مأزق دي بلونفيل

تَختلِف هذه القصة عن الأخريات في أنها تحوي مجموعة متنوِّعة من الدروس الأخلاقية. ولمُعظَم القصص درسٌ أخلاقي واحد، أما هنا فهناك العديد منها. ويظهر الدرس الأخلاقي عادةً في نهاية القصة، ولكن في هذه القصة تُذكَر بضعة دروس في البداية، حتى نوليها اهتمامًا أكبر بينما نتقدَّم في قراءة القصة. أولًا: حريٌّ بالمرء — لا سيَّما إذا كان شابًّا — أن يُوليَ اهتمامًا كبيرًا بعمله. ثانيًا: عندما يقدم المرء على التخطيط لحياته في المستقبل القريب، فسيكون من الخطأ ألَّا يُخصِّص نسبة عشرة في المائة على الأقل لذلك الجزء المجهول، وهو المرأة. ثالثًا: من المفيد أن نتذكر أنَّ من النادر أن يعرف امرؤٌ واحد كلَّ شيء. ولا شك أنَّ المزيد من الدروس الأخلاقية ستظهر فيما بعد، وفي نهاية القصة قد يتفكَّر الشخص الميَّال نحو التهكُّم والسخرية في القول المأثور الذي يتحدث عن المطرقة والسندان أو الرمضاء والنار.

كان الشابُّ الباريسي إم دي بلونفيل يتمتَّع بوَضعٍ يُحسَد عليه. كان لديه كلُّ ما يحتاج من المال، وشتان بين ذلك وبين القول بأنه كان لديه كلُّ ما يُريد من المال. كان على مُستوًى جيد من التعليم، ويتحدَّث ثلاثَ لغات، بمعنى أنه كان يتحدَّث لغته الأم بطلاقة واللغتان الأُخرَيان يتحدَّثهما على نحو رديء، ولكن لكونِه رجلًا يَفخر بنفسه لما يستطيع القيام به ولو بأدنى الدرجات، كان دي بلونفيل يتخيَّل نفسه عالِم لغة يتقن لغاتٍ عديدة. وكانت شجاعتُه في التحدث بالإنجليزية أمام الإنجليز وبالألمانية أمام الألمان تُظهِر على أقل تقدير أنه رجلٌ يتَّسم بالشجاعة. كان دي بلونفيل يتمتَّع بالكثير من الخير، بل ومن الموهبة أيضًا. وقد ذكرتُ هذه الجملة في البداية لأن كلَّ مَنْ يعرف دي بلونفيل سيعارضها في الحال ومن دون تردُّد. كان مَنْ يَعرفُونه يرون أنه من أكثر الشخصيات البغيضة والمكروهة في باريس، وكان ضباط البحرية عادةً ما يتلفَّظون بألفاظ نابية لا مبرر لها حين يُذكر اسمه. وكان هذا كلُّه بسبب ما يتمتَّع به دي بلونفيل من مكانة، الأمر الذي كان له مَساوِئُه رغم كونه مَدعاةً للحسد.

كانت رُتبته في البحرية لا يُمكن أن تعطيَه أيَّ ثِقل أو اعتبار أيما كان، لكن لسوء الحظ، كان لدى بلونفيل بحُكم شعبيته وشهرته أسلوبه في فرض مُقترحاته. كان والدُه رجلًا مهمًّا للغاية في الحكومة الفرنسية. وكان من الأهمية بمكانٍ بحيث يُمكن له أن يُرسِل توبيخًا إلى قائد سِرب في البحرية ولا يَجرؤ القائد على الرد عليه. يتطلَّب هذا الأمر رجلًا يتمتَّع بأهمية كبيرة حقًّا، وهذا ما كان يتمتَّع به دي بلونفيل الأب من قدرٍ ومكانة. لكن كان من المعروف آنذاك أنَّ دي بلونفيل الأب رجلٌ هادئ يحب الراحة، ولم يكن يَكترِث بأن يُزعج نفسه كثيرًا بأمر البحرية الموضوعة تحت سلطتِه وتصرُّفه؛ ومن ثمَّ عندما كانت تظهر مشكلة، يكون دي بلونفيل الابن هو المُتسبِّب فيها؛ ومن ثمَّ، لم يكن الضباط في البحرية يُكِنُّون له الحب.

وغالبًا ما كانت تصرفات دي بلونفيل الابن الطائشة والغبية تُضفي مصداقية على تلك الشكوك. على سبيل المثال، هناك حادثة تولون الشهيرة. ففي خضمِّ جدال مُحتدِم، زعم دي بلونفيل الابن أنَّ نيران المدرَّعات الفرنسية كانت رديئة، وأنَّ الأسطول الفرنسي بأكمله لم يكن ليَصمُد أمام مِدْفعية عشرة من البحرية الإنجليزية. وبعد ذلك بفترةٍ ما، عرف الضباط البحريُّون أنَّ الحكومة في باريس غير راضية تمامًا عن تدريبات البحرية غير الدقيقة على السلاح، كما أعربت الحكومة عن آمالِها في أن ينظر قائد البحرية في أمر تحسين ذلك. لم يَستطِع الضباط بالطبع فعل أي شيء سوى الكزِّ على أسنانهم، ومُحاولة إطلاق النار على نحو أفضل، آملين في أن يَحين الوقت الذي تخرج فيه الحكومة الحالية من نطاق السلطة، وأن يجدوا حُجَّة ملموسة لكي يَشنُقوا دي بلونفيل الابن على عارضة الصاري.

كلُّ هذا لا يُؤثِّر كثيرًا على هذه القصة، لكنَّنا نأتي الآن على ذكر أمر سيُحدِّد مصير القصة من نجاح أو فشل. كان لدى بلونفيل سرٌّ، ولم يكن سرًّا كتلك الأسرار الشائعة في الحياة الباريسية، وإنما كان سرًّا جديرًا بالتصديق من جانبِه. وكان السر يتعلَّق باختراع يهدف إلى زيادة كفاءة الجيش الفرنسي. تحوَّل اهتمام دي بلونفيل بطبيعة الحال إلى الجيش الذي هو إحدى وسائل الدفاع عن وطنِه، والذي لم تكن هناك أيُّ علاقة بين دي بلونفيل وبينه. وقد تَحدَّث عن اختراعِه ذلك ذات مرَّة إلى صديق له، وهو مُلازمٌ في الجيش. وكان يتوقَّع الحُصول على بعض المقترحات العمَلية. لكنه لم يأتِ على ذكره مرة أخرى لأي أحد.

قال دي بلونفيل لصديقه: «إنه مبنيٌّ على مبدأ المظلَّة. بل، في واقع الأمر، المِظلَّة هي ما أوحت إليَّ بفكرتِه. وإذا أمكَنَ صناعته ليكون خفيفًا بحيث لا يُضيف عبئًا كبيرًا على الجنود الذين يُواجهُون الكثير من العوائق في الوقت الراهن، فإنَّني أرى فيما يبدو أنه سيكون مُفيدًا بدرجة فائقة. وبدلًا من أن يكون مُستديرًا كالمظلَّة، لا بد أن يكون مُستطيلًا وذا أطراف حادة مُستدَقة. ولا بد أن يُصمَّم بحيث يُمكِن فتحه وغلقُه بسُهولة، وسيكون القماش المستخدم فيه رقيقًا، لكنه سيكون غير نفَّاذ للماء. وعندما يصل الجيش إلى أحد الأنهار، يُمكن لكلِّ جندي أن يَفتحه ويضعه في الماء ويُدخله ببعض الحذر ثم يُجدِّف بنفسه باستخدام نهاية عقب البندقية أو حتى بمِجداف خفيف إن كان حَمْلُ المجداف لن يُضيف إلى الوزن كثيرًا؛ ومِن ثمَّ سنُوفر عناءَ بناء الجُسور المؤقَّتة. يبدو لي أن مثل هذا الاختراع سيكون مُفيدًا للغاية أثناء الزحف المُتواصِل للجنود. ثم يُمكن استخدامه في الليل كخيمة، أو يُمكن أن يُشكِّل مأوًى مؤقتًا أثناء هطول الأمطار الغزيرة. ما رأيك في الفكرة؟» كان صديقُه يستمع إليه بعينين شبه مغلقتَين، يغالبهما النعاس. فنفث بعضَ دخان سيجاره من فتحتَي أنفِه وأجابه:

«إنُّه رائع يا دي بلونفيل.» قالها ببُطءٍ وتراخٍ ثم أضاف: «إمكاناته مُتعدِّدة، أكثر حتى مما تتخيَّل. وسيكون مفيدًا للغاية أيضًا في فَيلق جبال الألب.»

«يسرُّني أنك تظن ذلك. لكن لماذا هناك؟»

«اسمع، إذا بلغَ الجيشُ قمةً عالية تطلُّ على وادٍ سحيق، لا يُمكن بلوغه إلا من فوق جرفٍ يَتعذَّر اجتيازه، فكلُّ ما سيكون على الجيش فِعله هو نشرُ اختراعك الرائع واستخدامه كمظلَّة باراشوت. وسيكون مشهد الجيش الفرنسي وهو يتحرَّك بسلاسةٍ هابطًا نحو الوادي مُثيرًا للرعب كثيرًا في نُفوس دول أوروبا، حتى إنني أتصوَّر أن أيَّ عدوٍّ لن يَنتظر حتى تُطلق نيران البندقية. إنَّ اختراعك يا دي بلونفيل سيخلِّد اسمَك واسمَ الجيش الفرنسي.»

لم ينتظر دي بلونفيل الابن ليسمعَ المزيد، وإنما استدار وانطلَقَ مُبتعدًا.

دفعت هذه المحادثة دي بلونفيل الابن إلى اتخاذ قرارَيْن؛ الأول هو ألَّا يَذكر مشروع اختراعه هذا إلى أحد، والثاني أن يدأب على إتمام اختراعه وإتقانه؛ ومن ثمَّ يَتسبَّب في إرباك الساخرين منه وإصابتهم بالحيرة والتخبُّط. وكان هناك العديد من القرارات الفرعية التي تَعتمد على هذيْن القرارَيْن. لن يدخل إلى نادٍ أبدًا، وسيَتجنَّب التجمُّعات، ولن يتحدَّث إلى امرأة، باختصار، سيكون ناسكًا حتى يُزيح الستارَ عن اختراعه على مرأًى من أنظار العالَم المندهش.

كل هذا يُوضِّح أنَّ دي بلونفيل الابن لم يكن ذلك المتأنق الدخيل المتغطرس كما يظن مَنْ يعرفونه. لكنه في القرارات الكبيرة والصغيرة لم يقتطع نسبة العشرة في المائة الخاصة بالجزء المجهول.

أين؟ كان هذا هو السؤال. راحَ دي بلونفيل الابن يذرع أرضية غرفته جيئةً وذهابًا ويُفكِّر في الأمر. كانت هناك خريطة كبيرة لفرنسا مبسوطة على الطاولة. وبدا واضحًا أنَّ من المستحيل أن يلجأ إلى باريس وضواحيها. كان في حاجة إلى مكانٍ للعزلة. كان بحاجة إلى مكانٍ به مساحة مُمتدة من الماء. إذن أين ستكون البُقعة التي ستَأتي الأجيال القادمة وتُشير إليها وتقول: «هنا، وفي هذا المكان، أتمَّ دي بلونفيل بإتقان اختراعَه الشهير الذي يتخذ شكلَ الخيمة والقارب والباراشوت.»

لا، ليس الباراشوت. تبًّا للباراشوت! كانت تلك الكلمة من الكلمات الساخرة للمُلازم. توقَّف دي بلونفيل لبرهة ليَلعَن ائتمانه أيَّ رجلٍ عسكريٍّ على أسرارِه.

كان هناك ما يكفي من الماء حول الساحل الفرنسي، لكن كان الجو في غاية البرودة في ذلك الفصل من العام بحيث لن يَتمكَّن من اختبار اختراعه في الشَّمال والشرق. ولم يتبقَّ سوى البحر المتوسط. فكَّر سريعًا في العديد من المناطق المبهجة على طول الريفييرا — كَان، وسانت رافائيل، ونِيس، ومونت كارلو — لكن كل تلك الأماكن كانت عامة للغاية ومزدحمة كثيرًا بالزوار. ثم تبادر إلى ذهنه فجأةً اسم المكان الذي سيَختارُه، وبينما توقَّف عن سيره جيئةً وذهابًا، تساءَل دي بلونفيل لماذا لم يَخطُر ذلك المكان على باله منذ البداية. هييريس! يبدو أن تلك المنطقة قد صُمِّمَت في العصور الوسطى من أجل إنجاز مثل هذا الاختراع وإتمامِه. كانت المنطقة تقع على بُعد مِيلَيْن أو ثلاثة أميال من البحر، وطقسها مُمتاز، ولا يوجد بها مَوكِب للبَحرية، وشاطئها مُنعزِل، والخليج فيها محاطٌ بالجُزر. كانت تلك بُقعة مثالية.

استَطاع دي بلونفيل أن يَحصُل بسهولة على إذنِ تَغيُّب؛ فأبناءُ الآباء الذين يَعتلُون مناصبَ عالية في الخدمة في الدول المُقرَّة بالجميل نادرًا ما يتكبَّدون أيَّ عناءٍ في شيءٍ يسير كهذا. اشترى دي بلونفيل تذكرةً على متن ذلك القطار المُترَف المتأنِّي، الذي يُطلق عليه الفرنسيون بحِسِّهم الفكاهي السائغ اسم «السريع»، وفي الوقت المحدد وجدَ نفسَه ومعه متعلقاته المختلفة واقفًا على رصيف المحطة في هييريس.

قليلٌ منا مَنْ يتحلَّون بالشجاعة كما نَعتقِد في أنفسنا. وقد جفل دي بلونفيل حين حانت اللحظة الكبرى، وربما كان هذا هو السبب وراء عِقاب الآلهة له. قرَّر أن يذهب إلى أحد الفنادق الريفية الصغيرة في بلدية كاركيران على الساحل، لكن هذا القرار كان نابعًا من رغبته في الانتصار لنفسه حين سَخَرَ الملازم من مشروعه. أما الآن، وفي لحظة أكثر هدوءًا، فكَّر دي بلونفيل في مأكولات كاركيران فارتعَدَ. هناك تضحياتٌ لا يُمكِن لأيِّ امرئٍ أن يَتحمَّلها؛ ولذا تردَّد ضابطُ البحرية، وفي النهاية وجَّه تعليماته إلى الحمَّال بأن يضع أمتعته على متن «حافلة» فندق كوستبيل. سيكون هناك الكثير من الناس في الفندق، هذا صحيح، لكن في وسعه أن يَتجنَّبَهم، في حين أنه لو ذهب إلى النُّزل الريفي فما كان ليتمكَّن من تجنُّب الطعام هناك. وهكذا أخمدَ ضميرَه المتَّقد. بدا أنَّ تناوُل الغَدَاء في فندق كوستبيل يُمثِّل مبررًا لاختياره لمكان إقامتِه. وكانت الأجواء المُحيطة بالفندق جذَّابة وآسرة على نحوٍ خطير بالنسبة إلى شخصٍ نزَّاع بطبيعتِه إلى المَرح والتراخي. كان المكان يَبعث على «الاسترخاء وإيقاظ الروح» كما يقول والت ويتمان. كان بلونفيل هناك مُتخفيًا — حيث أسقط كلمة «دي» من اسمِه مؤقتًا — وكان يَمشي باتجاه البحر في وقت الظهيرة، فكان يبدو كرجل لا يَشغل باله شيءٌ. ولم يكن مَنْ يراه حينها ليظن بأنه هو إديسون المستقبلي بالنسبة إلى فرنسا. وعندما وصل إلى الشاطئ عند أطلال المحطة البحرية الرومانية البائدة التي تُدعى بومبونيانا، راحَ يضربُ على فخذَيه من الفرحة. كان قد نسيَ أن في تلك البقعة ظهر عدد من البيوت الخشبية الصغيرة، التي كان حجمها أكبر من كوخ السباحة وأصغر من الكوخ العادي، وكان سكان هييريس يَستخدمون تلك البيوت في الصيف، أما في الشتاء، فإنها تكون خاوية ومَهجورة. وكان أكبر هذه البيوت مناسبًا له تمامًا، وكان يَعرف أنه لن يُواجِه صعوبة في استئجاره لمدة شهر أو شهرَيْن. فهُنَا يمكنه أن يحضر اختراعه غير المكتمِل، وهنا يمكنه أن يعمل على إتمام اختراعه طوال اليوم من دون مضايقة أو إزعاج من أحد، وهنا يُمكنه أن يَختبر قدراته على الإبحار من دون أن يُشاهدَه أحد.

سار بلونفيل على الطريق، وأشار إلى الحافلة القديمة التي تسير ببطء بين مدينتَي تولون وهييريس على طول الطريق الساحلي؛ وركبَ بجوار السائق، وسرعان ما حصل على معلوماتٍ عن مالِك تلك الأكواخ في بومبونيانا.

كما توقع بلونفيل، لم يواجه صعوبة في ترتيب الأمر مع المالك لاستئجار أكبر كوخ بين تلك الأكواخ الصغيرة، لكنه اعتقد أنه لاحظ انخفاضًا طفيفًا في الجفن الأيمن للرجل بينما كان يعطيه المفتاح. فهل شكَّ المالك في غرضه من استئجار ذلك المكان؟ كان يتساءَل في نفسه في قلق، بينما كان عائدًا يستقلُّ العربة من المدينة إلى فندق كوستبيل. مُستحيل. لكنَّه شعر بأنه لا يستطيع أن يكون كتومًا للغاية بشأنِ نَواياه. لقد سمع بمخترعين سبَقَهم غيرُهم إلى اختراعاتهم في اللحظة نفسها التي كانوا فيها قابَ قوسَيْن أو أدنى من تحقيق النجاح.

طلبَ بلونفيل من السائق أن يَنتظر، ووضَع في العربة حمولته التي تتكوَّن من اختراعه نصف المُكتمِل والأدوات اللازمة لإتمامه. ثمَّ انطَلَق بالعربة نحو الشاطئ، وبعد أن وضع الحمولة على الأرض، دفع للرجل أجرته وصَرَفَه. وحين غابَت العربة عن الأنظار، حمل أمتعته إلى الكوخ وأغلق عليها. وفي طريقه إلى الفندق صعد التل، ممَّا ضاعفَ من لذة مَذاق العشاء الفاخر الذي قُدِّم له هناك.

وفي صباح اليوم التالي، استيقظ مُبكرًا ليُباشر عمله، وسرعان ما بدأ يُدرك أنه قد نسيَ الكثير من الأدوات الضرورية في باريس. كان يأمُل أن يَستطيع شراء تلك الأدوات من هييريس، لكنه تذكَّر محدودية الموارد في المدينة فأصابه الشك نوعًا ما. وكانت النوافذ الصغيرة على جانبي الكوخ بالكاد ما تمدُّه بما يكفي من الضوء، لكنه لم يفتح الباب؛ خوفًا من فضول أي شخص يتصادف مروره. فلا يسع المرءُ إلا أن يتوخَّى الحذر الشديد عند العمل على إتمام مشروع عظيم كهذا.

استغرقَ بلونفيل في العمل نحو ساعة ونصف الساعة، عندما سمع امرأةً تغني، وكان الغناءُ عَذبًا للغاية. كانت تغني بحرية واستمتاع مَنْ لا يشك في أنَّ هناك مَنْ يسمعه. راحَ صوتُ الغناء يَقترب أكثر فأكثر. وقفَ بلونفيل مذهولًا، وأسقط الأدوات من يده، وانسلَّ نحو النافذة الصغيرة المحجوبة بعض الشيء. رأى جمالًا فاتنًا يَرتدي ثوبًا لم يرَ له مثيلًا من قبل. كانت تسير على الضفة بخطواتٍ خفيفة وسريعة حتى وصلت إلى الكوخ المجاور، وأخذت مفتاحًا كان مُعلقًا في حزام ترتديه، وفتحت به الباب. وللحظة، انخفض صوت الغناء لكنه لم يتوقَّف، ثم خرجَ من باب الكوخ نصفُ قارب جعل بلونفيل يَشهق حين رآه. لم يرَ بلونفيل مثيلًا لهذا القارب من قبل، كما هو الحال مع زيِّ الفتاة. كان شكل القارب هو نفسه الشكل الذي صمَّمه بلونفيل لاختراعه، وكان مصنوعًا من مواد خفيفة للغاية؛ ذلك أن الفتاة الرشيقة الرقيقة في زيها غير المألوف استطاعت أن تدفَع بالقارب من دون حتى أن تتوقَّف عن غنائها. وفي اللحظة التالية، خرجت هي بنفسها وراحت تُعدِّل غطاء رأسها الأحمر. سحبت الفتاة القارب نحو الماء، وأخرجت منه مجدافًا خفيفًا لونه فضي ثم صعدت في رشاقة على متن القارب، واستقرت في مكانها فيه بمظهر يدل على خِفتها. لاحظ بلونفيل في ذهول أنَّ القارب لم يكن يَحتوي على مقعد. وكان البحر في غاية الهدوء، وبضربات قليلة من المجداف غابت الفتاة وقاربها عن الأنظار. تَنهَّد بلونفيل بعمق من فرط دهشته. كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها الزيَّ الخاص بركوب القوارب في نهر التِّيمز والقارب المُخصَّص لذلك.

إذن كان هذا هو السبب وراء غمزة عين الرجل حين كان يُعطيه المفتاح. كان بلونفيل في حيرة من أمره. هل يكشف عن نفسه حين تعود الفتاة؟ لم يَبدُ له من الصواب أنْ يُعلِم الفتاة أنها لم تكن وحيدة على الشاطئ في الوقت الذي كانت تَعتقِد فيه ذلك. لكن كان عليه أن يُفكِّر في أمر اختراعه. كان قد أقسم يمينًا بالولاء لاختراعه والإخلاص له. جلسَ يفكر ويتأمَّل الفتاة في ذهنِه. كان من الواضح أنها فتاة إنجليزية. ولم تكن لديه أدنى فكرة أن الفتيات الإنجليزيات فاتنات إلى هذا الحد، ثم تراءى إلى مخيلته ذلك الزي! كان الزي أخَّاذًا. لقد عَلِقَ في ذاكرته ذلك البنطال الأبيض بطياته الأنيقة الناعمة الذي كان غايةً في الكمال رغم بساطته الفائقة. لكن، ما سبب وجوده هنا؟ إنه اختراعه بكل تأكيد. ثم تذكَّر فجأةً سخرية الملازم منه واستهزاءَه به. لم تكن تلك الفتاة التي استأجرت الكوخ المجاور له — أيًّا كان اسمها — تَعني له شيئًا؛ بالطبع لم تكن كذلك. أزاحَ بلونفيل الفتاة عن ذهنه، وعاد إلى مباشرة عمله. لقد أضَاعَ الكثير من الوقت بالفعل؛ ولن يُضيِّع المزيد.

وعلى الرغم من أنه كان مُسلَّحًا بهذا القرار البطولي، فإنَّ مهمَّته الآن وبطريقة ما لم تعُد تبدو مثيرة للاهتمام كما كانت من قبل، ووجد نفسه يستمع بين الحين والآخر إلى أغنية الفتاة التي ظهرت أمامه فجأة وكأنها جِنيَّة ماء. وتخيَّل في نفسه مواقفَ خيالية، وهو أمرٌ دائمًا ما يكون ذا أثر سيئ على أداء المرءِ لمهامه العملية. تراءَى له أنَّ القارب الهشَّ يتحطم أو ينقلب في الماء، وتخيَّل نفسه وهو يصارع الأمواج بكل شجاعة ليُنقِذ الفتاة الحسناء ذات الملابس البيضاء. ثم تذكَّر مع تنهيدة أطلقها أنه ليس بسبَّاح ماهر. وربما هي أكثر مهارةً منه في التعامل وسط تلك الأمواج. يبدو أن أولئك الإنجليز على هذه الدرجة من الألفة والمهارة في ركوب البحر.

وفي النهاية، أخبره حَدْسُه وليس سَمْعه أنَّ الفتاة قد عادت. فسار على أطراف أصابعِه نحو النافذة الصغيرة. وكانت الفتاة تسحب القارب الخفيف من الماء. وكبحَ رغبته في عرض المساعَدة. وعندما قفزت الفتاة بخفة ورشاقة على الضفة، تنهَّد بلونفيل وخَلُصَ إلى أنه قد عمل بما يَكفي لهذا اليوم. وحين وصلَ إلى الطريق، لاحظَ من بعيد أن صاحبة الزي الأبيض لم تسلك طريقَ الفندق، بل اتجهت نحو أحد الأكواخ المجاورة.

وفي فترة الظهيرة، عَملَ بلونفيل على اختراعه مُطوَّلًا، وأحرز تقدُّمًا. ثم عاد سيرًا إلى فندقه وهو يشعر بالرضا عن نفسه، وهو ما يشعر به الكسالى في تلك المرات النادرة حين يَعملون بكَدٍّ ودأب. عملَ بلونفيل بلا انقطاع، واتخذ قراراتٍ عَنترية مرةً أخرى. فما حدثَ في ظهيرة ذلك اليوم يُمكن أن يتكرَّر في ظهيرة كل يوم. ولن يُفكِّر مرةً أخرى فيما يتراءى له في مخيلته ولن يزاول العمل على اختراعه إلا بعد الغداء؛ ومن ثمَّ لن يُضطر إلى الكشف عن نفسه أو إلى مراقبة ما تقوم به الفتاة من دون أن تراه. وبالطبع، كانت الفتاة دائمًا ما تأتي في الصباح؛ ذلك أن الإنجليز أناسٌ مُنظَّمون ويُحبون السير وفق منهج، وكان بلونفيل عليمًا بأساليبهم حتى إنه كان واثقًا من أن ما يفعلونه في أحد الأيام هو ما سيفعلونه في اليوم التالي. قال بلونفيل في نفسه وهو يهزُّ كتفيه بأن الإنجليز شعبٌ استثنائي، لكن بالطبع، لا يُمكن لنا جميعًا أن نكون فرنسيين.

من المؤسف أنْ يتدخَّل الإغواء حين يكون المرءُ قد عقد العَزمَ على ألَّا ينحرف عن مسار سلوكي مستقيم بعينه. كان من المقرر أن يُقام حفلٌ راقص في تلك الليلة في الفندق الكبير. وقد استنكفَ بلونفيل أن تكون له أيُّ صلة بهذا الحفل؛ فقد هجرَ توافه الأمور في الحياة. فقد كان هناك بغرض الراحة والهدوء والدراسة. وكان مُتمسِّكًا بهدفه إلى حَدِّ التعنت. وفي ذلك المساء، عُرِضَت عليه الدعوة مرةً أخرى، والواقع أنه كان هناك نقصٌ في أعداد الشباب، كما هو الحال دومًا في مثل تلك المناسبات. وكان بلونفيل على وشك أن يُبديَ اعتراضاته من جديد على حضور مثل تلك المناسبات التافهة حين لمحَ عبر الباب المفتوح اثنين من الضيوف الذين وصلوا وهم يصعدون السُّلَّم. كانت الفتاة ترتدي معطفًا أوبراليًّا طويلًا مُزغبًا من حول رقبتها ويتدلى على مقدمة جسدها. ويستقر على شعرها الأشقر الجميل شريطٌ رقيق للزينة. كانت تلك هي الفتاة صاحبة القارب، وكانت في أبهى صورة لها. اضطربَ بلونفيل كثيرًا وشعر بالحيرة، ثم هرعَ إلى غرفته وارتدى ملابس الحرب. وقُلْ ما يَحلو لك، لكن ملابس السهرة تجعل المرء يبدو في مظهر أحسن. وبالإضافة إلى ذلك، عادَ بلونفيل إلى استخدام اسمه كاملًا مع كلمة «دي»، وأصبح ظهرُه أكثر استقامة بكل تأكيد. لقد بدا دي بلونفيل في أحسن هيئةٍ له.

وسرعان ما تعرَّفا بالطبع. لقد تولَّى دي بلونفيل أمرَ ذلك، وكان المسئول عن الحفل الراقص ممتنًّا له كثيرًا لحضوره ولظهوره بأفضل صورة. وفي الواقع كان مظهر دي بلونفيل يُوحي بالتميز. وقد علم دي بلونفيل أن الفتاة هي صاحبة الشرف والمقام مارجريت ستانسبي. وسيكون من المستحيل، بل ومن غير المنصِف أيضًا، أن نَسرد محادثتَهما؛ إذ كان هذا يبدو كقراءة جزءٍ من تمارين أولندورف الفرنسية الإنجليزية. وكما قلنا، كان دي بلونفيل فخورًا للغاية بلهجته الإنجليزية، ولسُوء الحظ، كانت صاحبة المقام مارجريت تتحلَّى بحسِّ الدعابة. وقد أطرى عليها دي بلونفيل بأن قال بأنها تتحدَّث الفرنسية أفضل مما يتحدَّث هو الإنجليزية، الأمر الذي لم يكن أفضل تعليق لَبِق ليقولَه دي بلونفيل، وإنْ كان صحيحًا بلا أدنى شك في ذلك. كان من الصعب أن يَستمع المرءُ إلى جملته تلك وهو يقولها بالإنجليزية ويكبح الضحك. ولكن مارجريت أحرزت نصرًا كبيرًا ولم تضحك. مرَّت الأمسية على نحو لطيف من وجهة نظر مارجريت، أما بالنسبة إلى بلونفيل، فقد مرَّت الأمسية على نحو غاية في البهجة.

كان من الصعب بعد هذا أن يعود دي بلونفيل إلى العمل غير المُمتع الخاص بإتمام القارب الخيمة المصنوع من القماش، لكنه ظلَّ مثابرًا وهذا يُحسَب له. وقد قابلَ السيدة الشابة في عدة مناسبات، لكنه لم يقابلها قطُّ على الشاطئ. وكلما توثَّقت معرفتهما وتوطدت، زادت رغبته في أن يحظى بامتياز إنقاذها من خطر مُميت، لكن تلك الفرصة لم تأتِ قطُّ. إنه أمر مِن النادر أن يحدث، اللهم إلا في الكتب، وكان هذا هو الرأي الذي أبداه إلى نفسه بمرارة. كان البحر هادئًا على نحوٍ مُثير للغضب، وكانت الآنسة مارجريت ماهرة فيما تقوم به، وهكذا هُنَّ الكثير من النساء الفاتنات. فكَّر دي بلونفيل في شراء منظار ومراقبتها؛ ذلك أنها كانت قد أخبرته أنَّ أحد الأمور التي تُبهجها هو مراقبة تقدُّم السفن المُدرَّعة بالمنظار من الشرفة في مقدمة الكوخ.

في النهاية، وعلى الرغم من المشتِّتات الكثيرة التي صَرَفَت انتباهه، أضافَ دي بلونفيل اللمسات النهائية إلى اختراعه المهم، ولم يبقَ سوى أن يضعه موضع الاختبار العَملي. واختار لذلك يومًا لم تكن فيه البحرية الفرنسية التي ترسو في هييريس على مرمى البصر؛ ذلك أنه لم يُرِد أن يُصبح على مرأًى من المنظار في شرفة الكوخ. فقد شعر بأنه لن يكون في أفضل صورةٍ له وهو يُجدِّف بقاربه الجديد غير المألوف. وبالإضافة إلى ذلك، قد يَغرق به القارب.

لم يكن هناك ولو شراعًا واحدًا على مرمى البصر حين انطلَقَ في اختبار قاربه. فحتى قوارب الصيد في كاركيران كانت قابعةً في مَرساها. وكان البحر في غاية الهدوء، والشمس ساطعة في كبد السماء. وقد وجد دي بلونفيل شيئًا من الصعوبة في الجلوس في القارب، لكنه ابتهج حين وجد أن اختراعه قد لبَّى كل التوقعات. وبينما كان يتقدَّم في البحر، لاحظَ عوامة كبيرة تطفو على مسافة بعيدة منه. فأغوته عبقريته الشريرة أنه سيكون من الأفضل لو جدَّف باتجاه العوامة ثم عاد. فيمكن للكثيرين أن يُعاقِروا الشمبانيا ولا يدخلون في حالة السُّكر، لكن قلَّة من الرجال فقط مَنْ يستطيعون أن يذُوقوا طعم النجاح ويحتفظون بحصافتهم واتزانهم. والأطوار الغريبة التي قد تَعتري الكُتَّاب البارزين تُثبت صدق هذا. كان دي بلونفيل مخمورًا، ولكنه لم يظنَّ ذلك قطُّ. وقد ساعده المدُّ، الذي قلَّما تجده في البحر المتوسط، وكذلك النسيم اللطيف الذي يهب من اتجاه الشاطئ. وقد راودت دي بلونفيل بعضُ الشكوك فيما يخصُّ حصافة ما أقدَم على فعله، وذلك قبل أن يصل إلى العوامة الحمراء الكبيرة، لكنه ارتعدَ حين تلفَّت حوله ورأى المسافة المرعبة بينه وبين الشاطئ.

كانت العوامة الكبيرة مصنوعة من الحديد، أو على ما يبدو من ألواح الغلايات الفولاذية، وكانت هناك حلقات من الحديد مُثبَتة إلى جانبها. وكانت العوامة تتخذ شكل ثمرة الكمثرى، رأسها في الماء، ومربوطة إلى سلسلة لا شك أنها تُؤدي إلى مرساة. وتساءَل دي بلونفيل عن سبب وجود هذه العوامة. وحين رفعَ نظره كانت العوامة قد تحرَّكت بفِعل تيار غير مرئي من الماء وانقلبت وكأنها كانت عازمة على تدمير قاربه. فنسي دي بلونفيل نفسَه وقفز ليُبعدَها عن قاربه، وسرعان ما خطا بإحدى قدميه على القماش المضاد للماء الذي كان يُغطِّي جانبَي قاربه والجزء السفلي منه. ووجد دي بلونفيل نفسه يصارع في الماء تقريبًا قبل أن يدرك ما حدث. وبعد أن حرَّر نفسه من العقدة التي كانت تُهدِّد بسحبه إلى الأسفل، نظر من خلال الماء فوجد اختراعه يستقرُّ ببطء تحت المياه الخضراء الصافية. فمدَّ يده وأمسك بإحدى الحلقات المربوطة بالعوامة وتعلَّق بها بُرهة لكي يلتقط أنفاسه ويفكِّر في موقفه. وسرعان ما أدرك أنه لم يكن في موقف محمود، لكن الأكثر من ذلك أنه أدرك أيضًا صعوبة خروجه منه. إن محاولة السباحة نحو الشاطئ ستكون بكل بساطة ضربًا من الانتحار. وكان من الواضح أن أفضل شيءٍ يقوم به هو الصعود على سطح العوامة، لكنه أدرك أنه إذا حاول رفع نفسه على الحلقات المعدنية فإنَّ العوامة ستتدحرج فوقه. لكنه تفاجأ حين وجدَ أنَّ هذا لم يكن ما عليه الحال في الحقيقة. فهو لم يلتفت إلى تأثير كلٍّ من حجم العوامة ووزنها.

جلسَ دي بلونفيل على العوامة والتقطَ أنفاسه بصعوبة بعد ما بذلَ من جهد، وراحَ يُحدِّق لبضع لحظاتٍ في المساحة الشاسعة للمياه الزرقاء المتلألئة. كان المنظر جميلًا، لكنه كان مثبطًا. لم يكن هناك على مرمى البصر ولو قارب صيد واحدًا، وكان كل ما حوله يبعثُ على السرور، لكن كان هو وحده في وضع ميئوس منه. وكانت تلك الجزيرة الحديدية الكبيرة تتَّسم بعادةٍ غير مريحة ما بين الحين والآخر؛ وهي أنها تميل بشكلٍ ما على إحدى جوانبها؛ ومن ثمَّ كان على دي بلونفيل أن يزحف بهذا الاتجاه أو ذاك ليتجنَّب السقوط عنها. وخُيِّلَ إليه أن حركاته تلك تفتقر إلى الوقار. بدأت الشمس الحارقة تجفف ملابسه من جهة ظهره، وأحسَّ بأن شعره قد أصبح هشًّا ومُتموجًا بفِعل ملوحة المياه. وتذكَّر أن السباحة في هذه المياه ستكون سهلة؛ ذلك أنه كان في أشد البقاع مُلوحةً في البحر الأكثر ملوحةً في العالَم. ثم انتقَلَ ببصره نحو الأراضي المنبسطة المحيطة بليه سالينز، حيث تدخَّل الإنسان بالطرق الاصطناعية بحيث تُغطي مياه البحر المتوسط مساحاتٍ شاسعة من تلك الأراضي حتى تُبخِّر الشمسُ تلك المياه تاركةً الملح الخشن الذي يستخدمه الصيادون على ذلك الشاطئ. لم يكن دي بلونفيل يشعر حتى الآن بالجوع، لكنه تأسَّى على ذلك العشاء الطيب الذي سيُقدَّم في الفندق في ذلك المساء، والذي لن يَحضره هو على الأرجح.

التفتَ دي بلونفيل حوله وراحَ يجُول بنظره على جزر الذهب البعيدة، لكنَّ فُرَص حصوله على المساعدة من ذلك الاتجاه كانت تعادل فرص حصوله على المساعدة من البر الرئيسي. وبعد أن أصبح أكثر اعتيادًا على تأرجح الكرة الكبيرة، وقفَ مُنتصبًا. كم كان أحمق ليقطع كلَّ تلك المسافة، وكزَّ على أسنانه ونطقَ بكلماتٍ فرنسية بدَت مُقتضبة ومؤكدة على ذلك. لكن التفكير بتلك الطريقة لم يكن مجديًا كثيرًا. ها هو في تلك البقعة، وسيظلُّ بها، كما قال رئيس دولته ذات مرة. كانت قسوة الموقف الذي هو فيه وعجزه قد بدآ يُنهكان أعصابه، وراحَ يصيح من أجل أن يحدث شيء — أي شيء — بدلًا من أن يجلس هكذا ويُقاسي ما يقاسيه.

ثم حدث شيء.

من بين الجزر، ظهرت سفينة حربية فرنسية حديثة وكبيرة شيئًا فشيئًا، وكانت السفينة صغيرة بفِعل المسافة الكبيرة بينها وبينه. أشرقَ وجه دي بلونفيل أملًا. لا بد أن تلك السفينة ستمرُّ على مسافة قريبة منه بما يكفي لكي يرى المراقبون عليها إشاراته. يا رباه! كم كانت تتحرَّك ببطءٍ! ثم ظهرت سفينة حربية ثانية بعد الأولى، وأخيرًا ظهرت سفينة ثالثة. تقدَّمت السفن الثلاث ببطءٍ في موكب مهيب. خلعَ دي بلونفيل معطفه وراحَ يُلوِّح به ليجذب الانتباه إليه. وكان حثيثًا في ذلك حتى إنه كاد يفقد توازنه، وحين أدرك أنَّ السفن الحربية كانت لا تزال بعيدة كثيرًا عنه، كفَّ عن فعله. جلسَ دي بلونفيل وجذوة حماسه تخبو، وراحَ يرقبُ تقدُّمها البطيء. ثم بدا له أنها قد توقَّفت، فمالَ إلى الأمام وظلَّل على عينيه بيده، وراحَ يَرقبها في لهفة. لكن السفن كانت لا تزال تتحرَّك، وهذا هو كلُّ شيء.

وفجأة، ارتفعت سحابة من الدخان الأبيض من أحد جوانب السفينة الأولى فحُجبَت المداخن والصواري عن الرؤية، وراح الدخان يتلاشى في السماء الزرقاء فوق الصواري العلوية. وبعد أن مرت فترة بدت طويلة، جاءه صوتُ مدفع كان منخفضًا ومكتومًا، وتبعَه صداه في التلال المرتفعة على الجزيرة، ثم كان صداه الثاني الأضعف الذي تردَّد في جنبات الجبال على البر الرئيسي. أصاب هذا الأمرُ دي بلونفيل بالحزن؛ وذلك لأنَّ تلك السفن إذا كانت في الخارج بهدف التدريب فإن الدخان الصادر عنها سيحجب إشارته وسيكون من المستبعَد أن تراه، ثم إنَّ هذا الجزء من الأسطول سيعود أدراجه مرةً أخرى، تاركًا إياه في محنته. ومن السفينة الحربية الثانية خرجت سحابة من الدخان مشابهة للأولى، لكن في هذه المرة، وعلى مسافة كبيرة من ميسرته، اندفع بقوة جزءٌ من ماء البحر على شكل نافورة، فارتفع في الهواء على شكل عمود للحظة، ثم تساقط على سطح العوامة وكأنه أمطار ثقيلة.

كانت العوامة هدفًا للتصويب.

وحين أدرك دي بلونفيل فيمَ كانت تُستخدم العوامة، شعر برجفة في فروة رأسه، وهو ما نُطلق نحن عليه انتصاب شعر الرأس من شدة الخوف. نفَث المدفع الثالث سحابة دخانه، وجحظت عينا دي بلونفيل لما رآه. كانت هناك قذيفة مدفع تتَّجه نحوه مباشرةً، وكانت تطير فوق الماء وكأنها حصاةٌ ألقاها أحدُهم. لم يكن يعرف من خلال خبرته في البحرية — في باريس — أن مثل هذا الأمر ممكن. انبطح دي بلونفيل على سطح العوامة، حتى لامست ذقنه الحديد، وانتظر لحظة الارتطام. وعلى بُعد مائة ياردة منه، غاصت القذيفة في الماء واختفت. ووجد دي بلونفيل أنه حاول أن يغرز أظافره في اللوح المعدني، حتى التهبت أطراف أصابعه وصارت تُؤلمه. وقفَ دي بلونفيل وراحَ يُلوِّح بذارعَيه، لكن السفينة الأولى أطلقت قذيفتها مرة أخرى، وجاء أزيز القذيفة فوق رأسه تمامًا حتى إنه انحنى لا إراديًّا. واتته فكرة، مثل نزغة مفاجئة من الألم الجسدي، أنه هو مَن حرَّض على استهجان دقة تصويب تلك السفن الحربية. لا شك أنهم رأوا شخصًا على العوامة، لكن بما أنَّ وجود أيِّ شخص في هذه البقعة لا يُعد مبررًا، فإن قتله باستخدام قذيفة مدفع سيكون دليلًا دامغًا على دقة تصويبِهم. وسيكون التحقيق الذي سيلي مقتله مَفْخرةً للضابط المسئول، أيًّا كان الحُكم الذي ستُقرِّره المحكمة. وتوقَّع دي بلونفيل — في شيء وكأنه تنهيدة — أن موته السابق لأوانه لن يُلقيَ بظلال الحزن والكآبة على الأسطول.

حسنًا، الإنسان لا يَموت سوى موتة واحدة؛ ولذا من غير المجدي كثيرًا أن يحدث الإنسان جلبة حول وقوع القدر المحتوم. سيلاقي دي بلونفيل قَدَرَه بهدوءٍ وكما ينبغي لرجل فرنسي أن يفعل، ووجهه صوب المدافع. شعرَ بشيءٍ من الندم لعدم وجود أحد ليشهد على بطولته. فمِن السارِّ دومًا في مثل تلك الأحداث أن يوجد مراسل حربي أو صحفي على الأقل. ومن الأفضل أن يُحافظ على هدوئه قدر الإمكان تحت أي ظرف؛ ولذا جلسَ دي بلونفيل على الكرة العائمة وجعل قدمَيْه تتدليان في الماء. ولسببٍ ما راحت العوامة الكبيرة تتأرجح حتى أصبحت متاخمة للسفنِ الحربية بجانبها. ولم تكن أيٌّ من القذائف التالية قريبة منها بدرجة القرب نفسها التي كانت عليها القذائف الأولى، وربما كان ذلك بسبب الدخان الكثيف. وظلت ملامح جديدة للموقف تتجلَّى أمام دي بلونفيل بينما كان جالسًا هناك. استمر إطلاق النيران لبعض الوقت قبل أن يفكِّر دي بلونفيل في أنَّ العوامة ستمتلئ بالماء وتغرق لو أن إحدى القذائف أصابتها فأحدثت فيها ثقبًا. ربما كانت الأوامر التي تلقَّوها هي إطلاق النار على العوامة حتى تختفي. وشعر بشيءٍ من الارتياح في هذا الاقتراح.

كان إطلاق النار قد توقَّفَ لبضع دقائق قبل أن يُلاحظ دي بلونفيل تلك الحقيقة. واستقرَّت حفنةٌ من الدخان المتلاشِي على سطح الماء بين العوامة والسفن الحربية. ورأى دي بلونفيل السفن وهي تتحرَّك بتثاقُل عبر تلك الحفنة من الدخان وتتحوَّل لتقف عرضًا بنفس الترتيب السابق مرةً أخرى. راحَ دي بلونفيل يُشاهد تلك التحرُّكات وهو يُريح ذقنَه على يدَيه، ولا يدرك أن اللحظة قد حانت لكي يطلق إشاراته. وحين طرقت الفكرةُ ذهنَه الشاردَ بعض الشيء، هبَّ واقفًا على قدميه لكن فرصته كانت قد ضاعت. ارتفع دخان المدفع الأول في الهواء، وكان هناك صوت قعقعة ناتج عن تصادم الحديد ببعضه، ووجدَ دي بلونفيل نفسه يدور في الهواء، ثم يغوص في الماء. وبعد أن خرج إلى السطح لاهثًا، رأى العوامة وهي تدور ببطء، ثم مالت على مُقدِّمتها واختفت في الماء، فظهر المكان الذي أصابته القذيفة. ولم تطلق السفينة الثانية قذيفتها، فأدركَ دي بلونفيل أنهم كانوا يَفحصُون العوامة بمناظيرهم. فسبحَ إلى الجهة الأخرى، وهو يَنوي أن يُمسك بحلقة معدنية مما يَجعل العوامة تسحبُه إلى مكان يُمكن لهم رُؤيته فيه. وقبل أن يصلَ إلى ذلك المكان، كانت العوامة قد استقرَّت مرةً أخرى، وحين صعدَ على سطحها وقد أنهكه التعب إنهاكًا شديدًا، فتَحَت السفينة الحربية الثانية نارها. تَمدَّد دي بلونفيل على سطح العوامة وقد خارت قُواه تمامًا، وأمَّلَ إن كانت السفن ستُصيب العوَّامة أن يَحدث ذلك سريعًا. لم تكن الحياة تستحق أن يَعيشها في ظلِّ تلك الظُّروف. شعر بالشمس الحارقة على ظهرِه، وراحَ يَسمع صوت المدافع وكأنه في حلم. ذهبَ عنه الأمل، وتساءَل في نفسه لِمَ لا يكترث بمصيره بدلًا من أن يُعيره اهتمامًا حقيقيًّا. فكَّر دي بلونفيل في نفسِه بأنه شخصٌ آخر، وشعرَ بشفقة غامِضة وغير واضِحة. وراحَ يَنتقِد إطلاق النار العشوائي، وظنَّ أن الإصابة التي وقعت قبل قليل لم تكن إلا ضربة حظ ومحض مصادَفة. وحين جفَّ ظهره تدحرجَ في تكاسُل على ظهره ورقدَ ووجهُه يُحدِّق في السماء الصافية من السُّحُب. ولكي يَحصل على قدر أوفر من الراحة، وضعَ يدَيه تحت رأسه. تلاشَى مظهر السماء، واعترته لحظة من غياب الوعي.

صاحَ وهو يهزُّ نفسه: «لن يُجديَ هذا نفعًا. إذا ما غبتُ عن الوعي فسأسقط في الماء.»

اعتدلَ دي بلونفيل في جلسته مرةً أخرى، وكانت مفاصلُه مُتيبسة بفِعل الماء الذي يَغمرُه، وراحَ يشاهد السفن الحربية البعيدة عنه. ورأى باهتمام فاتر قذيفة مدفع وهي تضرب الماء، وتأخذ مسارًا جديدًا ثم تعُود وتغوص في البحر على مسافة كبيرة من ميمنتِه. وجالَ في خاطرِه أن تقلبات قذائف المدفعية في الماء ستكون موضوع دراسة مثيرًا للاهتمام.

صاحَ به صوتٌ واضح من خلفه: «هل أُصِبت؟»

صاحَ الشاب في هلع جَم وهو يهبُّ على قدميه: «يا إلهي!»

وكما لو كان مُنقِذه في حاجة لأن يَعتذر: «أوه، أستميحك عذرًا. كنت أعتقد أنك السيد دي بلونفيل.»

«أنا دي بلونفيل.»

فقالت السيدة في همس ينمُّ عن الرهبة: «شعرُكَ أشيب.» ثم أضافت: «ولا عجبَ في ذلك.»

فأجابها الشاب المكروب وهو يضع يده على صدره: «يا آنستي، لا داعي لأنْ أُنكر أنني تملَّكَني الخوف، لا أنكر ذلك. لكنني لا أعتقد أنني نادم، لا أعتقد ذلك فعلًا. الأمر غاية في التكلُّف، إنني في غاية الحزن.»

«رجاءً لا تَتحدَّث أكثر من ذلك. تعالَ بسرعة. أيُمكنك أن تنزل إلى متن القارب؟ ضعَ قدميك في منتصف القارب بالضبط. كن حذرًا؛ فمن السهل أن يَتمايل القارب، واجلس في الحال. لقد فعلت ذلك بإتقان.»

«يا آنستي، اسمحي لي على الأقل أن أُجدِّف بالقارب.»

«إنه تجديف، وأنت لا تعرف هذا القارب. أما أنا، فأعرفه. رجاءً لا تتحدَّث حتى نخرج عن مرمى إطلاق النار. إنني خائفة حَدَّ الرعب.»

«أنتِ في غاية الشجاعة والإقدام.»

«هِشش.»

أمسكت الآنسة ستانسبي بالمجداف المزدوج الريشة واستخدمتهما ببراعةٍ ربما يحسدها عليها الهنودُ الحمر. وحدث أن أطلقت صرخةً أنثوية صغيرة حين غاصت قذيفة مدفع في الماء خلفهما، لكن ما إن ابتعدا عن العوامة حتى بدا أنَّ مَنْ كانوا على متن تلك السفن الحربية قد بدءوا يلحظون وجود قارب في مرمى نيرانهم، فتوقَّفَ إطلاقُ النيران.

ثبَّتت الآنسة ستانسبي نظرها على الشاب الرصين الجالس أمامها، ووضعت مجدافها بعرض القارب، وانحنت عليه، وراحت تَضحك. رأى دي بلونفيل ردة فعلها تلك وقال في تعاطف:

«آه، يا آنستي، لا تفعلي ذلك، أرجوكِ. أعتقد أنَّ الخطرَ قد زال.»

فصاحت وهي ترمقه بنظراتٍ تنمُّ عن التحدي، وقد نسيَت اعترافها بخوفها قبل لحظات: «لست خائفة، لا تظن بي ذلك. كان أبي أدميرالًا. إنني أضحك على خطئي. إنَّه الملح.»

سألها الراكب المذهول: «ما هذا؟»

«في شعرك.»

مرَّر أصابع يده بين شعره، وراحَ الملح يتساقط على أرضية القارب. وجاءت ضحكته وهي تحمل شيئًا من شعوره بالارتياح.

•••

كان دي بلونفيل دائمًا ما يعتقد أنَّ الضباط على متن السفن الحربية كانوا يَعرفون بأمره. وعندما عُرِف في باريس أنه سيتزوج من ابنة أدميرال إنجليزي، والتي تقول الشائعات إنه أنقذها من موت وشيك، علَّقَ ملازم الجيش أنها لا يُمكن أن تكون قد سمعته وهو يتحدَّث الإنجليزية، وهو أمرٌ غير صحيح كما نعرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤