الفصل الثالث عشر

ولَمَّا صار في عرض الشارع ركب مركبة درجت به، وكانت حينئذٍ مركبةٌ أخرى تدرج وراءه إلى أن وصلت المركبتان إلى حانة أولومبيا فنزل عزيز باشا ودخل الحانة، وفي الحال نزل شخصٌ آخرُ من المركبة الأُخرى وتبعه، فما أن استوى في الحانة لدى المائدة حتى بدا أمامه شخص جوزف رينان فدهش إذ رآه، وقال باسمًا: سرعان ما تتبعني.

وكان جوزف قد جلس إزاءه.

– تبعتك في الحال؛ لكي أحادثك في أمر ذي شأن.

– عسى أن يكون خيرًا.

– ليس إلَّا الخير، عرفتُ بالمشروع الذي تشترك فيه مع طاهر أفندي، فوددتُ أن أعرض عليك أمرًا بشأنه.

– ماذا؟

– أُريد أن أسألك أن تكون لي حصة في المشروع، فأدفع من نفقاته ما يصيبني، وما أنا بأقل ثقة فيك من طاهر أفندي الذي خبر الرجل، وما اتصل إلا بكل أمين عاقل حازم.

فأبرقت أَسِرَّةُ عزيز باشا، وقال في نفسه: غنيمةٌ جديدة — إن شاء الله — ثم قال له: لا بأس عندي أنا بكثرة المعضدين للمشروع بمالهم، فهل فاوضت طاهر أفندي بالأمر؟

– كَلَّا، لم أشأْ أن أفاتحهُ به قبل أن أرى رأيك؛ لأني أعتقد أنك أنت ركن المشروع الأهم.

– كيف عرفت بالمشروع إذن؟

– أخبرني عنه طاهر أفندي خبرًا بسيطًا، فخطر لي أن أُفاوضك بأمر مشاركتي أولًا، وأود — قبل كل شيء — أن أستفهم عن طبيعة المشروع منك لا منهُ؛ لأنه هو لا يدري بأحوال مصر مثلك، ولا ريب أنه لم يقدم على العمل إلا بناء على مشورتك، فأود أن أستقي الحقيقة من ينبوعها.

– حسن، سل ما تريد فأفيدك.

– هل تتفضل أن ننتقل إلى مكان آخر؛ لأن الحانة ليست مكان التفاوض بالأشغال، وهي غاصة بالناس واللغط يدوي فيها.

– كما تشاء، أين تريد أن نذهب؟

– هلم اتبعني.

خرجا وركبا مركبة درجت بهما إلى حيث لا يدري عزيز باشا، اجتازت الشارع العمومي وتغلغلت في بعض الأزقة الضيقة، وكان فكر عزيز باشا حينئذ يجول في كيف ينصب أحبولة لرفيقه الجديد، وكان رفيقه يقول له كل هنيهة: «إني أؤمل خيرًا بالعلاقة معك يا عزيز باشا.» أو يفوه بعبارة أخرى لا تخرج عن هذا المعنى إلى أنْ وقفت العربة أمام منزل بسيط ليس في بابه بوَّابٌ وليس في الزقاق عابر فدفع المدعو جوزف أجرة المركبة فانثنت قافلة، وعند ذلك دخلا باب الدار ويمين جوزف في يُسرَى عزيز باشا، ولما صارا أمام السلم وهَمَّا أنْ يصعدا كان مسدس في يد جوزف مصوبًا إلى دماغ عزيز باشا وجوزف يقول له: لا تنبس ببنت شفة، وإلَّا طار دماغك مع رصاص هذا المسدس حيث لا يعلم بك أحد إلا الله.

فتزعزع فؤاد عزيز باشا في صدره، ووجفتْ قدماه، واكفهرَّ وجهه تحت نور المصباح الضئيل الذي ينير باب الدار، وقال له بصوت خافت: ماذا تريد؟

– الأوراق المالية التي معك كلها.

فتردد عزيز باشا، ولكن كف ذلك الفتي كانت قابضة على ذراعه، والمسدس لا يزال على قيد قدم من رأسه، فقال له هذا: لا تبطئ أكثر من بضع ثوانٍ ولا تَقُلْ كلمةً قط، اشترِ حياتَك بهذا المال؛ فإنه لي على كل حال آخذُه منك ميتًا إذا لم تدفعه حيًّا.

– رحماك، ليس هذا المال لي.

– لا فرق عندي سواء كان لك أو لغيرك، لا بد أن تدفعه حالًا، ادفعْه وإلا خطفتُ رُوحك في الحال.

فمد عزيز باشا يدهُ إلى جيبه، وهي ترتجف كأن شللًا اعتراها وهو يقول: ليست لي، ليست لي، بربك خذ بعضها.

– بل آخذُها كلها، هاتها حالًا.

– ويلاهُ من أين لي أن أُوفِّيَها؟

– أنا اختلس لك الصك الذي كتبتَه بها.

– إذ كان في طاقتِك أن تختلس الصك، فلماذا لا تختلس مالًا وتدع هذه الأوراق المالية لي؛ لأني مدين بها؟

– المال ضمن الأقفال الحديدية، ولكن الصك خارجها فيسهل عليَّ اختلاسُه.

– من أين لي ثقة بصدق قولك؟

– لا تُناقشْني، يجب أن تثق بأنَّ المال الذي معك لي — على كل حال — فادفعْه حالًا.

وعند ذلك هم المغتصبُ أن يطلق المسدس، فقال له عزيز باشا: رحماك هاك المال كله، وفي الحال دفعه له.

– ما هو عنوانك؟

– فندق «بل فو».

– لا تَقُلْ شيئًا مما تراه لطاهر أفندي، وإلا استحال عليك أن تَنال الصك.

وعند ذلك كان جوزف يضع الحقيبة في جيبه وهو يتقهقر، ووجهه إلى عزيز باشا، ويصوِّب المسدس إلى رأسه، ويقول له: كن أَصَمَّ أخرسَ، وإلا أطرت صوابك، وبقي يتقهقر حتى خرج من باب الدار وعزيز باشا ينتفض جزعًا وساقاه تتداعيان تحت بدنه حتى وَهَتْ قوتُه فسقط على الدرجة السفلى هلعًا.

وبعد نحو دقيقةٍ عادتْ إليه قوتُه فنهض من مقعده وهو يخطو خطوة كل بضع ثوانٍ؛ خائفًا من رصاص المسدس، حتى صار في الباب، فخاف أن يمد عنقه إلى الزقاق وبقي نحو دقيقة وجلًا، حتى جمع من الجرأة ما قدرهُ على الإطلال إلى طول الزقاق فلم ير أحدًا، فخرج وهو يتلفَّت إلى ورائهِ ومشى إلى أنْ صادف مركبة فركبها، فدرجتْ به المركبة إلى منزل طاهر أفندي، وكان يقول في نفسه: لا أُخبر طاهر أفندي شيئًا، ولكني أسألهُ سؤالًا بسيطًا عن صديقه جوزف رينان هذا.

وصلت المركبة إلى منزل طاهر أفندي فصعد، ولَمَّا دخل دهش؛ إذ رأى جوزف رينان كأنه لم يزل هناك يُحادث طاهر أفندي، وطاهر أفندي عجب إذ رآه، وقال له: أراك عائدًا يا عزيز باشا، هل نسيت شيئًا؟

– كَلَّا، بل نسيت أن أسأك أمرًا فهل تؤذن أن أراك في مكتبك لحظة؟

– تفضل.

وفي الحال خرجا إلى المكتب، فقال عزيز باشا: هل أطلعتَ أحدًا على هذا المشروع؟

– كَلَّا كَلَّا، لماذا؟

– ألم تخبر الموسيو جوزف رينان هذا؟

– لماذا أخبره؟

– خفت أن تخبره، فأتيت لكي أنبهك إلى أنه يجب أن يبقى المشروع مكتومًا ريثما ننتهي من الحصول على وعد ذوي الأمر بإعطائهِ الامتياز.

– كن مطمئنًا من هذا القبيل، وإن عرف به أحد سواي فمِنْ غيري.

– ألم يزل الموسيو جوزف رينان عندك منذ تركتكما؟

– نعم، لم يزل.

– ما شأن هذا الرجل؟

يقول إنه تاجر، وهو يباحثني عن مشروع تجاري.

وكان عزيز باشا يُحاول أن يُخفيَ قلقَهُ معللًا نفسه بأن يعود إليه الصك — حسب وعد ذلك اللص — فلم يشأْ أن يُطيلَ الحديث مع طاهر أفندي فاقتصر على ما سأل، وعند ذلك وَدَّعَهُ متكلِّفًا الابتسامَ وعَادَا إلى القاعة، وجعل الثلاثةُ يتحدثون بأُمور مختلفة، وعزيز باشا يتأمل الموسيو جوزف رينان كل هنيهة، ويَعجب من أمره ويغالط نفسه بأن هذا الرجل هو ذلك اللص نفسه، وقد رجح عنده أنهما شخصان متشابهان في الشكل واللبس ولكنهما يختلفان في الصوت بعض الاختلاف، وبعد برهة هم عزيز باشا بالانصراف فتبعه طاهر أفندي إلى الباب وهو يقول له: قد لا أراك بعد؛ لأني ذاهب بعد الغد إلى جنيف.

– وأنا مبارح إلى إنكلترا — على الأرجح — فإذا لم يتسنَّ لنا أن نلتقي في بعض حواضر أوروبا فإلى الملتقى في مصر.

– إن شاء الله.

وعند ذلك انصرف عزيز باشا والحيرةُ تأخذه وتَرُدُّه في عرض الشوارع، وهو لا يعلم كيف يعلل هذا الحادث الهائل الذي جرى له؟

اجتمع بأخيه في إحدى الحانات والدنيا مُسْوَدَّةٌ في وجهه، فدهش أخوه إذ رآه قاتم المحيا مضطربًا، فقال له: ماذا تَمَّ؟ أراك قلقًا جدًّا.

– كنت على شفا الهلاك، فاشتريتُ حياتي بالمال الذي قبضتُه من طاهر أفندي.

– ماذا تقول؟ قل لي ماذا جرى؟

فجعل عزيز باشا يروي على أخيه تفاصيلَ ما حدث له مع ذلك اللص الشيطان، وخليل يضطرب تارة فَرَقًا، وأخرى حيرةً إلى أن انتهى أخوه من قصته فسأله: عجيب أمر هذا النشال، أتؤكد أنه ليس الشخص الذي رأيته أولًا، وثانيًا عند طاهر أفندي؟

– لا شبهة عندي أنهما شخصان متشابهان جدًّا؛ لأني كدت أميز الفرق بين صورتيهما، وزد على ذلك أن طاهر أفندي قال لي: أن الموسيو رينان كان لم يزل باقيًا عنده لما عدت أنا إليه، فهل تظن أن طاهر أفندي يغشنا؟

– مستحيل.

– إذن كيف عرف ذلك الرجيم أن معي نقودًا، وأني أخذتها من طاهر أفندي لمشروع مهم، فإنه كان يكلمني في حانة أولمبيا كأنه كان معنا حين كنا نتباحث في أمر المشروع.

– إن هؤلاء النشَّالين لَأبالسةٌ شقُّوا الأرض وخرجوا من بطنها، فلا تدري كيف عرف بما دار بينك وبين طاهر أفندي من الحديث؟ ولماذا لم تخبر طاهر أفندي بما حصل؟

– وما الفائدة من إخباره سوى أنه يتشبث بالصك، فيتعذر على ذلك اللص أن يسرقه ويرده لي؟ — إن كان صادقًا بوعده.

– هل تنتظر أن يكون ذلك اللص صادقًا بوعده؟

– إني قليل الأمل جدًّا بصدق قوله، ولكني مع ذلك آثرتُ كَتْم الحادث عن طاهر أفندي حتى إذا لم يف اللص بوعده أنجزتَ أنت هذه المهمة.

– أسعى في إنجازها، ولكني لا أضمن لنفسي النجاح، ولماذا لم تبلغ الشرطة بهذا الأمر في الحال؟

– ما الفائدة وذلك اللص قد تغلغل في المدينة، وصار من المحال الاهتداء إليه؟ ولكن ماذا تظن ألا يفي بوعده؟

– الله أعلم، سنصبر إلى الغد، فإن أرسله كان خيرًا، وإلا نرى طريقة للتخلص من هذا الدين.

– وهب أنه استحال عليك أن تسرق الصك كما يستحيل على اللص فماذا تفعل؟ أتذكر نص الصك؟

– أذكر جيدًا، وهو كما يأتي: بتاريخه أدناه استلمت من طاهر أفندي عفت التاجر في فينا والتابع للحكومة النمساوية، مبلغ خمسين ألف جنيه عملة ورق دارجة كي أنفقها في مصر في سبيل الاستعدادات اللازمة لمشروع إنشاء ترام في القاهرة أشترك فيه مع طاهر أفندي المذكور، وفي أول السنة المقبلة يجب أن أُقدِّم له حسابًا عنها، أو أن أردها إليه.

– لا أدري كيف كتبت هذا الصك الغامض، كيف تقدم له حسابًا عن أموال تدفعها رشوة ولا تقدر أن تأخذ بها وصولات؟ وكيف تقدم الحساب عن نفقات سرية؟

– كتبته كذلك إجابة لطلبه، وعلى نية أن ألتهم من المبلغ معظمَه وعلى أمل أنه لا يدقق بالحساب معي؛ ولا سيما لأني أراه طيب القلب — كما وصفته لي — فلا أظنه يستغشني إذا قدمت له الحساب غير صريح.

– مهما يكن الأمر، كان يجب أن يكون الصك مشيرًا إلى أشياء صريحة.

– إني أرى أن الصك أَمْيَلُ لمصلحتي منه لمصلحة طاهر؛ لأنه لا يوجب عليَّ أن أُقدم الحساب ببينات ووصولات.

ففَكَّرَ خليل بك هنيهة، وقال: صحيح، إذن هب أننا لم نستطع أن نسترد الصك فيمكننا أن نقدم له حسابًا كما نشاء.

– نعم وعليه أن يقبل من غير اعتراض.

وحينئذٍ سري عن عزيز باشا وخمد اضطرابه قليلًا.

في مساء اليوم التالي كان عزيز وأخوه ينتظران البريد بفروغ صبر، وأملهما بصدق ذلك اللص أَرَقُّ من خيط العنكبوت، ولكنْ دهشهما موزع البريد؛ إذ دفع لهما مغلفًا فَضَّاهُ فوجدا فيه الصكَّ فاستولى عليهما الذهول، فتأملَّاهُ وهما لا يصدقان، وعند ذلك انفرج كل كرب عن صدر عزيز باشا وقال: «لا أبقي أثرًا لهذه الورقة التي سبَّبَتْ لي قلقًا في ٢٤ ساعة كانت كل دقيقة منهما تساوي كل ساعات قلقي في حياتي.» وفي الحال أشعل عودة ثقاب وأحرق الصك حتى انحلَّ إلى دُخان ورماد، أما أمر ذلك اللص فبَقِيَ سرًّا يجهلانه ويحيرهما كلما خطر لهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤