السُّكَّرية

في المنطقة السكنية التي انتقلتا إليها كلٌّ من عائشة وخديجة للإقامة في منزل زوجيهما، منذ أحداث «بين القصرين».
وفي الروايات الثلاث لم يصف محفوظ المكان بدقة، وإنما اهتمَّ بوصف الأشخاص وسيرة كلٍّ منهم من أُسرة أحمد عبد الجواد، لذا فإن الديكور الذي وضعه مهندس المناظر في هذه الأفلام يرجع إلى مفهوم هذا الأخير أكثر من رؤية الكاتب، فالدار في «بين القصرين» واسعة تتكوَّن من دورين وسلالم خشبية، أمَّا الشقَّة في «قصر الشوق» فهي شقَّة صغيرة، سبق أن شاهدناها في الفيلم الأول، بينما الشقَّة في «السكرية» تقع في منزل عصريٍّ، يتكوَّن من عدَّة أدوار حسب المشهد الذي قامت فيه الشُّرطة باقتحامه للقبض على كلٍّ من أحمد الاشتراكي، وأخيه عبد المنعم أحد أعضاء الإخوان.
في بداية فيلم «السُّكَّرية» قدَّم لنا السيناريست ممدوح الليثي أبطاله للمُشاهد الذي سيرى الفيلم كعمل منفصل من خلال تعليق يقرؤه معلِّق في مساحةٍ زمنيةٍ غير قصيرة، وكان «قصر الشوق» قد قدَّم مشهدين قصيرين للمظاهرات ورحيل فهمي، أمَّا المعلِّق في «السُّكَّرية»، فقد قام بتعريف المُشاهد بالأشخاص وظروفهم، لمن لا يعرف أو لا يتذكر أو يشاهد لأول مرَّة، وقد بدا التعليق مدرسيًّا على طريقة السيد أحمد عبد الجواد، إنه يسير مهدمًا تحت ثقل الأمراض والسنين وهموم الأبناء والأحفاد، يعود إلى بيته مبكرًا، ثُم «أمينة» سيدة البيت الوفيَّة، لم يبقَ لها من قدرة سوى خدمة السيد، ولم ينسَ التعليق كافَّة الشخصيات مثل الخادمة أم حنفي التي صارت واحدة من الأُسرة، وبعد التعليق نزلت العناوين على شكل صفحات من الرواية.
الحوار هنا ليس في قوة ما كتبه يوسف جوهر، وقد اتضح ذلك في المشهد الأول الذي يعاكس فيه ياسين إحدى النساء، ويقول لها كلامًا ساذجًا لا يتفق مع خبرته الكبيرة في اصطياد النساء، مثل «حرام التقل ده.» فإذا به يُفاجأ أن المرأة التي يغازلها هي أخته خديجة، ويدور بينهما حوار كله عتاب منها وارتباك من طرفه، لكن أهم ما في الأمر أن خديجة تختلف عن أمِّها؛ فهي فاتنة، سليطة اللسان، تخرج من المنزل في ساعةٍ من الليل، ولو لم يكُن ياسين أخاها لتقبَّلت هذا الغزل.
تبدأ الرواية بأمينة التي ستختفي صورتها تمامًا في الفيلم لرحيل الممثلة آمال زايد، وقد أحاطتها ثلاث نسوة اجتمعن حول المجمرة، هنَّ: أمُّ حنفي، وعائشة، ثُم ابنتها نعيمة، ويصف الكاتب ما حالت إليه عائشة ذات الأربع والثلاثين عامًا، كما تحدَّث عن أمِّ حنفي وأعطاها أكبر مساحة من الحديث في الروايات الثلاث، وعائشة هنا تختلف عن أمِّها؛ فهي تدخِّن السجائر، وهي تخاف على نعيمة فلا تجعلها تقوم بأعمال المنزل، ونعرف أن الجدَّ لم يسمح لنعيمة بالاستمرار في الدراسة، وقد ردَّدت أمينة لحفيدتها تصف عائشة أنها كانت زين أيامها، ثُم صارت عبرة الأيام.
تبدأ الرواية في زمن الراديو، أيْ بعد عام ١٩٣٤م، وقد صار الأحفاد كبارًا، أيْ بعد سبعة أعوام على الأقلِّ من أحداث «قصر الشوق»، حيث كان رضوان ابن ياسين صبيًّا في الثانية عشرة من العمر.

وفي الفصل الأول أيضًا نتعرَّف على ملامح البيت، فالأب يسأل ولده كمال: أين كنت يا أستاذ؟ باعتبار أن كمال يحبُّ هذه اللهجة الودِّية اللطيفة، ويتحدثان معًا في السياسة، ونعرف أن كمال يقرأ ويكتب بلا نهاية.

في الفصل «٢» يُبدي جميل الحمزاوي رغبته في اعتزال العمل، وهذا المشهد ظهر متأخرًا في الفيلم، ولكن في الرواية فإن فؤاد ابنه لا يزال في النيابة بالصعيد، وأمامه سنة للعودة إلى القاهرة، أمَّا في الفيلم فقد تمَّ المشهد بعد أن جاء إلى القاهرة، وتصوَّرته الأُسرة حين جاء لزيارتها أنه سيتقدَّم لخِطبة كريمة، ابنة زنوبة، لكن الظنون تخيب أمام التعالي الذي تعامل به فؤاد الحمزاوي.
المشهد الثاني في الفيلم بطله عبد المنعم، ابن خديجة، الذي يجد جارته تنتظره عند الباب، وهو شابٌّ مُلتحٍ منضمٌّ إلى الإخوان دون ذكر اسمهم، على الأقل في الفيلم، فيلامسها ويقبِّلها، وهو الذي سيشعر بالندم بعد ذلك، وسوف يتزوج من ابنة خالته نعيمة التي ستموت أثناء الولادة.
في الفصل «٢» من الرواية سوف تأتي زبيدة لزيارة عبد الجواد في دكانه، وقد ترهَّل جسمها، وهي تُرهقه بالمطالب، وفي الفيلم لم تظهر زبيدة سوى مرَّة واحدة، حين جاءت لتأخذ «حسنة»، أمَّا في الرواية فهي تطلب منه أن يجد شاريًا لمنزلها، وهذا المشهد ظهر في وقتٍ متأخرٍ من الفيلم مع رقصة، ونفهم أن زبيدة «السلطانة» هي أخت جليلة التي ستظهر هنا بوجه تحية كاريوكا، والتي سوف تستقبل كمال في بيتها عندما يهرب من رصاص الإنجليز، فتسوقه المصادفة إلى هناك وتمنحه إحدى البنات لليلة.

أيْ إن السيناريو في الفيلم قد قام بانتقاء الأحداث وترتيبها أو إلغاء الكثير منها حسب منظور كاتب السيناريو الخاص.

وباعتبار أننا أمام رواية عائلية فإن الفصل «٣» يشهد لمَّة أُسرة عبد الجواد في «بين القصرين»، ويتمُّ استعراض أفراد الأُسرة الذين يتولَّون أدوار البطولة في الرواية والفيلم، وهم أحمد إبراهيم شوكت، الاشتراكي الذي سيعمل صحفيًّا، وأخوه عبد المنعم الذي سينضمُّ إلى الإخوان المسلمين، ورضوان ابن ياسين من زينب، وكريمة ابنته من زنوبة، ونعيمة ابنة عائشة الذي مات زوجها، ويتحدث الكاتب عن أعمارهن، مثل زنوبة التي بلغت السادسة والثلاثين، والتي لاقت الاحترام من بقية الأُسرة رغم ماضيها.
وفي الفيلم سوف نحسُّ بأشياء أخرى من إيقاع الحركة، قد لا تدركها في الرواية؛ فالشَّعر الأشيب وثقل الحركة صارا من سمات ياسين، وعبد الجواد لا يغادر البيت إلا لمامًا، فيها مرَّة التقى أصدقاءه القُدامى الثلاثة، وهي المرَّة التي قابل فيها عبد الجواد زبيدة التي سبقته إلى الدكان.

في الرواية صار كمال في الثامنة والعشرين من العمر، يعمل مدرسًا، ولم يتزوج بعدُ «إني مشغول نهاري بالمدرسة وليلي بمكتبي.» وهو يردِّد أنه سوف يتزوج عندما يرغب في ذلك، يؤمن في داخله أن الزواج مُهمٌّ، لكنه لم يسعَ إليه. وفي هذا الفصل يلتقي كمال ورضوان في ميولهما الوفدية.

ألغى الفيلم وقائع الفصل «٤» الذي دار في الترام، حيث يتحدث الناس عن دستورَي ١٩٢٣، ١٩٣٠م، ثُم ذهاب كمال إلى مؤتمر انتخابي تحوَّل إلى مظاهرة، انتهت بتدخُّل الشُّرطة، أمَّا الحوار الذي جمع بين الأصدقاء في الفصل «٥» بعد غيابٍ طويل فإن إبراهيم الفأر يقول إن جليلة وقعت في حبِّ عربجي كارو تركها على الحديدة، وهي الآن تقيم بحجرة على سطح بيت سوش العالمة في حالٍ من الاضمحلال، أمَّا جليلة في الفيلم فسوف تستقبل كمال كما فسَّرنا من قبل.
الاختلافات واضحة بين الفيلم والرواية، فقد تمَّ إلغاء شخصية إسماعيل لطيف الصديق الأقرب لكمال، الذي رأيناه في الفيلم شِبه وحيد في الحياة العامة، وجعل كمال يستقي المعلومات عن حسين شداد وأخته من الأخت الصغرى بدور التي سيتأخر ظهورها إلى الثلث الأخير من الفيلم، وهي المعلومات التي استقاها في الفصل «٦» من إسماعيل.
عاد محفوظ إلى تسييس روايته بنفس القوة التي حدثت في الفصول الأخيرة من «بين القصرين»، وقد حسر أخبار السياسة من فصلٍ لآخر، بطريقة لم تحدث حتى في رواياته الأخرى؛ فهو يتحدث تارةً عن اليوم القوميِّ، وفي الفصل «٧» يتحدث عن الزمن من خلال رحيل توفيق نسيم عن رئاسة الوزارة لدرجة أن محاميًّا يقول: أنقذونا من السياسة، ما زلنا نسكَر ونمزُّ بالسياسة حتى أخمدت أنفاسنا.

أمَّا الفيلم فقد قام بتكثيف هذه السياسة إلى أقلِّ قدرٍ ممكن مقابل التركيز على مسيرة حياة الأُسرة، خاصةً أن ياسين هو الشخصية الأساسية هنا في الفيلم، يليه كمال، وكذلك في الرواية، حيث نفهم من الرواية أن زنوبة فقدت ابنها الوحيد من زوجها، وأن كريمة قد صارت في السادسة عشرة.

وقد قام الفيلم بتبكير موعد ذهاب كمال إلى منزل العوالم، بينما اهتمَّت الرواية بالجيل الجديد، وعلى رأسهم رضوان (١٧ سنة)، حيث يتحدث عمَّا يتمتَّع به رضوان من وسامة وجاذبية في الفصل «٨»، ويتحدث عن صداقته لحلمي عزت، والذي سيعرِّفه إلى السياسيِّ عبد الرحيم باشا الأعزب الذي سيقدِّمه الفيلم بشكلٍ مختلف؛ حيث رأى الباشا رضوان لأول مرِّة في السُّرادق السياسيِّ، وقد بدا أن الرجل معجب جنسيًّا بالرجال مثله، فيطلب من رضوان أن يأتي مع حلمي إلى بيته.

يذهب حلمي مع صديقه في الفصل التاسع إلى بيت الباشا، ويدور حوار طويل تمَّ اختصاره في الفيلم بشكلٍ ملحوظ. وفي الرواية يُبدي الباشا إعجابه برضوان، ونفهم أن حلمي هو عشيق الباشا مثلما سيصبح رضوان، فالباشا ينادي حلمي في نهاية الفصل ﺑ «يا شقي»، أمَّا الفيلم ففيه قال الباشا كل ما يريد من خلال نظراته الشَّبقة إلى الوافد الجديد رضوان.

في الفصل «١٠» يبدو الجانب الفكري لأحمد شوكت، وهناك مشهد مشابه له في الفيلم؛ فالابن الاشتراكي، أو لنقُل الشيوعي، يعبِّر عن أفكاره في أنه من حقِّ الناس أن يملكوا بيوتًا، ويتضح الخلاف بين الأخوين عبد المنعم وأحمد؛ فالأول يرى كل شيء من رؤية دينية، أمَّا الثاني فهو ماركسيُّ الفكر.

ورغم اختلاف المشارق الفكرية عند الأخوين فإنهما متحابَّان، يخرجان في الفصل «١١» إلى الموسكي، ويتأبَّط أحدهما ذراع الآخر، ويتحدثان عن موت الملك فؤاد؛ مما يعني أن الأحداث تدور عام ١٩٣٦م، لكنهما يظلان يتحدثان في السياسة، وهذا المشهد ألغاه السيناريو.

حيث يقول عبد المنعم: «تمنيت أن يمتدَّ بي العمر حتى أرى العالم وقد خلص من كافَّة الطغاة على كافَّة اختلاف أسمائهم وأوصافهم.»

وفي هذا الفصل يلتقيان بالجدِّ ويخبرانه أنهما كانا يعرجان مع جنازة الملك فؤاد، ويستكمل الاثنان الحوار حول جدِّهما، حيث يبدو أن الاختلاف في وجهات النظر بينهما يصل إلى درجة الإعجاب بجدِّهما؛ فأحمد يراه أنيقًا ظريفًا، ملأ أنفه شذا طيب، أمَّا الآخر فيراه صاحب جبروت. وينتهي المشهد بلقاء الأخوين بالشيخ علي المنوفي الذي يدخل معه أحمد مضاربة حوارية.

صار هناك أبطال جُدد في الرواية، والمشهد الذي رأيناه رقم «٢» في الفيلم تحوَّل إلى الفصل «١٢» في الرواية؛ حيث يعود عبد المنعم ليلتقي جارته التي يعانقها ويستقبلها بنَهم، ويكشف عن جانبه النَّزِق، رغم تديُّنه، ثُم يصعد إلى شقَّته كي يستحمَّ ويصلي.

وفي الفصل «١٣» يذهب أحمد إلى مبنى مجلة «الإنسان الجديد»، حيث سيلتقي لأول مرَّة بالفتاة سوسن التي تعمل في الصحيفة، وتخبره أن مقاله سيُنشر مختصرًا في العدد القادم. ويبدو هذا المشهد كأنه قد نُقل بشكلٍ أمين إلى الفيلم، مع إلغاء شخصية رئيس التحرير عدلي كريم، وتحوَّل إلى الفتاة سوسن التي تعمل بالتحرير التي ستظهر في آخر الحوار، لم يشأ الكاتب أن يشرك الفتاة في حديثها إلى أحمد أحدًا، لكن الرواية فعلت ذلك.

ظهر فؤاد الحمزاوي في الرواية أكثر مما ظهر في الفيلم، ويبدو من ذلك أن السيناريو قد أدغم أكثر من لقاء معًا، وحذف ما يشاء من شخصيات، ونفهم من الحوار في الرواية أن الحمزاوي الأب لم يفهم نوايا ابنه جيدًا في الزواج.

وإذا كان أحمد يتردَّد على مجلة «الإنسان الجديد» فإن كمال يتردَّد على مجلة «الفكر» التي يسعى أيضًا أن يكتب بها مقالاته، وهو جانب مُهمٌّ من حياته ألغاه السيناريو تمامًا، فكمال معجب ﺑ «برجسون» أمَّا ابن أخته فمعجب ﺑ «لوبون»، وبالتالي فلم يأتِ الحوار الذي دار بين رياض قلدس، وكمال في الفيلم حول الأديان. وعقب فراقه عن صديقه الجديد، ذهب كمال إلى بيت جليلة الذي يعرفه جيدًا حيث استقبلته صاحبة الدار التي يناديها ﺑ «عمتي»، وتناديه «يا ابن عبد الجواد». ونفهم من الحوار أنها ليست المرَّة الأولى، فهناك لقاء سابق أو لقاءات مع العاهرة عطيات «عطية»، فراحت تخلع ملابسها أمامه، وشرب الكأس الثانية «هذه المرأة أشتهيها منذ زمن، وحتى متى لا أدري، الشهوة سلطان.»

في الفصل «١٧» يطلب عبد المنعم من أبيه أن يزوِّجه ليحفظه من جارته التي يقبِّلها بشكل محرَّم، وهو لا يزال في الثامنة عشرة، ويلحُّ الابن في الطلب، فتكون العروس هي نعيمة.

عادت السياسة بشكلٍ واضح في الفصل «٢٠» الذي تمَّ إلغاؤه من الفيلم، من خلال حوار بين عبد المنعم وأخيه في حضور رضوان وحلمي عزت الذي يقول: إن الإخوان المسلمين جمعية دينية تهدف إلى إحياء الإسلام علمًا وعملًا. ومن خلال هذا الحوار نكتشف التغيُّرات الاجتماعية التي تشهدها مصر؛ فالبنات يلتحقن بكليات الجامعة، خاصةً الآداب، ويردِّد أحمد بشكلٍ واضح أنه لا يؤمن بالأديان، وقد تمَّ تجاهل كل هذا الحوار تمامًا في الفيلم باعتبار أن السينما كيان مؤمن معتدل، ومثل هذا الحوار دار أيضًا بين أحمد عبد الجوَّاد وأقرانه في الفصل «٢٢»، لكنه حوار بين رجال صاروا شيوخًا، وضاع العمر هباءً.

وعليه فإن الرواية أكثر اصطباغًا بالسياسة، ففي الفصل «٢٣» يقول كمال لصديقه رياض قلدس إن «فاروق ثبت الآن أنه كأبيه»، ويردِّد رياض: «إني حرٌّ وقبطيٌّ في آن، بل إني لا دينيٌّ وقبطيٌّ معًا.» وفي الفيلم ماتت نعيمة فور زواجها، وكأن شهور الحمل كانت صفرًا، أمَّا عُسر الولادة فقد ظهر في الفصل «٢٤»، حيث نعرف أن الطبيب تنبأ لها يوم مولدها بأن قلبها لن يسعفها على الحياة بعد العشرين.
قام السيناريو بترتيب الأحداث حسب رؤيته هو، وليس حسبما كتبه محفوظ، فقد سبق لأحمد أن التقى سوسن في المجلة قبل أن يلتقي بعلوية صبري في مكتبة الجامعة ويتعرَّف عليها، وهي العلاقة التي ستكون شبيهة بعلاقة كمال بعايدة في «قصر الشوق»، والمشهد الذي تمَّ تصويره في الفيلم بين الاثنين يكاد يكون نسخة طِبقَ الأصل، سبق أن شاهدناه في فيلم «قصر الشوق»، حيث ستذهب الفتاة بعد أن تعلن للفتى الذي يحبُّها أن حبَّه لها مكتوب عليه الفشل.

أمَّا الفصل «٢٦» ففيه يتصل ياسين بابنه رضوان يطلب منه خدمة، ونرى ياسين يذهب لأول مرَّة إلى مكتبه، ونفهم أننا في عام ١٩٣٨م، حيث سيظلُّ عبد الجواد في منزله، تناوله أمُّ حنفي الدواء، وهو هذه المرَّة يطلب من عائشة أن تخرج مع أمِّها لزيارة الأضرحة المباركة، وهو مشهد غير موجود في الفيلم، وفي هذا المشهد نفهم أن أمينة تقوم بجولة يومية، لقد صارت في الثانية والستِّين، وتبدو أكبر من سنِّها بعشرة أعوام على الأقل، وبكل إذلالٍ يقول الزوج: أيصحُّ أن تتركيني وحدي كل هذا الوقت؟

في الفصل «٢٩» يذهب أحمد إلى فيلا مستر فورستر لحضور حفل يقيمه الأستاذ بمناسبة سفره إلى إنجلترا في إجازة صيف، وقد تمَّ اختصار المشهد كثيرًا في الفيلم بفتاة ستكون علاقته بها أشبه بعلاقة خاله كمال بعايدة مع اختلاف التفاصيل «إنكِ تريدين زوجًا ثريًّا.» وهذه العلاقة ستؤهِّله للارتباط بسوسن التي سبق أن قابلها؛ بمعنى أنه سرعان ما تجاوز الأزمة، عكس ما فعله كمال، ومع حلول الفصل «٣٠» ستكون الحرب العالمية قد بدأت، من خلال ما قاله إسماعيل لطيف أنه أخطأ بإحضار زوجته للقاهرة بسبب الغارات، وهو أيضًا غير موجود في الفيلم بالصورة نفسها. أما الفصل «٣١» ففيه أكَّد المؤلِّف أن البيت القديم اتخذ مع الزمن صورةً جديدةً تُنذر بالانحلال والتدهور. انفرط نظامه وتقوَّض مجلسه، حيث يغيب كمال في المدرسة، وتمضي أمينة إلى جولتها الروحية ما بين الحسين والسيدة، ويتمدَّد عبد الجواد في حجرته، وتهيم عائشة على وجهها ما بين السطح وحجرتها، ومثل هذا الوصف يحتاج إلى سيناريو محنَّك. وقد وصف المؤلِّف هذا التغيُّر بحنكة وتفاصيل دقيقة، وقد أغفل السيناريو أيضًا الجزء الغالب من الفصل، لكنه وصف ما يحدث لعبد الجواد أثناء الغارات، فهو مسنود على أيدي أبنائه. وفي الفصول التالية، نسمع عن أبطال الرواية أنهم قد ماتوا، وأن العجوز عليه أن ينتظر دوره، وقد تغيَّر أسلوب حياته تمامًا.

وعلى طوال الفصول تنتقل الأحداث بين البيوت الثلاثة، ويكبر أبطال الرواية الذين يحصلون على الشهادات، وقد بدا أن دور رضوان متقلِّص في الرواية، بينما زادت مساحته في الفيلم، وهناك إشارات واضحة أن هناك علاقة مثليَّة بين رضوان والباشا، وأن الأخير هو الجانب الموجب. وقد بدا كمال ضيِّق الأفق في علاقاته، فانتقالاته تتمُّ بين السُّكَّرية والمقهى، وتزداد مساحة التعرُّف على الجيل الجديد، مثل نموِّ علاقة سوسن بأحمد، وهي فتاة صاحبة موقف، تختلف عن كل نساء الثلاثية؛ فهي تعمل، وصاحبة رأي ومجادلة عن معرفة وثقافة. بينما يذهب كمال الذي صار في الرابعة والثلاثين إلى صالة جليلة، ونعرف أنه لجأ إلى رضوان ابن أخيه كي يوقف نقله إلى أسيوط، وينادي جليلة: «عمتي».

وعلى سبيل المثال فإن المؤلِّف يذكر مسألة لجوء كمال إلى ابن أخيه في سطرٍ واحد، أمَّا الفيلم فقد خصَّص له مشهدًا بأكمله، وقد تتبَّعت الرواية مسيرة كمال في الحياة في أكثر من فصل، متنقلًا بين صالة جليلة إلى بيته، إلى أن استدعى الأمرُ إحضارَ الطبيب للأب، الذي شهق شهقةً عميقة، ثُم ارتمى على صدر ابنه، وقد صوَّر الفيلم رحيلَ الأب بنفس الصورة التي جاءت في الرواية، دون كلماتٍ مثل التي قالها إبراهيم شوكت: «قضت عليه الغارة، رحمه الله رحمةً واسعة، كان رجلًا ولا كل الرجال.» وقد أوجز الفيلم في مراسيم الوفاة والدفن.

وعليه فقد تجاهل الفيلم تمامًا الحوار الداخليَّ للابنة التي أحسَّت بأن البيت خلا من سيدها، وكما سبقت الإشارة فقد تمَّ إلغاء دور أمينة تمامًا في الفيلم، أمَّا الفصل «٣٨» فقد دار كله على لسان أمينة، وفي الفيلم انتقل الحدث مباشرةً عقب موت الجد، كما في الرواية برغبة عبد المنعم في خِطبة كريمة ابنة ياسين من زنوبة، وهي التي لم تبلغ سوى السادسة عشرة، والمفارقة التي تأتي على لسان خديجة أن ابنها «شيخ الإسلام» سيصاهر عالمة. ونفهم أن هذه الخِطبة سوف تحدث بعد مرور أربع سنوات على رحيل نعيمة.

تأخَّر ظهور الفتاة بدور في الفيلم والرواية إلى الفصول الأخيرة، وفي الفيلم يراها كمال في الشارع فتلفت أنظاره، ثُم يتكلمان وتخبره أن اسمها بُدور عبد الحميد شداد، أيْ إنها شقيقة حبيبته القديمة عايدة «الأيام فاتت بسرعة»، وهو ينظر إليها فقط على أنها شقيقة عايدة، يعرف منها أخبار أخويها، ويدهشها هذا الأمر في الفيلم، أمَّا في الرواية فإن إسماعيل هو الذي يذكِّر كمال بعايدة ويُبلغه أخبارها، وذلك قبل أن تظهر بُدور بفترة، حيث يلتقيها في ترام العباسية عائدةً من الجامعة الأمريكية.
وفي الفصول الأخيرة من الرواية ازداد النشاط الشخصيُّ لكلٍّ من الشقيقين أحمد وعبد المنعم سواءً على مستوى العمل العام أو العاطفيِّ، وقد صارا بطلَي الأحداث في كلٍّ من الفيلم والرواية، لدرجة أن المشهد الأخير يصوِّرهما، وقد تمَّ القبض عليهما، على خلفية موسيقى بلادي بلادي، وأجراس الكنائس، والأذان في المساجد، وهتاف «يحيا الهلال مع الصليب»؛ بما يذكرنا بالأجواء التي كان عليها زمن «بين القصرين»، وهو أمر يخصُّ المُخرج في المقام الأول، أمَّا في الرواية فقد حدثت زيجات في أُسرة خديجة، أمَّا كمال فإنه في الفصل «٤٥» شاهد أمَّ حبيبته عايدة بعد سبعة عشر عامًا من أحداث «قصر الشوق»، كما التقى بُدور عن قصد، وفي الفيلم مرَّت سنوات الحرب الخمس من خلال استعراض راقص هزيل، ومانشتات الصحف، وقبل نهاية الحرب جلس كمال إلى مكتبه يكتب «يحيا كل شيء، ويسقط كل شيء.»
في الرواية يشكو رضوان أن ثروة جدِّه عفت قد آلت إلى زوج أمِّه، وهو أمر لم يهتمَّ به الفيلم بالطبع، أمَّا ياسين فيردِّد: «تزوجت ثلاث مرات، ولكنني لم أُزفَّ مرَّةً واحدة.» وقد أغربت بُدور بعينها عن كمال في الفصل «٤٧» عندما التقته في شارع عماد الدين، واتجه بعد ذلك إلى بيت جليلة.

في الفصل «٤٩» هناك إشارة أن إبراهيم شوكت بلغ السبعين، أمَّا خديجة فإنها تشعر أن زوجتَي ولدَيها قد مرَّ على زواجهما عامٌ دون أن ينجبا، وفي آخر الفيلم هناك إشارة أن كريمة سوف تلد في الأسبوع نفسه، فتردِّد الجدة: الولد ح يخرج للدنيا ح يلاقي أبوه في السجن. ويردِّد ياسين حول أمينة التي تحتضر: أنا عمري ما حبيت أمي زي ما حبيت الست أمينة، ما كانتش بتفرق بيننا، كانت شايلانا كلنا فوق دماغها.

وقد تمَّ تصوير رحيل أمينة من لقطات بعيدة دون الاقتراب من وجهها، أمَّا الفصل «٥٠» في الرواية فإن عبد الرحيم باشا سوف يؤدِّي فريضة الحج، بينما يردِّد حلمي: «إن الأعزب العجوز مثلي يلتمس الأنس ولو في الجحيم.» وهذا الفصل بحواشيه غير موجود قطُّ في الفيلم، كما أنه تمَّ إلغاء اللقاء الذي قابل فيه كمال زميله القديم حسين شداد، وقد حدث اللقاء عام ١٩٤٤م، فقد رحل هتلر وموسوليني، ونعرف أنه عاد من أوروبا قبل عام، ويعرف من حواره معه أن بُدور تزوجت في العام الماضي، وأن عايدة قد طُلِّقت قبل أن تموت، وكل هذه المعلومات لم يتوقف عندها الفيلم.
بينما اهتمَّ الفيلم بزيارة المأمور محمد لبيت إبراهيم شوكت من أجل القبض على عبد المنعم وأخيه؛ أحدهما بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين، والثاني للشيوعية، إنه الضابط القديم الذي كان يحب عائشة، ويقوم باعتقال الأخوَين على موسيقى تصويرية لأغنية «حمامة بيضا»، ويحاول أن ينصح الشابَّين، ونعرف أن كريمة على وشك الوضع، أسوةً بأن رواية «قصر الشوق» انتهت وزنوبة تكاد تلد كريمة، أيْ إن أحداث رواية «السُّكَّرية» كلها تعبِّر عن عمر كريمة.
الفصل الأخير من الرواية يشهد إصابة أمينة بالتهابٍ رئويٍّ قبل أن تروح في شلل وغيبوبة، وهو الحدث الذي ظهر في المشاهد الأخيرة من الفيلم الذي انتهى بترحيل أحمد وأخيه، وفي السطور الأخيرة من الرواية نعرف أن أحمد تمَّ ترحيله إلى جبل الطور، وتظهر شخصية الشيخ متولي عبد الصمد الذي تجاوز المائة عام وعشرة أعوام، بينما يدخل ياسين إلى أحد المحلَّات لشراء لوازم المولود المنتظَر. إنها الحياة والموت اللذان يلتقيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤