الفصل الثاني والعشرون

حيلة السيدة براكسفيلد

بعد ذلك بخمس دقائق، كانت خادمة النظافة مذهولةً باكية ومُمسكة بطرف مئزرها استعدادًا لوضعه على عينَيها، وهي تُشاهد الموكب الصغير يبتعِد عبر حديقة وودلاند كوتيدج، وعلى جانب التل، إلى حافة الدرب العُشبي الذي كانت العربة تنتظِر عنده. وظلَّت تتابع السيدة براكسفيلد بعينَيها إلى أن توارَت عنها، لكنَّ السيدة براكسفيلد لم تنظُر إلى الوراء قط. فقد كانت عيناها مُسلَّطتَين على العربة التي كانت ستنقلها بعيدًا. كان ثمَّة رجلان في ثيابٍ مدنية مسئولان عن العربة: أحدهما في صندوق العربة، والآخر عند بابها، وحين رأتهما السيدة براكسفيلد، ضحكت ساخرة.

قالت بنبرةٍ مريرة: «لقد أتيتُم مُستعدين تمامًا، على ما أظن!» وأضافت: «أستطيع رؤية ما كان يجول في أذهانكم! هذا ما تُسمُّونه حديثًا فيما بيننا، والصراحة والوضوح، وما إلى ذلك! هراء!»

فقال قائد الشرطة: «كلُّ ما عليكِ أن تكوني صريحةً يا سيدة براكسفيلد، وحينئذٍ لن يكون من الضروري أخذك من بيتك. إذا أخبرتِني فقط …»

ردَّت السيدة براكسفيلد قائلة: «لن أقول أيَّ شيء!» وتابعت: «لا شيء على الإطلاق! ولا كلمة واحدة! إلَّا بعدما ألتقي بمُحاميَّ، السيد كرو. أظنك لن تحرِمني من حق مُقابلته حين أصل إلى حيثما ستأخذونني؟»

أكَّد قائد الشرطة ذلك قائلًا: «ستلتقِين السيد كرو في غضون عشر دقائق من وصولك إلى سيلكاستر. سوف أعطي أوامر بذلك. سيحرص رجالي الموجودون معي هنا على أن تحظَي بالراحة التامة، وأن تحصلي أنتِ والسيد كرو على كل التسهيلات التي تُريدانها، وأرجو يا سيدة براكسفيلد، لأجل مصلحتك، أن تكوني قد فكرتِ في المسألة تفكيرًا أفضلَ، بحلول موعد عودتي إلى سيلكاستر، وأن تكوني أكثر وضوحًا وصراحةً مع مُحاميكِ ممَّا كنتِ معي!»

قالت السيدة براكسفيلد: «هذا شأني الخاص. أستطيع فعل ذلك بلا نصيحةٍ منك. ولكن ألن تعود الآن؟ سيريد السيد كرو لقاءك.»

فقال قائد الشرطة: «ليس الآن. ستذهبين مع رجالي؛ فأنا والسيد بليك ذاهبان الآن لنلتقي السيد هاري ماركنمور.»

توقَّفت السيدة براكسفيلد عن مُواصلة التقدُّم نحو العربة. وظهرت في عينَيها نظرةُ فضول.

ثم همست قائلة: «إنك لن … لن تعتقِله؟» وأضافت: «فهو …»

قال قائد الشرطة: «دعينا نتدبَّر شئوننا الخاصة بأنفسنا إذا سمحتِ يا سيدة براكسفيلد. هيا اصعدي إلى داخل العربة! ستُعامَلين بكلِّ احترام، كما سترَين.» وأضاف مُلتفتًا إلى الرجل الذي رافقه هو وبليك إلى بيتها: «يا مارشال!» وأمره قائلًا: «حالَما تصِلون إلى سيلكاستر، أودع السيدة براكسفيلد في غرفتي، وأرسِل روبنسون في الحال إلى السيد كرو، ليطلُب منه الحضور حالًا لمُقابلتها. وأنت تعرف الباقي، سأعود إلى هناك بأسرع ما يُمكن.»

وانطلقت العربة مُحمَّلة بثلاثة رجال بوجوهٍ جامدة وامرأة مُستشيطة غضبًا، وخلع قائد الشرطة قبَّعته الشرطية ذات الحافة البارزة والمُزينة بجديلة عسكرية، ومسح جبينه.

وقال: «أف!» وأضاف: «يا لها من مُهمة بغيضة يا بليك! لماذا لم تكن المرأة الحمقاء صريحةً بحق السماء بدلًا من أن تتصرَّف بطريقةٍ من شأنها أن تؤدي حتمًا لإثارة الشكوك؟ مجرد بضع كلمات، وشرح مُناسب، وما كنَّا سنُضطر إلى تكبُّد هذا العناء!»

أجاب بليك وهو يفكِّر، قائلًا: «امرأة صلدة وعنيدة. ولكن بالنسبة إليَّ، ما كنتُ سأقتنع بأي قدْرٍ من الشرح. فليس لديَّ مثقال ذرة من الشك في أنها هي مَن ألقت هذا المسدس الآلي في جُحر الغرير، وإذا لم يكن ذلك ضارًّا بها، لا أعرف ما الذي سيكون كذلك!»

فسأله قائد الشرطة: «إذن، فأنت تعتقد أنها في الأغلب هي مَن أطلقت النار على جاي ماركنمور؟»

فقال بليك بصراحة: «حسنًا، إذا كنتَ تريد أن تعرف، فهذا اعتقادي بالفعل! من المُحتمَل أنها فعلت ذلك دون تدبيرٍ مُسبق، لكني أظنُّ أنها فعلته. فبناءً على ما رأيتُه منها، أظنها امرأةً لا تسمح لأي شيءٍ مهما كان بأن يردَعَها عن هدفها. من الواضح أنها كانت تحمِل طموحاتٍ عالية جدًّا لابنتها تلك، وكانت ترغب بشدة في أن تُصبح ابنتها الليدي ماركنمور بدلًا من أن تكون السيدة هاري فحسب. يستطيع فرانسيمري أن يُخبرك بأن السيدة براكسفيلد استاءت أبلغَ الاستياء حين عرفت أنَّ جاي قد ترك ابنًا، وأنَّ هاري لن يرِث رتبة البارونيت. وبغضِّ النظر عمَّا قد يتبيَّن لاحقًا، ثمَّة سبب قوي جدًّا للاشتباه فيها. فلن تكون أول امرأةٍ تلجأ إلى ارتكاب جريمة قتل من أجل الارتقاء بأسرتها؛ لن تكون بالطبع!»

قال قائد الشرطة: «تُرى ما الذي جعلها تجفُل حين قُلتُ إنَّنا سنلتقي هاري ماركنمور؟» وأردف: «وما الذي جعلها تسأل عمَّا إذا كنا ننوي اعتقاله؟ من المؤكد أنه إذا كانت ضالِعة في هذا الأمر، فهو ليس الفاعل؛ ألا يُمكن أن يكون مُتواطئًا؟»

أجاب بليك باقتضاب: «لا أعرف!» وأضاف: «لكنها صُدِمَت. ومع ذلك، ها هو هاري ماركنمور، لسنا بحاجةٍ إلى الذهاب إلى منزله لنقابله.»

كان قد عَبَر هو ورفيقه المَمرَّ العميق آنذاك، وكانا في هذه اللحظة يجتازان المُتنزَّه نحو بيت ماركنمور كورت. وهناك، على بُعد مسافةٍ قصيرة أمامهما، رأيا هاري ماركنمور يُشرِف على عمل ثلاثة رجال أو أربعة كانوا مُنهمكِين في قطع شجرة دردار ضخمة. رآهما في اللحظة نفسها، وسرعان ما أقبل نحوهما على مهَل، وكانت عيناه تنضحان بنظرةٍ استفسارية حين قابلهما.

بادره قائد الشرطة بالحديث قائلًا: «طاب صباحُك يا سيد ماركنمور. كنا ذاهبَين للتو إلى منزلك كي نقابلك.» ثم تابع خافضًا صوته لاإراديًّا مع أنه ورفيقيه كانا واقفَين وحدَهما بمعزل عن الآخرين: «الحقيقة أنَّ ثمَّة موقفًا مُزعجًا جدًّا قد نشأ فيما يتعلق بوفاة أخيك. الآن يا سيد ماركنمور، تستطيع مساعدتنا في استجلاء مُلابساته، بطريقةٍ أو بأخرى، إذا أعطيتنا بعض المعلومات؛ فربما يُمكن تفسير المسألة برمَّتها بسهولة تامة؛ على أي حال، أنا واثق من أنك ستساعدنا إن استطعت.»

سأله هاري: «كيف؟» كان يقف واضعًا يدَيه في جيبيه، ونظر إلى أحدهما أولًا، ثم إلى الآخر، وهنا ارتأى بليك أنه يبدو مُتوترًا. «ماذا تريد أن تعرف؟»

أجاب قائد الشرطة بهدوءٍ قائلًا: «حسنًا، بادئ ذي بدء، من الأفضل أن نُخبرك بما نعرفه. الآن، لا تنزعِج أو تتضايق يا سيد ماركنمور ممَّا سأقوله …»

وفجأة ظهر حول شفتَي هاري ماركنمور تعبيرٌ غريبٌ بدا متأرجحًا بين ظهورٍ واختفاء، ورمق بليك بنظرةٍ غريبة بالقدْر نفسه.

تساءل قائلًا: «ولِمَ قَد أنزعج أو أتضايق؟» وأضاف: «هذا مُستبعَد تمامًا!»

وافقه قائد الشرطة قائلًا: «بالضبط يا سيد ماركنمور، بالضبط!» واستطرد قائلًا: «هذا مُستبعَد تمامًا، لكنك تعرف قصدي. حسنًا، والآن، لقد اكتشف المُحقِّق الرقيب بليك في سياق تحرياته أنَّك اشتريت، منذ وقتٍ قريب، مُسدَّسًا آليًّا من طراز ويبلي-فوسبيري من متجر «ويدينجتون» لصُنع الأسلحة في سيلكاستر. أهذا صحيح يا سيد ماركنمور؟»

أجاب هاري: «صحيح بالتأكيد. وهو ليس شيئًا سِريًّا أيضًا.»

قال قائد الشرطة: «كنتُ مُتيقنًا من أنه ليس سِريًّا. حسنًا جدًّا، هل تستطيع أن تتعرَّف على هذا المُسدَّس إذا رأيته؟»

أجاب هاري: «بعلامته ورقمه … نعم!»

التفت قائد الشرطة إلى بليك، الذي أخرج المُسدَّس الآلي من جيبه فورًا وناوَلَه إلى هاري. وظلَّا يشاهدان بفضولٍ بينما كان هاري يتفحَّصه.

قال هاري: «إنه هو!» وأضاف: «ولكن كيف …»

فقاطعه قائد الشرطة قائلًا: «سيد ماركنمور!» وأردف: «هنا مَكمن الجزء المُزعِج من المسألة! لقد عثر المُحقِّق الرقيب بليك على هذا المُسدَّس مُلقًى في جُحر — جُحر غرير — خلف الشجيرات في المَمرِّ العميق هناك، مساء يوم الجمعة الماضي. والآن يا سيد ماركنمور، هل لديك أيُّ فكرة عن كيفية وصول مُسدَّسِك إلى هناك؟ لأنَّ هذا هو المسدس الآلي الذي اشتريتَهُ من متجر «ويدينجتون»؛ لقد تحقَّقنا من الرقم والعلامة.»

كان الشحوب قد اعتلى هاري ماركنمور، الذي كان لَون بشرته طبيعيًّا حتى تلك اللحظة، وكان يُحدِّق إلى المُسدس الآلي بعبوسٍ يمزج بين الغضب والحيرة.

صاح قائلًا: «أنا!» وأضاف: «كيف لي أن أعرف كيف وصل إلى هناك؟»

قال قائد الشرطة: «ولكن من المؤكد أنك تعرف ما فعلتَهُ بالمُسدس حين اشتريتَهُ يا سيد ماركنمور!» وتابع قائلًا: «لقد استنتجتُ من قولك الأخير أنه لم يكن بحوزتِك. الآن يا سيد ماركنمور، كن صريحًا معنا! مَن الذي أعطيتَهُ المُسدس؟ أو مَن الذي أعرْتَه إيَّاه؟ مَن الذي كان المسدس بحوزته، على أي حال؟»

أعاد هاري ماركنمور المُسدس إلى بليك، ووضع يدَيه في جيبيه مُجددًا.

ثم قال لقائد الشرطة بهدوء: «أصغِ إليَّ!» وأضاف: «من الأفضل أن تكون صريحًا أنت أيضًا. هل تُلمِّح إلى أنَّ أخي قد مات برصاصةٍ من هذا الشيء؟»

أجاب قائد الشرطة قائلًا: «نظنُّ ذلك مُرجَّحًا للغاية يا سيد ماركنمور. لقد عرضناه على طبيب الشرطة الليلة الماضية، وهو يرى أنه من نفس نوعية السلاح الذي استُخدِم.»

سأله هاري: «ومَن الذي تشكُّ في أنه استخدَمَه؟» وأصرَّ قائلًا: «هيا أجبني؟»

كان قد تولَّى دور المُستجوِب آنذاك، وكان ينظُر إلى الرجلَين بحِدةٍ كما كانا ينظُران إليه قبل قليل. وتردَّد قائد الشرطة.

وقال: «أُفضِّل أن تُخبرنا بما فعلتَهُ بالمسدس. أظن …»

فقاطعه هاري قائلًا: «وأنا أُفضِّل أن تُخبرني بهوية الشخص الذي تشكُّ في أنه قد استخدمه لإطلاق النار على أخي. أيًّا كان ما تُفضِّله، فلن أقول أيَّ شيء قد يُدين أناسًا أبرياء تمامًا! هذا قرار قاطع ونهائي أيضًا!»

نظر قائد الشرطة إلى بليك. فأومأ له بليك الذي كان بدأ في تقدير أبعاد الموقف.

وتمتم قائلًا له: «أخبره!»

قال قائد الشرطة: «حسنًا يا سيد ماركنمور. سأُبادر أنا. نعتقد أنَّ ثمَّة سببًا وجيهًا يجعلنا نشتبِهُ في السيدة براكسفيلد. فقد اكتشفنا أنها اعتادت، منذ فترةٍ ما، أن تطلق النار من مُسدس آلي بالقُرب من أجمة عند حافة مُنخفض ماركنمور هولو لتخويف الثعالب وإبعادها عن دجاجها، وأنها شُوهدت هناك مرارًا في الساعات الأولى من الصباح. والآن يا سيد ماركنمور، هل كان ذاك المسدس الذي استخدمَتْهُ مُسدَّسَك؟»

فسأله هاري بهدوء: «وما قول السيدة براكسفيلد نفسها في ذلك؟»

أجاب قائد الشرطة: «ترفُض السيدة براكسفيلد قولَ أيِّ شيء، باستثناء اعترافها بأنها أحيانًا ما تُطلِق النار على الثعالب في المكان الذي ذكرتُه والأوقات التي ذكرتُها. والنتيجة أننا اضطُرِرنا إلى أخذها إلى سيلكاستر، في انتظار إجراء مزيدٍ من التحريات والاستجوابات …»

اكفهرَّ وجه هاري ماركنمور فجأةً من شدَّة الغضب.

وصاح قائلًا: «ماذا؟» وأضاف: «هل … هل اعتقلتموها؟»

فقال قائد الشرطة بتحوُّل مفاجئ إلى نبرةٍ رسمية صارمة: «إنها مُحتجزة إلى حين إجراء مزيدٍ من التحريات. كلُّ ما عليها أن تُعطينا تفسيرًا مُقنعًا …»

فقال هاري ماركنمور بعلوِّ صوته فجأة: «سُحقًا!» وأردف: «هل تعرف أنَّ السيدة براكسفيلد والدة زوجتي؟ ما الذي تقصده بحق السماء بمُجرد التلميح إلى أنها قتلت شقيقي؟»

فقال قائد الشرطة: «على رِسلك يا سيد ماركنمور!» وأضاف: «ساعِدْنا في استجلاء مسألة المسدس الآلي تلك! أخبِرْنا هل أعطيتَ السيدة براكسفيلد إيَّاه ولماذا، وهل تستطيع تفسير إلقائه هكذا؟ وحينئذٍ …»

لكن هاري تمتم لنفسه غاضبًا، واستدار فجأة وانطلق مُسرعًا نحو ماركنمور كورت، ومع أنَّ قائد الشرطة ناداه، مُناشدًا إيَّاه أن ينصت إلى صوت العقل، فقد واصل السير دون أن يُبالي به. نظر كِلا الرَّجُلَين إلى الآخر.

وسأل بليك قائلًا: «هل سنتركه يذهب؟»

فأجاب قائد الشرطة: «وما الذي نستطيع فعله؟» وأردف قائلًا: «سُحقًا …»

قال بليك: «أظنُّ أنني كان ينبغي أن أُصِرَّ على التوجُّه معنا إلى سيلكاستر. فلو واجَه السيدة براكسفيلد …»

غير أنَّ قائد الشرطة كان قد التفت نحو القرية.

وقال: «أوه، حسنًا!» وأضاف: «تُوجَد طريقةٌ لجعله يتحدَّث! سيُضطر إلى الحديث عن الدور الذي اضطلع به إذا وقف في مقصورة شهود. لنذهب إلى سيلكاستر، وإذا لم تكن تلك المرأة قد عادت إلى رُشدها بناءً على نصيحة مُحاميها كرو، فسأتَّهِمها، رسميًّا، وأجعلها تمثُل أمام قضاة الصُّلح، سيعقدون جلسةً في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم.»

قال له بليك: «هل ستصِل إلى هذا الحد؟»

قال قائد الشرطة: «أجل!» وأردف: «ولي مُبرِّري في ذلك، بناءً على ما نعرفه بالفعل. هيا، سنستقِلُّ عربةً صغيرة من عند نزل سيبتر.»

بعد ذلك بنصف ساعة، حين وصل هو وبليك بالعربة إلى مركز الشرطة، قابلا كرو، المُحامي، خارجًا من هناك. فنظر كرو إلى قائد الشرطة بابتسامةٍ جافة تحمِل شيئًا من الدهاء.

ثم قال له وهو يتنحَّى به جانبًا: «إممم!» واستطرد قائلًا: «أظنُّك عاملت السيدة «بي» بتعسُّف شديد! لكنها، عملًا بنصيحتي، ستُخبرك الآن بما أردتَ معرفته. وبعدئذٍ، لو كنتُ مكانك، كنت سأتركها تعود إلى منزلها بهدوء. إنها غاضبة جدًّا، وقد أعطتْني تعليماتٍ مُعينة ربما ستُساعدك، مع أنني، بيني وبينك، أرى هذا تصرُّفًا أحمقَ منها!»

قال قائد الشرطة باقتضاب: «لا أفهمُك.»

فلوَّح كرو بورقةٍ كان يحملها نحو مركز الشرطة.

وردَّ قائلًا: «إذن، ادخل وقابلها!»

أشار قائد الشرطة إلى بليك بأن يتبَعَه إلى غرفته. كان أحد الرجال ذوي الثياب المَدَنية يقف خارج الغرفة، أمَّا في داخلها، فكانت السيدة براكسفيلد جالسةً تتحاور بأسلوبٍ ودِّي مُسالِم مع الاثنين الآخرين، اللَّذَين خرجا بإشارةٍ من رئيسهما.

قال قائد الشرطة وهو يجلس إلى مكتبه: «حسنًا يا سيدة براكسفيلد، لقد التقَينا مُحاميك للتو وأخبرني بأنكِ ستُعطيني الآن كل المعلومات التي أردتُها. ولكن لا مانع أن أُخبرك بأنني سئمتُ هذا الوضع قليلًا، وأريد إجاباتٍ واضحة وصريحة على أسئلتي. والآن، هل ذاك المُسدَّس الآلي الذي كنتِ تستخدمينه لتخويف الثعالب قد أعطاك إيَّاه السيد هاري ماركنمور؟»

أجابت السيدة براكسفيلد بعبوس: «أجل!»

«لأي غرضٍ أعطاك إيَّاه؟»

«حسنًا؛ حدث ذلك بعد فترةٍ من إتمام خطبته على ابنتي، بمُوافقتي. كان مُعتادًا، بالطبع، أن يأتي إلى وودلاند كوتيدج لزيارتنا في المساء. وقال لنا مرارًا إننا نعيش في وحدةٍ مُوحِشة جدًّا بالنسبة إلى امرأتَين مثلنا؛ لأنَّ براكسفيلد نادرًا ما كان يأتينا آنذاك. وذات يوم، أحضر إلينا هذا المُسدَّس، وأرانا كلتينا كيفية استخدامه. وحين بدأت تلك الثعالب تُهاجم دجاجي، خطر المُسدس ببالي، واستخدمتُهُ لتخويفها. لكني لم أُصِب أيًّا منها قط، على حدِّ علمي.»

سألها قائد الشرطة: «أين ذاك المُسدس؟»

فأجابت السيدة براكسفيلد على مَضَض واضح: «حسنًا!» واستطردت قائلة: «كان ذلك تصرُّفًا أحمقَ مني! بعدما سمعتُ بمقتل جاي ماركنمور، توتَّرْت … ارتعبت. فكرتُ في أن الشرطة ربما ستجري تفتيشًا — مَن يدري — وكان وجود مُسدس لديَّ سيبدو شيئًا غريبًا، ولذلك … حسنًا، تخلَّصتُ منه.»

«أين؟»

قالت السيدة براكسفيلد: «في قاع حفرةٍ عميقة خلف الشجيرات في الممر القريب من بيتي.»

قال قائد الشرطة: «سؤال آخر. هل رأيتِ جاي ماركنمور على الإطلاق، في أي مكان، في صباح الثلاثاء الماضي، وهل أطلقتِ الرصاص من هذا المسدس في ذاك الصباح؟»

قالت السيدة براكسفيلد: «لا!» واستطردت: «لم أرَ جاي ماركنمور قَط؛ لم أرَه منذ سبع سنوات، ولم أُطلِق الرصاص من هذا المسدس قَط في ذاك الصباح؛ فلم يكن بِحَوزتي.»

أخذ قائد الشرطة بليك جانبًا، وتحدَّثا معًا بضع دقائق بنبرةٍ خفيضة. ثم استدار قائد الشرطة أخيرًا.

قال: «حسنًا يا سيدة براكسفيلد. لن أحتجزك مَزيدًا من الوقت. لا تلُومي إلَّا نفسك على قدومك إلى هنا. تستطيعين الرحيل الآن.»

قامت السيدة براكسفيلد من كُرسيها بكبرياء.

وقالت: «إني راحلة!» وأضافت: «وبئس مصير أيِّ شخص يحتجزني مَزيدًا من الوقت! تمامًا كمصير أيِّ شخصٍ ينشُر مزيدًا من الشائعات عني! لكني اتبعتُ حيلةً ستفاجئ بعضكم. ولا مانع أن أُخبركم أيها الشرطيون بماهيتها؛ فهي حيلة كان عليكم أن تأتوا بها من قبل. لقد كلَّفتُ كرو بأن ينشر، فورًا، في صباح هذا اليوم تحديدًا، إعلانًا يعرض مكافأةً كبيرة لأيِّ شخص يُدلي بمعلومات من شأنها أن تؤدي إلى اعتقال قاتل جاي ماركنمور وإدانته، ولو أنَّ بديهتكم أيها الشرطيون كانت حاضرة ولو بنصفِها فقط، لفعلتُم ذلك منذ فترةٍ طويلة! فليُبارككم الرب، هل تظنُّون أنَّ ماركنمور ليس فيها أناسٌ يعرفون شيئًا ما؟ عجبًا، لا يُوجَد إنسان في هذه المنطقة ليس مُستعدًّا للتنازُل عن أُمِّه مُقابل ورقةٍ نقدية بخمسة جنيهات! وأؤكد لكما أنني أملك الكثير من أوراق الجنيهات الخمسة! أستطيع شراء ماركنمور كلها إن شئتُ!»

فقال قائد الشرطة: «طاب صباحُك يا سيدة براكسفيلد.» ثم، حين تذكَّر أنَّ السيدة براكسفيلد أتت إلى هناك رغمًا عنها، أضاف بتأدُّب: «هل ستكون في انتظارك عربةُ أجرةٍ لتُقلك إلى البيت؟» وأردف: «سوف أطلب واحدةً في الحال.»

قالت السيدة براكسفيلد وهي تخرج بسموٍّ وشموخ: «شكرًا لك، أستطيع طلب عربات الأجرة بنفسي، ودفع أجرتها أيضًا. لا أريد صنائع من أحد!»

تنهَّد قائد الشرطة حين رحلت السيدة براكسفيلد.

وقال: «أظن أنَّ هذه هي الحقيقة الصادقة، بشأن المُسدَّس الآلي على الأقل. لماذا لم يستطِع هاري ماركنمور إخبارنا بذلك!»

فأجاب بليك قائلًا: «أظنُّهُ لم يكن يعرِف أنها قد تخلَّصَت منه.» كان يمشي جيئةً وذهابًا في الغرفة، وبدا واضحًا أنه كان قلقًا وغير مُقتنع، وأخيرًا، استقرَّ عند نافذة مُطلة على الشارع. صاح فجأة قائلًا: «ها هو هاري ماركنمور بنفسه، مع تشيلفورد. لا بدَّ أنه استقلَّ العربة حالما تركنا في المُتنزَّه. لقد التقيا السيدة براكسفيلد الآن، وأظنُّها تُذيقهما عذوبة لسانها!»

فقال قائد الشرطة: «دَعها!» وأضاف: «لقد سئمتُها!»

قال بليك: «لستُ مُقتنعًا بما سمِعناه عنها هي وهاري ماركنمور وذلك المُسدَّس. فرغم كل شيء، لا نملِك دليلًا على ادعاءاتها سوى روايتها، ولم نسمع روايته بشأن ذلك على الإطلاق. لو صحَّ أنه قد أعطاها المُسدَّس للسبب البريء جدًّا الذي ذكرَتْهُ — أي للاحتفاظ به في المنزل وسيلةً لحمايتها — فلماذا لم يستطِع قول ذلك، بصراحة، دون كل هذا الغموض والغضب الشديد الذي انتابه؟ هذا ليس مُقنعًا كثيرًا!»

فقال قائد الشرطة: «أظنه استشاط غضبًا لأنَّ السيدة براكسفيلد حماته، ولأنه كان سيُضطرُّ إلى إخبار زوجته بماهية الشكوك التي بدا أنها تُراوِدنا. وهذا ليس موقفًا لطيفًا لشابةٍ دخلت عائلةً في ظروف غريبة. لا أظنني كنتُ سأحبُّ ذلك لو كنتُ مكان هاري ماركنمور، أن أضطر إلى الذهاب إلى زوجتي الشابة وأقول لها: «أصغي إليَّ! الشرطة اعتقلت أُمك لأنهم يشتبِهون في أنها قتلت أخي!» أكنتَ ستُحبُّ ذلك؟ لذا يُمكنني أن أعذُرَه في غضبه.»

لم يردَّ بليك. بل واصل التحديق إلى الخارج عبر النافذة في صمتٍ بضع دقائق. ثم تحدَّث فجأة.

قال: «تشيلفورد يَعبُر الشارع قادمًا إلى هنا. لقد ظلَّ هذان الاثنان يُثرثران إليه كثيرًا جدًّا!»

وبعد قليل دخل تشيلفورد الغرفة، وهزَّ رأسه ناظرًا إلى الرَّجُلين بتوبيخٍ مُصطنع.

قال: «عجبًا، عجبًا!» واستطرد قائلًا: «أظنها إجراءات تعسُّفية بعض الشيء أن تعتقلا السيدة براكسفيلد هكذا، بعد محاولةِ إجبارها على إدانة نفسها، هاه؟ أيُعقَل! لا أُصدِّق أنَّ أيًّا منكما يظنُّ حقًّا أنَّ السيدة براكسفيلد من المُحتمَل أصلًا أن تكون غبيةً إلى الحد الذي يجعلها تقتُل رجلًا صارت من أصهاره للتو، بل وفردًا من آل ماركنمور أيضًا! أنا مُتفاجئ حقًّا من …»

فقاطعه قائد الشرطة وقد احمرَّت أُذناه قليلًا: «أصغِ إليَّ يا تشيلفورد!» وأضاف: «لك أن تتفاجأ كما تشاء! ليس للسيدة براكسفيلد أن تلومَ إلا نفسها، ولم نُخرِجْها من هنا إلَّا على مَضضٍ منَّا. قُل لها أن تكون شاكرةً إذا لم نُعِدها مُجددًا ونحتجزها!»

استعاد تشيلفورد هدوءه فاغرًا عينيه.

وقال: «أوه!» واستطرد قائلًا: «آه! أوه، حسنًا جدًّا، إذا كنتَ ستتحدَّث هكذا، فليس لديَّ شيءٌ آخر أقوله، باستثناء أننا، أنا وكرو، سنتعاون ونُفكِّر معًا في كيفية الدفاع عن مصلحة العائلة. لسنا راضِين إطلاقًا عن أداء شرطتك؛ فأنتم لا تسلكون المسار الصحيح. لماذا لا تُدركون مرةً واحدة وللأبد أنَّ السبب الحقيقي لقتل جاي ماركنمور كان المال! المال بطريقةٍ أو بأخرى، المال!»

وبتكرار كلمته الأخيرة تكرارًا مُشدَّدًا آخر، استدار فجأة وغادر الغرفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤