امنعوا هذه الموسيقا

عندنا موسيقيون ومغنون يعزفون ويغنون، وهم رجال ونساء، لا أسمع لواحد منهم إلا وأحس اشمئزازًا ذهنيًّا يغمر نفسي كأنه إحساس المهانة أو الصغار أو الخسة، ولست أتعجب مع ذلك من أن هناك من يلتذون هذه الألحان وهذه الأغاني؛ لأني عندما أتأملهم أجدهم إما حشاشون قد بنَّجهم الحشيش، أو سكارى، أو هم قد استسلموا للغريزة الجنسية الغشيمة التي لم تهذب بفنون المتمدنين.

وهذا الكلام يحتاج إلى شرح؛ ذلك أننا في القرون المظلمة التي عشنا فيها مئات السنين والجنسان منفصلان، لا يختلط الرجل بالمرأة فيتهذب، ولا تختلط المرأة بالرجل فتتعقل، في هذه المئات من السنين انحطت المرأة وأصبحت أنثى فقط.

وتخصصت الجواري في الفنون الجنسية كما كانت البغايا تتخصص لذلك، ثم اقتصر الرقص والغناء على الجواري؛ أي: القيان، وكانت القينة التي يقتنيها الثري تشترى بالمال كي تحرك الشهوة الجنسية بالعزف والغناء، وإلى وقت قريب كنا في مصر نسمي المغنيات «عوالم»؛ لأنهن كن يتعلمن هذا الفن في حين أن المرأة الحرة كانت تجهله، وقد ورثنا هذه الكلمة عن أيام الرق.

فلما ألغي الرق أصبحت المرأة الحرة تمارس الرقص والغناء والعزف على النحو الذي كان متبعًا بين الإماء؛ أي: الجواري، وكان كل هذا يتجه نحو تحريك الشهوة الجنسية بطريقة مبتذلة في إلقاء كلمات الشعر والغرام، أو إيماءات اليد والصدر والساق والحاجب والفم، فيما كنا نسميه رقصًا.

وقد كان هذا الرقص شائعا في مصر إلى ما قبل ثلاثين سنة، وقد اضطرت الحكومة حفظًا لكرامتنا أن تلغيه؛ لأنه لم يكن أكثر من التهتك المركز الذي كان يمثل الاتصال الجنسي تمثيلًا وقحًا، ولم يفكر الإنجليز أمام تسلطهم في إلغائه؛ لأنهم بالطبع كانوا يجدون فيه الفضيحة التي تعلن للأمم أننا في انحطاط بعيد الأعماق.

وهذا الرقص الذي ألغيناه كان يرافقه — في تناسق وارتباط، بل في تلاحن وتناغم — عزف الآلات الموسيقية وغناء الفرقة المحيطة بالراقصة؛ أي إن الموسيقا والغناء كانا أيضًا يسيران سيرة التهتك الجنسي، إذ لم يكن التناقض معقولًا؛ أي: لم يكن معقولًا أن تتهتك الراقصة في حركاتها وإيماءاتها ثم يتخنث المغنون؛ إذ يجب أن يسير الجميع متناسقين متلاحنين متناغمين.

فلما ألغينا الرقص وانتهينا (هل انتهينا؟) من هذه الفضيحة، بقي الغناء والموسيقا على حالتيهما الأصليتين، وهما تحريك الشهوة الجنسية، وما زلنا نجد في الألحان التي يختارها العازفون والمغنون.

وهنا تنبيه للقارئ، أن المرأة تعبر عن الحب بأصوات التألم والتوجع، وكأنها ترتاح لذلك، وهذا إلى حد ما طبيعي، ولكنه إذا زاد أصبح مرضًا يدعى «المازوكية»؛ أي: التذاذ الألم.

فهنا إذن جملة حقائق:
  • الأولى: أن الرقص القديم الذي ألغيناه كان يمثل الحركات والإيماءات الجنسية.
  • الثانية: أن الأغاني والألحان التي ورثناها من هذا الرقص كانت تتناسق معه في هذا الاتجاه الجنسي.
  • الثالثة: أن المرأة التي كانت ترقص تعبر عن الألم، ولذلك كانت الألحان والأغاني تعبر هذا التعبير أيضًا بالتأوهات والتوجعات.
  • الرابعة: على الرغم من أن المغني قد يكون رجلًا فإنه لا يزال يلتزم في أغانيه هذه التأوهات والتوجعات، كأنه يريد أن يتناسق مع الراقصة القديمة.

وجمهور الرجال الذين لم يحصلوا على تربية فنية يلذ لهم أن تحركهم وتحمسهم هذه الألحان والأغاني، فهم يستمعون إليها في اهتياج جنسي واضح، كما يستطيع أن يشهد بذلك أي إنسان حضر حفلة غنائية، وهذه الشكوى الملحة التي نستمع إليها في أغانينا، والتي تكاد تبلغ البكاء كما نرى من أسمهان، إنما هي في صميمها «مازوكية» نسوية؛ أي: اللذة من الألم، وهي التي ينقلها الرجال من المغنين؛ لأنهم ينساقون وراء النغمة الغالبة. ومعظم المستمعين لهذه الألحان والأغاني يحبون الحشيش والخمر؛ لما فيهما من قتل للوجدان، فتزيد اللذة من المازوكية التي فيها.

ومع كل هذا الذي قلت لست أنكر في التحليل السيكلوجي الأصل الجنسي للموسيقا والغناء، بل للشعر والأدب عامة، والدور الموسيقي هو في صميمه دور جنسي، لا شك في ذلك: يبتدي بطيئًا، ثم يتكرر، ثم يصل إلى الذورة، ثم يحدث الاسترخاء.

ولكن هناك فرقًا عظيمًا بين الدور الجنسي السافر وبين الدور الجنسي الذي تسامى به الفن المثقف، وما زالت أغانينا وألحاننا في الدور السافر بعيدة عن الفن والثقافة، ثم هي ما زالت تعود وتترجع إلى حركات المرأة الراقصة التي ألغينا رقصها منذ ثلاثين سنة؛ أي إنها تعبر عن التشكي والتوجع … مازوكية.

ولا يعيب الغناء والموسيقا أن يرجعا من حيث الأصل إلى ينبوع الغريزة الجنسية، ولكن يعيبهما أن يسيرا هذه السيرة المازوكة.

وهنا لا أتمالك من الإحساس بأن الفرق بين ألحاننا وأغانينا وبين ما يقابلهما في أوربا قد يكون في النهاية فرقًا بين المرأة الشرقية المازوكية الخاضعة النائحة، وبين المرأة الأوربية المستقلة التي تعمل أعمال الرجال وتراقصهم في تكافؤ، وليس في سيادة جنس على آخر.

إن بعض جامعات أوربا تمنح لقب «دكتور» للموسيقي العازف أو الملحن، فهل نستطيع أن نتخيل أن أحدًا من الملحنين أو العازفين أو المغنين في مصر قد حصل على هذا اللقب بألحانه أو أغانيه المازوكية المتألمة التي تذكرنا بتأوهات الراقصة القديمة؟

ومما يؤسف عليه كثيرًا أن الموسيقا لم تدخل معابدنا كما هو الشأن في أوربا، حيث أعظم آلة موسيقية «الأرغن» توجد على الدوام في الكنائس، وقد كان العظيم ألبيرت شفيتزر وهو دكتور في الموسيقا من أعظم العازفين على هذه الآلة، وصحيح أن في الكنائس القبطية ترانيم تلحن ويرافقها إيقاع بدائي على الصنج، ولكنها وقفت عند هذا الحد، وليس هناك أرغن واحد في كنيسة قبطية.

ولو أن الموسيقا المصرية كانت قد دخلت الكنائس وزكت فيها ونضجت وأينعت لكان من مركزها هذا ما يغير العقائد والأذواق في معاني الموسيقا في مصر؛ لأننا كنا — عندئذ — نجد الوقار والتأمل بدلًا من الابتذال والتخنث، وكنا — عندئذ — نرفض، بل نشمئز من أن تغني أمامنا المرأة البغي على حركات الغنج والدلال.

عندما أقول لأم ألمانية أو فرنسية إن ابنها سوف يكون موسيقيًّا فإنها تعد كلامي هذا تحية لها وثناء على ابنها، وتحس كبرياء وفخرًا، ولكني عندما أقول هذا القول لأم مصرية فإنها تحس كأني أسبها، أو أدعو ابنها إلى الاستهتار والمجانة، وفي هذا ما يدل على اختلاف الأصلين للموسيقا عندنا وعند الأوربيين.

لهذا السبب نحن نحتاج إلى إلغاء موسيقانا وأغانينا كما ألغينا الرقص، هذا الرقص المتهتك الداعر، رقص الأمة المشتراة، وهو الذي كان القاعدة التي انبنى عليها الغناء والموسيقا.

إن الغناء المصري يمثل المازوكية، وأكاد أقول إن الغناء الأوربي يمثل السادية؛ أي: الرغبة في الإيذاء وإنزال العذاب؛ وذلك لأن السادية هي صفة الرجال في الاتجاه الجنسي.

الأمم الأوربية عدوانية سادية، تتسلط وتقهر، وتغني في نشاط كأنه عدوان.

والأمم الشرقية خاضعة مازوكية، تذل وتخضع، وتغني في شكاية ونواحٍ كأنهما ألم، أجل يجب أن نثور على الغناء والموسيقا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤