مقدِّمة

هذه عجالةٌ في مذاهب الحكم التي تشيع في القرن العشرين، وقد صدق من قال: «لكل زمان دولة ورجال»، ويصدق مثله من يقول: إن لكل دولة مذهبًا في الحكم وفلاسفة يسجلون ذلك المذهب أو يروجونه، ولعل هذه المذاهب دليل محسوس على خطأ الذين يقولون ببقاء نظام الحكم على حال واحدة لا يتبدل منها غير الأسماء والعناوين، فإن التطور في مهام الحكومة وفي نظر المحكومين إليها يتجلى في عرض مذاهب الحكم منذ وُجدت للحكم فلسفة إلى أن ترددت مذاهبه التي تشيع بيننا اليوم في القرن العشرين.

وقد تطور الحكم قبل ظهور المذاهب الفلسفية التي تشرح قواعده ونظرياته، وانتقل الناس من تأليه الملوك إلى الإيمان بولايتهم الملك من عند الله، إلى الفصل بين السلطان الإلهي والسلطان الإنساني قبل انتشار الفلسفة السياسية وقبل انتشار الفلسفة على الإجمال، وكانت الأديان الكتابية الثلاثة آية بالغة من آيات هذا التطور البعيد، فكِتاب العهد القديم سِجلٌّ لزعامة النبي وزعامة القاضي وزعامة الملك مع الجمع بين الحكم والقداسة الدينية في حين والفصل بينهما بعد ذلك الحين، وخطبة السيد المسيح على الجبل دستور كامل للإنسان الصالح الذي ترتضيه المسيحية السمحة في كل مجتمع وفي ظل جميع الحكومات، والدين الإسلامي قد فصَّل مذهبه في الشورى والمساواة واحترام الإجماع، وسؤال أهل الذكر تفصيلًا يتناول أصول الحكومة ويوافق تطورها مع الزمن، وكانت هذه الأديان حجة لطلب الإصلاح، والكف من طغيان الإنسان في جميع العصور.

ونود في هذه المقدِّمة الموجزة أن نربط حلقات السلسلة من العصور القديمة إلى العصر الحديث؛ لأن الحلقات التي صيغت في القرن العشرين أو شاعت خلاله لم تكن لتصاغ من معدنها هذا لولا ما تَقدمها من حلقات الحكم القديم والفلاسفة الأولين، وغني عن القول أن هذا البيان لن يكون إلا تلخيصًا مجملًا غاية الإجمال على القدر الذي يكفي هنا للتمهيد المطلوب.

تفلسفَ حكماء اليونان في مسألة الحكم كما تفلسفوا في سائر المسائل التي عَرضت لعقل الإنسان في الزمن القديم، وأعانهم على فلسفتهم أنهم جاءوا بعد فترة من التجارب الحكومية في أثينا وسبرطة كفيلة بأن تمد الفيلسوف بالزاد الضروري للمقارنة والمقابلة بين هذه التجارب المتوالية، ويضاف إليها ما عرفوه من صراعهم مع دولة فارس، ومن صلاتهم الودية مع الدولة المصرية، فكان القرن الرابع قبل الميلاد فترة صالحة للتعقيب على تجارب الحكم وأنواعه في عدة أقطار أجنبية أو وطنية تتفق في الوطن وتختلف بالمعيشة والعادات، كما يختلف الأثينيون والسبرطيون.

وقبل أن يصبح مذهب الحكم في اليونان فلسفة كان قد أصبح من الملاحظات الواقعية التي يدونها المؤرخون، فكتب هيرودوت قبل مولد أفلاطون يقول في المساواة: «إنه من الواضح جيدًا في هذه الحادثة ومثيلاتها المتعددة أن المساواة شيء عظيم، فقد كان الأثينيون ولا فضل لهم على مَن جاورهم في الشجاعة أيام خضوعهم للطغاة، فما هو إلا أن نفضوا عنهم نيرهم حتى تقدموا إلى الرعيل الأول بين الجميع، وتَبيَّنَ من هذا أنهم رضوا بالهزيمة حين كانوا مقهورين يعملون للسيد المسلَّط عليهم، فلما ملكوا زمامهم حرصَ كل منهم على أن يبذل غاية ما في وسعه لنفسه.»

ولو أن هيرودوت قد امتد به الأجل حقبة قصيرة لاستطاع أن يزيد على دليله هذا دليلًا جديدًا على فضيلة الحرية، وهي ارتقاء الفكر ونبوغ الفلاسفة الذين يلقون أنوارهم على المسألة بحذافيرها، ويتناولون قواعد الحكم وحقوق المحكومين على وجوهها المتقابلة كما تناولها أفلاطون وتناولها من بعده تلميذه أرسطو ومريدوه.

فهذان الفيلسوفان قد تقابلا في مذاهب الحكم كما تقابلا في غيرها من المذاهب العلمية والعملية، وكانا كالقطبين المتقابلين للدائرة الواحدة، فكل منهما طرف يكشف محاسن رأيه ومآخذ الرأي الذي يعارضه، وتتم الدائرة على سعتها بهذين القطبين المتقابلين.

كان أفلاطون (٤٢٧–٣٤٧ق.م) يعظِّم شأن الدولة بالقياس إلى الحرية الفردية، فالقوانين لا توضع لتمكين الفرد من فِعل ما يشاء، ولكنها توضع لهدايته إلى فعل أحسن ما يستطيع، ولا ضير من إكراهه على صلاح أمره إذا كان في حاجة إلى الهداية والإصلاح، وأكثر الناس في حاجة دائمة إليهما يجوز في تربيتهم ما يجوز في تربية القُصَّر والأطفال.

وواضح من هذا أن الحاكم في مذهب أفلاطون بمثابة الأب والمعلم، وليس قصاراه أنه خادم مصالح المحكومين، ولهذا يوصي بإسناد الحكم إلى الحكماء والعلماء، ويوصي إلى جانب ذلك بتجريدهم من روابط الأسرة وشواغل الثروة تنزيهًا لهم عن الفتنة والمحاباة، ولا حرج على ولاة الحكم من استخدام الأساطير والخرافات، واختراع قصص البطولة والأعاجيب؛ لترويض الرعية على الخضوع لما فيه نفعها ورشادها، فهذه في مذهبه «أكاذيب نبيلة» لا غنى عنها في إقناع الدهماء، ولا يلبثون أن يعرفوها ويَعرفوا أعذار مَن استخدموها متى ارتفعَت عنهم غشاوة الجهل والخرافة.

ويَنظر الفاشيون والاشتراكيون معًا إلى أفلاطون كأنه رائد سابق للفاشية والاشتراكية، فيرضى عنه الفاشيون؛ لأنه يكل الأمر إلى الولاة والزعماء، ويُعظِّم شأن الدولة والحكومة، ويرضى عنه الاشتراكيون؛ لأنه يحرم الملكية على الولاة، ويسمح باشتراك الجمهور في الملك الواحد، ويجعل للنساء حق الحكم مع الرجال، ويفرض عليهن واجب الدفاع معهم، ويسوق الفاشيون والاشتراكيون كلمات له وردت في كتاب الجمهورية تعزز ما يقررونه؛ لتأييد آرائهم ونقد آراء خصومهم، ومنها قول بعض المحاورين في كتاب الجمهورية: «إن العدل مصلحة الأقوى»، وإن الرجل العظيم في حِلٍّ من إرضاء عظمته بالسيطرة على مَن دونه، وإن الوازع الأخلاقي رياء ونفاق ما لم يكن ضرورة من ضرورات البيئة، وغير ذلك من دعاوى الحوار التي تقال كما يقال الرد عليها، ولا تعبر كلها عن رأي أفلاطون.

ولا شك في ميل أفلاطون إلى حصر السلطان في الأيدي القليلة وإعراضه عن إطلاق حقوق الحكم لجميع المحكومين، بيد أن الشراح الذين يستندون إليه في تسويغ الاستبداد يخطئون تفسيره وقد يتعمدون تحويله عن معناه؛ لأنه شديد الإنكار لحكم القوة شديد الإعجاب بحكم الرضا والإقناع، وتفرقته الكبرى بين الملك والطاغية: أن الملك يهتم بحب رعاياه وأن الطاغية يَفرض عليهم طاعته غير مبالٍ منهم بشعور بعد شعورهم بالرهبة والولاء، وقد فاضل أفلاطون بين حكومة الفرد بغير قانون وحكومة الخاصة بغير قانون وحكومة الدهماء بغير قانون، فقال: إن حكومة الدهماء هي أفضل هذه الحكومات، وإن شرورها أهون من شرور الحكومة الفردية المطلقة وشرور الحكومة التي يحتكرها الخاصة مع إطلاقها واستبدادها؛ إذ كان فساد المستبد يشمله ويشمل كل من عداه، وتمتد أوهاق ظلمه إلى جميع الطبقات، وإنما يسوء حكم الدهماء حين يُشرِّعون له القوانين؛ لأنهم يجهلون أصولها، ويولون أمرها غير أهلها، ويسيئون التشريع كما يسيئون التنفيذ، وليس كذلك الخاصة المقيدون بالشريعة كما يتفق عليها من يفقهونها ويحسنون الرقابة عليها.

وقد توزع مذهب أفلاطون حديثًا بين أناس متفرقين يدَّعي كل منهم أنه قادر على تطهير نظامه من النقائص التي احتاط لها الفيلسوف في زمانه، والواقع أنه مذهب مفروغ من استحالة تطبيقه، فالمناقشة في نظرياته تسلس لمن يريدها دون أن يحبسها الواقع عند حد محدود.

•••

إلى الطرف المقابل لهذا الطرف يتجه أرسطو تلميذ أفلاطون الأول الذي لقَّبه الأقدمون بالمعلم الأول.

فالحكم عنده وظيفة خبرة يتدرب عليها ذووها وليس وظيفة فلسفة وحكمة، وهو يقسم الحكومات إلى ثلاثة أنواع: هي حكومة الفرد وحكومة الأعيان وحكومة الشعب أو الديمقراطية، ولكل منها آفة تمسخها وترجح سيئاتها على حسناتها، فإذا مسخت حكومة الفرد غلب الهوى في نفس حاكم واحد على مصلحته ومصلحة الرعية كلها، وإذا مسخت حكومة الأعيان فهو الاحتكار الذي يسخر الأكثرين من المحكومين للأقلين من الحاكمين، وإذا مسخت الحكومة الديمقراطية فتلك هي فوضى السوقة والدهماء.

وليس عدد الحاكمين هو الفرق الجوهري بين الحكومات الثلاث، ولكن الفرق الجوهري هو الفرق بينها في حقوق المواطن، وخيرها ما تكَفلَ لجميع المواطنين بالمساواة في الحرية، وهذه المساواة هي التي تبطل القول بأن الحرية هي أن يفعل كل إنسان ما يشاء، فلو جاز لكلٍّ أن يفعل ما يشاء لجاز له أن يعتدي على غيره فتبطل المساواة، وإذا تساوت حريتهم جميعًا فهذه هي الحرية في حدود القانون، وذلك هو القانون الذي يوضع لجميع الرعايا، ولا يوضع لطبقة منها دون طبقة.

وإذا تكلم أرسطو عن المواطنين وحقوقهم فإنما يتكلم عن الأحرار ويستثني الأرقاء، فالمواطن مَن اشترك في تسيير الدولة برأيه أو بعمله، ولم يكن للأرقاء على عهد أرسطو شيء من المشاركة في الحقوق السياسية.

والتفرقة بين الحكومتين الصالحة والفاسدة عند أرسطو هي أصدق تفرقة قال بها الفلاسفة حتى اليوم، فالحكومة صالحة متى عملَت لمنفعة المحكومين، وفاسدة متى عملَت لمصلحة الحاكمين، مثلها مثل كل أداة توضع لغاية، ولا تؤدي الحكومة غايتها إذا كانت لا تنفع رعاياها.

وليس من رأي أرسطو أن «خير» الناس هم الحكام، فمعنى هذا أن الذين لا يتولون الحكم أشرار، أو معناه أن أخيارًا قلائل يستأثرون وحدهم بحقوق جميع الأخيار.

وليس من رأيه أن الحكم حق للثروة، فمعنى ذلك جمع الثروة والسلطة في أيد قليلة.

وليس من رأيه أن الكثرة تباشر الحكم بجميع آحادها فتلك استحالة لا تتحقق في الواقع، ويكفي من الكثرة أن تكون مكفية المؤنة راضية عن معيشتها.

واشتراط الرضا من جانب الأكثرين ضمان لإخلاص الحكومة في خدمتهم، ووفرة الناس — في رأي أرسطو — كوفرة الماء التي تعصمه أن يأجن ويتعفن كما يتعفن الماء القليل بأقل شائبة.

وقد وجد أرسطو أن توزيع مهام الحكم ضمان آخر لمنع التفرد بالسيطرة الحكومية، فتنقسم الحكومة بين الاستشارة والإدارة والقضاء، وتنشأ من تخصيص الحكام لكل قسم من هذه الأقسام طائفة خبيرة بما تتولاه، وقيام الحكم على القواعد الديمقراطية يمنع أن تنحصر هذه الطوائف في كبار السادة والأغنياء، ويمنع أن تنحدر إلى السفلة والجهلاء، فسبيلها أن تئول إلى طبقة وسطى لا تستبد استبداد الأعلياء، ولا تسف في أعمالها وأخلاقها إسفاف الأدنياء.

ويعارض أرسطو أستاذه في شيوع الملكية كما يعارضه في احتكار السلطة، فقد بحث شيوع الأرض وتقسيم الغلة، وبحث شيوع الغلة وتقسيم الأرض، وبحث شيوع الأرض والغلة معًا، فخلص من هذه البحوث إلى ضرر الشيوع في هذه الحالات جميعًا؛ لأنه باب النزاع وسوء الاستغلال، وأضمن منه للسلم أن تباح الملكية مع تقريب المسافة بين الأغنياء والفقراء.

بهذين المذهبين — مذهب أرسطو وأستاذه — تمت لأثينا رسالتها العظيمة في فلسفة الحكومة، وهي أوفى رسالة فلسفية كانت مستطاعة قبل عصر الميلاد.

•••

وتأتي رسالة روما بعد رسالة أثينا، وهي رسالة عملية يقل فيها نصيب الدراسات الفلسفية، ومع استثناء القوانين المسطورة لم يبق من تراث روما في فلسفة الحكم غير كتابين لخطيبها الأكبر شيشرون (١٠٦–٤٣ق.م)، وهما كتاب الجمهورية De Republica وكتاب القوانين De Lagibus. عرفت روما ضروب الحكم جميعًا مع تَعدُّد أنواع الحكام وتَعدُّد أنواع المحكومين: عرفت الملك والجمهورية والقنصلية وحكم الدكتاتور العادل والدكتاتور الظالم ورقابة الشيوخ الأعيان ورقابة الوكلاء الشعبيين، وعرفت الحكم الذي يقوم على حقوق العلية، والحكم الذي يقوم على حقوق العلية والعامة، والحكم الذي يُستثنى منه الأرقاء، والحكم الذي يَقبلون فيه بعض القبول، وتركت بتجاربها العملية رسالة عامرة بالنماذج والتعديلات لا يستغني عنها باحث من الدارسين لنظم الحكومة في جميع الأوضاع وبين جميع الأقوام.

أما رسالتها الفلسفية فهي كما تَقدم محصورة في كتابَي الخطيب الأكبر، وجانب الاقتباس فيها من المدرسة الأثينية أكبر من جانب الاستقلال بالرأي والابتكار، ولعل إيمان شيشرون بالنظريات هو الذي جنى عليه فجعله يصر في أثناء ولايته للحكومة على توخي الغايات التي لا تدرك، وسوَّم الشيوخ والأعيان ما لا طاقة لهم به من النزاهة والاعتدال، فكان الموت جزاءه على هذه النزعة المثالية التي لا تقبل التطبيق.

نقل شيشرون عن الفيلسوف اليوناني زينوقراط Xenocrates أنه سئل: ماذا استفاد منك تلاميذك؟ فقال: إنهم استفادوا أنهم بمحض اختيارهم يعملون ما توجبه القوانين على الآخرين.

يقول شيشرون: «إنه من رأي أعقل الحكماء أن القانون لا يَرجع في أصوله إلى فكر إنساني ولا إلى عمل أمة من الأمم، ولكنه شيء خالد يحكم الكون كله بما يوحيه من أوامره ونواهيه»، وإن أفضل المجتمعات هو المجتمع الذي يوافق إلهام الطبيعة، ولا يعطِّل هذا الإلهام بزيغان المطامع والشهوات.

وينكر شيشرون قول أفلاطون إن ذوي الاستعداد لفهم الشريعة جد قليلين بين البشر، ففي اعتقاده على عكس ذلك أنه ما من إنسان إلا وهو قادر على فهم الشريعة كما توحيها الطبيعة، وإن القانون الطبيعي يقضي بالمساواة بين البشر في هذا الاعتبار، وإنه عند عصيان هذا القانون الطبيعي يقع من الناس الاجتراء على نصوص الشرائع المسطورة.

ويقول على لسان سيبيو وهو يلخِّص حجج الديمقراطية: «إنهم يقررون أنه ليس من الإنصاف أن تدان الديمقراطية على عمومها؛ لأن الجمهرة الجامحة من سواد الناس لها عيوبها، وإن الناس ما داموا متناسقين يُخضِعون كل شيء لسلامتهم وحريتهم فلا حكومة أنأى عن خطر الثورة وأمكن استقرارًا من حكومتهم، أي من الحكومة الديمقراطية.»

ويمضي سيبيو قائلًا: «وعلى الجملة لا يَعتبر أنصار الديمقراطية أن الحكومات الأخرى جديرة باسم الحكومة، فما لي مثلًا أطلق اسم المالك الذي هو أليق الأسماء برب الأرباب على مخلوق بشري متلهف على السيادة والاستئثار بالغلبة كأنه في سوقه للرعية يَدفع أمامه قطيعًا من العبيد؟ أليس الأحرى بي أن أطلق عليه اسم الطاغية؟!»

والعجب في هذه الديمقراطية الغالية وهذا القانون الطبيعي أن تتمخض عنهما الدولة الرومانية التي كانت رسالتها في العالم «صناعة» القوانين! … فقد أصاب من قال: إن شيشرون كان رائدًا للثورة الفرنسية والثورة الأمريكية قبل ألف وسبعمائة سنة، وإنه بهذه الأقوال عن القانون الطبيعي وعموم المساواة بين البشر كان زميلًا لجان جاك روسو ظهر في العصر الغابر قبل الأوان.

•••

مضى من القرن الأول قبل الميلاد عصر شيشرون إلى القرن الخامس عشر بعد الميلاد عصر ماكيافلي (١٤٦٩–١٥٢٧) أكثر من خمسة عشر قرنًا لم ينبغ فيها من فلاسفة الحكم من يستحق أن يُذكَر غير ثلاثة، اثنان منهم حبران جليلان من أحبار الكنيسة وعَلَمان بارزان من أعلام الفكر، وهما القديس أوغسطين والقديس توما الأكويني، والثالث: هو جون أو سلسبوري القس الشاعر الفيلسوف الذي عاصر الملك هنري الثاني في إبان الخلاف على الدين والسياسة.

وُلد القديس أوغسطين في منتصف القرن الرابع (٣٥٤–٤٣٠) وألَّف كتابه عن مدينة الله تفنيدًا لقول القائلين: إن روما آمنت بالأرباب الوثنية فعاشت في القوة والرخاء عدة قرون، وآمنت بإله الدين المسيحي فعجَّل إليها البوار بعد قرن أو قرنين، وقد استغرق تأليفه ثلاث عشرة سنة في أوقات متقطعة، فكثرت فيه النقائض كما كثر فيه الاستطراد من موضوعات الحكم والسياسة إلى موضوعات الفقه واللاهوت، ويتحدث القديس أوغسطين عن مدينة الله كأنها مدينتان إحداهما في السماء والأخرى على الأرض، وهو لا يعني بمدينة السماء سلطان الكنيسة، ولا يعني بمدينة الأرض سلطان الملوك والأمراء، ولكنه يعني بهما مدينتين مثاليتين يبنيهما الله والصالحون من عباده بالتقوى وعمل الخير والزهد في الملذات والشهوات وقضاء الحياة في رعاية أوامر الله واجتناب نواهيه، وتنعقد الصلة بين أبناء المدينة بأن يحبوا الله ويحب بعضهم بعضًا في الله، ويضرب الشراح المَثل لهذه الصلة الروحية بالصلة التي يَشعر بها قراء الكتاب الواحد؛ إذ يعجبون بمؤلفه، ويستروحون جمال فكره وبلاغة كلامه، فالأمم التي تشترك في حب الله وتمجيد آياته هي أمة واحدة في مدينة الله.

وأهم المبادئ السياسية التي اشتمل عليها كتاب القديس أوغسطين هي: (١) أن اقتناء الأملاك وجمع الكنوز هو شهوة من شهوات النفس البشرية الخاطئة وليس شريعة من شرائع الله، وأن أفضل المجتمعات ما كانت خيرات الله فيه مباحة لجميع عباده يأخذون منها بمقدار ما يحتاجونه في لوازم الحياة و(٢) أن المستقبل للوحدة الإنسانية التي تؤلِّف بين المؤمنين في حب الله و(٣) أن الأمل الأكبر للجماعة الإنسانية هو «السلام»، وهو في حكمة القديس أوغسطين مرادف لكمال الروح وكمال الألفة بين البشر، وليست غايته اجتناب الحرب وكفى؛ إذ لا سلام بغير إخوان كما أنه لا حرب بغير أعداء و(٤) أن الرق ثمرة الخطيئة، والخطيئة هي السبب الأول لخضوع الإنسان للإنسان، ولعل كبرياء السيد عقاب له وضراعة العبد غفران وتكفير و(٥) أن خضوع المؤمنين لأصحاب السلطان الدنيوي واجب في حدود الأمور الدنيوية، فإذا تجاوزها أصحاب ذلك السلطان فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق و(٦) أن الناس في مدينة الأرض حجاج إلى مدينة السماء، أقربهم إليها من هانت عليه النعمة الأرضية في سبيل النعمة السماوية الأبدية.

•••

وتعاقبت القرون إلى القرن الثاني عشر الذي عاش فيه جون أوف سلسبوري (١١٢٠–١١٨٠) صاحب كتاب دليل الحاكم الذي اخترع له اسم بوليكراتكاس Policraticus واستوعب فيه الكلام على واجبات الحاكم وواجبات الرعية وشروط الحكومة المطاعة، وأهم آرائه: أن الفضيلة هي غاية الحياة، وأن هذه الغاية لا تدرك بغير حرية، وقد ضَرب المثل للحرية المطلوبة بكلام من يدعى فيليب Philip في مواجهة مجلس الشيوخ الروماني، حيث نعى عليهم جمودهم وتراخيهم فلم يغضبوا لتبكيته، وقال له الشيخ الذي نهض ليخرجه: «لا عليك أن تُسلِّم نفسك إليَّ، فإنني لست بالشيخ صاحب السلطان في نظرك.»

وقد أوجب فيه على الملك أن يعمل بالقانون، وفرَّق فيه بين الراعي، والحارس الأجير، واللص، في تربية القطيع: فالراعي يعمل بخلوص نية وصدق رغبة، والحارس يعمل لحساب غيره طمعًا في الأجر وخوفًا من العقاب، واللص لا يبالي من القطيع إلا أن يلتهم ما استطاع التهامه، ويخفي فعلته عن أنظار مطارديه.

•••

وانقضت حقبة في اقتباس القوانين من بقايا الدولة الرومانية شاعت خلالها النظريات التي أشرنا إلى بعضها في تلخيص مذهب شيشرون، كالقانون الطبيعي وحق المساواة، وشاع معها تعريف القانون بأنه مجموعة العرف والعادة التي اصطلحت عليها الشعوب، وتولى رؤساؤها القيام على تنفيذها بالنيابة عنها، ووافق هذا الاعتقاد غرضًا من سادة أوروبة لميلهم إلى الاستقلال بالسلطة الدنيوية عن السلطة البابوية، وظهر في تلك العصور الأولى مَن يقول كما قال مانيجول أوف لاتنباخ في القرن الحادي عشر: «لا أحد يملك أن يجعل نفسه إمبراطورًا أو ملكًا، وإنما هو الشعب الذي يَرفع إنسانًا فوق نفسه ليَحكمه ويدبِّر شئونه على أصول الحكم الصالح، معطيًا كل ذي حق حقه، متوليًا مَن يتقي بحراسته ومَن يعتدي بنقمته، وقائمًا بالقسط بين الجميع».

وظهر في القرن الثالث عشر مَن يقول كما قال براكتون الفقيه الإنجليزي: «لا ينبغي للملك أن يعلو على مكانه أحد، إلا أن يعلوه سلطان الله والقانون؛ لأن القوانين هي التي تنصب الملك، وعليه أن يمد القانون بالقوة والنفاذ … إذ لا ملك حيث لا قانون».

•••

بين هذه التمهيدات المختمرة نبغ الفيلسوف الديني الكبير توماس الإكويني (١٢٢٥–١٢٧٤)، ونَظر إليها وإلى كتب الفلسفة جميعًا في مذهبه السياسي الذي شرحه أثناء تعليقه على كتاب السياسة لأرسطو، وعاد إليه في رسالة لم يتممها سماها: «ولاية الأمراء».

والكون كله في مذهب القديس توما حكومة ذات درجات Hierachy يستوي الإله على عرشها الأعلى، وأهم آرائه أن الحكومات الدنيوية ينبغي أن تتوجه بطلب المشورة إلى آباء الكنيسة؛ لأن الإنسان في هذه الحياة يسعى إلى غايتين: إحداهما روحية والأخرى جسدية، وليست سعادته الجسدية هي الغاية القصوى؛ بل هي وسيلة لتحقيق غايته العليا وهي سعادة الروح، فالكنيسة التي تُشرف على أمر روحه أولى بالتقديم من الحكومة الدنيوية التي تُشرف على أمر جسده، ومن حق حكومة الدنيا أن تطاع في كل شيء تتساوى فيه طاعة المرءوس والرئيس، أما إذا فرض الرئيس على مرءوسيه ما لا يقبله هو ولا يلتزمه، فلا طاعة للحكومة الدنيوية ولا حرج على مرءوسيه عن عصيانه والثورة عليه، وقد توصف حكومة القديس توما بأنها مزيج من الفردية والانتخابية؛ لأنه يشير باشتراك الشعب في انتخاب الملك والنبلاء؛ ليتم امتياز الممتازين وأمان الضعفاء من بغي الأقوياء، ومساك الوفاق بين الجميع هو القانون الطبيعي الذي لا يخفى على أحد، وهو يخول الرعية أن تقاوم راعيها أو تكف عن الطاعة إذا أَقحم عليها قانونًا لا يطابق ذلك القانون.

•••

ثم جاء عصر ماكيافلي (١٤٦٩–١٥٢٧) وهو الرجل الذي أصبح اسمه علَمًا على سياسة الغش والغيلة والقسوة والدسيسة والتماس النجاح بكل وسيلة، وتعود شهرته إلى ما اشتهر من وصاياه في كتابه الموسوم «بالأمير».

أما الحقيقة فهي كما قال في رسالة منه إلى بعض ثقاته: «إن كتاب الأمير نزغة هوى»، ولم يكن الرجل كاذبًا فيما وَصف به هذا الكتاب، فكل ما فيه من الجد أنه طمح إلى توحيد إيطاليا كما توحدت فرنسا وإسبانيا، ورأى أمامه طائفة من شرار الأمراء يتنازعون فيما بينهم، ولا أمل في توحيد وطنه مع بقائهم، فمَن أزاحهم من طريق الوحدة بما وسعه من وسيلة فلا جناح عليه.

على أن مذهب ماكيافلي الصحيح مفصَّل في تعليقاته على كتب ليفي العشرة، وملحوظ فيما بين السطور من كتاب الأمير، فهو يقرِّر أن الاستناد إلى الشعب أضمن لصيانة الحرية من الاستناد إلى الأعيان والنبلاء الذي يتكلون على ما ورثوه، ولا يزالون يطمعون في زيادته بالعسف والحجر على المحرومين، وأن وفاء الشعوب أوثق من وفاء الأمراء، وأن الملك الحق من يحبه رعاياه ويهابونه، لا مَن يرتاب في رعاياه ويمقتونه، وأن الدكتاتور الذي يخشى خطره على الحرية هو الدكتاتور الذي يغتصب القوة ولا يستمدها من رعيته، فإذا انطلقت يده في الحكم باختيار الرعية كما كان يحدث في الدولة الرومانية القديمة فهو قمين أن يبلغ قومه من المجد والرخاء ما لا يبلغونه في ظل القوة المفاجئة، وعبرة التاريخ الروماني في رأي ماكيافلي: أن الجمهورية تصلح ما بقيت قوية متوازنة الأركان لا تبغي فيها طبقة على طبقة، فإذا هي تضعضعت وآذنت بالزوال فالدكتاتور الذي تقدم وصفه خير حاكم يتعهد الوطن في تلك الحالة، ومساك الحكمة السياسية في كتاب الأمير وفي التعليقات على التاريخ الروماني هو «أن سلامة الدولة مقدَّمة على كل مصلحة أو شريعة، فإذا وجبت وقايتها من غائلة تهدد سلامتها فلا محل للبحث في النصوص والفتاوى، ولا حرج من اتخاذ كل وسيلة لدفع الغائلة عنها، ولا يصعب على ولاة الأمر مع هذا أن يسوغوا عملهم للشعب بما يقنعه لاستدامة إيمانه بالشريعة وقوانين الأخلاق.»

والمثل الأعلى للحكومة في مذهب ماكيافلي هي الحكومة التي تُسقط أمراء الإقطاع، وتنهض بالطبقة الوسطى، وتؤمِّن الشعب على حريته ومعيشته، وتنضوي إلى حاكم قوي يمزج بين دهاء الثعالب وجرأة الأسود، ويلتف به رعاياه عن حب ومهابة وثقة، لا عن خوف وخنوع واستسلام.

•••

وفيما بين القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر دخلت نظريات السياسة في دور جديد يدور على محورين: محور القوانين الطبيعية أو الحقوق الطبيعية التي تَقدَّم ذكرها، ومحور الخلاف على حق الكنيسة وحق الدولة وأيهما أحق بالاتباع عند احتدام النزاع بين السلطتين.

وأدى استقلال الملوك عن الكنيسة واضمحلال نفوذ النبلاء والفرسان أصحاب الإقطاعات إلى استقلال الأوطان والدعوة إلى حقوق الوطن وحقوق الأمة، فتركزت الحقوق السياسية رويدًا رويدًا في الشعب وبرزت على طليعته طبقته الوسطى، وهي أقدر طبقاته بعد اضمحلال السادة الأعلين من النبلاء والفرسان «الإقطاعيين».

هذه النظريات عن الحقوق الطبيعية وحق الكنيسة وحق الدولة وحق الشعب لم تزل تتراءى على درجات متعددة، ووجهات متعارضة في بحوث الفلاسفة الذين كتبوا عن فلسفة الحكم من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر.

فأقدمهم جان بودان الفرنسي Jean Bodin (١٥٣٠–١٥٩٦) يشرح نظرياته في ستة مجلدات يسميها: «الكتب الستة في الدولة»، ويقرر فيها أن الأسرة والملكية (أي الامتلاك) هما أساس المجتمع، وأن النظام الملكي المقيد هو أصلح الأنظمة الحكومية، وأن صاحب السيادة متى بويع بها حرم على الرعية نقض ولائه كائنًا ما كان اعتذارها لنقضه، وتفرقته بين السيادة الشرعية والسلطة القائمة بالقوة: أن السلطة القائمة بالقوة قد تحفظ النظام ولكنها لا تحفظ القانون، وهو السند الوحيد الذي يقوم عليه حق الطاعة والولاء، ولهذا الكاتب حوار أجراه بين يهودي ومسلم ومسيحي تابع لكنيسة روما ومسيحي من أنصار لوثر وأبيقوري وموحد بالله غير متدين بدين، فانتهى منه على ترك الجدل في العقائد الدينية والتلاقي بينهم جميعًا على سماحة في أمور هذه الحياة الدنيوية.
وتوماس هوبز الإنجليزي Thomas Hobbes (١٥٨٨–١٦٧٩) قد حضر الثورة التي قادها كرومويل، وكان معلمًا للملك شارل الثاني، وبنى فلسفة الحكم على ما استخلصه من القوانين الطبيعية في زعمه، وفحواه: أن الفعل ورد الفعل هما مدار كل حركة في الطبيعة، وأن تَدافُع الناس في المجتمع هو مدار السياسة، وأن العامل الأكبر في نفس الإنسان هو حفظ ذاته، ومن أجل حفظ الذات يطلب القوة، ويطمع في الغلبة على غيره، فمن هنا كانت الحالة الطبيعية بين الناس حالة حرب لا أمان فيها لأحد على نفسه، وهذه هي الحالة التي تضطرهم أن يسلموا مقادهم إلى الدولة؛ لحماية بعضهم من بعض، وتمكينهم جميعًا من استخدام حقوقهم الطبيعية التي يتعذر عليهم استخدامها بغير دولة حاكمة، وهذا التسليم منهم أبدي لا رجعة فيه؛ إذ كانت الرجعة فيه نكسة إلى فوضى الهمجية التي لجئوا منها إلى سيادة الدولة، فلا يجوز استرداد هذه السيادة ممن تولاها، ولا يحق لأحد من الرعايا أن يعترض عليه، فإن إرادته قانون وقانونه هو مناط الأخلاق، ولا قيمة لعهد لا يحميه سيف، فلن تصل العهود إلى مدى أبعد من حد السيف الذي يرعاه، ومتى عجزَ صاحب السيادة عن حياطة الرعية وتغليب سلطان الشريعة فذلك هو الحد الذي تنتهي إليه سيادته، ويستدعي الرعية إلى تسليم هذه السيادة لغيره.
ويأتي جون لوك الإنجليزي Jhon Locke (١٦٣٢–١٧٠٤) عقب هوبز بجيل واحد فينقض مذهبه في الحرب الطبيعية، ويقيم في مكانها طبيعة الاجتماع والتضامن الاجتماعي، ويَعتبر ولاية الحكم وكالة عن الأمة تُحاسَب عليها، فلا تصلح سياسة الأمم إلا بمحاسبة الرعية لولاتها، واعتبار الحكومة مسئولة أمام شعبها، ويَنقض لوك مذهب هوبز في نشأة القانون كما يَنقض مذهبه في السلطة الحكومية، فالأخلاق هي التي توجِد القانون، وليس القانون هو موجدها قبل وجودها، ولا حد لحرية الإنسان في عمله ولا في ملكه إلا الحد الذي يكفل لغيره حقوقًا مثل حقوقه، وخير الحكومات عنده هي الحكومة التي تنفصل فيها السلطات، وتجرى على النظم الدستورية، ووظيفتها الكبرى هي حماية الحرية وحماية الملك والثروة.
ويلي جون لوك في التاريخ البارون دي مونتسكيو الفرنسي Montesquieu (١٦٨٩–١٧٥٥) صاحب كتاب روح القوانين، ومذهبه قائم على تفسير القوانين بعوامل الإقليم وأثرها في معيشة السكان وعاداتهم، ويُحسب مونتسكيو من تلاميذ المدرسة الإنجليزية في تفضيل الملكية الدستورية، مع التوسط بين المحافَظة والتطرف في الحقوق النيابية.
ويلي مونتسكيو جان جاك روسو الفيلسوف السويسري الفرنسي Rousseau (١٧١٢–١٧٧٨) وكان معاصرًا للفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم Hume (١٧١١–١٧٧٦) رائد المدرسة الحديثة التي تعزو أعمال المجتمعات إلى دوافع لدنية لا تخضع للتعقل في جميع الأحوال، وأن رابطة الاجتماع نفسها عاطفية وليست بعقلية، فليس هناك تعاقد معقول بين أبناء المجتمع، ولكنهم يتعاطفون ويتنافرون بالحس والشعور، وما من حكومة تدوم ما لم تكن مستندة إلى التقاليد التي تواضع عليها الناس، ولو خرجت هذه التقاليد على المعقول.

وروسو يقتبس من هيوم في هذه الناحية، ويناقش نظرية العقد الاجتماعي على أساس هذه الفلسفة، ويجعل شعاره «عودًا إلى الطبيعة» لأن الفطرة أهدى من العقل وأجدى على صاحبها، وأولى الناس بالاحترام عنده هم البسطاء الطبيعيون وهم كثرة الناس، ولهم فوق ذلك حق الاحترام على اعتبار أن الناس جميعًا سواء بغير فارق في «الطبيعة» بين أبناء الطبقات المختلفة، فكثرة العدد إذن هي المرجِّح للطبقة الدنيا مع تساوي الطبائع بين أبناء الطبقات، فالناس طيبون فطرةً ما لم تفسدهم الأسباب الصناعية، وإرادتهم التي يسميها «الإرادة العامة» هي قوام القانون والأخلاق.

وقد تعاقب الكُتاب بين منتصف القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر على مبدأ واحد وهو مبدأ «السيادة الشعبية» والحكم النيابي، فإذا كانت لبعضهم رسالة خاصة ففي مقدمة هؤلاء بنتام Bentham (١٧٤٨–١٨٣٢) وجون ستيوارت ميل Mill (١٨٠٦–١٨٧٣) أعظم الفلاسفة المحدثين الذين اشتهروا بالنفعيين Utilitarianists؛ لأنهم يردون أعمال الإنسان جميعًا إلى طلب السرور والمنفعة، فإن رسالتهم هذه قد كان لها شأن في تركيب كثير من الفلسفات التي تنظر في التربية والإصلاح الاجتماعي من ناحيتي الأخلاق والسياسة، ويغلو جون ستيوارت ميل في تقديس حرية الفرد حتى ليقول: إن النوع الإنساني لو خالفه فرد واحد لما كان حقهم قاطبة في إبداء رأيهم أصح من حق الفرد الواحد في إبداء رأيه، ومع هذا الغلو في تقديس الحرية الفردية، وذلك المذهب في تعليل الأعمال الإنسانية بالمنفعة — يرى ميل أن جمهرة السواد تنشد منفعتها الظاهرة ولا تنشد منفعتها الحقيقية، ولهذا يحسن أن تتبع في الانتخابات طريقة نسبية ترشح للحكم مَن هم أهل له بالعقل الراجح والخلق المتين والدراية المستمدة من الثقافة والمرانة.
ثم ظهر في النصف الأخير من القرن التاسع عشر مذهب المادية الثنائية لصاحبه كارل ماركس Marx (١٨١٨–١٨٨٣) وفردريك إنجلز Engels (١٨٢٠–١٨٩٥)، وهو مذهب له شطران: شطر في فلسفة ما وراء الطبيعة، وشطر في فلسفة الاقتصاد والسياسة.

ففيما وراء الطبيعة تُقرر المادية الثنائية أن المادة يتولد منها ضدها، ثم يتولد منهما تركيب واحد لا يلبث أن يخرج من ضده، وتطبيق هذا المذهب على المجتمع الإنساني يدل على أن نظام المشاعية الأول قد خرج منه ضده، وهو نظام الإقطاع، ثم خرج من هذا ضده، وهو نظام الطبقة الحضرية أو الطبقة الوسطى التي عرفت بالبرجوازية، وأن هذه البرجوازية تخلي مكانها لنظام رأس المال، ثم يتبعه النظام الذي يستولي فيه العمال على الحكم فتنقطع الأسباب التي أنشأت الطبقات الاجتماعية؛ لأنها قائمة على استغلال بعض الناس لبعض في محل للطبقات مع بطلان الاستغلال.

أما الفلسفة الاقتصادية فمحصولها أن الإنتاج الاقتصادي هو أصل كل سلطة وأصل كل عرف وعادة، وأن الطبقة التي تتسلم زمام الإنتاج الاقتصادي هي التي تضع القوانين والآداب التي تخدم مصالحها، وسيأتي اليوم الذي يفلس في نظام رأس المال لما فيه من التناقص المتأصل في تكوينه، فيئول زمام الإنتاج إلى العاملين الذين يديرون الآلات المنتجة، وتسفر الفترة التي تنقضي في «الدكتاتورية الشيوعية» عن حكومة عالمية لا سيد فيها ولا مسود ولا مالك فيها ولا أجير.

ولم يبين كارل ماركس ولا أصحابه: لماذا تكون كل طبقة ضدًّا لما قبلها ولا تكون مختلفة منها مجرد اختلاف؟ ولم يبين كذلك كيف يساس المجتمع بعد الدكتاتورية الشيوعية؟ وكيف يمتنع التبديل والتعديل في النظام السياسي ما دام للنوع الإنساني بقاء على هذه الغبراء؟

•••

بعد هؤلاء الفلاسفة الأقدمين والمحدثين لم يظهر من فلاسفة الحكم من يُعرف له مذهب مذكور غير هذه النخبة التي لخصنا نماذج آرائها في هذه الرسالة، وقد أغفلنا بالبداهة أصحاب مذهب الفوضى؛ لأن مذهبهم في فلسفة الحكم هو إلغاء جميع الحكومات.

ومزية الفلاسفة المحدثين على الفلاسفة السابقين أنهم قد وضعوا مذاهبهم مستفيدين من جميع المذاهب ومن جميع التجارب، ومستفيدين معها من كشوف العلم الحديث في طبائع النفس البشرية آحادًا وجماعات، ومن كشوف العلوم الاجتماعية والاقتصادية التي كانت مجهولة قبل بضعة أجيال.

وإذا أردنا أن نُجمِل الفارق بين القدامى والمحدثين في مدارس الفلسفة الحكومية فالفارق الواضح بينهم: أن الأولين أكثر اقتراحًا وأكثر تعويلًا على عمل العقل في الحياة الإنسانية، وأشد من لاحقيهم تعلقًا بالمجتمعات المثالية التي تسمى بالطوبيات Utopias، وأن المحدثين يقل في فلسفتهم الاقتراح والتعويل على عمل العقل، ويكثر وصف الواقع والتعويل على الدوافع النفسية.

وسيرى القارئ أنهم جميعًا يخطئون، وأنهم جميعًا يصيبون، وأن مسألة الحكم مسألة تنتقل بها الحلول من عصر إلى عصر في الغيب المجهول … والعلم بمواطن الخطأ والصواب منها أفضل وأسلم من الجهل بها على كل حال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤