مسار التاريخ والتأسيس التاريخي للأمة

أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ

(الشورى: ١٣/قرآن كريم)

كان تراكُم الثروات العظيمة لدى الأرستقراطية المكية عشية الإسلام بحاجة إلى وسائل تنموية متعددة، بينما الواقع المُتشظِّي بضآلة وسائل الإنتاج فيه قد جعل تلك التنمية شبه معدومة، فظلت الثروات في حالة كنز وكمون لا تتحرك إلا مع موسم التجارة، دورة واحدة دون حراك حقيقي يعود بفوائد على المستوى القاعدي الأوسع لأفراد مختلف القبائل.

وللحفاظ على الثروات الكامنة تم كنزها في شكل معادن ثمينة، وهو ما أدَّى دورًا مُعطِّلًا لدورتها الإنتاجية المُفترَضة، كما أدَّى بالتجار الوسطيين وبعض أفراد الأرستقراطية الواعية إلى قراءة آفاق المستقبل وممكناته، بينما ظل أغلبية الملأ على حالهم المُحافِظ الرجعي بالاكتناز حتى موسم التجارة.

ومثل تلك المقدمات تُفسِّر لنا إسلام بعض التجار الوسطيين مثل أبي بكر بن أبي قحافة ومن كان على رأيه وقت كان الإسلام ينادي المُستضعَفين، حيث كان هؤلاء الوسطيون أقدر على قراءة حركة الواقع قراءة واعية بحكم موقعهم الاجتماعي. تلك القراءة التي أدركت غاية خط سير التطور، حتى يمكن أن يتحول أمن البيت المكي لأهله من الجوع والخوف إلى أمن لعرب الجزيرة جميعًا، بتوحدٍ ينتهي إلى قوة واقتدار، ويُؤدي إلى نظرة طموح نحو الإمبراطوريتَين المُتهالِكتَين.

كذلك تُفسِّر تلك المقدمات، تلك اللغة القوية الجديدة التي أخذت تسري مع سفي الرياح في فيافي الجزيرة، وأوردنا لها نماذج في الجزء الأول من هذا العمل. ونعضده هنا بإضافة ما وجدناه مُجدَّدًا عند «الدينوري» في «الأخبار الطوال» وهو يحكي عن «النعمان بن المنذر»، ملك الحيرة العربي المسيحي، المنوب عليها من قبل كسرى فارس. ذلك الرجل الذي ظهر شعوره القومي العربي تجاه قومه، فقام يُساعِد «سيف بن ذي يزن» العربي اليهودي الذي ثار في اليمن على الاحتلال الحبشي المسيحي لبلاده، فتوسَّط النعمان لدى كسرى ليمد «سيف بن ذي يزن» بالسلاح والجند، حتى تحررت اليمن من الحبش، لكن لتسقط في تبعية الفرس.

ولو تم تفسير موقف النعمان بأنه كان يُوطِّئ لجيوش الفرس في اليمن لظلمناه ظلمًا بينًا؛ لأن ذلك التفسير سيُجافي ما حدث بعد ذلك ويُنافيه تمامًا، فقد استمرت سياسة النعمان في موالاة القبائل العربية، حتى توجَّس منه كسرى الذي وعى بدوره شكل التحولات التي تجري في الجزيرة ونذرها، فتخلَّص منه. وأوجز سبب قتله في خلاصة واضحة مُعبِّرة تمامًا عن خط سير الأحداث، حيث قال:
وأما ما زعمت من قتلي النعمان بن المنذر، وإزالتي الملك عن آل عمرو بن عدي، إلى إياس بن قبيصة، فإن النعمان وآل بيته قد واطَئوا العرب وأعلموهم توكُّفهم خروج المُلك عنا إليهم، وكان لهم في ذلك كتب، فقتلته، وولَّيت الأمر أعرابيًّا لا يعقل من ذلك شيئًا.١
وقد تتالت الأحداث إثر ذلك، فأخذت بكر تُغير على سواد العراق كرًّا وفرًّا،٢ ثم تصاعَدت المُناوَشات بين قبائل إياد والفرس، ليُهزَم العرب هزائم مُتتالية.٣ حتى تأتي موقعة ذي قار حيث تُحقِّق القبائل العربية أول نصر عظيم لها على جيش الإمبراطورية؛ ذلك النصر الذي دوَّى أمره يرجع صداه بين مضارب القبائل الساهرة تسمر حول أخباره، مع فرح عامٍّ شمل الجزيرة جميعًا عبَّر بوضوح عن بدء شعور العرب بوحدة جنسهم، وعن ظهور نزوع قومي واضح لا شية فيه، ليُلقي بصداه في سمع الأجيال وهي تُنصِت إلى مُوحِّد العرب، النبي محمد وهو يُعقِّب على نصر ذي قار قائلًا: «اليوم أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا.»٤

وفي مكة، كان أبرز من وعى ممكنات المستقبل وهي تُلقي بمقدماتها أمام سادة مكة، رجل من الملأ حكيم، هو عتبة بن ربيعة، الذي وقف يطلب من قريش الكف عن محمد؛ لأن ما سيكون له من شأن سيكون شأنهم، وما سيُحقِّقه من عز وملك سيكون ملكهم وعزهم، لكن إصرار الملأ على المنافع الضيقة واستدامة الأرباب القبلية جذبًا للتجارة، أدَّى بذلك المُتغيِّر الآتي إلى أن يفرض وجوده فرضًا، ليصل خط التطور نحو غايته الحتمية.

وعليه فقد نهض بإتمام التطور وأخذه إلى نهايته الناضجة، لصالح الطبقة التاجرة، ذلك الفرد المُنتظَر، نبي الإسلام الكريم الذي نشأ يتيمًا فقيرًا كادحًا، من البيت الهاشمي الذي حاز شرف النسب، لكن مع تواضُع مادي، بل كان من الغصن رقيق الحال في ذلك البيت، غصن عبد المطلب وأبي طالب. ومع تجاوزه الصبا إلى اليفوع والرجولة، تحوَّل محمد إلى التجارة لصالح أثرياء مكة، ثم تزوَّج من الشريفة الثرية السيدة خديجة بنت خويلد — رضي الله عنها — فخبر الأمرَين، وعاش الحالَين، وعاين الطبقتَين، مما كان كفيلًا بوعي نافذ، كان وراء دفع الأمر نحو غايته ونتائجه الحتمية.

وإعمالًا لما سبق، وبسبيل الاتساق مع السير الصحيح لوجهة التطور التاريخي، بدأ النبي دعوته بالمجاهرة بضرب المصالح الأنانية الضيقة لملأ مكة، ابتداءً بضرب التعدد القبلي الربوبي، بهدف التوحيد الآتي. ومن ثَم كان إعلانه كفران قريش قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ …، وسلبها لقبها الذي شرفتها به العرب «أهل الله»، وتسفيهه لمعتقداتها وعقائد العربان، مع رفضه الصارم لقواعد التجارة التي قعَّدوها، التي كانت تُعطِّل سيولة رأس المال وتُجمِّد دورته التنموية، فقام يُهاجِم كنز الذهب والفضة بأوامر وحي يُساير سنن الكون التاريخية ويلتقي معها، حتى وصل في مغالاته إلى ذم المال في ذاته، وهو ما جاء في رواية ابن حنبل: «إن النبي قال: تبًّا للذهب، تبًّا للفضة، فشق ذلك على أصحاب النبي فقالوا: أي مال نتخذ؟ فقال عمر رضي الله عنه: أنا أعلم لكم ذلك. فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم فقالوا: أي مال نتخذ؟ قال: لسانًا ذاكرًا وقلبا شاكرًا وزوجة مؤمنة تُعين أحدكم على دينه.»٥
وتكرَّر موقفه من المال في مواقف من أصحابه من التجار الوسطيين، فقال يومًا لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «ما بطَّأ بك يا عبد الرحمن؟ قال: ما ذاك يا رسول الله؟ قال إنك آخر أصحابي لحوقًا بي يوم القيامة، فأقول: ما حبسك عني؟ فيقول المال: كنت مُحاسَبًا محبوسًا حتى الآن.»٦

وكان طبيعيًّا أن تُسفِر الدعوة عن عداء جهير بعد الجفوة، أدَّى بالنبي إلى وجهة مرحلية على خطوات الطريق الاستراتيجي الطويل، تحوَّل بموجبها نحو المُستضعَفين والمُعدمين والعبيد، يدعوهم إلى النسب والامتلاك، بل وامتلاك كنوز تتضاءل أمامها كنوز الملأ القرشي، إنها كنوز كسرى وقيصر؛ بهدف تشكيل نواة جماعة أولى لأمة جديدة واحدة من دون الناس، وعليه كان إعلان الوحي: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص: ٥).

ويروي البلاذري: «كان رسول الله إذا جلس في المسجد جلس إليه المستضعفون من أصحابه؛ عمار بن ياسر وخباب بن الأرت وصهيب بن سنان وبلال بن رباح وأبو فكيهة وعامر بن فهيرة، وأشباههم من المسلمين، فتهزأ قريش بهم ويقول بعضهم لبعض: هؤلاء جلساؤه كما ترون، قد منَّ الله عليهم من بيننا.»٧

وإعمالًا لذلك بات واضحًا أن المستضعفين هم من سيُشكِّلون مادة الأمة الطالعة، وهم من سيكونون القادة والأئمة، وهم من سيرثون الملأ وحكومته، والسبيل أمة جديدة، تقوم على مبدأ جديد، يُوحِّد ولا يُفرِّق، يجمع أصحاب المصلحة في التغيير في مصهر واحد، عبَّرت عنه الآيات الكريمة بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (الشورى: ١٣). ومن هنا، وفي تلك المرحلة قام الإسلام بضرب القبلية، بإحلال الولاء لجماعة الإسلام محل أي ولاء آخر، وهو ما دعا إليه الوحي في قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (التوبة: ١١٣).

وقد أفصحت الصحيفة التي عُقِدت بعد ذلك بزمن بعد الهجرة إلى يثرب، عن قرار بقيام الدولة على نظام اجتماعي جديد، يُميِّزها كأمة أخرى تمامًا دون بقية الأعراب، ووضعت أول مبدأ للأمة المُوحَّدة، مُعبِّرة عن التجمع الحضري الكيفي المتجاوز للتجمع القبَلي الكمي. وهو المبدأ الوارد في نصها المضيء في مبتداها: «هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس.»٨

وتسارعت الخطوات بعد الهجرة بادئةً بالمهمة الكبرى، وهي إسقاط نظام الملأ المكي وحكومته شبه الجمهورية، وضرب ذلك النظام في أساسه الخرساني بقطع طريق الإيلاف التجاري المار قرب يثرب، بحروب بدأت رحاها بسرايا وغزوات، كانت الحروب التأسيسية لقيام دولة الرسول في يثرب.

وهكذا كان الانقلاب العظيم الذي جاءت به الدعوة، يتمثل في رفض النموذج البدوي للإنسان العربي في المرحلة القبل إسلامية، ومن ثَم جاء الانقلاب ليُسارِع في تفجير الأطر القبلية، ويبني نموذجًا جديدًا لإنسان الجزيرة، ويضعه ضمن منظومة اجتماعية جديدة، تنتقل بالفرد من الولاء للقبيلة إلى الولاء للأمة القومية، تلك الأمة التي كان عمادها الرئيس عقيدتها الجديدة.

وإذا كانت ترميزات الوحي المجازية قد جعلت من إبراهيم الخليل أمة وحده، كأب لجميع الأنبياء إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (النحل: ١٢٠)، فإنها جعلت من محمد آخر الأنبياء وخاتمهم؛ ومن ثَم كان محمد بدوره أمة. وإذا كان هو كل الإيمان وكل الأنبياء في دين واحد وذات واحدة، فلا شك أن المؤمنين به سيكونون بإيمانهم محمديين؛ أي سيكونون بدورهم أمة؛ لذلك جاءت الآيات تقول:

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ (آل عمران: ١٠٤).

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران: ١١٠).

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (الأنبياء: ٩٢).

وكان الشرط ليكونوا أمة هو الاعتراف بمحمد رسولًا خاتمًا، وبمن سلف من أنبيائهم، أنبياء وأسلاف الأمة وتاريخها، وبالله الواحد ربًّا جامعًا لوحدتهم في كيان اجتماعي عقدي واحد.

ومن البداية كان واضحًا أن هذه الأمة الجديدة هي الأمة الجامعة لعربٍ بدءوا منذ وهلة فقط قريبة جدًّا يشعرون بوحدة جنسهم وبقوميتهم إزاءَ تفجُّر أطر القبيلة، وهو ما تمثَّل في موقفهم من تحرير اليمن، ومن انتصار قبائل الشمال على الفرس في ذي قار.

ومن هنا أضحى أن مصطلح أمة في العقيدة الجديدة يعني كيانًا اجتماعيًّا جديدًا شديد الصلة بمعنًى يُناقِض البداوة والقبلية، ويتماهى مع معنى المدينة والحضارة.

ومنعًا لأي التباس في عروبة تلك الأمة، مع وجود العبيد والموالي الذين دخلوا الإسلام من أصول غير عربية، جاء حديث سيد الخلق يقول:
أيها الناس: إن الرب رب واحد، والأب أب واحد، والدين دين واحد، وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، وإنما هي لسان، فمن تكلَّم العربية فهو عربي.٩

كان التوحيد الربوبي ناتجًا لتطور ظروف المجتمع، لكنه أيضًا كان مُؤسِّسًا للدولة الواحدة، وكان لا بد أن يُرافِقه توحُّد إثني جنسي يُلغي أسلاف القبائل الذين هم أرباب في الوقت ذاته، لتتحقق الوحدة المرجوة؛ ومن ثَم كان تأكيد النبي على ما سبق وأعلنه جده عبد المطلب بن هاشم، أن جميع قبائل العرب وإن تفرَّقت قبائلها وتشرذمت، فإنها إلى أب واحد تعود، هو إسماعيل بن إبراهيم أبو جميع الأنبياء، الذين هم بدورهم مسلمون.

وهكذا كان التوحيد الربوبي يتمثل في الالتفاف حول لواء واحد هو قول لا إله إلا الله، والقبول بالانضواء تحت سلطة نبوية قائدة واحدة تتمثل في الشهادة لمحمد بأنه رسول الله، كأساس تنظيمي للحركة التاريخية نحو إقامة دولة مركزية للأمة الطالعة، وبحيث ينتقل العربان من الوضع القبلي إلى الوضع القومي.

ولتحقيق الهدف، كان لا بد من خروج الفرد من منظومته القبلية إلى رحاب القومية الأرحب، مما يعني انسلاخه الكامل فكريًّا وسلوكيًّا عن حالة التبدي والقبلية.

لكن تظهر الإشكالية الكبرى والمُستعصية، حيث لم تشعر شراذم العرب القبلية بوحدة جنسها إلا بشكل ابتدائي كلون من العصبية غير الواضحة والضبابية، ناهيك عن انقطاع تلك القبائل عن ماضيها وأحوال من سبقهم، وهو انقطاع تاريخي مع التأريخ لعوامل كثيرة معلومة، ليس هنا مجال عرضها، حتى إنهم ما كانوا يشعرون بوحدة جنسهم، أو أن لهم أية علاقة بالحضارات السامية القديمة. ورغم أن البعض اليوم يُقعِّد تلك الحضارات في مجلس التاريخ العربي، مع الإشارات إلى حضارات الجنوب اليمني، فإن هذا الاعتبار يقوم على الجغرافيا مع إسقاط الجانب اللغوي وخط الكتابة وغيره، وحتى ظهور الخط النبطي الذي تطوَّر عنه الخط العربي بعد ذلك بقرون، فإن عرب الجزيرة أنفسهم ما كانوا يشعرون بوحدة جنسهم، ولم يبدأ ذلك الشعور جليًّا إلا مع دخول الرسملة وإفصاح المجتمع عن وجهه الطبقي، حيث بدت بوادره بفرح عمَّ جزيرة العرب عندما انتصر حلف قبائل الشمال على جيوش فارس في وقعة ذي قار، وعندما تمكَّن ابن ذي يزن من تحرير بلاده من الأحباش.

وهكذا كان لا بد للأمة من تاريخ يتصل بها، ويتواصل معها، ويجد لها موطئ قدم راسخ في عمق الزمان الماضي، فأي أمة لا بد لها من عراقة تاريخية عميقة، وتاريخ يضرب بجذوره في الماضي البعيد المُؤسِّس للتطور التالي المُنشئ للأمم أصلًا.

ومن هنا كان الاتجاه نحو العماد التأسيسي العقدي لإلقائه في رحم التاريخ القديم، بربط النبي محمد بتاريخ النبوة منذ بداياتها المعروفة في القصص الديني؛ ليُصبِح تاريخ الأمة الجديدة تاريخًا نبويًّا، ومعرفيًّا سماويًّا، فتتم أسلمة جميع الأنبياء السابقين، كما يتم تقديس لغة قريش تحديدًا باعتبارها اللغة العربية الكاملة، ويتم إعادتها إلى الزمن السماوي القبل خلقي، فتُصبِح لغة الملأ السماوي، ولغة آدم أبي البشر جميعًا في الجنة، ثم لغة جميع الأنبياء، ثم ستكون لغة أهل الجنة بعد.

وعليه تم وضع الأنبياء في سياق تاريخي كان هدفه النهائي هو قيام دولة الإسلام المحمدية، وبحيث يكون النبي هو المحور والهدف الأول قبل آدم نفسه، ويظهر كل الأنبياء كخطوات تمهيدية تطورية تاريخية سابقة، كانت مهمتها التوطئة التاريخية لدولة النبي وأمة المسلمين، ويُصبِح جميع الأنبياء في بقاع مختلفة من عالم الشرق القديم، سواء من بني إسرائيل، أو من أنبياء عرب كصالح وهود في الشام واليمن، أو في العراق كما في حالة إبراهيم، أو في مصر كما في حالة موسى، يُصبِح كل هؤلاء بموروثهم النبوي، وجدلهم المعرفي والحضاري مع حضارات المنطقة، هم الامتداد التاريخي للأمة العربية الطالعة، وهو الأمر الذي سيلتقي تمامًا مع التوجهات المحمدية والتوجيهات لأتباعه بغزو تلك البلاد، باعتبارها ميراثًا تاريخيًّا تقوم شرعيته على فلسفة الإسلام التاريخية، وكما ورث محمد كل النبوات، فإن كل بلدانهم بالتبعية وبالضرورة هي ميراث أتباع محمد، الذين هم أتباع لكل الأنبياء في جميع الأمم.

ومن هنا تتالت آيات القرآن الكريم لتعزيز تلك «التاريخية» للأمة الطالعة، بما حوته من قصص الأنبياء؛ لتكون بمثابة إعادة اكتشاف للهوية التاريخية ولتشكيل ماضي الأمة.

ولأنَّ الغرض «توحُّد» في أمة «مُوحَّدة» في عقيدتها، فقد أصبح كل الأنبياء السوالف مُوحِّدين؛ ومن ثَم كان الهجوم التكفيري على بعض الآراء والعقائد في الديانات السابقة والتي دخلتها شبهة عدم التوحيد، كما في بعض حالات أنبياء اليهودية وفي حالة يسوع المسيح، لتُصبِح القيم التي مثلوها هي القيم التي تتساوق وتتناغم وتتضافر مع دعوة النبي التوحيدية المُوحِّدة لتوحيد قبائل العرب في دولة مركزية واحدة.

ومن ثَم تتالت الآيات القرآنية تُؤكِّد إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (الأنعام: ١٥٩)، وهي الآيات التي تعني أن تلك القبائل إنما كانت في الأصل على الدين النبوي التوحيدي الذي أسَّسه سلسال الأنبياء السابقين، وأنهم انقسموا بعد ذلك قبائل وشيعًا؛ مما يعني أن الوحدة والتوحيد كانا الأصل، ومن ثَم ينقلب منطق التطور على عقبَيه لصالح التأسيس التاريخي للأمة، ومن ثَم كان نداء الآيات أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا (الشورى: ١٣).

ومن أجل تحقيق وحدة الجماعة المسلمة التضامنية في يثرب كان لا بد من مركز تأسيسي يُمثِّل المركز الحكومي الإداري، وفي ذات الوقت يجب أن يكون مركزًا مُقدَّسًا؛ ومن هنا أمر الرسول الأتباع عند دخوله يثرب بترك ناقته على حريتها قائلًا: «اتركوها فإنها مأمورة.» لتبرك الناقة فيتقدس الموضع الذي بركت فيه ويبني فيه المسجد الذي تقدَّس في حديث النبي بقوله: «لَا يُشَد الرحال إِلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا.» بل وحرَّم يثرب جميعًا لتُعادِل بحرمتها مدينة مكة.

وفي المسجد كان المسلمون يلتقون بزعيمهم ومنه يُوجِّههم، وفيه يتم توطيد انتمائهم العام للأمة، بإبعادهم عن المجتمع القديم وعزلهم عنه، كما تأكَّد المعنى المدني للدولة بإطلاق اسم المدينة على يثرب، مع هجوم عنيف على النزعة البدوية في آيات القرآن الكريم، ومن نماذجها:
  • الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ (التوبة: ٩٧).
  • وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ (التوبة: ٩٨).
  • وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ (التوبة: ١٠١).
  • قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات: ١٤).
ومن ثَم أصبح التمدن مُرادِفًا للإيمان، حيث المدينة تُؤكِّد الشعور بالانتماء والانتساب والمواطنة وبالهيبة الحضارية. لكن بينما كانت حاضرة مثل مكة قد تخلَّت عن الإغارات البدوية على القبائل الأخرى نهائيًّا، لظرفها الاقتصادي والمجتمعي، وتأكيد حرمة مدينتها وحرمها؛ فإن يثرب على العكس بدأت غاراتها العسكرية من الوهلة الأولى للحصول على المُقوِّمات الاقتصادية لبناء الدولة، حيث قال النبي :
لم تحِل الغنائم لأحد قبلنا، وذلك أن الله تعالى رأى عجزنا وضعفنا فوهبها لنا.١٠

ومن ثَم تقدَّست أيضًا تلك الغارات، وشُرِعت الغنيمة وأصبحت بدورها حلالًا ومُقدَّسًا. أما قريش ومُشرِكوها فقد كانوا يُشكِّلون بوجودهم ضرورة لتحقيق الإسلام، حيث يبرز النقيضان ويتضحان، وكانت حربهم إزاء الحملات العسكرية اليثربية عليهم، مع الظفر الذي تحقَّق ليثرب، مدعاةً لأن يرى العرب فيها رعاية غيبية تقف إلى جوار المسلمين وتدعمهم، وهكذا أبرز ذلك التناقض النقيض المهزوم كنموذج منهار في طريقه إلى زوال.

أما أبو سفيان صخر بن حرب، فقد زلف لسانه بعد ذلك بزمان طويل، يحكي عن حروب النبي لقريش وحصارها اقتصاديًّا فقال: «كنا قومًا تجارًا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى تهتكت أموالنا.»١١
١  الدينوري: الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ط١، القاهرة، ١٩٦٠، ص٦٣، ١٠٩، ١١٠.
٢  الأصفهاني: الأغاني، المكتبة الحيدرية، ط٢، النجف، ج٢٠، ص١٣٢.
٣  ابن قتيبة: الشعر والشعراء، دار الثقافة، بيروت، ١٩٦٩، ج١، ص١٢٩.
٤  خليفة بن خياط: الطبقات، تحقيق أكرم العمري، مطبعة العاني، ط١، بغداد، ١٩٦٧، ص٤٣.
٥  ابن حنبل: كتاب الزهد، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٧٨، ص١٩.
٦  الشيباني: الاكتساب في الرزق المستطاب، تلخيص محمد بن سماحة، تحقيق محمود عرنوس، مطبعة الأنوار، القاهرة، ١٩٣٨، ص٢٩.
٧  البلاذري: أنساب الأشراف، تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف، القاهرة، د.ت، ج٢١، ص١٥٦.
٨  ابن هشام: السيرة النبوية، ضمن كتاب السهيلي: الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، ضبط طه عبد الرءوف، دار المعرفة، بيروت، ١٩٧٨، مج٢، ص٢٤١.
٩  نقلًا عن ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، دار المعرفة، بيروت، د.ت، ص١٦٦، ١٦٩.
١٠  الثعلبي: قصص الأنبياء المُسمَّى عرائس المجالس، المكتبة الثقافية، بيروت، د.ت، ص٢٤٩.
١١  المقدسي: البدء والتاريخ، مكتبة المثنى، بغداد، ١٩١٦، ج٢، ص٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤