخفة من جانب كينج. لكن لم يدم هذا النجاح طويلًا؛ إذ «مرض الكلب بشدة وقصُرت أنفاسه لدرجة أني خشيت أن يموت. لكن بعد أن تقيأ مرة أو اثنتين خرج فيهما بعض الدم، استعاد نشاطه.» وبأخذ عينة من دم الكلب لمعرفة ماذا يجري بالداخل، وجد كينج أن الدم واللبن لم يختلطا، رغم أنه ظن أنهما سيختلطان مع الوقت. بعد سبع ساعات، فوجئ كينج بأن الكلب فقد السيطرة على أطرافه، لكنه استجاب عند التحدث إليه بلطف. وبعد ثلاث ساعات أخرى، دخل الكلب في غيبوبة، وكانت حركته الوحيدة هي التنفس. وفتح كينج فمه وأعطاه مقدار كوب جعة من الطعام المفيد السائل، بعدها انتهت معاناة الكلب وفارق الحياة.

وقتها كانت الساعة العاشرة مساءً، وكان الظلام دامسًا فلم يستطع كينج أن يقوم إلى الكلب ليرى ما حدث داخل جسمه؛ لذا قرر أخذ قسط من الراحة والنوم ثم تشريح جثة الكلب في الصباح التالي. لكن بحلول الصباح، واجه كينج مشكلة كبيرة؛ وهي ظهور رائحة نتنة شديدة. لقد كانت الفضلات البشرية وكل أشكال الفضلات الأخرى تتجمع في برك متعفنة في شوارع لندن وتتدفق بكميات كبيرة في بالوعات الصرف الصحي المفتوحة. لكن تلك الرائحة كانت أشد من رائحة هذه الفضلات. لقد فر حارس منزل كينج — وهو رجل كان قد اعتاد على الروائح النتنة والمشاهد القبيحة — من الحجرة، مصابًا بالغثيان. قرر كينج أن يجلس وينتهي من فحصه. وخَلُص إلى أن الدم واللبن لم يختلطا جيدًا، وأنه إذا جرى الحقن باللبن، يمتلئ القلب بالدم المتجلط، ويفشل الدم في الوصول إلى الرئتين على نحو صحيح. وكانت المثانة فارغة، رغم أنها كانت منقبضة إلى أقصى درجة. وكان أي طبيب شرعي في القرن الحادي والعشرين سيقول إن الخليط أنتج جلطات دموية كبيرة سدت مسار الشعيرات الدموية الدقيقة، وهو ما أصاب الكلب بسكتة دماغية وأزمة قلبية حادة.

وبينما كان أعضاء الجمعية الملكية يستمعون لرواية الأحداث المدعمة بالرسوم كان كثيرون منهم مقتنعين بأن حقن الطعام سيكون صعبًا لكن حقن الدم هو الطريق المتوقع نجاحه. وبدا واضحًا أن كينج كان يرى ذلك، حيث إنه وبعد تسعة أيام — في ١٤ أبريل — أجرى محاولةً أخرى.

هذه المرة عاد كينج إلى نقل الدم، وأُجرِيَت التجربة على خروف وعجل آخرين. مرة أخرى في منزله، بدأ كينج بإخراج الدم من الخروف. وسارت العملية على نحو جيد لدرجة أن كينج تمكن سريعًا من استخراج ٤٥ أوقية من الدم، وتيقن المتابعون أن حالة الخروف لم تعد قابلة للشفاء، لكن لم يكن ذاك هو الحال؛ إذ تمكن كينج — كالساحر — من إعادة الحيوية إلى الخروف بنقل الدم إليه من العجل، ثم ترك الخروف ينزل عن الطاولة. عندها عم الاضطراب؛ إذ كان أحد الحضور قد أحضر كلبه معه؛ وقررت الشاة أن تهاجمه «ونطحت الكلب ثلاثًا أو أربع مرات، غير عابئة على ما يبدو بما مرت به خلال التجربة.» لقد كانت الشاة حالة نادرة لدى كينج؛ إذ إنها ظلت على قيد الحياة، وكان مسرورًا برؤيتها حية جيدًا.

وفي ٣٠ مايو ١٦٦٧، كان كينج مستعدًّا لتجربة أخرى؛ وكانت التجربة هذه المرة بين خروف وكلب. إلا أن الأمور لم تجرِ على نحو جيد في هذه المرة. فعندما نُقل دم الكلب إلى الخروف، لم يفعل الخروف سوى أن رقد في معاناةٍ وصلت شدتها لدرجة أن كينج وجميع المشاهدين من أصدقائه ظنوا أنه على وشك النفوق. وكان استنتاجهم أنهم أعطوا الخروف جرعة زائدة من الدم تفوق ما يمكنه تحمله. ظلوا يشاهدون، وينتظرون، ثم عاد معظمهم إلى بيته. ومع قدوم اليوم التالي كان الخروف قد تعافى وراح يأكل التبن، رغم أنه بدا غير راغب في قضاء الوقت مع غيره من الخراف في الحظيرة. وبعد ثلاثة أيام نفق. أما تفسير الموت، فكان من الواضح — كما قال كينج — أن الخروف لم يكن بحالة جيدة قبل التجربة، رغم أنه رأى أن الكلب نفسه لم يكن في أحسن حال بسبب تجربة أخرى كان قد أجراها عليه في اليوم السابق!

رغم عدم النجاح، أصبح كينج أسيرًا للفكرة، وكان حريصًا على إعادة المحاولة في أقرب فرصة. وقد حدث ذلك في ٩ يونيو ١٦٦٧. ويبدو أن اتجاه دراسات كينج كان يفتقر إلى المنطق؛ إذ إنه بدلًا من العمل على تحسين تقنيته، أدخل في دراساته نوعًا آخر من الحيوانات، وكان ثعلبًا. كانت فكرة نقل الدم من الحمَل إلى الثعلب مثيرة لدرجة أن بويل حضر التجربة. كان الثعلب ضعيفًا منذ البداية؛ لذا لم يُخرج كينج منه كمية كبيرة من الدم قبل نقل الدم إليه. ولم تتحسن صحة الثعلب كثيرًا بعد نقل دم الحمَل إليه، وعندما أُطلق سراحه جلس على نحو بائس على الأرض، وكان يرفع رأسه ويجأر ويعض العصي التي وضعت بالقرب منه وحسب. وبعد يوم مات الثعلب «وخرج من أنفه بعض الدم بعدما مات».

كشف تشريح الجثة أن التجويف الصدري والبطني للثعلب ممتلآن بسائل دموي، مما حدا بكينج إلى أن يتساءل عما إذا كان الاختلاف بين دم الحمَل والثعلب كبيرًا لدرجة تفاعلهما معًا فأصبح الدم قليل التركيز. ولم يتمكن الدم الخفيف من الإبقاء على «روح» الثعلب ومن ثم ذهبت حياته. ربما لم يكن النجاح حليفًا للفضوليين في إنجلترا، لكنهم كانوا على يقين من أن تجاربهم جعلتهم بلا شك أصحاب الريادة العالمية في ذلك المجال البحثي. وفي الوقت ذاته، كان كينج يأمل لعمله أن يجعله أحد منارات البحث العلمي في إنجلترا، ولربما تمنى أن ذلك كان يتيح له الانضمام إلى الجمعية الملكية المرموقة. لكن للأسف رغم كل تلك الجهود الحثيثة لم يحقق أي تقدم، ولم يُنتخب زميلًا للجمعية قط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤