الفصل الثاني والعشرون

علم القارئ الكريم أن عزيز باشا كان يضاجر زوجته زينب هانم جدًّا؛ لكي يضطرها أن تهبه أملاكها أو تبيعه إياها بلا ثمن، وقد حداه إلى ذلك اضمحلالُ ثروته شيئًا فشيئًا في أبواب المُسكر والمَيسر والبورصة ونحوها حتى كادت تنفذ تمامًا، ولا يخفي أن المال قوةُ الرجال فلم يرَ عزيز باشا بُدًّا من الاستيلاء على ثروة زوجته؛ لكي يستقوى بها ويستطيع الظهور في مظهره المعتاد في الهيئة الاجتماعية.

وكان أحيانًا يضارب في البورصة بغية أن يسترد ما خسره في الأباطيل، وفي تلك الأثناء ضارب مضاربةً كبيرة فخسر معظم ما بقي له من الثروة التي ورثها من أبيه، فلم يَرَ بُدًّا من بيع بقية أطيانه ووفائها، وحينئذٍ يكاد يُصبح صفرَ اليدين، فعقد النية على أن يتخذ الوسائل اللازمة لاستيهاب ثروةِ زوجته بأيِّ الطرق القانونية، فاستعمل كل الوسائل لإقناعها، تارة يتملقها وتارة يتهددها فلم ينجح؛ لأن زينب كانت نبيهة جدًّا وعالمة أن مصيرها الرذل من قبل زوجها، فإذا رذلها مجردةً من ثروتها عاشتْ عيشة الهوان؛ ولهذا تشبثت بمالها، ولم يجز عليها تمليقه وتحبُّبه ووعوده؛ لأنها عجنتْه وخبزتْه وذاقت مُرَّهُ، فلم تَعُدْ تعتقد أن ذلك العود المرَّ ينضح حلاوة.

حَارَ عزيز باشا في إيجاد الوسيلة الممكنة لاغتصاب أملاك زوجته، وشعر حينئذٍ بشديد الحاجة إلى المال والثروة مخافة أن يضعف نفوذُه فكاد يتميز غيظًا فصوَّب كل إرادته إلى حملها على أن تمنحه قسمًا كبيرًا من ثروتها، ولما يئس من استرضائها بالحسن أو اضطرارها بالمضاجرة والتهديد عمد إلى وسائل النكاية.

وكانت له خليلةٌ ربة حانة تُدْعى راحيل، فاتفق معها على أن تسكن في منزله، فأَعَدَّ في دار الحريم غرفةً حقيرةً لزينب، وأمرها أن تُقيم فيها فسألتْه في ذلك، فقال: إني أحتاج إلى غرفتك لأمر.

– أي أمر يضطرك إلى إخراجي من غرفتي؟

– ليس من شأنك أن تسأليني في أموري الخصوصية.

فسكتتْ زينب صاغرة، وما خرج زوجها حتى حَدَّثَها ضميرها أن شرًّا مقبلًا عليها، وما انتصف الليل حتى جاءَ عزيز إلى دار الحريم يصطحب خليلتَه راحيل.

وكانت زينبُ في غرفتها حينئذٍ، ولكنها لم تَنَمْ لِمَا توالى في ضميرها من الهواجس، فنهضت مذعورة إذ سمعت صوت امرأة غريبة، وخرجت من الغرفة إلى رحبة الدار فوجدت عزيز يخاصر الخليلة ويُقبِّلها فقالت: ما هذا يا عزيز؟

– لا تفوهي ببنت شفة، أَمَا قلت لك أن تقيمي في تلك الغرفة الصغيرة المجاورة للمطبخ، فإنها أصبحت غرفتك منذ الآن.

– وهذه المرأة؟

– هذة تُقيم في غرفتك؛ لأنها أصبحت منذ الآن غرفتها.

– من هي؟ أَزَوْجَة ثانية لك؟

– كَلَّا، أنت تعرفين أنها ليست زوجة، بل هي خليلة.

– ويلاه! ما هذا العمل يا عزيز، أتنبذ امرأتك إلى ما بين الخدم، وتجعل مكانها خليلة مبتذلة؟

– أقصري، إنها لَأشرف منك.

– ما الداعي إلى هذا يا عزيز؟

– اصمتي، انقلي أولادك حالًا إلى غرفتك تلك.

وعند ذلك كانت زينب ترتجف من الغيظ والوجل معًا، فقالت: يا لك من قاس ظالم، أمن كل قلبك تنبذ زوجتك وأولادك؟

– لا تزيدي كلمة واحدة وإلَّا نالتْكِ لطمةٌ قاتلة.

– ويلاه، لماذا هذه القساوة يا عزيز؟

– قلت لك: لا تثني، اخرجي حالًا.

وهَمَّ أن يدخل الغرفة ممسكًا بيد راحيل، فحمي غضب زينب، وقالت: لا أخرج بل أنتما ترجعان.

فجذبها عزيز بيده إلى الخارج وأدخل راحيل، فعادت زينب وأمسكتْ براحيل، وحاولت أن تُخرجها فلم تستطع؛ لأن عزيز أمسكها بكِلْتا يديه وجَرَّهَا إلى الغرفة التي عَيَّنَها لها.

– ويلاه، أإلي هذا الحد بلغت نذالتك يا هذا؟

– اصمتي يا حمارة.

وكان عزيز يشفع كلامه بلطمة شديدة على فمها فنبض الدم منه، وكان صوته قد علا قليلًا بالشتم والسباب، فقالت له: بربك لا ترفع صوتك؛ لئلا يصحو الخدم فيضحكوا علينا.

فازداد عربدة؛ لأنه كان شاربًا، فقالت له: بالله تسكت، فأفعل ما تشاء.

– إذن هَلُمِّي انقلي أولادك إلى هنا؛ فإن تلك الغرفة لي ولخليلتي.

فنهضت زينب المسكينة والدموع تتصبب من مقلتيها وجاءَت إلى غرفتها وجعلت تنقل صغارها الثلاثة وهم نيام إلى غرفتها الجديدة الحقيرة وهي ترتجف من الغيظ، وفؤادها يهلع من الوجل، وكان في الغرفة سريران فأنامت اثنين في سرير ونامت مع الصغير في سرير آخر.

لا ريب أن القارئ يحكم من نفسه بأن زينب لم تنم تلك الليلة، وهل ينام من طما عليه الأَسى؟ صممت أن تمضي اليوم التالي إلى عمها حسين باشا وتشكو إليه حالها، ولكنها كانت قليلة الأمل بأن يفرِّج عَمُّها كربها وينصرها على زوجها؛ لأنها لاذتْ بعمها غير مرة مستنصرة بهِ فردها خائبة من غير أن يسمع شكواها.

وإنما فعل ذلك؛ لأن عزيز كان كل يوم بعد آخر يذهب إلى حسين باشا ويختلق لديه الأراجيف والافتراءات عن زوجته؛ لكي يغرس في يقينه الاعتقاد بأنها سيئة السلوك والسيرة والسريرة؛ حتى إذ لاذت به وشكت إليه ينبذها ولا يسمع شكواها، على أن زينب لا تعرف لها ملجأً غير عمها فصَمَّمَت على أن تمضي إليه في اليوم التالي وتبذل جهدها في إقناعه بسوء معاملة زوجها، ولَمَّا كان الصباح — وعزيز باشا لم يُفق بعد من نومه — نهضت وارتدت ملابسها وتأزرت بمئزرها ومضت، فاستقبلها أحدُ الخدم في باب رحبة الدار وقال لها: عودي يا سيدتي إلى حيث كنتِ؛ لأنه لا إذن لكِ أن تخرجي.

– اخرس يا وقح، أتقول هذا الكلام لسيدتك.

– أقول إنك لا تخرجين يا سيدتي.

فدفعتْه بيدها لكي تخرج فثبت في سبيلها، وقال: يستحيل عليكِ أن تخرجي.

– ما شأنك يا خسيس؟

– إني مأمورٌ بأن أمنعك عن الخروج يا سيدتي.

فتنهدت وقالت — بالإفرنسية لنفسها: «أَكُلُّ هذا من أعمال عزيز، الويل لي» ثم عادت صاغرةً إلى غرفتها الحقيرةِ واسترسلتْ في البكاء ولكن من يسمع بكاءَها لكي يرثي لحالها؟ ولما صارت الشمس على قامتين أفاق عزيز وخليلتُه فاستدعى زينب إليه فلم تشأْ أن تأتي فعادتْ الخادمة تقول لها: «يقول سعادة الباشا: يجب أن تأتي إليه وإلا فلا تنجينَ من نقمته.» فقالت لنفسها: «ويلي ما أشقاني لقد أصبح الخدم يتأمرون عليَّ!» ثم وافتْ إلى الغرفة فوجدتْه جالسًا على المقعد إلى جنب راحيل وهو يمنطقها بذراعه، فشرقت بدموعها وأوشكت أن تهوي إلى الأرض خائرة القوى فاستندتْ إلى كرسيٍّ، فقال لها: ائتينا بالقهوة حالًا.

– سامحتك على عملك أمس يا عزيز؛ لأنك كنت شاربًا، أما الآن فأنت صاحٍ، فلماذا تكيدني؟

– سأجعلك أذلَّ من كلب، هاتي قهوة لسيدتك وأشار إلى راحيل، فقالت له: رحماك يا سيدي رحماك.

– عَجِّلِي بالقهوة وإلَّا نالكِ شرٌّ عظيم.

فخرجتْ زينبُ تنتحب، ولولا الحياء من الخدم لأعولت، ثم عادت إلى غرفتها الحقيرة تندب سوء حظها مرَّتْ بضع دقائق وزينب لم تعد بالقهوة فوافى إليها عزيز والسم يقطر من فيه، وقال لها: ما بالك لم تأتي بالقهوة؟

– مُرْ خدمك أن يأتوك بها.

– أنتِ خدمي وحشمي.

– بل أنا زوجتُك وأميرةٌ عندك.

فناولها لطمة طبعت أصابعَه على خدها النضير، وقال: امضي حالًا وأَعِدِّي القهوة وهاتيها، وإلا جعلتُك أضحوكةً أمام الخدم.

– ارحمني يا عزيز، بحياة أولادك.

– لا جدوى من هذا الاسترحام، انهضي حالًا، وإلَّا قضيت عليك في الحال، وهمَّ أن يضربها فرفعتْ يديها ضارعة، وقالت: بعرضك إني عبدتك.

– إذن انهضي في الحال وهاتي القهوة، وإذا لم تحضريها في خمس دقائق لا تعلمين ماذا يجري؟

وبعد بضعِ دقائقَ عادتْ زينبُ بالقهوة، فذاب قلبها غيرة لِما شاهدتْه من مداعبة عزيز لراحيل، وما وضعت القهوة أمامها حتى سقطت على الأرض مغمًى عليها، فعالجها حتى استفاقت، فقال لها: لا ينفعك هذا التظاهر شيئًا، فاذهبي وائتينا بالفطور.

فنهضت زينب وهي لا تكاد تستطيع المشي لوهي عزمها، فقالت: رَبَّاه ارحمني، وامنحني صبرًا لكي أحتمل هذا العذاب.

لا نودُّ أن نتمادى في تفصيل معاملة عزيز لزينب من هذا القبيل؛ إشفاقًا على عواطف القارئين من التأثُّر، وإنما نُوجِز بالقول أن عزيز بقي يمتهن زينب ويُذلها على هذا النحو ويَمنع خروجَها من المنزل بضعةَ أيام حتى أخذ منها السقام وأصبحتْ كالخيال ولم تعد لها قوة.

ففي ذات مساء استدعت زوجَها إلى غرفتها وتواقعت على قدميه، وجعلت تُقبلهما وتغسلهما بدموعها وتقول له: عزيز، بربك ارحمني؛ كدت أموت غمًّا.

– لا أرحمك.

– لماذا؟

– كذا.

– أي ذنب جنيتُه يستحق هذا العقابَ الشديد؟

– أنتِ تعرفين.

– لا أذكر أني أخطأتُ إليك بشيء، أما أحببتك حب الزوجة الأمينة لزوجها؟ أما أطعتُك بكل أمر؟ بماذا خالفتُك أو عصيتك؟ متى قصرت بواجباتي نحوك؟ ذكرني، قل لي. عاملْني بالرحمة، إني زوجتُك، أعبدك، أكرس حياتي لحبك …

– لست أريد شيئًا من ذلك.

– ماذا تريد فأفعل؟

– أريد أن تكوني خادمة لراحيل.

– ويلاه، ويلاه، كيف أطيق؟ لماذا تعاملني هذه المعاملة؟

– لأني لا أحبك.

– ولكني زوجتك.

– بل خادمة.

– كَلَّا، بل أنا شريفة وغنية عن الخدمة، بل أنا زوجتك رضيت أو لم ترضَ.

– خسئتِ لا أريدك زوجة.

– إذن طلقني.

– لا أطلقك.

– ويلاه، ما هذا الظلم؟

– احتمليه رغم أنفك.

– هبني عبدتك فأعتقني.

– لا أعتقكِ.

– كيف أعمل لأخلص من هذا العذاب؟ ألا رحمة؟

– لا رحمة حتى تموتي كمدًا.

– بربك طلقني.

– لا تطمعي بهذه الأمنية.

– تفعل كل هذا لكي تبتز مالي.

– لا أبتز مالك، ولكني أحتاج إلى قسم منه.

– أليس كل ريعه تحت مطلق تصرفك، متى عارضتُك في أمر إنفاقه؟

– لا يكفيني ريعُه، أنتِ تعلمين أني أصبحت لا أملك شروى نقير، وكاد نفوذي يزول لخلو يدي من المال.

– من أنفق مالك في البطالة والبورصة غيرك؟

– لا تؤنبيني، إني حرٌّ في كل ما أفعل.

– أتريد أن تُبدد ثروتي كما بددتَ ثروتك؟ لنا أولادٌ يا عزيز فيجب أن نورثهم ما يكفل لهم حُسن المعيشة، يجب أن نُنفق أموالًا غزيرة على تعليمهم.

– لا أبتغي مالك لكي أبدده.

– إذن ما الفرق بين أن يكون لي أو لك ما دام ريعه لنا ولأولادنا.

– إذا لم يكن هناك فرقٌ فدعيه لي، سَجِّلِيه باسمي.

– ولكنه إذا بقي باسمي سلم لنا، ألا يحتمل أن تضارب في البورصة فتخسره دفعة واحدة.

– ليس من شأنك أن تهتمي بذلك.

– كيف لا أهتم، وهب أنك خسرته فماذا نفعل؟

– لا تجادليني كثيرًا، إذا شئتِ أن تشتري راحتكِ وهناءك وخلاصك من العذاب فسجلي أملاكك باسمي.

فتنهدت زينب تنهيدًا عميقًا وقالت: لا أفعل ذلك.

فنهض عزيز من مجلسه، وقال: إذن تَحَمَّلِي إن استطعتِ.

فجذبته زينب قائلة: إذن لا رحمة منك.

– لا رحمة.

– طلقني وخذ قسمًا من أملاكي.

– أريده كله.

– إن هذا لَجور ثقيل يا عزيز.

– لا أريد إلا كذا.

– وما فائدتي من الطلاق إذا خرجت من منزلك فقيرة؟

– لستِ مضطرة إلى هذا الطلاق إذا ملكتِني كل ثروتك.

فأنَّتْ، وقالت: مظلومة على كل حال.

– إذن اختاري الوجه الأفضل.

– أفضل أن تبيعني طلاقي بنصف ثروتي وتدع النصف الباقي لأورثه لأولادك.

– لا يهمك أمر أولادي.

– يهمني جدًّا أمرهم؛ لأنهم أولادي كما هم أولادك وأنا التي ربيتهم، فلا يطمئن قلبي إذا لم أضمن سعادتهم.

– إذن لا نتفق.

– إذا أحرجتني أقاضيك أمام المحكمة الشرعية.

– أتتهدديني؟ لا تستطيعين شيئًا يا زينب.

فتواقعت على قدميه، وقالت: رحماك يا عزيز! أسجل نصف أملاكي باسمك والنصف الآخر باسم أولادي.

ففكر عزيز هنيهة ثم قال: رضيت، متى تفعلين؟

– متى تشاء؟

– غدًا.

– غدًا، ولكن يجب أن يكون الطلاق والتسجيل في حين واحد.

– لكِ ما تريدين.

أما عزيز باشا فرضي بهذا الاقتراح؛ لأنه هو الولي الشرعي على أولاده فيتصرف بنصيبهم كما يشاء، وأما زينب فظنت أنها تشتري راحتها من ذلك العذاب الذي لا يُطاق بنصف ثروتها وتتحفظ بالنصف الباقي لأولادها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤