خِذْلان برادلي

يضحك المتزلِّج بخفة وينزلق،
غير مدرك أنَّ تحت الجليد،
الذي ينحت فيه بزلاجته،
جثةً متجمِّدةً ترقد في صمتٍ وتنزلق.

•••

تحدِّق الجثة إليه وهو يتزلج فوقها،
وأصابعها الزرقاء الباردة المتيبِّسة
تتحرَّك في إثره وتتبعه.
تَهيم بقربه وتهيم بعيدًا.
قصيدة مجهولة

قال برادلي: «لو أني أمتلك الشجاعة.» بينما كان ينظر من فوق الحاجز الحجري لضفة نهر التيمز إلى المياه المظلمة وهي تتلألأ لوهلة تحت بريق مصباح الغاز ثم تختفي في ظلام الليل وتعود لتتلألأ من جديد في أسفل النهر.

واستطردَ يُتمتِم لنفسه: «إنني على الأرجح سأُكافح من أجل الخروج مرةً أخرى في اللحظة نفسها التي سأقفز فيها.» ثم استدركَ قائلًا: «لكن إذا لم تأتِ المساعَدة، فسينتهي كل شيء في غضون دقيقة. أو ربما دقيقتَين. أقسم أن تلكما الدقيقتَيْن ستبدوان وكأنهما دَهر. وخلالهما سأرى مئات الطرق لكسب القوت، لو تمكَّنت فقط من الخروج من المياه مرةً أخرى. فلِمَ لا أستطيع الآن أن أجد طريقة لكسب قوتي بينما لا أزال خارج المياه. لقد انتحر والدي، فلمَ لا أُقدِم أنا على فعل ذلك؟ أعتقد أنَّ الأمر متوارَث في العائلة. يبدو أن هناك لحظة يكون فيها الانتحار هو المَخْرج الوحيد. تُرى هل تردَّد قبل انتحاره؟ إنني جبان، وتلك هي المشكلة.»

وبعد لحظة من التردُّد تسلَّق الرجل إلى قمة الجدار الحجري ثم توقَّف مرة أخرى. ثم نظر إلى مياه النهر المظلمة وهو يرتعد.

وصاحَ بصوتٍ عالٍ: «سأفعلها.» وكان على وشك أن يقفز حين أمسكت به يدٌ من ذراعه وجاءَه صوت يقول:

«ماذا ستفعل؟»

وفي ضوء مصباح الغاز رأى برادلي وجه رجلٍ بدا مألوفًا له، ورغم أنه تساءل في نفسه سريعًا: «أين رأيتُ هذا الرجل من قبل؟» فإنه لم يستطع أن يتذكَّر.

فأجابَ برادلي متجهمًا: «لا شيء.»

فردَّ الرجل: «هذا صحيح. لم أكن لأفعل شيئًا من هذا القبيل لو كنتُ مكانك.»

«بالطبع لم تكن لتفعل ذلك. أنت تملك كلَّ ما يَنقصُني؛ المأكل، والملبس، والمأوى. لم تكن لتفعل ذلك بكل تأكيد. ما الذي قد يدفعك إلى فعل ذلك؟»

«ما الذي قد يدفعك أنت إلى فعل ذلك، ما دُمنا تطرقنا إلى هذا الأمر؟»

«لأنَّ عشرة شلنات تقف بيني وبين حصولي على وظيفة. هذا هو السبب إذا كنتَ تُريد أن تعرف. إنَّ أجرة السكة الحديد ثمانية شلنات، وشلن لأشتري شيئًا آكله الليلة، وشلن آخر أشتري به شيئًا آكله في الصباح. لكنني ليس معي عشرة شلنات. هذا هو السبب.»

«إذا أعطيتُكَ عشرة شلنات، فما الذي يَضمن لي أنك لن تذهب وتشتريَ بها شرابًا تثمل به؟»

«ليس كذلك على الإطلاق. إنني لم أطلب منك عشرة شلنات، ولم أطلب منك شلنًا واحدًا حتى. كلُّ ما هنالك أنني أجبتُك عن سؤالك.»

«هذا صحيح. سأعطيك جنيهًا إذا قبلت به، وبذلك إذا أنفقتَ نصفه في الترويح عن نفسك، فسيتبقى لك ما يكفي لتحصل على الوظيفة. ما هي تلك الوظيفة؟»

«إنني أعمل نجَّارًا.»

«إذن لك الجنيه.»

«سآخُذُه بكل سرور. لكن، دعني أُذكِّركَ، أنا لستُ بمُتسوِّل. سأقبلُ بالجنيه إذا أعطيتني عنوانك، حتى أتمكَّن من ردِّه إليك حين أجنيه من عملي.»

وعند هذا كان برادلي قد نزلَ إلى الرصيف. وضحكَ الرجلُ الآخر ضحكة هادئة.

«لا يمكنني أن أوافقَ على ذلك. يسرُّني أن تأخذَ المال. ويُمكنني أن أزيدكَ إذا أردت. إنما عرضتُ عليك ضِعفَ المبلغ من أجل تغطية تكاليف أي شيءٍ لم تذكره.»

«لن آخذ المال، إلا إذا سمحت لي أن أعيده إليك.»

«أنا واثقٌ تمام الثقة من صِدقك. ولو لم أكن واثقًا فيك، لما عرضت عليك المال. لا يُمكنُني أن أعطيك عنواني، أو بالأحرى، لن أعطيك عنواني. أما إذا دفعت الجنيه في عمل خيري أو أعطيته إلى شخص محتاج، فسأكون راضيًا تمامًا. إنك إذا أعطيته إلى الشخص المناسب وطلبت منه أن يُعطيَه هو أيضًا إلى الشخص المناسب، فإن هذا الجنيه سيكون ذا نفع أكبر مما لو كان في جيبي أو لو أنفقته أنا بطرقي المعتادة.»

«لكن كيف تعرف أنني سأفعل ذلك؟»

«إنني شخص يُجيد الحُكم على الناس. وأنا واثقٌ من أنك ستفعل ما أقول.»

«سآخذ المال إذن. وأشك إنْ كان في لندن كلِّها مَنْ يحتاج هذا المال الليلة أكثر من حاجتي إليه.»

ثم راحَ برادلي ينظر إلى الرجل الذي أصبح صديقه وهو يتوارى عن نظره بعيدًا.

وقال في نفسه: «لقد رأيتُ هذا الرجل في مكانٍ ما من قبل.» لكنه كان مُخطئًا في ذلك. إنه لم يرَه من قبل.

•••

إنَّ الثروة موزَّعة على نحو متفاوت وغير منصف للغاية. كلُّنا يقرُّ بهذا، لكن قلة منا فقط مَنْ يتفقون على سبل إصلاح ذلك. لقد ناضلَ أفضل المفكِّرين في هذا القرن من أجل فهم هذه المسألة، لكن دون جدوى. تبدو آية «لأن الفقراء معكم في كل حين.» حقيقية وصحيحة الآن كما كانت قبل ١٨٠٠ عام. وحين يستبدُّ الشك بالكثير من الناس، فربما يكون من الراحة والسلوى أن تقابل رجالًا يتمتعون بيقينٍ كبيرٍ فيما يتعلَّق بالقضية وسُبل علاجها. وتقابَلَ هذا الجمع من الرجال في غرفةٍ خلفية على مسافةٍ من ميدان سوهو.

قال رئيس الجلسة بينما كان النجَّار يأخذ مكانه بعد أن أُغلِقت الأبواب: «نحن في انتظارك يا برادلي.» وكان برادلي يبدو بمظهر أفضل مما كان عليه قبل عام على ضفة نهر التيمز.

«أعلمُ أنني تأخرت، لكن لا حيلة لي في ذلك. إنهم يستعجلون الكثير من الأمور في أرض المعارض. والوقت ضيق الآن، وقد بدءوا يَشعُرون بالقلق خشية ألا يكون كل شيء جاهزًا في موعده.»

قال رجلٌ من الجَمْع الصغير: «هذا صحيح. إننا عبيد وينبغي أن نصل مبكرًا أو نغادر متأخرًا حسب ما يراه أسيادنا المزعومون.»

قال برادلي مبتسمًا وهو يجلس: «أوه، هناك أجر إضافي.»

قال رئيس الجلسة وهو يقرع على المكتب: «أيها الرفاق، سنتطرقُ الآن إلى أمر الأعمال. لقد انعقدت اللجنة السرية واتخذت قرارًا. بعد سحب القرعة ستكون مُهمَّتي هي إبلاغ الرجل المُختار بتفاصيل المهمة. ومن المستحسَن أن يعرف قلة فقط — حتى من بيننا — مَنْ هو هذا الرجل الذي سحب الورقة الموسومة. وربما يكون من حُسن حظي أن أكون الرجل المُختار. إنَّ أحد تلك الأوراق يحمل علامة خطَّيْن متصالبَيْن. وأيًّا كان الرجل الذي سيسحب تلك الورقة، فإنه سيأتي إليَّ في غرفتي في غضون يومين. وينبغي أن يأتي وحده. لقد أصدرت أوامري إلى اللجنة بألا ينظر أحد في ورقته إلا بعد أن يغادر هذه الغرفة، وأن النظر في الورقة لا بد أن يتمَّ سرًّا. وكل رجل ملتزم بقَسَمه ألا يخبر أحدًا في أي وقت سواءٌ كان هو الرجل المختار أو لا.»

وُضِعت الأوراقُ في قبعة وسَحَبَ كلُّ رجل في الغرفة ورقة. وضعَ رئيس الجلسة ورقته في جيبه، وهكذا فعل الآخرون. ثم فُتِحَت الأبواب وذهبَ كلُّ رجل إلى منزله، إن كان لديه منزلٌ.

وفي مساء اليوم التالي، عرَّج برادلي على غرفة رئيس الجلسة وقال له: «ها هي الورقة الموسومة قد سحبتُها ليلة أمس.»

•••

كان مبنى المعرض يزهو بالكثير من الرايات ويَصدَحَ بأصوات إحدى الفِرق الموسيقية. وكانت الآلة التي لن تكفَّ عن العمل لمدة ستة أشهر لا تزال ساكنة؛ ذلك أنَّ صاحب السمو كان سيفتتح تشغيلها في غضون ساعة. وكان صاحب السمو وحَاشِيته لم يَصِلا بعد، لكن المبنى كان يعج بحشدٍ من الضيوف المدعوين المتأنِّقين، الذين كانوا هم الأفضل في البلاد من حيث الشهرة والألقاب والثروة. وتحت المنصة الكبيرة التي من المقرر أن يقف عليها صاحب السمو والضيوف الرفيعو الشأن ليُلقوا كلماتِهم والتي منها سيضغط صاحب السمو زر التشغيل الكهربائي، كان برادلي يسير في الأرجاء مُضطربًا، وقد اعتلتْه النظرة نفسها التي كانت على وجهه في تلك الليلة التي فكَّر فيها أن يقفز في نهر التيمز. كانت المنصة من الأسفل عبارة عن شبكة كثيفة ومتداخلة من العوارض والدعامات. وكان صندوق الأدوات الخشبية الخاص ببرادلي موضوعًا على الأرض بجوار أحد عروق الخشب. وقد أتى رئيسُ العمَّال وراحَ يضرب دعامة هنا أو عارضة هناك.

وقال مخاطِبًا برادلي: «كلُّ شيءٍ على ما يرام. لن تكون هناك مشكلة، حتى لو أنَّ هذه المنصة نُصِبَت على عجل، وعلى الرغم من الحِمْل الثقيل الذي ستحمله الليلة.»

لم يكن برادلي واثقًا كثيرًا بهذا الشأن، لكنه لم ينطق ببنت شفة. وحين تركه رئيس العمَّال وحده، فتحَ بحذر غطاء صندوق أداوته وأزاحَ مِئزره الذي كان يُغطِّي شيئًا تحته. كان ذلك الشيء صندوقًا صغيرًا يحوي جهازًا به ساعة ومطرقة صغيرة مرفوعة تتدلَّى على غطاءٍ نحاسي صغير وكأنها سيف دَموقليس. ألقى برادلي بالمِئزر عليه مرة أخرى وأغلقَ غطاء الصندوق وجلسَ إلى أحد عروق الخشب وطوى ذراعيه منتظرًا.

ثم سرعان ما جاء صوت هتاف هائل وبدأت الفرقة الموسيقية عزفها. قال برادلي في نفسه وهو يطبق شفتَيْه بإحكام أكبر: «إنه آتٍ.» ثم صاح به رجل شرطة، وهو يطل برأسه من الباب الخشبي الصغير أسفل المنصة، قائلًا: «أيها النجَّار، تعال إلى هنا بسرعة. يمكنك أن تحظى برؤيةٍ أوضح لصاحب السمو وهو يسير في الممر.» سارَ برادلي إلى الفتحة وحَدَّقَ إلى الموكب المهيب وهو يتجه نحوه. ثم فجأة، أمسكَ بذراع الشرطي كالمنجل.

«مَنْ هو ذلك الرجل الذي يتقدَّم الموكب في ردائه المميَّز؟»

«ألا تعرفه؟ إنه صاحب السمو.»

راحَ برادلي يلهث. أدركَ أنَّ صاحب السمو هو الرجل الذي قابَلَه عند ضفة النهر.

فقال لرجل الشرطة: «شكرًا لك.» ونظر إليه الشرطي في فضول. ثم دَلَفَ إلى تحت المنصة الكبيرة بين الدعامات والعوارض واستندَ إلى أحد العروق الخشبية مقطِّبًا جَبينه.

وبعد لحظاتٍ قليلة خَطَا نحو صندوقه، وأزالَ المئزر وأخرجَ الآلة بحذر كبير. وبهزَّة سريعة أزال المطرقة الصغيرة وألقى بها بعيدًا عنه. راحت الآلة تطنُّ من الداخل للحظة وكأنها وقت يشارف على الانتهاء. ثم فتحَ الصندوق الصغير وهزَّه فأخرجَ منه على المئزر مادةً وكأنها نشارة خشب جافة. ثم بدا مُتحيِّرًا للحظة ما عساه أن يفعل بها. وأخيرًا أخذها إلى الخارج ونثرها على تقاطع للسكة الحديد ينمو عليه العُشب. ثم عادَ برادلي إلى صندوق عدَّته وأخرجَ منه إزميلًا وراحَ يتحسَّس حافته بإبهامه وهو متجهِّم.

•••

أقرَّ الجميع أن صاحب السمو لم يُلقِ في حياته من قبل خطابًا أبلغ من الذي ألقاه أثناء حدث افتتاح ذلك المعرض. كان صاحب السمو قد ألمح بقدر يسير إلى موضوع الرخاء المنقطع النظير في البلاد، الذي كانت إحدى دلالاته تلك المجموعة الفنية الرائعة التي تحويها تلك الجدران. كما أشارَ إلى جو الاطمئنان والرضا العام الذي سادَ بين الطبقات التي يرجع الفضلُ إلى ما أنجزته أياديهم في تلك الأمثلة الرائعة المعروضة للمهارة البشرية. وقد عبَّر صاحبُ السمو عن امتنانه للسلام والطمأنينة التي سادت على الأرض السعيدة وعن أمله في استمرارهما. ثم كان هناك عدد لا بأسَ به من اللمسات الفكاهية في حديثه، ومثل هذه اللمسات تكون باعثة كثيرًا على السرور حين تأتي من أناس يتقلَّدون مناصبَ رفيعة. وفي الواقع، قال رئيسُ الجلسة في الاجتماع الذي انعقدَ بعد ذلك (وانعقدَ سِرًّا بالطبع) إن الرجل الذي كتبَ خطاب صاحب السمو قد تفوَّق على نفسه.

•••

نشرت الصحفُ تقارير كاملة ومفصَّلة عن افتتاح المعرض في صباح اليوم التالي لذلك، وربما لأنَّ تلك المقالات المصوَّرة كانت تحتلُّ مساحة كبيرة في الصحف، لم تكن هناك مساحة كبيرة للإعلان عن الرجل الذي انتحر. لم تَقُلِ الصحف أين وُجدت الجثة، إلا أنها كانت بالقرب من مبنى المعرض، ولم يعرف صاحب السمو قطُّ أنه ألقى بذلك الخطاب الرائع مباشرةً على جثة رجل ميت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤