الفصل الثاني والأربعون

بعض ما رأيت في العراق١

أيها السادة

تفضلت الإذاعة اللاسلكية فدعتني لإلقاء محاضرتين عن العراق، فرأيت أن أقسم الموضوع إلى قسمين:
  • الأول: أصور به بعض ما رأيت في العراق.
  • والثاني: أصور به الحياة الأدبية في العراق.

وأبدأ فأذكر أن هجرتي إلى العراق لم تكن تخطر بالبال، فقد كانت لي في مصر شواغل تصرفني عن التفكير في ذلك، ثم فوجئت بالدعوة إلى خدمة العلم في العراق في مطلع شهر أكتوبر من السنة الماضية، فترددت في قبول الدعوة، ثم قلت في نفسي: إن من العقل أن أعرف جوانب من الشرق بعد أن عرفت جوانب من الغرب، وصح عندي أن الهجرة إلى العراق قد تشرح دقائق الأدب في العصر العباسي، وليس من المقبول أن يصح لمثلي أن يصف باريس عن علم ويصف بغداد عن جهل.

وما هي إلا أيام حتى كنت في طريقي إلى العراق، ولعلى كنت المصري الوحيد الذي لم يطل بينه وبين المفوضية العراقية أخذ ولا رد في شروط العمل بالعراق.

ولكن كيف أصل إلى العراق؟

كانت هناك مسالك للوصول:
  • الأول: الوصول بالطيارة، وهو أسهل الطرق، لأنه يمكن المسافر من الفطور بالقاهرة والعشاء في بغداد، ولكني تذكرت أني أعطيت جماعة من تلاميذي موضوعًا للإنشاء منذ عشر سنين عن (خطر انعدام المسافة في العصر الحديث) وكنت أرى أن الطيران قضى على جانب مهم من الأدب الوصفي، فلن يكون في الدنيا بعد اليوم رجل مثل ابن بطوطة ولا رجل مثل چان چاك روسو، وأنا أرى الشرق العربي أول مرة، فليس من المفيد أن أسافر في طيارة فأحجب عما فيه من أنهار ومدائن وسهول.
  • الطريق الثاني: هو طريق البحر من الإسكندرية إلى بيروت، وهو يعطي الفرصة لرؤية لبنان وسورية، ولكنه يحرمني رؤية فلسطين، ويحبسني في البحر يومًا وبعض يوم، وأنا ركبت البحر إلى أوربا أكثر من عشر مرات وشبعت منه وشبع مني.
  • الطريق الثالث: هو السفر من القاهرة إلى القنطرة لاخترق فلسطين بالقطار حتى أصل إلى حيفا، ومنها إلى بيروت ثم إلى الشام ثم إلى بغداد.

ولكن طريق فلسطين كان في ذلك الوقت محفوفًا بالمكاره، فقد كانت البرقيات تحدثنا أن الثوار ينسفون القطارات، فلم يصرفني ذلك عن المرور بفلسطين، لأني كنت أحب أن أرى البلاد التي يقتتل حول خيراتها العرب واليهود، وقد نهاني بعض الزملاء المسافرين إلى العراق فلم أنته، وتفردت بتلك المغامرة لأكحل جفني برؤية فلسطين.

وصلت إلى القنطرة في ليلة قمراء توحي غرائب الشعر والخيال، فعلمت أن القطار سيتأخر قيامه من هناك ثلاث ساعات حتى لا يدخل فلسطين إلا مع ضوء الصباح، تجنبًا لمخاطر التعرض لنسفه بالليل، وكذلك عرفت أن من نهوني عن المرور بفلسطين لم يكونوا مخطئين.

قضيت ساعات في مناجاة قناة السويس والتأمل فيما صنعت مصر لخدمة الإنسانية، الإنسانية الجاحدة التي جهلت ما قدمت مصر من جميل.

وقفت أنظر كيف خدمنا بني آدم وكيف أتعبنا أجسادنا وأفقرنا جيوبنا لنسهل وسائل النفع ولنصل بين المشرقين والمغربين، ثم لا نجد من يتفضل بكلمة ثناء.

وسار القطار قبيل الصبح فبخلت على عيني بالهجود لأرى أطراف مصر من ناحية المشرق ولأنظر بساتين فلسطين.

ولم يكفني ما رأيت من فلسطين في الذهاب فقررت المرور عليها في الإياب لأتمتع باختراقها مرتين ولأقتنع بأنها بلاد جميلة جذابة تستحق ما ثار حولها من النضال.

ولم أبت في فلسطين إلا ليلة واحدة عند الرجوع، وكانت ليلة متعبة، فقد كان محرمًا على أهل حيفا أن يتجولوا بالليل، وكان من الحزم أن أقضي سهرتي في رحاب الفندق، وإن حرمني ذلك شهود المجتمع الفلسطيني في تلك المدينة البيضاء.

وأعود فأقول إني امتطيت سيارة في ذهابي من حيفا إلى بيروت وفي بيروت قضيت ليلة واحدة كانت أبقى أثرًا من الليالي الطوال، مضيت أتنقل في بيروت من مكان إلى مكان بعد أن ألقيت أمتعتي في الفندق، ثم اتفق أن عرفني بعض الأدباء هناك فساقني ذلك إلى زيارة أكثر الجرائد واندفعت فجاذبت أهل بيروت أطراف الأحاديث، وعرفت ألوانًا من عتابهم على مصر والمصريين، وقد تعقبوني بعد أن وصلت إلى العراق فكان بيني وبينهم مناوشات ستعرفون أخبارها حين أنشر كتاب «وحي بغداد».

ومن بيروت رحلت إلى دمشق مخترقًا جبال لبنان، فرأيت من جمالها الأعاجيب، ولا أزال مفتونًا بما شهدت في الموضع المعروف بسهل البقاع.

وفي دمشق رأيت الأستاذ محمد كرد علي والأستاذ عبد القادر المغربي وزرت بعض الزعماء وقضيت لحظات في مناجاة نهر بردي الذي خلده حسان.

ثم أسلمت نفسي إلى سيارة «نيرن» لأقطع الصحراء بين الشام والعراق ولأرى بنفسي كيف شقى أسلافنا بمخاطر البيداء.

كنت أعرف أني سأقضي أكثر من خمس وعشرين ساعة في ذلك السجن المتحرك، وكان ذلك يغرق نفسي في بحر من الانقباض، ولكن كان يعزيني ما عرفت من أننا سنستريح في كل مدينة تصادفنا في الطريق، ولم يكن في الطريق مدائن وإنما هناك محطتان هما الرطبة والرمادي.

وبعد ساعات من عبور الصحراء نظرت فرأيتنا مقبلين على مدينة فيحاء، مدينة تقع على نهر واسع تجري فيه سفائن بخارية وشراعية، فانشرح صدري، وقلت: سنستريح لحظات، ثم عجبت من جهلي بالجانب الجغرافي من ذلك الطريق، فما كنت أعرف أن هناك مدينة تقع على نهر عجاج، وترحمت على أستاذي إسماعيل بك رأفت الذي أسقطني في امتحانات الجامعة المصرية مرتين لقلة ما كنت أعرف من دقائق علم الجغرافيا وعلم وصف الشعوب.

ولكن لم تمض غير دقائق حتى اختفت تلك المدينة مرة واحدة، فعرفت أنها كانت أضلولة من أضاليل السراب.

وبعد نصف ساعة لاحت مدينة جديدة، فتأملت مرة ومرتين ومرات فتأكدت أنها مدينة حقيقية، وكنت كلما اقتربت منها زدت يقينًا بأننا سنستريح بعد لحظات، وتمتاز تلك المدينة بما يكثر فيها من منارات المساجد وأبراج الكنائس، وبما يحيط بها من حدائق وبساتين، وقد نظرت فرأيت حولها فرقة من الجيش تسير نحو الشرق، وفوق ذلك الجيش يحلق سرب من الطيارات.

ما اسم تلك المدينة؟ ولمن ذلك الجيش؟ ولأي غرض يتجه نحو الشرق؟ آه من جهلي بدقائق علم الجغرافيا وعلم وصف الشعوب!

كنت أستطيع أن أسأل بعض المسافرين عن تلك المدينة، ولكني خجلت من السؤال، فقد كان فيهم من يعرف أني ذاهب لخدمة العلم في العراق، ومن كان في مثل حالي لا يليق به أن يجهل هذه البسائط الجغرافية.

وما هي إلا دقائق حتى اختفت هذه المدينة، وعرفت أنها كتلك: أضلولة من أضاليل السراب.

ولكن خداع السراب لن يستمر طويلًا، فقد أقبلنا على واحة كثيرة النخيل، قد انتثرت فيها منازل صغيرة أكثرها أكواخ، وفيها ألوان من الحيوان أكثرها الإبل والشاء، وفيها عدد قليل من الأعراب.

لم أطرب كثيرًا لظهور هذه الواحة، فقد كنت أستبعد أن نقف عندها لحظة أو لحظتين، فما فيها — فيما أظن — مطاعم ولا مشارب حتى يستريح بها المسافرون.

ولكنها على كل حال فرصة للنزول، وسأقترح الوقوف عندها بضع دقائق.

آه، ثم آه!

هذه أيضًا أضلولة من أضاليل السراب.

ولكن هذه الأضاليل ستقفني بعد أشهر موقفًا سخيفًا جدًا، ستكون حفلة الافتتاح للمؤتمر الطبي العربي في بغداد، وسيكون فيها الوزراء والنواب والأعيان وكبار الأطباء، وسيلقى الأستاذ علي الجارم بك قصيدته في تحية المؤتمر فيقول في وصف البيداء:

طالت بنا الصحراء حتى
خلتها أبد الأبيد
يتخلص المرمى البعيد بها إلى مرمى بعيد
كتخلص الحسناء من
وعد طوته إلى وعود

فأصرخ: أعد يا أستاذ، أعد الكلام عن وعود الحسان!

وعندئذ يتلفت الحاضرون فيرون الدكتور زكي مبارك هو الذي يستعيد، فيقول بعضهم لبعض: هذا مجنون ليلى، ولا حرج على المجانين!

وعذرهم في اللوم مقبول فما عرفوا من أضاليل السراب مثل الذي عرفت.

•••

ثم وصلت إلى الرطبة تعبان فلم أذق معنى للراحة هناك.

وبعد نصف الليل قضينا مدة في الرمادي فذقت أول مرة طعام العراق، وبعد الفجر رأيت أفواج الفلاحين وهم يسيرون بمواشيهم إلى حقولهم على الأسلوب الذي يجرى عليه الفلاحون المصريون.

وبعد تفتيش الأمتعة أخذت سيارة لأدخل بغداد بعد أن بقيت في ذلك السجن المتحرك مدة طويلة رأيت فيها الشروق والغروب ثم الشروق.

•••

الله أكبر ولله الحمد!

هذه بغداد التي قرأت عنها ما قرأت، وسمعت في وصفها ما سمعت، وهذا هو الجسر الذي قال في مثله ابن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر
جلين الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمرًا إلى جمر

وذلك خيال باب الرصافة الذي تشوق إليه ابن نبانة السعدي، فقال:

سقيًا لتغليسي إلى
باب الرصافة وابتكاري
أيام أخطر في الصبا
نشوان مسحوب الازار
حجى إلى حجر الصرا
ة وفي حدائقها اعتماري
ومواطن اللذات أوطا
ني ودار اللهو داري

وما كدت أضع أمتعتي في الفندق حتى أخذت عربة ومضيت فسلمت على وزير المعارف، فراعني أن أرى شيخًا معممًا أسمر الوجه فصيح الحديث، وقد سألني عن الصحراء، فأظهرت تأملي لما كابدت وعانيت، فقال: اشكر ربك، فقد قطعتها قبلك في مدة دامت خمسة وعشرين يومًا قبل أن تعرفها السيارات، وكان حديثًا ممتعًا عرفت به من خصائص الصحراء ما لم أكن أعرف.

ومضيت فقيدت اسمى في ديوان حضرة صاحب الجلالة ملك العراق، وانتقلت فسلمت على فخامة رئيس الوزراء، وأسرعت فألقيت الدرس الأول في دار المعلمين العالية وأنا بغبار الطريق.

سلام الله وسلام الحب على أيامي في العراق.

كنت في البداية أظن أنني ما حضرت إلا لتدريس الأدب العربي، فحبست نفسي بين المدرسة والمكاتب زمنًا غير قليل.

ثم رأيت أن هذا المسلك غير مقبول لأنه سيحجبني عن الخصائص الذاتية للشعب العراقي، وخصائص هذا الشعب تفسر كثيرًا من دقائق الأدب في العصر العباسي، فانقطعت انقطاعًا يكاد يكون تامًا عن المصريين المقيمين في بغداد، وأقبلت على البغداديين أصاحبهم وأصادقهم وأقضي معهم ما تسمح به أعمالي من لحظات الفراغ.

وكانت حجتي أن الشعوب لا تموت، فبغداد التي غيرتها الأزمان من أحوال إلى أحوال لا بد أن تحفظ كثيرًا من شمائلها الأصيلة لعهودها الذهبية، ولا بد من الوصول إلى بعض الأسرار التي قضت بأن ينبغ فيها كبار الكتاب والشعراء.

وما هي إلا أشهر قلائل حتى كنت على صلات بمختلف الطبقات في بغداد، وحتى صححت لنفسي أخطاء كثيرة في فهم الأدب والتاريخ.

وبغداد تنقسم في وضعها الحاضر إلى قمسين: بغداد القديمة التي كان يعيش فيها الناس قبل التمدن الحديث، وهي مدينة جافية لمن يراها أول مرة، ولكنها جذابة جدًا لمن يعرف روحها الشفاف، هي مدينة تجذب من يعرف أهلها، وهم في أكثر أحوالهم على جانب عظيم من الأدب والذوق ولطف الأحاسيس وكرم النفوس.

ولن أنسى طول حياتي ما لقيت في تلك الدور الجافية من عذوبة الأرواح وصفاء القلوب.

كنت أدخل المقاهي في تلك المدينة القديمة فيؤذيني حرمانها من النظافة والتنسيق، ولكن قلبي كان يتفجر بالعطف حين أتذكر أن هؤلاء الناس قاوموا الحوادث والخطوب حتى حفظوا أصول اللغة العربية وقواعد الإسلام، وحتى استطاعوا أن يحفظوا لأنفسهم وجودًا خاصًا بالرغم من تصاريف الزمان.

في تلك الدور الجافية نشأ ناس تغلبوا على مصاعب أخفها الأوبئة والطواعين.

في تلك الدور الجافية خلقت عواطف وأحاسيس وأهواء.

في تلك الدور الجافية نبغ شعراء وصفوا الحب والليل.

في تلك الدور الجافية ألفت أحزاب ودبرت مؤامرات غيرت وضع العراق من حال إلى حال.

وكانت لتلك الدور الجافية تقاليد، أهمها الباب المفتوح للجائعين والملهوفين.

إليك أيتها الدور الجافية وإلى ما يعلوك من رواشن وما يحيط بك من مضايق، إليك في خشونتك التي أراها أنعم من خدود الملاح أقدم تحيتي وثنائي.

أما بغداد الجديدة فتصورها الضواحي التي أنشئت على النظام الحديث.

وهذه الضواحي تمتد إلى آفاق بعيدة على شواطئ دجلة، وفيها يعيش المياسير من أهل بغداد، هي ضواح لا تقاس إلى الجيزة أو مصر الجديدة أو المعادي أو حدائق القبة، ولكنها بالنسبة إلى بغداد القديمة تعد انتقالًا سريعًا إلى أجواء الرفاهية واللين.

وفي الأحياء الجديدة ميل شديد إلى الأناقة والتنسيق، ولن تمضي غير سنين قلائل حتى تخلق بغداد كلها خلقًا جديدًا، بفضل أبنائها الذين يزورون مصر وغير مصر فينقلون إلى وطنهم بذور الحضارة والعمران.

•••

ليس في بغداد مواصلات سريعة على نحو ما في القاهرة أو الإسكندرية، فليس فيها ترام ولا مترو، وسيارات التاكسي قليلة جدًا، وإنما يعتمد أهل بغداد على عربات تجرها الخيل، وهناك سيارات عمومية تسمى «باسات»، وهي قذرة وضيقة ولا يركبها في الغالب إلا الطبقة الشعبية.

والنساء في بغداد يؤثرن الحجاب، وهو الزي الغالب على النساء المسلمات، والسفور لا يشيع إلا بين نساء النصارى واليهود، على أن تلميذات المدارس من المسلمات ينتقلن رويدًا رويدًا إلى السفور، ومن المنتظر أن يصرن بعد نحو عشرين عامًا إلى ما صار إليه الفتيات القاهريات، إن لم تقع موجة اجتماعية تردهن جميعًا إلى مأثور الحجاب.

وأهل بغداد لا يشربون الخمر على قارعة الطريق كما يقع في بعض الحواضر المصرية، وإنما يشربونها في فنادق مغلقة الأبواب، وذلك أدب مقبول.

وقد أذيعت منذ أشهر أوامر توجب أن لا تقدم الخمر في الفنادق والملاهي بعد الحادية عشرة مساء، حفظًا لصحة الشعب وآدابه من التبديد.

وفي العراق مدن لا يباح فيها بيع الخمر علانية، وأشهر المدن في هذا المعنى مدينة النجف، وهي مدينة كبيرة، ولكنها مع ذلك خالية من الملاهي والملاعب والمراقص، ولم يدخل فيها الراديو إلا بعد جدال طال أمده بين العلماء.

ولما زرت النجف جلست على قهوة، فلامني إخواني هناك، وقالوا: سيكتب في التاريخ أن الدكتور زكي مبارك حين زار النجف جلس على قهوة!!

وسمعت أن أحد الموظفين بالكوفة كان يشرب الخمر سرًا، فلما علم الأهالي بخبره طاردوه إلى أن نقلته الحكومة من هناك.

ويمكن القول بأن أهل العراق في جملتهم ينكرون شرب الخمر، تشهد بذلك الحفلة التي أقامها فخامة رئيس الوزراء لأعضاء المؤتمر الطبي فلم يكن فيها شراب غير الماء القراح، ومعنى هذا أن آداب الإسلام لا تزال مرعية في تلك البلاد.

وهناك شارع مشهور يسمى شارع أبي نواس، وكنت أظنه يشبه شارع وجه البركة في القاهرة، فلما رأيته عجبت، لأنه شارع نظيف جدًا يساير دجلة بحيث يمكن أن نسميه كورنيش بغداد، وفيه قهوات لا يباح فيها شرب الخمر على الإطلاق.

وإنما نصصت على هذا الجانب من حياة أهل العراق لأنه يدخل في صميم المجتمع، ويمثل أذواق الناس أصدق تمثيل.

وقد لوحظ أخيرًا أن الفنادق التي تبيع الخمر تكثر فيها المشاجرات، فاهتمت الحكومة بالأمر وبثت حولها الأرصاد والعيون.

ويتصل بهذا ما شهدته حين دخلت بغداد فقد عرفت أن هناك أوامر تعاقب من يفطرون علنًا في رمضان، وكذلك ينقضي شهر الصوم وليس فيه مطعم مفتوح أثناء النهار، وليس معنى هذا أن أهل بغداد يصومون جميعًا، ولكن معناه أنهم يراعون آداب الصيام.

وملاهي بغداد تنقسم إلى قسمين: ملاه شرقية، وملاه غربية.

أما الملاهي الشرقية: فتقوم على الغناء والرقص على نحو ما كنا نشهد في القاهرة منذ سنين، وقد عرفت أن البغداديين لا يصفقون حين يطربون للغناء، وهذا فيما علمت كان من أسباب الوحشة التي أحسها الأستاذ محمد عبد الوهاب حين غنى هناك.

أما الملاهي الغربية: فتقوم على الرقص الإفرنجي، وهي ملاه قليلة جدًا؛ لأن الذهب إليها يعد من العيوب، وهي مع ذلك تزدحم بالرواد في أكثر الليالي.

ومن هذا تفهمون أن المجتمع العراقي يعاني صعوبة الانتقال من وضع إلى وضع.

وما نقول به في الحكم على مدينة بغداد نقول به في الحكم على مدينة البصرة، ففيها رأيت مرقصًا إفرنجيًا لو شهده الجاحظ لكتب في وصفه رسالة أو رسالتين!!

وقد أقمت في مدينة الموصل خمسة أيام فرأيتها أكثر احتشامًا من البصرة وبغداد، والسر في ذلك أن الموصل يكثر فيها النصارى فيحرص المسلمون على آدابهم أشد الحرص ليقيموا التوازن بين المذاهب ويذهبوا قالة السوء عن العقيدة الإسلامية.

•••

ويسوقنا هذا الوصف إلى الحديث عن تدين أهل العراق، فهم في رأيي من أشد الأمم تمسكًا بالإسلام، وربما كان العراق هو الأمة الوحيدة التي لا تزال تختلف وتأتلف حول المذاهب الإسلامية، والاختلاف حول تلك المذاهب يوحي إلى الجمهور حب التعمق في درس الآراء والنظريات، وكذلك يعرف أهل العراق من تاريخ الخلفاء والأئمة ما لا يعرف جمهور المسلمين في غير العراق.

وفي العراق عدة جمعيات تهتم بنشر المعارف الدينية، منها جمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية، والجمعية الإسلامية، والأخيرة جمعية يديرها جماعة من فضلاء الهنود.

وعلماء الدين في العراق يحترمون أئمة الإسلام احترامًا شديدًا، وقد يصلون في ذلك إلى حد التعصب الممقوت، وأذكر أن جماعة منهم قاطعوا محاضراتي في بغداد بسبب كتاب (الأخلاق عند الغزالي).

ومحطة الإذاعة العراقية تصنع مثل الذي تصنع محطة الإذاعة المصرية من الاهتمام بتلاوة القرآن وإذاعة الأحاديث الدينية، وهم ينظرون إلى من يذكرهم بالدين والأخلاق نظر الاحترام والإعجاب وهم يتوجعون لما قد يقع بالمسلمين من سوء، تشهد لذلك مواساتهم التي لا تنقطع لأهل فلسطين.

وبهذه المناسبة أذكر أن يهود العراق يكادون ينفصلون عن الدعوة الصهيونية بفضل اهتمام أهل العراق بقضية فلسطين، وإني لأذكر أن أول إعانة قدمتها هناك لمنكوبي فلسطين كانت ونحن مجتمعون في بيت رجل من بني إسرائيل.

وجملة القول في هذا الباب أن العواطف الدينية في العراق عواطف سليمة جدًا، والمصلح الموفق يستطيع أن يقود العراقيين باسم الدين إلى أشرف الغايات.

وهم مع تدينهم أهل مرح وطرب وانشراح، وأكثرهم يجيد الغناء.

•••

بقيت كلمة عن خيرات العراق.

وأقول إنهم لم يستطيعوا إلى اليوم أن ينتفعوا تمام الانتفاع بما في بلادهم من خيرات، فعندهم نهران عظيمان هما دجلة والفرات، ولكن مياه هذين النهرين يذهب معظمها إلى البحر بلا رقيب ولا حسيب.

ويوم يستطيع العراق حبس مياه هذين النهرين ستنقلب سهوله إلى رياض وحقول تعود على الناس بالخير العميم، ولعل ذلك قريب.

وجو العراق عنيف جدًا في الصيف، ولكن ينتظر أن يلطف حين تخزن مياه الأنهار وتكثر المزارع والبساتين.

وأنهار العراق مسمكة جدًا فهم يأكلون السمك في جميع الأوقات وليست أنهارهم كنهر النيل الذي يضن بالسمك فلا يراه الفلاح في العام غير مرات معدودات، وكثرة السمك في أنهار العراق هي السبب في رخص اللحوم هناك.

وفي العراق يختلف الشمال عن الجنوب. فالذاهب إلى البصرة تروعه النخلات التي تعد بالملايين، والذاهب إلى الموصل تبهره حقول الحنطة، وهي حقول ممدودة على مسافات طوال.

وفي العراق خيرات النفظ الذي نسميه البترول، ولها سوق قائمة في كركوك، ويرى المسافر جذوات اللهب من مكان بعيد.

وسكان العراق هم اليوم نحو أربعة ملايين، ولو استطاعوا تدبير الخيرات في بلادهم لوصل السكان إلى أربعين مليونًا.

وأخلاق أهل العراق تدور بين الشدة واللين، فهم يسرفون في الحب، ويسرفون في البغض، وهم في هذا يتبعون جو بلادهم الذي يرق فيكون نسيمًا، ويقسو فيكون جحيمًا.

•••

ذلك أيها السادة بعض ما رأيت في العراق سقته إليكم بلا تزيين ولا تجميل، وهو يصور أهم ما يجب أن تعرفوه عن المجتمع العراقي، وفي المحاضرة المقبلة أحدثكم عن الحياة الأدبية في تلك البلاد لنرى كيف صارت اللغة وصار الأدب في الأمة التي رفعت لواء النهضة العلمية في عصر بني العباس.

ويسرني وأنا في مصر أن أقدم التحية إلى سائر أهل العراق راجيًا لهم من الخيرات والبركات ما أرجوه لنفسي ولأهلي ولوطني حيا الله العروبة، وحيا الله الإسلام.

١  محاضرة ألقيت في الإذاعة المصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤