الفصل الخمسون

كيف نصادق أطفالنا١

سيداتي وسادتي

لا تظنوا أن الظفر بصداقة الطفل أمر سهل؛ لأن بيننا وبين الأطفال فوارق كثيرة جدًا، وهذه الفوارق تباعد ما بيننا وبينهم، وتجعل عقد المودة معهم أمرًا عسير المنال.

وأسعد الآباء هو من يستطيع الوصول إلى قلوب أبنائه في ترفق وتلطف، ليكونوا قرة عينه، وليكون قرة أعينهم، وليصبح البيت موئلًا للانشراح والابتهاج.

وأسارع فأقرر أن الأب لا يستطيع الظفر بصداقة أبنائه إلا إن ضمن عطف زوجته عليه، فالزوجة هي الرباط الأول بين الأب وبين قلوب أبنائه، وهي تستطيع أن تغير قلوبهم على أبيهم حين تشاء، لأنها تملك من أمورهم كل شيء، ولها وسائل خفية تصل بها إلى قلوب الأطفال.

وبيان ذلك أن بعض الزوجات يستطبن إعلان التذمر من الأزواج، وهذا التذمر قد يسمعه الأطفال فيرسخ في أذهانهم أن أباهم رجل بغيض، وعندئذ يصعب على الأب أن يظفر بصداقة بنيه.

والزوجة الصالحة هي التي تشعر أبناءها في كل وقت بعظمة أبيهم وتروضهم على احترامه وحبه، وتؤكد في أنفسهم الشعور بما يملك من جميل المناقب والخصال.

الزوجة الصالحة تقول للطفل: «تمسك بهذا الخلق فإنه يرضي أباك، وتجنب ذلك الخلق فإنه يغضب أباك».

وعندئذ يشعر الطفل بأن عند أبيه ذخائر من الفضائل فيتشوف إلى الاطلاع على ما في قلب أبيه من كرائم الطيبات، ويرى الطاعة من صالحات الأعمال.

فإن سمعتم أن طفلًا يحب أباه فاعرفوا أن لذلك الطفل أمًا صالحة، وإن سمعتم أن طفلًا يبغض أباه فاعرفوا أن له أمًا ذميمة الخلال، وإنما اهتممت بتأكيد هذا المعنى لأنبه الزوجات إلى حقيقة غفل عنها أكثر المربين، وهي أن الأطفال وديعة ثمينة في أيدي الأمهات، ومن الأمهات من ينسين الواجب فيفسدن ما بين الآباء والأبناء، ويحرمن الأطفال من نعمة عظيمة هي الثقة بالوالد المسكين الذي يضطرب في دنياه ليقدم إلى زوجته وأطفاله أسباب الرخاء.

وما ابتكرت هذه الحقيقة، وإنما هي درس تلقيته عن أهلي، فقد كان أبي رحمه الله رجلًا جافيًا جدًا، وما أذكر أنه ابتسم في وجهي غير مرات معدودات، ولكن أمي رحمها الله كانت لا تذكره أمامي بغير الخير ولا تصوره بغير الجميل.

وكنت في طفولتي أرى أبي لغزًا من الألغاز، فهو فيما أرى رجل عنيف، وهو فيما تصور أمي رجل لطيف، ولم أعرف وجه الحق إلا يوم حرمتني المقادير من أبي وأصبحت في الدنيا بلا صديق.

•••

ولكن ما الموجب للحرص على صداقة الأطفال؟

لقد سمعت أننا من بني آدم، وسمعت أن آدم كان رجلًا له قلب والأطفال يعيشون بيننا في غربة موحشة فليسوا من جيلنا ولسنا من جيلهم، فهمومهم غير همومنا، وهمومنا غير همومهم، ولن يمكن التوفيق بيننا وبينهم إلا إن صعدوا إلينا أو نزلنا إليهم، فمن كان له قلب فليعرف هذه الحال وليفكر في إيناس أولئك الغرباء الذين يتشوفون إلى العواطف والقلوب.

وأول ما يجب التنبه إليه هو اليقين بأن الأطفال يعيشون في عالم المحسوس ويجهلون عالم المعقول.

وعالم المحسوس هو الأصل، ولو شئت لقلت إن عالم المعقول ليس إلا تصويرًا لعالم المحسوس.

ومن واجب الأب أن يدرك أن الأطفال يرون الدنيا بعيونهم لا بعقولهم، من واجب الأب أن يفهم أن مدركات الحواس هي كل شيء عند الأطفال.

فإن بدا لك أن تصادق الطفل فابحث عن مواقع هواه، واعرف أن فمه أكثر يقظة من عقله، وأن صندوق الحلوى أفضل عنده من الكتاب الجيد، وأن الثوب المرقش أحب إليه من القول المزخرف، والأب الذكي اللبيب هو الذي لا يلقى طفله إلا وفي يده هدية أو تحفة أو طرفة، فإن فاته ذلك فليقدم إلى طفله قطعة أو قطعين من النقود، وليذكر دائمًا أن هذا هو ما يدرك الأطفال من معاني الوجود.

وفي الدنيا أشياء هي عندنا أوهام، وهي عند الأطفال حقائق ولن نظفر بصداقتهم إلا إن رأينا الدنيا بعيونهم، ولعلهم أعرف وأصدق! كنت أدخل المنزل فيلقاني أطفالي باسمين متهللين لأن الراديو قدم إليهم هدايا نفيسة، فيها من كل فاكهة زوجان، فأفرح لفرحهم، وأطلب نصيبي من هدايا الراديو، فيقدمون إليّ ما بقى هداياه متفضلين.

وكان هذا الراديو عجيبًا، ولعله أعجب راديو عرفه الناس، كان الأطفال يصبحون فيجدون حوله أطايب كثيرة من المأكولات والمشروبان فيصفقون ويهللون، وتموج بهم الدنيا موج الفرح والاغتباط.

وكنت أنتفع بهذه الفرصة فأفرح لها كما يفرحون.

وكان في المنزل طفل كبير يرتاب في هدايا الراديو، ويظن لسخفه أن تلك الهدايا قدمتها يد إنسان لا يد شيطان.

وكنت بفضل عقلي أفهم أن هدايا الراديو هدايا رديوية، وأن الراديو هو الذي ينقل الهدايا كما ينقل الأصوات:

وكان أطفالي يحبون أباهم لأنه عاقل، ويتهمون أخاهم الكبير الجنون.

فليت شعري ماذا صنع الراديو بعد رحيلي إلى العراق؟

أكان يجري على عادته السخية فيقدم الهدايا إلى أطفالي في الصباح والمساء؟

أم ترونه حزن لفراقي فحرم الأطفال من تلك الهدايا الطيبات؟

إن الراديو الذي في منزلي بمصر الجديدة هو أغرب المبتكرات، ومن الواجب أن يكون له أمثال في كل أرض، هو راديو كريم يقدم إلى الأطفال كل ما يشتهون، وهو يعرف الفوارق بين هدايا المواسم وهدايا الأعياد، ولم يكن فيه إلا عيب واحد، هو أنه يضن بالهدايا حين أغيب، ولا أعرف السبب في ذلك.

فمتى أرجع إلى أطفالي ليرجع الراديو إلى بره المألوف؟

•••

والطفل كثير الاعتداد بالنفس، وهو لا يصادق من يعدون عليه الذنوب، ونحن خليقون بالتغاضي عن هفوات أطفالنا، لأنها في الأغلب هفوات طبيعية، ولأن هؤلاء الأطفال سيدخلون دنيا الناس بعد حين، وسيشربون الصاب والعلقم من أيدي الأصدقاء المزيفين، سينتقل هؤلاء الأطفال إلى دنيا خسيسة لئيمة لا كرم فيها ولا رفق، سينتقلون إلى صحبة ناس لا يسترون عيوبهم، ولا يغفرون ذنوبهم، فلتكن صحبتهم إيانا هي الموسم الطيب الذي يرونه في الحياة.

ولنتذكر أن الأطفال الصغار ليسوا أعقل من الأطفال الكبار فقد كان لي صديق أثق بعقله وكرمه ونبله، ثم اتفق أن أداعبه فأذكر أنه دميم الوجه، والدمامة لا تعيب الرجال، فغضب وشتمني أقبح الشتم في إحدى الجرائد، وعنه تلقيت درسًا لن أنساه، وهو أن الأطفال الكبار أقل عقلًا من الأطفال الصغار في بعض الأحيان ومزاحهم ثقيل ممجوج.

وأطفالنا سيلقون هذه المكاره بعد حين، فلنعطف عليهم، ولنذكر أننا نلقيهم إلى دنيا غادرة لا يحفظ فيها تاريخ إنسان إلا إن لطخ يده بدماء الأبرياء.

الطفل يحب أن تكون له أخلاق الرجال وشمائل الرجال، ولن نظفر بمودته إلا إن منحناه الثقة بمواهبه العالية. فما الذي يمنع من النزول عند إرادته عساه يستفحل ويستأسد؟

الطفل يحب أن نثق بأنه أجمل الناس وأذكى الناس. فما الذي يمنع من أن نقوله له صدقت أيها الذكي الجميل؟!

إننا ننخدع كارهين للأطفال الكبار وهم الرجال، فما الذي يمنع من أن ننخدع طائعين للأطفال الصغار وهم الأبناء؟

سيداتي وسادتي

اسمحوا لي أن أعتب عليكم بعض العتب.

لقد مضت أجيال وأجيال ونحن نفرق بين الذكور والإناث، وقد شهدت بذلك آثار العرب واليهود والهنود.

فهل آن أن نعرف كيف نحب أطفالنا من البنات؟

إن البنت مخلوق نفيس وهي مصوغة من الروح والوجدان.

إن البنت هي سر الوجود، ولكن أين من يفهم المعاني؟

إن البنت هي مصدر الرفق والعطف والحنان.

إن البنت هي أصل ما نملك من الرزق لأنها ضعيفة، والله يرزقنا بفضل ما في بيوتنا من الضعفاء.

إن البنت هي التي تعرف كيف تواسي أباها أو أخاها أو زوجها وهو على فراش الموت، فاحترموا البنت وأعزوها واجعلوها من كرام الأصدقاء.

هل قرأتم سيرة المسيح؟

لقد شاء الله أن يكون ذلك النبي ابنا لامرأة تنكر لها أهلوها ليريكم أن الأمر بيد الله لا بيد الناس.

أراد الله أن يعلمكم أن تقاليدكم خداع في خداع، وأنكم لم تروا من بحار الحقائق غير أوشال.

وقد سمعت أن ناسًا من الإنجليز يتطاولون على «العذراء» في حديقة، هايد بارك فليتطاولوا كيف شاءوا، فستبقى العذراء عذارء، وإن نطحوا بقرونهم رواسي الجبال.

سيداتي وسادتي

صادقوا أطفالكم وأطفال من تعرفون بلا تحفظ ولا تهيب، فالطفل هو الزهرة الكريمة التي تنبت في الصحراء.

الطفل هو أطيب ما في الوجود، وهو الصديق الحق لو تعلمون.

الطفل هو الذي يقبل وجوهكم برفق وعطف، وكل مودة غير مودة الطفل هي رياء في رياء.

الطفل هو المؤمن بالوداد ومن سواه كفار جاحدون.

قبلة الطفل صدق في صدق، وصداقة الطفل إيمان في إيمان. فإن فاتتكم تلك القبلة وهذه الصداقة فستعيشون محرومين.

الطفل مخلوق لطيف لم يطلع على سفه الدنيا ولؤم الزمان.

الطفل يثق ويوقن، فأفهموه أنكم أهل للثقة واليقين.

الطفل يشتهي أن يحب فأحبوه.

الطفل يطمئن إليكم، فاطمئنوا إليه.

الطفل يتوكل عليكم، فتوكلوا على الله واعطفوا عليه.

الطفل يتوهم أنكم ناس، فأفهموه أنكم ناس.

الطفل هو نعمة الله فلا تجحدوا نعمة الله.

أما بعد، فإن الظفر بصداقة الطفل أمر سهل عند من يفهم أسرار الغرائز والميول، ولكنه صعب جدًا على من ينتظر من الأطفال أن يفكروا بعقول الرجال.

فارجعوا إلى طفولتكم حين ترون أطفالكم لتذوقوا معاني السعادة من جديد، ولتنسوا في صحبتهم متاعب الجد الرزين.

١  محاضرة ألقيت في محطة الإذاعة العراقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤