الفصل الثامن والخمسون

مصر والبلاد العربية

خطبة المؤلف في حفلة تكريمه بالقاهرة

أيها السادة

أشكر لأدبكم وكرمكم التفضل بالحضور للتسليم على صديق كان اغترب مدة في سبيل خدمة العلم بالعراق.

وأعتذر عن كلمة «اغترب» وأقترح حذفها من المعجمات، فهي كلمة تفردت بها اللغة العربية، ولا يكاد يوجد لها نظير في اللغات الأجنبية، وعن لغة العرب نقلت إلى الفارسية والتركية، وهي كلمة حزينة يتمثل سوادها في كلام من يقول:

وكل محب قد سلا غير أنني
غريب الهوى يا ويح كل غريب

وفي كلام من يقول:

أنا في الغربة أبكي
ما بكت عين غريب
لم أكن يوم خروجي
من بلادي بمصيب
عجبًا لي ولتركي
وطنًا فيه حبيبي

ولي مع هذه الكلمة الحزينة تاريخ، فقد سببت أول معركة أدبية شهدتها في العراق، ذلك بأني كنت نشرت مقالًا في مجلة الرسالة عنوانه: «القلب الغريب في ليلة عيد».

فعز على أدباء العراق أن أقول إني في بلدهم غريب، ودار الجدل أشهرًا حول ذلك المقال في الجرائد والمجلات.

والحنين إلى الوطن مرض لا يصيب غير الضعاف في عالم الإنسان والحيوان، فأرجو أن يكون فينا من القوة ما يعصمنا من هذا المرض العضال.

أما ما كنت غريبًا في العراق، وإنما كنت بين أهلي وقومي، وإذا صح للمصري أن يشعر بالغربة وهو في وطن عربي مثل العراق، فماذا ترونه يصنع لو هاجر إلى بلد في استراليا أو في إحدى الأمريكتين؟!

لقد آن للمصري أن يبرئ نفسه من ذلك المرض الذي يقضي بأن يتوجع حين تنقله الحكومة من القاهرة إلى حلوان، آن للمصري أن يفهم أن في دمه روحًا عربيًا يسوقه إلى الانتقال من أرض إلى أرض في سبيل المنافع العلمية والأدبية، آن للمصري أن يفهم أن رجولته لا تكتمل إلا إذا واجه المصاعب واستطاع أن يخلق لنفسه ولوطنه أصدقاء في مختلف البلاد.

وما أقول إني كنت أقوى من سائر الزملاء الذين تشرفوا بخدمة العلم في العراق، وإنما أقول إني رضت نفسي على التخلق بأخلاق أسلافنا من العرب، فرأيت الأرض كلها وطنًا أصيلًا، ولم تجر كلمة الغربة على لساني إلا تأثرًا بالميراث الحزين الذي قضى بأن تنفرد لغتنا بكلمة «غريب» من بين سائر اللغات.

ولما زار سعادة العشماوي بك مدينة بغداد دعا الأساتذة المصريين لسماع ما قد يكون عندهم من مقترحات أو شكايات، فمضيت أبحث عمن أعرف منهم لأصدهم عن حضور ذلك الاجتماع، فقد كنت أحب أن لا يكون بيننا وبين حكومة العراق وسيط، ولو كان ذلك الوسيط هو العشماوي بك الذي أحب العراق وأحبه العراق.

إن صداقتنا للعراق لا تزال في أول عهد من عهود التكوين، وهي لا تزال في حاجة شديدة إلى من يحرسها ويرعاها، وهي تستحق الحراسة والرعاية، لأنها رباط بين أمتين كانت بينهما صلات ودية من أقدم عهود التاريخ.

ولا يعرف قيمة هذه الصداقة إلا من زار العراق، فأهل العراق بمودتهم المتينة يبعثون فينا شعور الثقة بالنفس، ويفرضون علينا أن نؤمن بأن جهادنا في سبيل العلم والمدنية لن يضيع.

أهل العراق منا ونحن منهم، ولو نطقت الأحجار لحدثتكم أن علماء العراق اتصلوا بمصر ونقلوا إليها علومهم ومعارفهم يوم أراد التتار أن يقوضوا حضارة بغداد، ولعل هذا هو السبب في أن مخارج الحروف لا تتفق بين أمتين عربيتين كما تتفق بين مصر والعراق.

أهل العراق منا ونحن منهم، فالمؤلفات القديمة في معاهد مصر هي في الأغلب عراقية، والمؤلفات الحديثة في معاهد العراق هي في الأكثر مصرية.

فأرجوكم بالله أن تكونوا جميعًا أنصارًا للأخوة التي تربط بين مصر والعراق.

وقد عجب بعض الناس حين رأوني أتصدى لدفع الأذى عن سمعة العراق، فاعرفوا إن شئتم أني أدفع عن مصر دينًا ثقيلًا، فأهل العراق في أنديتهم وجرائدهم ومجلاتهم ومدارسهم يدفعون عن مصر قالة السوء ويخاصمون في سبيلها كثيرًا من الناس، ولو عرفتهم من ذلك بعض ما عرفت لرأيتم أن من القليل أن ينهض كاتب أو كاتبان للإشادة بفضائل أهل العراق.

إن القاهرة تقوم في العصر الحديث بالواجب الذي كانت تقوم به بغداد في عصر بني العباس، فمن واجب القاهرة أن تحمل من التكاليف ما حملت بغداد، بل من واجب القاهرة أن ترحب بمطلع اليوم السعيد الذي يقضي بأن يكون لها في الشرق منافس قوي هو بغداد، فتفرد القاهرة بالزعامة الأدبية قد يضر أكثر مما ينفع، لأن التفرد بالتفوق قد يخلق عيوبًا أيسرها الزهو والخيلاء والاطمئنان إلى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.

وقد بدأت هذه العيوب تظهر مع الأسف، فأهل مصر شغلتهم ثقافتهم التي اتسعت وتشعبت عن التطلع إلى ما يبدع أهل الأدب في العراق وسورية ولبنان وفلسطين والحجاز واليمن والجزائر وتونس ومراكش، وما إلى هؤلاء من البلاد العربية، وانصراف أهل مصر عن الأدب في تلك البلاد يحجبهم عن تطور الحياة في أقطار حية سيكون لها بإذن الله مكان بين الأقطار التي تسود العالم في المستقبل القريب.

ومن الواجب في مقامي هذا أن أوجه أنظاركم إلى حقيقة لا يختلف في صحتها اثنان، تلك الحقيقة هي أن مصر تنفرد بالسيادة العقلية في البلاد العربية، فمؤلفات مصر ومجلات مصر ليس لها مزاحم يخشى خطره في تلك البلاد، وشعراؤنا وكتابنا هم الذين يقدمون الغذاء الأدبي لجمهور المتعلمين في الأقطار العربية، وبفضل إقبال أولئك الإخوان على مؤلفات مصر ومجلات مصر استطاعت اللغة العربية أن تقف على قدميها بجانب اللغة الفرنسية واللغة الانجليزية، فاللغة العربية هي اليوم لغة حية حقًا وصدقًا، وهي تكافح وتناضل لتسيطر وتسود، وما كان من الغريب أن تسيطر اللغة العربية في أقطار كتب الله أن تستعرب منذ أجيال، ولكن فساد الزمن وتوالي الأحداث والخطوب جعل سيادة اللغة العربية في بلادها من الغرائب، فلنفهم ذلك ولنواصل الجهاد، ولنعرف أن من أعظم الشرف أن نكون في الحياة من المجاهدين، ولنتذكر دائمًا أن انتصار اللغة العربية في أوطانها هو البشير بأن تلك الأوطان تستعد من حيث تشعر أو لا تشعر لحياة مجيدة سترون أعلامها بعد حين.

وإخواننا العرب يعجبون من تفرد مصر بالتفوق في اللغة العربية، فإن أذنوا شرحت لهم بعض أسرار ذلك التفوق، فمصر هي الأمة الوحيدة التي استعربت استعرابًا تامًا، وصارت العربية لغتها الرسمية والقومية في مدة ترجع إلى ثلاثة عشر قرنًا، وهذا حظ لم يظفر بمثله المغرب ولا الشام ولا العراق، فما انقرضت اللغة البربرية في المغرب ولا اللغة السريانية في الشام ولا العبرانية في فلسطين ولا اللغة الكلدانية في العراق، وإنا لنرجو أن يكون لمصر يد بيضاء في رجوع اللغة العربية إلى بلاد فارس بفضل المودة الجديدة التي أنشأتها المصاهرة الملكية بين مصر وإيران، فمن المؤكد أن قادة الرأي في تلك البلاد سيراعون عواطفنا مشكورين فلا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير كما فعل إخواننا الأتراك سامحهم الله حين استبدلوا الحروف اللاتينية بالحروف العربية.

وقد وقع بيني وبين سفير إيران في العراق عتاب حين رأيته أول مرة في بغداد، ولم أكن أعرف أن الله سيخلق بيننا وبينهم صلات جديدة تجعل من الحق علينا أن نذكرهم بماضيهم الجميل في خدمة القرآن يوم كان منهم كبار النحاة وكبار اللغويين.

إن فرنسا لها مدرسة في طهران لنشر اللغة الفرنسية بين أهل إيران، فمتى يجيء اليوم الذي تقوم فيه مدرسة عربية في وطن الجرجاني والتوحيدي وابن العميد؟

لقد ألفت كتاب «النثر الفني» أول مرة باللغة الفرنسية وأنا في باريس، وكان قلبي يفيض بالحزن الدامي كلما تذكرت أن أكثر من تحدثت عنهم في كتابي كانوا رجالًا نشأوا في بلاد فارس، وأن لغة العرب في تلك البلاد صارت غريبة الوجه واليد واللسان.

وكذلك كان حالي حين ألفت كتاب «التصوف الإسلامي» فقد رأيت أن أطيب أرواح التصوف هبت علينا من الأقطار الفارسية.

فيا أصدقاءنا الأعزاء في إيران تذكروا، ثم تذكروا، تذكروا وأنتم مسلمون أبرار أن اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة الرسول، وتذكروا أن الأمم العربية لها في العالم السياسي والأدبي والاقتصادي موازين، وأنها خليقة بأن تزيدكم قوة إلى قوة حين تراكم ترحبون باللغة العربية التي كان لها في بلادكم أبناء وأحفاد وأسباط.

أيها السادة

تلكم مكانة مصر بين الأمم العربية والإسلامية، وذلكم حظها بين الممالك والشعوب، وهذا التجاوب الأدبي بيننا وبين من نعرف ومن لا نعرف لم يقع من باب المصادفات، وإنما هو علامة حب صادق يضمره لمصر من عرف فضلها من الرجال.

وأخشى والحزن يفعم قلبي أن يكون ما ظفرنا به من المجد الأدبي ميراثًا تلقيناه عن أجدادنا النبلاء الذين ملأوا الدنيا بالتأليف والتصنيف وجعلوا مصر تاجًا تزدان به هامة اللغة العربية، أخشى أن لا تكون لنا سياسة مرسومة تفكر دائمًا في حفظ مكانة مصر بين الأمم العربية، أخشى أن نجهل نعمة الله علينا فننسى أننا أغنى الأمم العربية بالأموال والرجال، أخشى أن لا نعرف أن الجهاد في سبيل اللغة العربية هو مجد أبقى على الزمن من الأهرام ومن قصر الكرنك وقصر أنس الوجود.

إن اللغة العربية هي التي ستجعل لنا لسان صدق في الآخرين، وهي التي ستسطر محامدنا على جبين الزمان.

والذي أدعوكم إليه هو تجارة لا تعرف غير الربح.

فإن كنتم في ريب من ذلك فسيروا في الأرض وانظروا كيف تذكر مصر بالحمد والثناء.

إنني أفرض زيارة الشرق على رجلين: الأول وزير المعارف، والثاني وزير الخارجية.

أما وزير المعارف فهو اليوم معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا، وليته كان في بغداد كما كنت في بغداد يوم ظهر كتابه عن منزل الوحي، ليته كان هناك ليرى كيف استقبل البغداديون كتابه بموكب لم يعرفه القاهريون، وأما وزير الخارجية فهو اليوم دولة عبد الفتاح يحيى باشا، وليته يرى كيف يأنس أهل بغداد إلى صوره الكاريكاتورية في الجرائد والمجلات، إنه لو رأى ذلك لعرف أن مصر لا تعيش وحدها وإنما تعيش في أنس بأصدقائها في الشرق.

ولن أنسى اليوم الذي زرت فيه نادى المعارف في بغداد مع سعادة الأستاذ طه الراوي فقد رأيت مكتب رئيس النادي يزدان بصورتين كريمتين صورة الملك فاروق وصورة الزعيم سعد زغلول.

ولما زرت النجف أراد أدباؤه أن يقدموا إليّ هدية فكانت تلك الهدية هي صورة الرجل الموفق محمد العشماوي بك وكان قد زار النجف واستقبل فيه أكرم استقبال.

ولما زرت الموصل رأيت رئيس نادي الجزيرة أحد تلاميذي القدماء فأحسست أني في داري وبين أهلي.

فيا أهل مصر متى تعرفون نعمة الله عليكم؟ ومتى تؤدون للأمم العربية واجب الوفاء؟

إن الذي كتب أن تكون عاصمتكم عروس الشرق هو وحده القادر على أن يجعلكم أهلًا لرعاية العهد وحفظ الجميل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤