جايتانو موسكا

١٨٥٨–١٩٤١

وُلد هذه الفيلسوف السياسي في نحو منتصف القرن التاسع عشر، وتوفي في نحو منتصف القرن العشرين، فلو أنه اكتفى بما حدث في مدى حياته من وقائع السياسة وخطوبها لاستطاع أن يتزود من هذه المادة الزاخرة ما يدعم به مذهبًا كاملًا في أطوال الدول والحكومات.

وُلد في صقلية، وهي مهد الوحدة الإيطالية ومعرض التاريخ الحافل بآثار الدول وغرائب العادات الاجتماعية من أقدم العصور.

ونشأ وهو يستمع إلى قصص القتال بين الدولة الدينية المقدسة والدولة المدنية المستقلة، وتلقى في صباه أقاصيص الرواة عن غريبالدي وفكتور عمانويل، وهي من أعجب الأقاصيص عن العلاقة بين القائد «الدكتاتور» والملك المختار، ثم شهد القارة الأوروبية وهي تنتقل من نظام إلى نظام من أنظمة الحكم على اختلافها بين ملكية مطلقة وملكية مقيدة، وبين جمهورية وإمبراطورية، وبين انتخابية تضيق فيها حقوق التصويت إلى انتخابية تتسع فيها هذه الحقوق غاية مداها من الاتساع.

وعاصر فرنسا وهي تتحول من جمهورية إلى إمبراطورية، ثم من إمبراطورية إلى جمهورية كرة أخرى، وشهد قيام الدولة الجرمانية الموحدة كما شهد قيام غيرها من الدول الصغيرة في أوروبة الشرقية، ولم تمضِ في حياته فترة دون أن يسمع بنبأ من أنباء الثورات أو الفتوح، وامتد به العمر حتى حضر الحرب العالمية الأولى، وأحاط بكل ما تلاها من أسباب القلاقل أو أسباب قيام الحكومات وتنازعها وانهيارها، وتم في أيام نضجه تطبيق ثلاثة من المذاهب السياسية في نطاق واسع بين أمم مختلفة الأجناس والثقافات، فطُبِّق المذهب الشيوعي في روسيا، وطُبِّق المذهب الفاشي في إيطاليا، وطُبِّق المذهب النازي في ألمانيا، وطُبِّقت مذاهب أخرى تمتزج فيها هذه المذاهب على درجات من الامتزاج في غير بلاد السلافيين والتيوتون واللاتين، وعاش إلى ما بعد نشوب الحرب العالمية الثانية فكانت تلخيصًا شاملًا لكل ما عالجه من المشكلات القومية والعالمية، وأكدت له من آرائه ما كان محتاجًا إلى تأكيد.

وقد جنحت به سليقته إلى دراسة العلوم السياسية من جوانبها التاريخية أو الفكرية، فاطلع على تواريخ الأمم والحضارات في المشرق والمغرب، وإن تاريخ الدولة الرومانية وحده لكافٍ لاستخلاص عبر السياسة في كل صورة وكل زمن، ولكنه أضاف إلى العلم الراسخ بتفصيلات هذا التاريخ علمًا يضارعه بتواريخ الدول الشرقية من الصين إلى الهند إلى فارس إلى ما بين النهرين إلى مصر إلى بلاد العرب إلى ما استحدث بعد هذه الدول العظام من الدويلات والولايات، ثم كان عمله أن يلقي الدروس في هذه الموضوعات على طلاب الجامعات الإيطالية، فتهيأت له المادة الكافية لتقرير مذهب في السياسة مدعوم بالشواهد والأسانيد والتجارب والبحوث، أيًّا كان رأي المطلعين عليه من الموافقة أو الاعتراض.

ولم يبلغ موسكا الرابعة والعشرين حتى تمت عناصر مذهبه في ذهنه، وأوشكت أن تنعقد على صورتها الأخيرة لولا بعض التنقيح الذي ترادفت به الحوادث في بقية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فلما أَصدر كتابه المسمى «عناصر العلم السياسي» (سنة ١٩٢٣) كان بمثابة رسالته الأخيرة في هذا العلم غير محتاجة إلى إضافة جديدة في لباب الموضوع.

ومن الواضح أن موسكا قد أتم تقرير مذهبه قبل قيام الحكومة الفاشية في بلاده على يد موسوليني وأصحابه، فلم يكن مضطرًّا إلى صوغ المذهب على الأسلوب الذي يتقي به غضب الحاكم المستبد بعد السيطرة على حرية القلم واللسان؛ بل جاءت الحكومة الفاشية مؤيدة لبعض فروضه وتقديراته، ومنها: أن الدولة الملكية قد يقوم فيها حاكم ذو سلطان إلى جانب الملك الذي يتولى المُلك بالوراثة، وقد يسمى تارةً ﺑ Major Domo، وتارةً بالصدر الأعظم، وتارة برئيس الوزارة، وكان توزيع السلطان بين فكتور عمانويل الثالث وموسوليني مثلًا من أمثلة الازدواج على هذه الصورة بين الملك والدوتشي كما سمى زعيم الفاشيين.

إلا أن موسكا لم يكن من أصحاب الحظوة الكبرى في الحكومة الفاشية؛ لأنه على نقده للتوسع في حقوق الانتخاب لم يكن من أنصار الحكومة المطلقة، ولم يكن من رأيه أن الحاكم المستبد أقدر على الإصلاح من الحكومات البرلمانية؛ بل عنده أن تمثيل الشعب على صورة من الصور لازم لكفِّ الحاكم عن الطغيان، وتجديد العناصر التي تتولى الحكم من حين إلى حين، وليس هذا الرأي مما يرضاه الحاكم بأمره في الدول الفاشية وما جرى على نظامها، ولهذا كان موسكا مرضيًّا عنه محذورًا منه في وقت واحد، وقصارى ما بلغه من مناصب الدولة أنه تولى وكالة المستعمرات زمنًا، ثم دخل مجلس الشيوخ عضوًا معينًا مدى الحياة.

وقبل أن نمضي في تلخيص منهج موسكا، نحب أن نقرر بداءةً ما قرره هو في أسلوب جازم حازم لا مواربة فيه عن عاقبة المذاهب السياسية التي يَحسن بالباحث أن يفكر فيها، فمهما يكن من صلاح المذهب لتدبير شئون الأمم فلا محل في هذه الدنيا للحكومة المثالية أو ﻟ «طوبى» الفلاسفة الأقدمين والمحدثين الذين يمنون الناس جنة النعيم إذا عملوا بآرائهم في الحكم والسياسة، فهذه «الطوبى» خارجة عند موسكا من كل حساب، وتوكيد هذه الحقيقة عنده لازم كل اللزوم لتبديد غشاوة الجهل والخداع عن أبصار العاملين في ولاية الأمور، فلن يشهد الناس «طوبى» على هذه الأرض وإن طالت الأزمان والآزال، ولن يأتي على أبناء آدم يوم يعمهم فيه العدل المطلق على يد والٍ من الولاة أو نظام من النظم كائنًا ما كان، وغاية ما في الأمر أنه حُكم أعدل من حكم، ونظام أسلم من نظام.

قال في كتابه الذي تُرجم إلى اللغة الإنجليزية باسم «الطبقة الحاكمة» The Ruling Class: «إن الطوبيات خطرة شديدة إذا استطاعت أن تجذب إليها طائفة جمة من ذوي الأذهان والفضائل الخلقية يصرفون جهود العقل والنفس إلى تحقيق غاية لن تتحقق آخر الزمان، ولن يكون تحقيقها المزعوم عند ادعاء حصوله إلا تغليبًا لشر العناصر وشقاء لأطيبها وأكرمها وخيبة رجاء، وقد أعلن إدموند بيرك قبل أكثر من مائة سنة أن أية دعوة سياسية تفرض إمكان البطولات والفضائل التي تعلو على طاقة البشر لن تسفر في النهاية إلا عن رذيلة وفساد.»

وموسكا يأبى أن يرجع بأطوار الشعوب وصروف الحوادث إلى عامل واحد أو عوامل شتى مرسومة على نهج واحد، فهو لا يعتمد كل الاعتماد على فعل السلالة أو فعل الجو والإقليم أو فعل العوامل الاقتصادية وما يسمونه بنظام الإنتاج والاستغلال، فهذه جميعًا قد تفعل فعلها على اشتراك واختلاط في كل بقعة وفي كل قبيل، ولكنها لا تنفرد بالأثر الفعال في جميع الأحوال.

•••

فإذا قيل إن الفضل في قيام الدولة أو الحضارة ينحصر في مزايا السلالات، فالتاريخ يُثبت لنا قيام الدول والحضارات بين سلالات كثيرة كالطورانية والآرية والسامية وسلالة الأمريكيين الأصلاء في أواسط الدنيا الجديدة، وكثيرًا ما يحدث التغير من الركود إلى النشاط، ومن النشاط إلى الركود في أقل من قرن واحد لا يتغير فيه تركيب السلالة أو تركيب بنية الآحاد الذين تتألف منهم الأمة، وقد يَحدث أن تسيطر على الدولة طبقة من النبلاء بالنسب والوراثة، ولكنها تسود بالصفات التي تكسبها من التربية والعادة؛ لأن الخبرة بأساليب الحكم شيء لا ينتقل في الدم، وليست خصائص الدم مما يتحول في مدى سنوات، وقد تثور الرعايا على حكامها ولم تتغير سلالة هؤلاء في آماد طوال من عصور التاريخ، وإنما تغيرت التربية والعادة كما حدث بين نبلاء صقلية ورعاياهم، أو كما حدث بين فرسان الإقطاع في القرون الوسطى وأتباعهم في مختلف البيئات، فالسيد القديم كان يستبد بسلطانه، ولكنه مقبول محبوب؛ لأن عقائده وأوهامه هي العقائد والأوهام التي يدين بها العامة من حوله، ولكنه يتغير بالتربية في العصور الحديثة فيصبح «جنتلمانًا» بين السوقة فلا يألفهم ولا يألفونه، ولا يزال باب الشقاق مفتوحًا بينه وبين عماله وفلاحيه.

أما خصائص الجو والإقليم فلا خلاف على تأثيرها في نشأة الدولة أو نشأة الحضارة، وإنما الخلاف على حصر التأثير فيها دون غيرها، وقد أولع بعض المؤرخين بتسجيل القوانين الإقليمية، وهي في حقيقتها مصادفات لا تستحق أن تسمى بالقوانين المرعية في سنن الطبيعة، ومثال ذلك: أنك تستطيع أن تضع على هذا المثال قانونًا تقول فيه إن الأنهار تجري دائمًا من الجنوب إلى الشمال؛ لأنك تبني حكمك على خريطة ألمانيا أو سيبيريا، وما هي إلا مصادفة وافقَت مواقع الجبال والبحار في تلك الأقطار، وقد تتكرر المصادفات من قبيلها في تلك القوانين التي يقررون بها انتشار الحضارات من الشرق إلى الغرب أو من الجنوب إلى الشمال، وقد قيل: إن حكومات الاستبداد تنشأ في البلاد الحارة، وإن الحكومات الحرة تنشأ في البلاد الباردة أو القريبة إلى البرودة، ولكن حكم الاستبداد طال واستطال في روسيا التي يبلغ فيها البرد غاية اشتداده، والحرية وَجدت إلى الجنوب حيث لا تتساقط الثلوج ولا يشتد نفح الهواء، وربما اختلف السكان في المواقع مئات السنين وبينهم شيء من تقارب الشعور والتفكير لا نراه في سكان الموقع الواحد، فالمسلم الفارسي آري، والمسلم العربي سامي، والمسلم التركي طوراني، ولكنك قد تراهم في استعدادهم للتفاهم بينهم أقرب الأمر من أبناء الجنس الواحد في البقعة الواحدة، وقد ينعكس الأمر بعض الأحيان فيبطل القول بانحصار التأثير في الثقافة أو انحصاره في طبائع السلالة والإقليم.

والخطأ في القول بانحصار العوامل السياسية في الإنتاج ونظام الاقتصاد كالخطأ في القول بانحصارها في مزايا السلالة أو خصائص الإقليم، فاليونان الأقدمون قد تحولوا من حكم الفرد إلى الحكم النيابي دون أن يطرأ على نظام الإنتاج في بلادهم أقل تغيير، وكل ما حدث أن الفوز في الحرب لم يَبقَ محصورًا في اقتناء العربات، بل أضيف إليه ركوب الخيل والقتال بسلاح المشاة، وقد كانت العربة والمهارة في توجيهها حكرًا للأغنياء، فزال هذا الحكر بعد تطور أساليب القتال، ومثل هذا حدث في عصر الإقطاع بعد اختراع المدفع وتهديده لمعاقل النبلاء والفرسان، فتغيَّر نظام الإنتاج تبعًا لهذا، ولم يكن نظام الإنتاج هو سبب التغيير.

وقد دالت الدولة الرومانية، وانتشرت الديانة المسيحية، وهما حادثان من أجلِّ الحوادث في تاريخ بني الإنسان، فإذا رجعت إلى نظام الإنتاج قبل حدوثهما وبعد أن حدثا فعلًا لم تجد فيه تغييرًا في مجمل الأحوال، وإذا كان قد حدث فيه بعض التغيير الطفيف، فقد حدث مثله من قبل ولم ينتهِ إلى تلك النتيجة من تداعي دولة عريقة وشيوع دِين جديد.

والذين يعلقون الأمل كله على نظام الإنتاج، ويحسَبون أن تعديله كفيل بتعديل الطبيعة البشرية في صميمها لا يأتون بشيء جديد في تعلقهم بهذا الخيال، فقديمًا كان لكتانتيوس Lactantius يقول قبل اعتبار المسيحية دِينًا رسميًّا للدولة في عهد قسطنطين: «إن الناس لو آمنوا بالإله الحق لانقضى في الأرض زمن المنازعات والحروب، وتآلف الناس جميعًا بألفة المحبة؛ لأنهم ينظرون بعضهم إلى بعض نظرة الأخ إلى أخيه، فلا يسعى أحدهم للتخلص من جاره ولا يزال كل منهم قانعًا بقليله، فلا غش ولا اختلاس ولا سرقة، فما أسعد حال الإنسان يومئذ! وأي عصر ذهبي يطلع على الدنيا بفجره السعيد في ذلك الزمان.»
وهذه الوعود بعينها يجددها بيبل Bebel الاشتراكي الألماني حيث يقول: «إننا لو غيرنا الأحوال الاجتماعية وفقًا للغايات التي تتجه إليها الاشتراكية لانتهينا إلى تبديل حاسم في الطبيعة البشرية.»
ومثله دي جرمونت الفرنسي De Gourmont حيث يقول في بعض فصوله: «لو أتيح لنا إزالة القوانين بتة لأصبح ارتقاء المتفوقين الممتازين هو القانون الوحيد، وأصبح حكمهم المطلق المشروع غير منازع فيه، فالحكم المطلق لازم لكبح البلهاء، والإنسان الذي لا ذهن له عضاض.»

ويعقِّب موسكا على هذه الأمنية «الفوضية» فيقول: إنه يقبلها كل القبول مع وضع كلمة الأقوياء في موضع المتفوقين الممتازين وكلمة الضعفاء في موضع البلهاء، فالعيوب التي تعاب بها طبيعة البشر لا ينتزعها نظام الحكم البشري كيف كان.

وقد عرض موسكا لتقسيم أنواع الحكومات من عصر الفلسفة اليونانية إلى العصر الحديث، فأرسطو يقسِّم الحكومات إلى ملكية وأرستقراطية وديمقراطية، وتنطوي القرون الوسطى بتقسيماتها الدينية أو التقليدية، ثم يزعم العلماء المحدثون أنهم وصلوا إلى استقصاء التاريخ الإنساني كله فجمعوا أطواره — كما فعل أوجست كونت — في ثلاثة أدوار: دينية وفلسفية ووضعية، تقابلها الدولة العسكرية فالدولة الإقطاعية فالدولة الصناعية، ثم يختصر هربرت سبنسر هذا التقسيم إلى قسمين: أحدهما العسكري والآخر الصناعي، ويقرن الأول بالاستبداد والحجر على التجارة، ويقرن الثاني بالحرية وإجراء المعاملات مجرى الصفقات التجارية بالتعاقد والاتفاق والتوكيل.

ولا يعترض موسكا على هذه التقسيمات ولا على التقسيمات التي من قبيلها، كتقسيم الحكومات إلى جمهورية ودكتاتورية وملكية مقيَّدة أو ملكية مطلقة، فهي صادقة في الدلالة على بعض الفروق، وينبغي أن تُقبل على هذا الاعتبار، ولكنها لا تغني عن التماس الوحدة المتكررة في جميع هذه الأنواع، ولا تَحسم الفروق بينها كل الحسم في جميع الأحوال.

فالشبه بين بعض الجمهوريات وبعض الملكيات أقرب من الشبه بين جمهورية وجمهورية أو ملكية وملكية، وتقسيم الدول إلى عسكرية وصناعية لا يغنينا عن توجيه البحث الأصيل إلى الطبقة الحاكمة في كل من هذين النظامين.

والعبرة كلها بالطبقة الحاكمة في جميع الأحوال.

وهنا نصل إلى حجر الزاوية في مذهب الفيلسوف الذي بوأه مكانه بين فلاسفة الحكم الأقدمين والمحدثين.

•••

فمهما يكن نوع الحكومة، وفي أي بلد تحكم، وبأي عنوان تشتهر، فالظاهرة المتكررة دائمًا في جميع الدول هي أن الحكم مهمة تنحصر في أيدٍ قليلة جدًّا بالنسبة إلى الجمهور المحكوم.

هذه هي الظاهرة التي تكررت في جميع الدول، وستظل كما يعتقد موسكا متكررة إلى آخر الزمان؛ لأنها ثبتت بالتجربة والاستقرار، وبالاحتمال الممكن دون غيره عند تقليب المسألة على جميع الوجوه.

ولا فرق في هذه الظاهرة بين حكومة الدكتاتور وحكومات الأمم النيابية التي يعم فيها حق الانتخابات إلى أوسع حدود التعميم.

فمن الوهم أن يُفهم من «حكومة الفرد» أنها حكومة يديرها فرد واحد؛ لأن الفرد الواحد لا يستطيع إدارة الآلة الحكومية، ولا كسب النفوذ في المجتمع ما لم تؤيده «طبقة حاكمة» تلتف به، وتحقق إرادتها بتحقيق إرادته.

ومن الوهم أيضًا أن يُفهم من كلمة الحكومة النيابية أن الكثرة الغالبة هي التي تدير دفة الحكومة بالأصالة أو بالنيابية، فليس بالصحيح أن يقال إن الناخبين اتفقوا على اختيار نائب عنهم، وإنما الصحيح أن قلة صغيرة جعلتهم ينتخبونه، وتمكنت بوسائلها المنظمة من تحويل أصوات الناخبين إليه، وهذه القلة الصغيرة هي «لجنة الإدارة» في الحزب الظافر بأكثر الأصوات، ولا حيلة لعشرات الألوف المتفرقين أمام مائة أو نحو المائة يتفقون في الغرض والحركة ونشر الدعوة، ويحكمون تدبيرهم بالمرانة الخاصة على أعمال الانتخاب.

ويحدث كثيرًا أن تكون الطبقة الحاكمة في الحزب الدستوري أو النيابي أقل عددًا من الطبقة الحاكمة التي تحيط بالدكتاتور أو الحاكم بأمره، وأن يكون نفوذ النيابيين أقوى وأصعب مقاومة من نفوذ المستبدين.

ومن هذه الطبقة الحاكمة يتألف سلك الموظفين أو «البيروقراطية»، وهي التي تطَّلع على دخائل الأمور، وتستأثر بالخبرة في الدواوين، فلا يَسهل على الحكومة أن تستغني عن خبرتها واقتدارها على معالجة الأعمال.

ولكل طبقة حاكمة صيغة أو جملة من الصيغ تقرر بها سلطانها، وتجعلها شعارًا لها في إقناع رعاياها، ولا يلزم أن تكون موافِقة للمنطق والمعقول، كصيغة الحكم بالحق الإلهي أو سيادة الأمة أو «الحرية والإخاء والمساواة» أو الزعامة المقدسة أو رسالة الدولة أو الحرية الفردية أو التأميم، وما شاكلها من الصيغ التي تتبدل مع الطبقة الحاكمة على حسب الأمم والأوقات.

وتبقى الطبقة الحاكمة ما دامت مالكة لصفات القيادة وكفايات الولاية العامة، وليس من الضروري أن تكون هذه الصفات والكفايات مطابِقة لفضائل الطيبة والصدق والإخلاص، ولكنها لا يمكن أن تخلو من مزايا الحصافة والجد والحنكة وبُعد النظر والبداهة الموفقة في تصريف الأمور.

وخير الطبقات الحاكمة هي الطبقات التي تَخدم المصلحة العامة، ولا تجوز فيها المطامع الشخصية على المصالح الكبرى.

ولكن هذا «الخير» لا يأتي من فرض القوانين وتدوين النصوص وتنقيح الدساتير، فإن الدستور قد يبقى بجوهره خلال عهدين متناقضين كما بقي دستور فيمار على عهد الجمهورية، وعهد الدولة النازية، وإنما يتحقق الخير في الطبقة الحاكمة بفضل القوى الاجتماعية والحصانة الشرعية، وهما — في فلسفة موسكا — اصطلاحان يحتاجان إلى تفسير وجيز.

ففي كل أمة من الأمم قوى اجتماعية متعددة تدخل في بنية المجتمع بمقادير متساوية أو متفاوتة، ومنها قوة العقيدة وقوة الرأي وقوة العُرف والقوة العسكرية والقوة الصناعية والقوة الزراعية والقوة التجارية وقوة العمل، وغير ذلك من القوى التي تشتمل كل أمة على نصيب منها.

أما الحصانة الشرعية: فهي الحصانة التي تُستمد من قدرة هذه القوى على مقاومة المطامع الشخصية التي قد يَعمل لها رجال الحكم ورؤساء الدولة.

فإذا كانت هذه القوى متوازنة متكافئة، فالحصانة الشرعية وافية والطغيان متعذر، ومصلحة الحاكم في إجراء العدالة أكبر من مصلحته في مطاوعة المآرب الشخصية.

وإذا طغى بعضها على سائر القوى، فهناك يختل التوازن، وتضطرب الأمور، ويتربص فريق من الأمة بفريق.

ولا تقع الثورات العسكرية — في رأي موسكا — لأن بعض القادة يتمردون وبعضهم لا يتمردون، فمهما يكن من نزوع بعض القادة إلى التمرد فهم لا يستطيعونه إذا كانت القوى الاجتماعية التي تتوطد عليها دعائم المجتمع ممثَّلة في الجيش بقادته وضباطه وجنوده، وإنما تقع الثورات أو الانقلابات العسكرية لاختلال التوازن بين القوى الاجتماعية، واستطاعة قوة منها أن تسيطر على الجيش والحكومة مع السيطرة على المجتمع بغلبة النفوذ.

فالطبقة الحاكمة تَحسُن أو تسوء على حسب القوى الاجتماعية والحصانة الشرعية لا على حسب القوانين والنصوص، ومن أفضل الأسباب لضمان التوازن بين القوى الاجتماعية أن تشتمل الأمة على طبقة وسطى تمنع الاصطدام بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وتفتح الباب لتقدم الطبقة الفقيرة كما تفتح الباب لتجدُّد الطبقة الحاكمة وتناوُب السلطان بين المقتدرين عليه، كلما انتهت مهمة طائفة منهم خلفتها طائفة أخرى تناسب الأوضاع الاجتماعية التي تتعاقب مع الأيام.

ولهذا يفضِّل موسكا أن تتولى شئون الأمم حكومات نيابية؛ لأن الحصانة الشرعية أوفر في الحكومات التي تتسع للمعارضة؛ ولأن السيادة إذا احتكرتها فئة من الناس أوشكت أن تفسد وتستنيم، ولا تحسب حساب المعارضة والانتقاد.

ويحاول موسكا أن يطبق قوانين الطبيعة على المجتمع في هذه الظاهرة، فيقول: إن الجو تتنازعه خاصتان: خاصة الميل إلى الركود بحكم القصور الذاتي، وخاصة الميل إلى الحركة بحكم الاختلاف في توزيع الحرارة، وهكذا يَحدث في المجتمع حين تسعى فئة من الناس إلى احتكار السلطان في «دائرة مقفلة» وحين تهب «الرياح الاجتماعية» مع اختلاف توزيع الثروة والنفوذ.

وسلك الوظائف في الدولة يتجدد — كما يقول موسكا — على طريقتين: من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، ففي الحكومات المطلقة يستأثر الحاكمون بالوظائف ويؤثِرون بها أنفسهم وذويهم، وفي الحكومات النيابية يتسع المجال لصعود طائفة بعد طائفة إلى سلك الوظائف أو البيروقراطية، وذلك أسلم وأجدى من الاستئثار والاحتكار.

•••

ومن خلاصة مذهب موسكا يبدو أنه لا يُفرِط في التفاؤل بمصير الحرية الديمقراطية، وهو كذلك لا يُحسِن الظن بأحلام الحالمين الذين يتخيلون أن أبناء آدم متحولون غدًا إلى طهارة كطهارة الملائكة وعدالة كعدالة السماء الموعودة، إلا أنه لا يُفرِط في التشاؤم كما أنه لا يُفرِط في التفاؤل، وجملة أمره في هذا الباب أنه يفرِّق بين الأخلاق الأدبية المثالية وبين الأخلاق السياسية الواقعية، فالإيثار وحب الخير وسلامة الجانب فضائل مأثورة محبوبة على ألسنة الناس وفي كتب الأخلاق، ولكن الصفات التي ترشِّح أصحابها للبروز في عالم السياسة لا تتفق على الدوام مع تلك الفضائل المأثورة؛ بل يَغلب على صفات السياسة النافذة أن تنحرف عن النمط السوي عند دعاة الفضيلة والمحبة، فالرجل الذي يقيس آماله بحقوقه، ويوازن بين وسائله وغاياته، ويسالم الناس ويحب أن يسالموه قلما يُقدِم على عمل رائع في ميدان الحياة العامة، وإنما يتاح الرجحان في هذا الميدان للذين تغلب فيهم طبيعة الوثوب والاندفاع على طبيعة الإنصاف والاتزان، ومن هؤلاء ينبغ طلاب الإصلاح كما ينبغ طلاب السيطرة، وكلهم في عرف العقلاء المسالمين أناس «غير معقولين» وغير معتمِدين على العقل في كسب الثقة أو كسب المكانة، بل جل اعتمادهم على التأثير واستجاشة الحس والخيال، ومن تضييع الآمال في غير طائل أن ننتظر من الناس أن يعملوا ما يُعقَل ويوافق المنطق على الدوام، فإن ميدان السياسة مفتوح للدوافع المعقولة وغير المعقولة، وينبغي أن يعول الناس في كبح القوة الطاغية على القوة الرادعة، فلا يصد القوة إلا القوة، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وهذا الذي يعنيه موسكا بإعداد القوى الاجتماعية في الأمة لضمان الحصانة الشرعية، فتعدل الطبقة الحاكمة على الطغيان؛ لأنها تعلم أن مصلحتها في العدل أوفر من مصلحتها في الجور على حقوق المحكومين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤