الفصل السادس

إسبانيا والبورتغال: الصراع بين المبادئ الحرَّة والرجعية في إيبريا

تمهيد

كان غرض السياسيين الرئيسي في أوروبا بعد سنة ١٨١٥، الحيلولة بكل الوسائل دون حدوث «الثورة» التي تهدد بانهيار أنظمة الحكم الرجعية التي أعادوها في البلدان التي كانت تخلصت منها في عهد «الثورة الفرنسية ونابليون»، والتي دعموها في الأوتوقراطيات التي استمر يسود بها «النظام القديم»، وكان خطر الثورة إذا حدثت يشمل تهديد الترتيبات الإقليمية التي رسمها السياسيون على قاعدتي توازن القوى والتعويضات، والتي أخضعت شعوبًا بدأ يقوى فيها شعور القومية لسلطان حكومات أجنبية عليها. فكان معنى التدبر لعدم قيام الثورات منع الآراء الحرَّة الديمقراطية من الاستعلاء مرة أخرى، وهي التي تهدف إلى التحرر الوطني (القومي)، وإثارة الحركات الدستورية ودعمها، ولقد عرفنا كيف أطلق «نظام مترنخ» على عمل التدابير والاحتياطات التي اتخذتها الدول ضد حدوث «الثورة» في أوروبا، وكيف أن هذا «النظام» حاول عن طريق «الاتحاد الأوروبي» الوصول إلى الأغراض التي توخاها أصحابه منه. فعولجت مسائل شتى، كان النجاح نصيب «الاتحاد الأوروبي» تارةً، وأخفق «الاتحاد» في علاجها تارةً أخرى، لأسباب ذُكرت جميعها في مواضعها، ولقد كان السبب الرئيسي في إخفاق «الاتحاد الأوروبي» كأداة لحكم أوروبا، وفرض سيطرة موحدة عليها، غايتها الكبرى منع حدوث «الثورة» — سواء أكانت وطنية قومية أم دستورية — انقسام الدول فريقين بشأن مصير المستعمرات التي لإسبانيا وللبورتغال في أمريكا، وتلك مسألة كبرى، ثم لتحديد شروط «التدخل» في شئون إسبانيا والبورتغال الداخلية.

ومثلما سادت الاضطرابات بقية أوروبا بين عامي ١٨٣٠ و١٨٤٠ وتعددت المشكلات التي تحتم على الدول العظمى معالجتها، سواء قبل فشل «الاتحاد الأوروبي» كأداة حكومية وبوليسية، أو بعد فشله عقب مؤتمر فيرونا (١٨٢٣) — وهي المشكلات التي عرضنا لطائفة منها في الفصول السابقة؛ ولقد تقدم كيف استأثرت المسألتان الإسبانية والبورتغالية باهتمام «الاتحاد الأوروبي». أما المشكلات التي أثارت المتاعب والاضطرابات في شبه جزيرة إيبريا (إسبانيا والبورتغال) ودعت أحداثها لتدخل الدول، فقد لاحظنا أنها في صميمها ترتد إلى أسباب متصلة بالتنازع العائلي (أي بين أعضاء الأسرة المالكة) من أجل اعتلاء العرش، وإن كان لا يخلو من هذا التنازع — وهو عائلي في جوهره — من الاصطباغ لدرجة معينة بصبغة دستورية، ولقد كان من الأيسر كثيرًا الوصول إلى تسوية للمشكلة البورتغالية، في حين تطلبت مشكلات إسبانيا جهودًا كبيرة لتحقيق هذه الغاية.

(١) إسبانيا: نضال الأحرار ضد نظام الحكم المطلق في إسبانيا

وترتد «المشكلة الإسبانية» في أصولها، بالشكل الذي استأثر باهتمام «الاتحاد الأوروبي» إلى الحرب الإيبيرية (١٨٠٨–١٨١٤)، التي خاض غمارها الإسبان كل هذه السنوات الطويلة، لاستنقاذ البلاد من السيطرة النابليونية؛ وحق للإسبان أن ينظروا باعتزاز لهذه الحقبة من تاريخ أوطانهم وأن يفخروا بالنصر الذي أحرزوه عندما كان صراعهم المرير لتحرير الوطن أحد العوامل الحاسمة التي عجلت بانهيار الإمبراطورية النابليونية.

على أن جلاء الجيوش النابليونية من إسبانيا، وعودة ملكها فردنند السابع إلى عرشه، لم ينهيا متاعب الشعب الإسباني، بل إن عهدًا جديدًا من الصراع الداخلي لم يلبث أن بدأ حول نوع الحكم الذي تجب إقامته في البلاد، وكان نضال الأحرار الإسبان من أجل إنشاء الحكومة الدستورية، لا يقل في أهميته وخطورته عن نضال الأمة السابق لتحرير الوطن من السيطرة الأجنبية، وكانت المشكلة التي واجهت الاتحاد الأوروبي هي الفصل فيما إذا كان يجب أن تسود الرجعية إسبانيا، وذلك في عهد الملكيات الراجعة في أوروبا عمومًا، وتحت نظام مترنخ، أو أن تنتصر المبادئ الحرَّة المتولدة من الثورة الفرنسية، والتي جاء بها أصلًا إلى إسبانيا الفرنسيون الغزاة في عهد السيطرة النابليونية، ولقد شاهدنا كيف أن «التدخل الأوروبي» عندما تقرَّر من أجل تأييد سلطان الملكية الراجعة في إسبانيا، لم يغفل النظر في مشكلة متفرعة عن الأزمة الإسبانية في إطارها الأوروبي الخالص، ونعني بذلك مصير المستعمرات الإسبانية في أمريكا، ولقد انتهى الأمر بإخفاق الاتحاد الأوروبي بسبب هذه المشكلة خصوصًا من جهة، ثم الاعتراف باستقلال هذه المستعمرات الإسبانية في أمريكا، وبالحكومات «الفعلية» التي قامت بها من جهة أخرى، أما فيما يتعلق بإسبانيا ذاتها، فلقد كان تاريخها «الداخلي» بعد سنة ١٨١٥ سجلًا للكفاح الذي أثاره «الأحرار» من أجل إنشاء الحكومة الدستورية.

ولقد كان متعذرًا أن تتغلغل في كيان الأمة الإسبانية لأول وهلة المبادئ الحرَّة أو تلك القومية (الوطنية) التي جاءت بها جيوش نابليون إلى إيبريا. فالأمة التي نفر أبناؤها للذود عن حياضهم ضد العدوان «الأجنبي» كانت لا تزال بعد انقضاء هذا الخطر (وفي سنة ١٨١٥) تفرقها الانقسامات الداخلية، وتقضي على اتحادها النزعة الإقليمية، بدرجة تجعل متعذرًا ظهور «رأي عام» يُعبِّر عن رغبات واتجاهات مشتركة وموحدة، أو اتباع سياسة وطنية ناجحة ذات أغراض محددة.

دستور ١٨١٢

ومن المسلَّم به أن مولد المبادئ الحرَّة في إسبانيا كان في أثناء «الحرب الإيبيرية»، وقت أن كان الملك الشرعي فردنند السابع مبعدًا عن عرش بلاده في المنفى، وكان جوزيف بونابرت الملك الذي فرضه نابليون شقيقه على إسبانيا لا يعترف به سواد الأمة الإسبانية، الأمر الذي أجبر الإسبانيين على أن يقوموا بتنظيم أنفسهم تحت قيادة وإرشاد زعمائهم الذين عرفنا — عند دراسة تاريخ الحرب الإيبرية أيام نابليون الأول — أنهم أسَّسوا مجلسًا مركزيًّا لقيادة الثورة Junt Central كان بمثابة حكومة مؤقتة، ولقد مهد هذا المجلس الثوري لدعوة «الكورتيز» الإسباني للانعقاد في صورة برلمان وطني في أشبيلية Seville ليضع دستورًا للبلاد. فأصدر الكورتيز في ١٩ مارس ١٨١٢ دستورًا نقله عن دستور ١٧٩١ الذي أصدرته الثورة الفرنسية، فأخذ عنه أسوأ ما جاء به وما كان يتعذر تنفيذه. فنبذ ظهريًّا «دستور ١٨١٢» كل تقاليد النظام الدستوري الإسباني القديم؛ بحيث لم يعد للكنيسة وللأرستقراطية أي صوت في حكومة بلاد كان يستعلي فيها نفوذ رجال الدين والنبلاء، وانتزع الدستور من الملك كل سلطاته، حتى صار «التاج» لا يعدو مجرد «زخرف» في الدولة لا نفوذ ولا سلطان له، وذلك في بلد اشتهر أهله بولائهم المتطرف، ولدرجة التعصب «للملكية»، وزيادة على ذلك، فقد رفض الدستور إعادة انتخاب أعضاء المجلس النيابي أو المجلس التشريعي الذي أوجده الدستور، ثم منع الوزراء من حضور مناقشات المجلس؛ لأنهم ليسوا أعضاء به، وذلك بالرغم من تقرير مبدأ المسئولية الوزارية، كأنما كانت لا تكفي كل نقاط الضعف السابقة لتأكيد فشل هذا الدستور، ومع ذلك فقد ترتب على الرجعية الشديدة التي تميز بها عهد الملك (العائد) فردنند السابع؛ حصول رد فعل عميق صارت بسببه المناداة «بدستور ١٨١٢» والعمل به، المطلب الذي اجتمعت عليه كلمة كل الأحرار ليس في إسبانيا وحدها، بل وفي بلدان أخرى كذلك، وتلك الحقيقة هي ولا شك مبعث الأهمية الوحيدة التي انفرد بها هذا الدستور.

أما عامة الناس فقد كان اهتمامهم بالدستور ضئيلًا، وفي رأي كثيرين أنه حتى سنة ١٨٢٠ من المحتمل أن هؤلاء كانوا لا يدرون شيئًا عن هذا الدستور (دستور ١٨١٢)، ينهض دليلًا على ذلك أن «الشعب» الذي احتشد ليرحب بفردنند السابع عند عودته إلى إسبانيا في أوائل سنة ١٨١٤، كان ينادي في كل مكان مَرَّ به بحياة «الملك المطلق»، وكان هذا «الحماس» الظاهر للملكية المطلقة، من أهم العوامل التي جعلت فردنند السابع يقدم على إلغاء الدستور.

فقد وافق نابليون في معاهدة فالنساي Valençay (في ١١ ديسمبر ١٨١٣) على إرجاع فردنند السابع إلى عرشه، واشترط مجلس الكورتيز — وكان مجتمعًا آنئذ في مدريد — أن يحلف الملك يمين الولاء للدستور (٢ فبراير ١٨١٤)، ولكن نابليون أجاز لفردنند العودة (٧ مارس) بالرغم من أن السلطات الإسبانية (مجلس الوصاية ومجلس الدولة) لم تشأ الاعتراف بمعاهدة فالنساي، وبالرغم من اشتراط الكورتيز حلف اليمين باحترام الدستور، وفي ٢٢ مارس عَبَرَ فردنند السابع الحدود الإسبانية، وعلى الفور اكتشف فردنند أن ليس ثمة سبب يدعوه للتريث والإمهال، وأن الدستور موضع كراهية شعبه وبغضه الشديد، وأن ليس هنالك وسط هذه العاصفة من الحماس الذي قوبل به ما يجبره على «المساومة» مع الكورتيز والعناصر الحرَّة المؤيِّدة للدستور في بلاده.
وعلى ذلك فإن فردنند السابع بمجرد أن شعر بقوة موقفه استنادًا على تأييد «موظفي» الدولة وقسم كبير من عسكرها، بادر باستصدار منشور من فالنسيا Valencia في ٤ مايو ١٨١٤، يعلن فيه إلغاء الدستور وقرارات مجلس الكورتيز، وحل هذا المجلس، وفي ١١ مايو أُلقي القبض في مدريد على كل النواب الأحرار، ولقد قوبلت هذه الإجراءات (دون أي تذمر أو تململ) من جانب الشعب؛ بل إن الجماهير «حيَّت» هذه الإجراءات بإشعال النار لعمل الزينات، وبالرقص حول ما صارت تُلقي به من نسخ الدستور ومطبوعات أو نشرات الأحرار إلى النار لتحرقه.

الملكية الراجعة

فلم يمضِ شهر واحد على هذه الحوادث، حتى كانت قد أُعيدت في إسبانيا كل أدوات وأجهزة الحكم الاستبدادي الفاسد، فأُقيمت من جديد محاكم التفتيش؛ بالرغم من احتجاج الدول، واسترجعت الطوائف الدينية القديمة كل ما كان لها من نفوذ وسلطان سابق، كما استعادت أملاكها وثرواتها الضخمة، ووقع الأحرار في كل مكان فريسة للاضطهاد (المنظم)، ولا جدال في أن الذي ساعد على ذلك كله، ما حصل من تراخٍ خُلقي نتيجة للحرب التي خاضها الشعب الإسباني مدة خمس سنوات بتمامها، وما اقترن بهذه الحرب من أعمال التخريب والحرق والنهب والسلب؛ بسبب الغزو ثم الاحتلال الفرنسي، فصارت «المدن» مسرحًا لنشاط الجماهير التي قست لدرجة الوحشية في ثوراتها للانتقام من المحتلين، وشهد «الريف» جموع العصابات التي لاحقت العدو، ودأبت على مطاردته — أو دأب الأخير (الفرنسيون) على مطاردتها من مكان إلى آخر — لِتُنْزِل العصابات بالعدو في كل المرات تقريبًا أفدح الخسائر، وترتب على اختلال الأمن عمومًا أن انتشر السارقون واللصوص والمربون في الوديان والجبال، جنبًا إلى جنب مع المحاربين من رجال العصابات المقاتلة.

على أن طغيان الملكية الراجعة، واضطهاد الأحرار الذين كان يكفي أمر يصدر من الملك ودون أية محاكمة للإلقاء بهم في السجون، أو لطردهم خارج البلاد إلى المنفى، لم يفلح في القضاء على هؤلاء الأحرار؛ بل إن ضباط الجيش على وجه الخصوص الذين من المحتمل أنهم تأثروا باختلاطهم بزملائهم الإنجليز أثناء الحرب الإيبيرية، فصاروا يعتنقون المبادئ الحرَّة، أصروا على التمسك بهذه المبادئ بالرغم من العقوبات الشديدة التي كان الملك ووزراؤه يوقعونها على كل الذين يظهرون ميولًا «حرَّة»، وسرعان ما أخذوا يؤلِّفون جمعيات سرية ويتحينون الفرص المناسبة لتنفيذ آرائهم السياسية، وهكذا دخلت السياسة إلى الجيش.

وزاد الموقف الداخلي صعوبة بسبب الثورات المشتعلة وقتئذ (١٨١٩) في المستعمرات الإسبانية في أمريكا؛ وهي التي كانت أعلنت انفصالها عن التاج الإسباني عندما انتزع نابليون العرش في مدريد ليضع عليه أخاه جوزيف بونابرت. فقد رفض فردنند السابع الاعتراف بهذا الانفصال، وعقد مع الولايات المتحدة الأمريكية تلك الصفقة المعروفة التي باعها فيها فلوريدا في نظير خمسة ملايين من الجنيهات، أراد تخصيصها للإنفاق على حملة يعدها لاسترجاع الفتوحات الإسبانية القديمة في أمريكا، وبالفعل لم تلبث أن احتشدت قوة من عشرين ألف مقاتل بجوار قادش تأهبًا للإبحار إلى أمريكا الجنوبية، ولم تكن هذه «المغامرة» تلقى ترحيبًا كبيرًا من الشعب؛ بسبب المخاطر المنتظرة، والتعرض الأكيد للإصابة بالحمى، والموت بها، فكان من السهل انتشار روح التمرد والعصيان بين جنود الحملة المزمعة. وفي أول يناير ١٨٢٠ نادى بالثورة أحد الضباط الذين اشتركوا في الحروب الإيبيرية رفائيل دل رييجو Riego، وكان من الأحرار المتحمسين وتبعه جنود فرقته، وجذب إليه كذلك ضباطًا آخرين منهم؛ الكولونيل كيروجا Quiroga، وفي مدينة كابيزاس دي سان جوان Cabezas de San Juan، أعلن رييجو دستور ١٨١٢. وفي مساء اليوم نفسه دخل رييجو مدينة أركوس Arcos والتي حضر كي ينضم إليه بها جنود أشبيلية الذين كانوا قد أعلنوا تمردهم في نهار هذا اليوم، ولكن «كيروجا» أضاع فرصة ثمينة بتردده وضعفه للزحف على قادش، وعجز رييجو عن تحريك الثورة في أماكن أخرى، ولم ينقذ الموقف غير قيام الثورة في كورونا Corunna (في ٢١ فبراير)؛ إذ سرعان ما تبعها اندلاع الثورة في كل جاليسيا Galicia وأستورياس Asturias، وبرشلونة وبامبلونا Pampeluna.

ثورة ١٨٢٠

ومع أن هذه الحوادث أفزعت الملك وبطانته في مدريد، فقد كان مثار الدهشة أن الحكومة في المدة من أول يناير تاريخ بداية العصيان، إلى ٢١ فبراير تاريخ قيام الثورة في كورونا، بقيت مسلوبة النشاط ولا تبدي حراكًا، باستثناء بعض الإجراءات «الضعيفة» التي اتخذت دون أية نتيجة ضد الثوار. فاعتمدت الحكومة في محاولة إخماد العصيان والثورة، على بذل الوعود للأخذ بأسباب الإصلاح مثل؛ استصدار قانون جديد للعقوبات، والتخفيف من صرامة الإجراءات المتبعة مع المعتقلين السياسيين والعقوبات الموقعة عليهم، ولم تفِد هذه الوعود الهزيلة شيئًا في وقف امتداد الثورة، فدعا الملك مجلس الدولة وممثلي القضاء للتشاور معه فيما يجب فعله ليتسنى للملكية أن تنشئ حكمًا طيبًا (٤ مارس)، ثم دعا يوم ٦ مارس مجلس الكورتيز للانعقاد، وفي ٧ مارس أمر الملك باجتماع هذا المجلس فورًا، وأعلن «تمشيًا مع إرادة الشعب العامة أنه قرَّر حلف يمين التأييد لدستور ١٨١٢» وهكذا انتصرت ثورة ١٨٢٠.

ولقد قوبل قرار الملك يوم ٧ مارس بالترحيب العظيم من جانب طبقة النبلاء وطبقة البورجوازي (الطبقة المتوسطة) في مدريد وفي كل مكان، وتتألَّف هاتان الطبقتان من رجال المال ورجال العلم والفكر، والضباط من جميع الرتب؛ أي من الملاك والمصرفيين والأدباء والمحامين والتجار والأطباء والعلماء وَمَنْ إليهم، في حين بقيت طبقات الشعب الدنيا بعيدة عن الترحيب بالحركة الدستورية وغير متحمسة لنجاحها لسببين هامين؛ أولهما: الجهل بمعاني الدستور وإدراك أهمية الحياة الدستورية، وثانيهما: تغلغل تقاليد الملكية المطلقة من أزمان بعيدة في كيان المجتمع الإسباني، وتغلغل هذه التقاليد المبنية على الخضوع الكامل لسلطان الملك المطلق في حياة الطبقات الدنيا خصوصًا.

وفي ٩ مارس حلف فردنند السابع يمين الولاء للدستور، وفي اليوم التالي أصدر منشورًا طلب فيه السير قدمًا «بصراحة» في طريق الدستور، على أن يتولى هو نفسه قيادة السائرين في هذا الطريق، وقابل أهل مدريد هذه الأنباء بالتهليل والمناداة بحياة «الملك الدستوري»، وعاد إلى البلاد «المنفيون والمبعدون» من سنة ١٨١٤، ونشطت «النوادي» (أو الجمعيات الوطنية) التي تألَّفت على غرار النوادي الفرنسية، فنوقشت فيها الآراء السياسية بحماس كبير، وكان الشباب مسئولًا عن إنشاء بعض هذه النوادي لهذا الغرض، في حين أن طائفة من الذين أرادوا من المناقشة السياسية تنوير الأذهان، وإرشاد الجماهير أنشئوا البعض الآخر، وفي كل هذه النوادي كانت الغلبة للمبادئ الحرَّة الراديكالية. وعقد الوطنيون الأحرار ندواتهم كذلك في المقاهي وفي المحافل الماسونية، وكان أشهر هذه الجمعيات في مدريد (الجمعية الوطنية لأصدقاء الحرية) في مقهى لورنشيني Lorencini، ثم جمعية أخرى في مقهى «صليب مالطة» — جران كروتز دي مالطة Gran Cruz de Malta وهكذا.
وتألَّفت حكومة (وزارة) من الأحرار، وفي ٩ يوليو اجتمع الكورتيز في غرفة واحدة، وكان يحوي عديدين من الأعضاء الذين حضروا كورتيز عام ١٨١٢، ولم يكن النواب جميعهم يحترمون دستور ١٨١٢ بدرجة واحدة؛ بل إن منهم مَنْ أرادوا إصلاحه أو تغييره تغييرًا كليًّا، وكان الذين أرادوا هذا الإصلاح أو التغيير، المعتدلون الذين لم يعد دستور ١٨١٢ في نظرهم يصلح للعمل به، ولا يساير حاجات البلاد الراهنة. ثم لم يلبث أن انقسم المعتدلون إلى فريقي المتطرفين Exaltados والذين تمسكوا بالاعتدال Moderados، وأما سائر النواب فقد تمسكوا بدستور ١٨١٢ «رمزًا لقضية الحرية» ولم يشاءوا أن يعبث بقدسيته أحد، ومع ذلك فلم يؤلِّف فريق من كل هؤلاء أكثرية ساحقة، تفرض آراءها فرضًا في نوع الإصلاح المرجو. ثم إنه لم يكن متيسرًا أن يتكتل النواب في فريقين أو حزبين ظاهرين لتبادل الرأي بصدد الإصلاحات الدستورية المطلوبة.

ولقد استمر الكورتيز منعقدًا حتى ٩ نوفمبر ١٨٢٠، واستصدر قرارات هامة منها؛ إلغاء «الوقف» والطوائف الدينية، وإرسال الأموال لكنيسة في روما، ثم تنظيم الجمعيات الوطنية لمنع حوادث التطرف في أعمالها، وتوقيع العقوبة على القساوسة الذين يتآمرون ضد الحكومة الدستورية، وإلغاء طائفة اليسوعيين (الجزويت)، ومصادرة أملاك الطوائف الملغاة، وإرغام القساوسة جميعًا على الخدمة العسكرية، ولقد اتهم كورتيز ١٨٢٠، ثم مجالس الكورتيز التالية خلال هذه الحقبة بأنها معادية للكنيسة، وهذا اتهام صحيح، ولكن كان هناك ما يفسر هذه الظاهرة وهو أن رجال الدين كان أكثرهم معادين للدستور، ويؤيِّدون سلطان الملكية المطلقة، ويحاولون التخلص من دفع الضرائب، بل ومن تحمل أية أعباء عليهم أن يؤدوها كسائر المواطنين للدولة، أضف إلى ذلك أن الكنيسة كانت من أزمان بعيدة موئل التقاليد الاستبدادية (أي الحكومة المطلقة)، حتى إن النضال بين الكنيسة وبين «الوطنيين» الذين ظلوا يطالبون من قرن مضى بتضييق سلطان الكنيسة وتحديد — أي إنقاص — عدد الكنسيين (رجال الأكليروس)، صار تقليدًا قويًّا يتوارثه السياسيون.

ومع ذلك فقد أخفق الكورتيز في مهمته؛ فالراديكاليون (الأحرار المتطرفون) ساءهم أن يكون الكورتيز متحذرًا في إصلاحاته أكثر من اللازم، و«المعتدلون»، وكذلك أولئك الذين أفزعتهم عمومًا أخطار الثورة، وهم كانوا أشد خطرًا من «المعتدلين»؛ كان في رأيهم أن هذه الإصلاحات، وخصوصًا ما تعلَّق منها بشئون الكنيسة؛ إجراءات عنيفة؛ لذلك فقد بات متعذرًا بسبب هذا الانقسام في صفوف الأحرار وخصوصًا بين «متطرفين» و«معتدلين» أن يؤلِّف هؤلاء جبهة متحدة قوية تقدر على مقاومة الرجعية، بل إن الحكومة بالاتفاق مع المعتدلين بادرت — الآن — بتسريح الجيش الذي تمرد سابقًا في إقليم أندلوشيا Andalucia وهو «جيش التحرير» كما كان يُسَمَّى؛ ولذلك لتخوفها منه وتوفيرًا لنفقاته، ثم إنها نفت «رييجو»، وغيره من الضباط إلى مقاطعة «أستورياس» في أقصى شبه الجزيرة في الشمال، واتسعت شقة الخلاف بين المعتدلين من الأحرار وبين «المتطرفين» الذين كانوا كذلك من أنصار «رييجو»، وجلب هذا الانقسام على الأحرار مخاطر جسيمة، وهم «الدستوريون» الذين مهما تنوعت آراؤهم حول دستور ١٨١٢، فقد كانت تجمعهم الرغبة في أن يكون الحكم دستوريًّا، وكان ينبغي لذلك أن تكفي هذه الرغبة في الحكم الدستوري لتؤلِّف بينهم ضد الرجعيين أنصار الحكم المطلق.
وزاد من محنة «الدستوريين» — وهم الأحرار من معتدلين ومتطرفين — أن جماعات أو أحزابًا أخرى سريعًا ما اشتركت في النزاع القائم حول نوع الحكم المنشود، ومن هؤلاء؛ أولئك الذين ذكرنا أنهم كانوا مبعدين في المنفى بسبب حوادث ١٨١٤، ثم عادوا إلى الوطن بعد إعلان الملك عزمه على السير في طريق الحرية والدستور (مارس ١٨٢٠). فإن هؤلاء المعفى عنهم Afrancessados سرعان ما أبدوا جانب الاعتدال بعد عودتهم إلى إسبانيا، لدرجة أنهم صاروا يعارضون «الأحرار» ويقاومونهم، ثم كانت هناك جمعيات الكاربوناري Carbonari التي تأسست على غرار جمعيات الكاربوناري الإيطالية، أو أن الإيطاليين الذين لجئوا إلى إسبانيا عقب فشل الثورات التي قامت في إيطاليا وقتئذ في نابولي وبيدمنت هم الذين أسسوها، وكذلك فقد قصد إلى إسبانيا فريق من المغامرين الفرنسيين وأنصار الجمهورية الذين كادوا يحركون الاضطرابات في إسبانيا، زِدْ على هذا أن الأحرار المعتدلين الذين أرادوا «إصلاح» الدستور لم يلبثوا أن ألَّفوا في آخر سنة ١٨٢١ جمعية شبه سرية تحت اسم «أصدقاء الدستور»، وكان غرضهم تقوية الحكومة وتوسيع سلطاتها لمنع البلاد من الوقوع فريسة للفوضى.
وقد تناضلت كل هذه الجماعات والأحزاب مع بعضها بعضًا، وكان فردنند السابع وأنصار الحكم المطلق هم وحدهم الذين أفادوا من هذه الانقسامات والخلافات الحزبية، ومن المعروف أن فردنند السابع لم يكن قط قد قبل الدستور مخلصًا، أو أنه يرضى إطلاقًا عن «الثورة»، وهو الذي دلت حوادث ١٨١٤ على عجزه عن إدراك حقائق الموقف، (فألغى الدستور وحل الكورتيز إلخ)، والذي لم يكن منتظرًا منه إدراكها في ظروفه الراهنة بعد أن جُرِّد من سلطانه المطلق؛ ولذلك لم يكن عجيبًا أن يعمد الملك إلى التآمر على الدستور عقب حلفه اليمين الدستورية مباشرة، وأن يقع الصدام بينه وبين الحكومات (الوزارات) المتعاقبة من الأحرار. ومن بداية سنة ١٨٢٠ تضافرت القرائن في أماكن مختلفة من بينها مدريد؛ على أن من المنتظر حدوث رد فعل رجعي، فلم يوافق فردنند السابع (في أكتوبر) على قانون إلغاء أديرة الراهبات، وإنقاص أديرة الرُّهاب إلا تحت الضغط والتهديد بالثورة، والموقف الحاسم الذي وقفته الجمعيات الوطنية، وشجَّع الملك المؤامرات المناوئة للدستور من ناحية، في حين أخذ يتفاوض مع الأحرار الراديكاليين في الوقت نفسه، وأخطأ الأخيرون في قبولهم هذه المحالفة الخطرة وغير الْمُشَرِّفة، اعتقادًا منهم أنها سوف تؤدي إلى إسقاط الحكومة (أي الوزارة)، ثم لم تلبث أن ظهرت بالقرب من إسكوريال Escorial — المكان الذي كان قد ذهب إليه الملك ليحيك مؤامراته منه (٢٥ أكتوبر ١٨٢٠) — جماعات مسلحة سمَّت نفسها «بالمدافعين عن الملك المطلق»، وأخيرًا ارتكب الملك مخالفة دستورية عندما عَيَّنَ — لدهشة وزارئه — أحد أنصار الملكية المطلقة العنيفين قائدًا لمدريد، ولقد اضطر الملك إلى إلغاء هذا التعيين بعد ذلك عندما رفض القائد الفعلي إخلاء منصبه، وقامت الاضطرابات في العاصمة، وبلغ من سخط الجماهير على الملك بسبب خداعه، ونقمة الأحرار عليه خصوصًا أن قابله الشعب المهيج عند دخوله إلى مدريد، التي أُرغم على العودة إليها، بتوجيه مختلَف الإهانات لشخصه، ولم يسع فردنند السابع إلا إخفاء غضبه، حتى تتاح له الفرصة للانتقام من الحكومة (من الأحرار المعتدلين).

وعلى ذلك فإنه عند افتتاح مجلس الكورتيز في أول مارس ١٨٢١، أعلن الملك ولاءه للدستور، ولكنه شكا شكوى مُرة من الإهانات التي يتعرض لها شخصه في الشوارع، وفي النوادي، ومن تواني الحكومة في وقفها؛ فاستقالت الوزارة، وحقق الملك مأربه وهو الذي أراد إخراج الوزارة من الحكم بعد أن اكتشفت هذه مؤامراته مع الثوار المسلحين من الأحزاب المناصرة للملكية المطلقة.

تآمر الملك ضد الثورة

ولم تكن هذه العصابات المسلحة هي وحدها مصدر الخطر على الدستوريين؛ فإن فردنند الذي لم يكن يثق في أنصاره في داخل إسبانيا، كان قد طلب من وقت مبكر من الدول الأجنبية مساعدته على إقصاء الأحزاب والتخلص منهم، وقد تقدَّم فردنند بطلبه الأول إلى الدول في اليوم نفسه الذي ذهب فيه إلى «أسكوريال» لتدبير مؤامراته التي أشرنا إليها؛ أي منذ ٢٥ أكتوبر ١٨٢٠، فقد بعث إلى الملك الفرنسي «لويس الثامن عشر» برسالة حملها إليه السياسي البورتغالي «سالدانها» يقول فيها: إنه أسير في قبضة أعدائه، وإن إسبانيا على وشك السقوط في هاوية الفوضى، ويرجو من الملك الفرنسي أن يتوسط في استمالة «الدول المتحالفة» إلى مساعدته. ولم يكن منتظرًا أن يذهب هذا «الاستنجاد» بالدول سدًى، فقد مرَّ بنا كيف أن القيصر إسكندر الأول قد أزعجه منذ شهر مارس (من السنة نفسها) خبر انتشار الثورة في إسبانيا، حتى إنه لم يلبث من تلقاء نفسه وكإجراء صادر منه مباشرةً، أن اقترح على الدول «تدخلًا مسلحًا» في شئون إسبانيا (مارس ١٨٢٠)، ولكن اقتراح القيصر لقي معارضة كاملة من جانب النمسا وبروسيا وإنجلترة؛ لأن هذه الدول الثلاث — وعلى نحو ما سبق أن ذكرناه في موضعه — كانت تخشى من امتداد النفوذ الفرنسي أو النفوذ الروسي إلى إسبانيا؛ بل إن الملك لويس الثامن عشر نفسه وقف موقف المعارضة من اقتراح التدخل المسلح؛ لأنه كان مشغولًا بشئون مملكته. ومن المعروف أن موضوع التدخل في إسبانيا بقي منزويًا في الفترة التي سبقت دعوة مؤتمر «ترباو» للانعقاد، والتي ظل أثناءها مترنخ يعارض في عقد مؤتمر (أوروبي)، حتى تبدل الموقف عند نشوب الثورة في نابولي، واتخاذ الثوار النابوليتان دستور ١٨١٢ الإسباني دستورًا لهم، فكان أن دُعي للاجتماع مؤتمر ترباو، الذي تأيَّد فيه مبدأ «التدخل» في بروتكول ترباو المعروف، وأفضى القيصر لأحد أعضاء الوفد الفرنسي لدى المؤتمر رغبته في أن يرى فرنسا تقوم في إسبانيا بالمهمة التي تقوم بها في النمسا في نابولي (أي إخماد الثورة بها)، ولكن المؤتمر انفض من غير الوصول إلى قرار في المسألة الإسبانية، مما جعل فردنند السابع يطلب مرة أخرى من الملك الفرنسي وساطة الدول وتدخلها المسلح في إسبانيا.

وفي هذه المرة عَزَّزت الحوادث التي وقعت في إسبانيا مطلب الملك، فقد غضب الأحرار عمومًا من الملك الذي تَبَيَّن غدره. وأما المتطرفون منهم فقد ضاعفوا الآن جهودهم لإقصاء «المعتدلين» من الحكم و(الوزارة)، واستصدر الكورتيز (الذي ظل منعقدًا لغاية ١٠ يونيو ١٨٢١) عدة قوانين متعلقة بالشئون الداخلية (إدارة القضاء، الإيرادات، التعليم … إلخ)، ولم يتبين من المناقشات التي دارت في هذا المجلس أن أحدًا كان يدرك ما سوف يترتب من أثر على الموقف في إسبانيا ذاتها نتيجة لفشل الثورة في نابولي وبيدمنت بإيطاليا. وشُغل الدستوريون في معالجة المسائل الداخلية مشغولية كبيرة، وذلك في حين أنه كانت تتكاثر باستمرار عصابات أنصار الملكية المطلقة المسلحة، ويرفض كبار رجال الدين تنفيذ القوانين المتعلقة بالمسائل الكنسية، ولم تستطع الحكومة (وهي حكومة أحرار) أن تعنف في التنكيل بخصومها، الأمر الذي جعل متطرفي الأحرار يعتبرون ذلك ضعفًا من ناحيتها، يشجع أنصار الملكية المطلقة على التآمر ضد الحكومة وإرهاقها بنشاطهم؛ فوقعت الاضطرابات في عدة مدن، وصار الأحرار يعنفون في اضطهاد كل خصومهم، ويتهمون الملك بالتآمر معهم، وانضم معهم في هذا الشعور الجارف، اللاجئون من الأحرار الأجانب، فحاول فرنسي إشعال الثورة في صالح الجمهورية في برشلونة، وأراد فرنسي آخر الحصول على مساعدة «رفائيل دل رييجو» لشن غزو على فرنسا لغرض تأييد الحركة الجمهورية في هذه البلاد الأخيرة، ومع أن «رييجو» رفض الانزلاق في مشروع هذا الغزو المزعوم، لعدم إثارة مشاكل دولية؛ يدرك رييجو أن بلاده لا قدرة لها على مواجهتها، فقد شكت الحكومة الفرنسية للوزارة الإسبانية من نشاطه، واشتراكه في المؤامرات ضد النظام القائم في فرنسا، ومع أن هذا الاهتمام — كما يبدو — لم يكن صحيحًا، فقد أيَّد فردنند السابع الشكوى، وعزل «رييجو» من قيادته العامة في إقليم أرغونه؛ فقامت مظاهرات «المتطرفين» في أماكن عدة لمناصرة «رييجو»، ومع أن البوليس أخمد الثورة التي قامت في مدريد (١٧ سبتمبر) دون إراقة دماء، فقد استمر هياج الخواطر، واجتمع الكورتيز اجتماعًا استثنائيًّا (من ٢٤ سبتمبر ١٨٢١، إلى ١٤ فبراير ١٨٢٢)، وسقطت الوزارة، وتزايدت مظاهر الفوضى (١٨٢٢) بسبب تفاقم الانقسام في صفوف الأحرار، ونشاط العصابات المسلحة والمؤلفة من أنصار الملكية المطلقة، والذين وإن كانت الحكومة الفرنسية — وزارة فيليل — لا تجرؤ على إمدادهم بالمساعدات الرسمية، فقد نالوا من هذه الحكومة كل تشجيع في صورة المال والسلاح المرسل إليهم من جهة، وضمان استمرار مؤامرتهم في فرنسا في صالح الملكية المطلقة (في إسبانيا) من جهة أخرى.

تدخل الدول (١٨٢٣)

وفي بداية ١٨٢٢ طلب فردنند السابع مرة أخرى، وعن طريق فردنند الأول ملك نابولي (وهو عم له) معاونة الدول، ولكن لم يسفر هذا الطلب عن شيء بالرغم من مناصرة القيصر. حتى حدث أن أحرز «المتطرفون» الأكثرية في الانتخابات التي أجريت لمجلس الكورتيز الجديد، نتيجة للقانون الذي منع انتخاب الأعضاء السابقين للمجلس (أو البرلمان) التالي، فأنذر نجاح «المتطرفين» وفوزهم بالأكثرية الكبيرة بالخطر بالنسبة للظروف التي كانت تمر بها البلاد وقتئذ، ولأن رئيس الحكومة كان من «المعتدلين» هو مارتينز دي لاروزا Martinez de La Rosa، وبدأت بوادر النضال بين الكورتيز والحكومة عندما اختار الكورتيز رئيسًا له (أي للمجلس) رفائيل دل رييجو، وسار هذا النضال البرلماني جنبًا إلى جنب مع تحريك الثورة والقيام بالمظاهرات في أماكن عديدة — في أرانجوز Aranjuez وفالنسيا، ومدريد — فقام أنصار الملكية المطلقة بالمظاهرات والثورة خلال شهري مايو ويونيو، وثارت فرق الحرس الملكي في مدريد بتشجيع من الملك، والتحموا مع الأهلين (الحرس الأهلي أو القوة العسكرية الأهلية) الذين تغلبوا عليهم (٧ يوليو)؛ فانحلت فرق الحرس الملكي وسقطت الوزارة، وتألَّفت أخرى من الراديكاليين.
وألح الملك في طلب «تدخل» الدول التي ظل يتصل بها (سرًّا) لهذا الغرض، وتفاقم الخطر «الدولي» على إسبانيا؛ لأن الحكومة الفرنسية لم تعد تقنع بالمساعدات «غير المباشرة» التي كانت تسديها للملكيين، وللملك الإسباني الذي أمدته بمبلغ كبير من المال عن طريق سفيرها في مدريد لاجارد La Garde لتعزيز حركة المقاومة للثورة؛ بل إن «لاجارد» بعد حوادث ٧ يوليو، لم يلبث بالاشتراك مع مبعوثي روسيا والنمسا وبروسيا وغير هؤلاء من ممثلي الدول الأخرى، أن بعث بمذكرة إلى الحكومة الإسبانية يتحدث فيها عن الموقف (الفظيع) الذي صار يجد فيه الملك نفسه مع الأسرة المالكة والأخطار التي صارت تتهددهم، ويعلن في صراحة أن العلاقات بين إسبانيا وكل أوروبا، إنما تخضع الآن لنوع «المعاملة التي يلقاها جلالته»، ولقد كان هذا تهديدًا لم يلبث أن وضعه مؤتمر فيرونا موضع التنفيذ عند اجتماعه.
وعمدت الوزارة الجديدة «من الراديكاليين» إلى تعيين الأحرار في المناصب الهامة في مدريد العاصمة وفي الأقاليم تعزيزًا لقضية الأحرار ولمركز الحكومة، وتعقَّبت عصابات المسلحين من أنصار الملكية المطلقة، وشنَّت عليهم حربًا عوانًا، وكان هؤلاء قد استولوا على مدينة أورجيل La Seo Urgel في إقليم قطالونيا وأسسوا بها «مجلس وصاية على إسبانيا مدة بقاء فردنند السابع في الأَسر»، فبادر مجلس الوصاية — الآن — في ١٥ أغسطس بإصدار منشور أو نداء للأمة يطلب فيه تحرير «الملك الأسير» ثم طلب من مترنخ النجدة، وكان مترنخ لا يزال لا يرتاح للتدخل في شئون إسبانيا خوفًا من أن يخدم هذا التدخل مصلحة روسيا، وضاعف الأحرار والدستوريون نشاطهم بعد «منشور أورجيل»، ونجحوا في إرغام «مجلس الوصاية» على الفرار إلى فرنسا، ولكن الموقف لم يلبث أن تغيَّر، وفي غير صالح الأحرار والدستوريين عندما اجتمع ممثلو الدول في «فيرونا» ليتخذوا في هذه المرة قرارًا حاسمًا في المسألة الإسبانية.
حقيقة امتنع مترنخ عن تأييد مطلب «مجلس الوصاية» في أورجيل، ولكن المبعوثين الفرنسيين لدى المؤتمر؛ مونتمورنسي Montmorency وشاتو بريان، نظرا لهذا المطلب بعين الارتياح، وأخذا يعملان — وعلى خلاف تعليمات رئيس الوزارة الفرنسية فيليل لهما — لإقناع المؤتمر بتقرير التدخل في المسألة الإسبانية، على أن يعهد بهذا التدخل إلى فرنسا، وعلى ذلك فقد سأل «مونتمورنسي» سائر المندوبين في المؤتمر — يوم ٢٠ أكتوبر — عما إذا كانت الدول المتحالفة على استعداد لأن تسحب سفراءها من مدريد إذا فعلت فرنسا ذلك، وعما إذا كان في استطاعة لويس الثامن عشر أن يعتمد على مؤازرة حلفائه إذا نشبت الحرب بين فرنسا وإسبانيا. فكان جواب القيصر إسكندر بالموافقة، وعرض إرسال جيش كبير إما إلى فرنسا للمحافظة على النظام بها أثناء الحرب، وإما إلى إسبانيا، وعارض هذا المشروع كل من المندوب الإنجليزي دوق ولنجتون، ومترنخ، ولو أن هذه المعارضة لم تقضِ على مشروع التدخل كلية، بل كان واضحًا أن فرنسا سوف تكون ولا شك الدولة التي سوف يعهد إليها بالتدخل إذا قرَّر المؤتمر اتخاذ هذه الخطوة، ولم يفِد شيئًا امتناع الحكومة الإنجليزية عن الموافقة على سياسة التدخل، أو وقوفها بعيدة عن سياسة الحلف القوي في تقرير المؤتمر التدخل المسلح في إسبانيا (٣٠ أكتوبر)، وتوالي الأحداث التي مَرَّ بنا ذكرها عند الكلام عن مؤتمر فيرونا، فعبرت القوات الفرنسية بقيادة الدوق دانجوليم نهر البيدوساو Bidossoa واجتازت الحدود الإسبانية في ٩ أبريل ١٨٢٣.

فشل الثورة

ولم يبدُ من جانب الأحرار الإسبان مقاومة تذكر، ومع أن الملك (المتآمر) ضد الدستور وضد الأحرار دائمًا كان أثناء هذا الغزو في قبضة هؤلاء؛ فإن أذى ما لم يلحق به، وذلك إلى جانب تخاذل الأحرار في الدفاع عن قضيتهم، إنما ينهض في نظر كثيرين من المؤرخين دليلًا على أن «الثورة» ضد سلطان الملكية المطلقة لم تكن تلقى تأييدًا كبيرًا من الشعب الإسباني، بل إن سلامة الملك بالرغم من استنجاده بالدول الأجنبية وغزو الفرنسيين الأجانب للبلاد، كان معناه أن الملكية لا تزال جذورها قوية، بحيث يستحيل على الشعب الإسباني معاملة مليكه «فردنند السابع» المعاملة التي لقيها لويس السادس عشر في فرنسا، وكان الكورتيز قد قرَّر الانسحاب من مدريد إلى مكان أقل تعرضًا لأخطار الزحف الفرنسي، واستطاع بعد لأي وعناء إرغام فردنند على الانسحاب معه إلى أشبيلية في ٢٠ مارس؛ أي قبل بداية الغزو بثمانية عشر يومًا. فسلمت مدريد يوم ١٩ مايو، وأعلن دوق دانجوليم استعداد الجيش الفرنسي للانسحاب بمجرد أن يصبح الملك طليقًا ليحكم رعاياه دون ضغط عليه من أحد. ودخل الفرنسيون مدريد ذاتها في ٢٤ مايو وسط تهليل الجماهير المزدحمة في الشوارع التي عُلِّقت بها أكاليل الزهور، وشرع الغزاة يزحفون على أشبيلية، وعندئذٍ قرَّر الكورتيز الانتقال إلى قادش، وأُرغم الملك على الانتقال معهم (١٢ يونيو)، وضرب الفرنسيون نطاق الحصار على قادش. وقد تولى عملية الحصار دوق دانجوليم بنفسه، واستمر الحصار مدة طويلة، أخذت تنهار في أثنائها مقاومة الأحرار، ومع أن هؤلاء كانوا يعتمدون على قدرة قواتهم النظامية في صد الغزو الفرنسي، فإن هذه القوات إجمالًا لم تُبد مقاومة تُذكر، فسلم المقاتلون في جالسيا (١٠ يوليو)، ثم في أندالوشيا (في ٤ أغسطس)، وتبع ذلك انهزام رفائيل دل رييجو، ووقوعه في الأسر في منتصف سبتمبر، وصمدت فقط القوات الموجودة في قطالونيا، واسترمادورا Estremadura، وبعض الأقاليم الشرقية، وبدلًا من أن تنهض البلاد لمقاومة الزحف الفرنسي، أو حتى مجرد إلقاء الصعوبات في طريق العدو، أقبل الأهلون في كل مكان على تسهيل مهمة الجيش الزاحف، وذلك دليل آخر على أن «النظام الدستوري» لم يكن مرغوبًا في البلاد، ولا يلقى تأييدًا، وأن سواد الشعب على الأقل لم يكونوا يدركون مزايا الحياة الدستورية وقتئذ.
وتجمعت الأسباب التي جعلت الكورتيز ينهي مقاومته، ويقبل التسليم في قادش. فمنذ أن بدأ حصار قادش الذي وقف عليه دوق دانجوليم — وكان في جيشه شارل ألبرت أمير كارينان Carignan الذي سوف يتزعم حركة الوحدة في إيطاليا، بلاده، سنة ١٨٤٨ — أخذت تسود روح التخاذل رويدًا رويدًا بين الجنود والأهلين على السواء، وتآمر الملك — جريًا على عادته — واتصل بدوق دانجوليم يتفاوض معه، وبذل المال لابتياع الضمائر، وطغت المصالح الذاتية، وانتهى الأمر لهذا كله بأن وافق الكورتيز (في ٢٨ سبتمبر) على تسليم قادش وإطلاق سراح الملك، وفك إساره؛ أي تحريره من سلطان الأحرار، ووعد الملك بإصدار عفو عام، وتشكيل وزارة معتدلة، وفي أول أكتوبر انتقل فردنند السابع إلى معسكر دوق دانجوليم، ولم يكن الملك صادقًا في وعوده الأخيرة هذه، ولم يكن ينوي إطلاقًا أن يصدق وعده.

وبذلك تكون قد أخفقت ثورة ١٨٢٠–١٨٢٣ في إسبانيا، واسترجع فردنند السابع بفضل التدخل «الفرنسي» المسلح سلطاته المطلقة، فأوقف بصورة عملية ودون ضجة العمل بدستور ١٨١٢، ومع أن الملك أصدر عفوًا عامًّا تحت ضغط الدول، فقد جاء هذا العفو مقيدًا بقيود عديدة أفقدته كل قيمة له، وانتهى هذا الدور الثاني من أدوار الحكومة الدستورية في إسبانيا (والدور الأول هو الذي اقترن بصدور دستور ١٨١٢، واستمر إلى وقت عودة فردنند السابع إلى إسبانيا وإلغائه هذا الدستور في مايو ١٨١٤).

طغيان الرجعية

وحكم فردنند السابع البلاد في المدة التالية حكمًا مطلقًا، اضطهد الأحرار في أثنائه اضطهادًا عظيمًا؛ فإنه سرعان ما استبدل بالعفو الذي وعد به في قادش استصدار قرار (في ٤ أكتوبر ١٨٢٣) بتوقيع عقوبة الإعدام على كل مؤيدي الدستور تقريبًا حتى أولئك الذين يبدون مجرد الميل للمذهب الحر، وتسلم معرِّف (معلم اعتراف) الملك رياسة الوزارة، وتشكلت اللجان العسكرية لمحاكمة المسجونين السياسيين، وتأسست مجالس من نمط محاكم التفتيش التي كان من مظاهر التناقض في خلق الملك أنه لم يشأ إعادة تأسيسها، فأُعدِم الكثيرون وأُلقي بعديدين في السجون، وكثرت أعمال التعذيب والعنف، وعانى الأحرار والبناءون الأحرار (الماسونيون) عنتًا وإرهاقًا وشدة عظيمة، وكان من الذين ذهبوا ضحية هذا الاضطهاد «رفائيل دل رييجو» رمز الدستورية الراديكالية، الذي لقي حتفه مشنوقًا، ولم تفلح احتجاجات دوق دانجوليم على هذه الاضطهادات والفظائع؛ لأن حكومة فيليل ذات الميول المعتدلة كانت مغلوبة على أمرها أمام تصميم الدول الرجعية؛ النمسا، روسيا، بروسيا التي أيَّدت عنف أنصار الملكية المطلقة في إسبانيا، وطلبت اقتلاع المبادئ الدستورية من جذورها، وأوضح مترنخ هذه الرغبة في تعليماته إلى سفيره في باريس (٢٣ مارس ١٨٢٤)، ووصلت دانجوليم التعليمات الصريحة في ذلك، فكان كل ما استطاع دانجوليم أن يفعله هو مساعدة أعضاء الكورتيز وأعضاء الحكومة على الفرار من قادش.

على أن استمرار طغيان الملك وتوقيع العقوبات الدموية على الأحرار في إسبانيا، لم يلبث أن جعل الحكومة الإنجليزية تبعث باحتجاج شديد إلى حكومة فردنند السابع، ثم حذت الحكومة الفرنسية حذوها كذلك، بل لقد عمد الوزير الفرنسي «شاتو بريان» في ١٧ مارس ١٨٢٤، إلى تهديد فردنند بسحب ما بقي من العسكر الفرنسيين في إسبانيا، ثم إن السفير الروسي بوزودي برجو Pozzo di Porgo لم يلبث هو الآخر أن قرَّر التدخل، ولكن ليسفر تدخله عن عزل معرِّف الملك من رياسة الوزارة، واستصدار قرار بالعفو العام (أول مايو) كان عديم النفع للقيود الكثيرة والاستثناءات التي اشتمل عليها، ومع ذلك فقد أغضب المتطرفين الملكيين صدوره.

والحقيقة أن الاضطهاد — أو قُل الإرهاب — بقي على حاله، ثم زالت كل عقبة معطلة له، باستقالة وزارة فيليل (التي كان شاتو بريان أحد أعضائها) في ٦ يونيو ١٨٢٤؛ ليعيد تشكيلها من جديد بدونه، ثم وفاة لويس الثامن عشر بعد ذلك بشهور قليلة في ١٦ سبتمبر، فتزايد اضطهاد المتطرفين للأحرار، ووجد الأولون مسوغًا لاستمرار الإرهاب في محاولة للثورة قام بها اللاجئون من الأحرار في جبل طارق (في أغسطس)، ومن هذا التاريخ إلى نهاية سنة ١٨٢٩ لم يعد تاريخ إسبانيا إلا سلسلة من أعمال الإرهاب تتخللها نوبات من تخفيف حدة البطش بالأحرار، تبعًا لدرجة تأثر الملك بآراء المتطرفين أو المعتدلين من أنصار الملكية المطلقة، أو تبعًا لرغبته في استمالة حزب أو آخر.

وتلك قصة طويلة، لعل أبرز أحداثها اعتماد المتطرفين على أعضاء البيت المالك، خصوصًا شقيق الملك دون كارلوس Don Carlos وزوجه ماريا فرانسشكا البورتغالية (من أسرة براجانزا وشقيقة دون بدرو)، ثم تحريك المتطرفين للثورة في ١٨٢٥، ثم في سنة ١٨٢٨ (في قطالونيا) لتخليص الملك من «الأحرار المستخفين» الذين وقع تحت تأثيرهم، ثم عدم رضاء الملكيين الْخُلَّص الذين عُرفوا — الآن — باسم الرسوليين Apostolicos بالحالة، ورغبتهم في إقصاء فردنند السابع عن العرش لعدم وثوقهم به، ثم تولية أخيه دون كارلوس مكانه. فانقلبت هذه الجماعة من مجرد «مذهبيين» يعنيهم التمسك بمبدأ الملكية من حيث هو، إلى حزب «شخصي» يريد أن يستبدل شخص الملك الحالي مسلكًا آخر؛ ولذلك فقد بدءوا يُعرفون باسم الكارليين Carlist نسبة إلى دون كارلوس، الذين يريدون اعتلاءه العرش، وقد عظم الأمل في إمكان اعتلاء هذا الأخير العرش، عندما توفيت زوجة الملك (الثالثة) في ١٧ مايو ١٨٢٩. كان فردنند السابع قد تزوج من قبل ماريا أنطونيا ابنة فردنند الأول ملك نابولي، ثم إيزابلا البورتغالية، (من أسرة براجانزا)، ثم هذه الزوجة الثالثة ماريا أميليا السكسونية منذ ١٨١٩، ولم ينجب الملك وارثًا للعرش، ثم إن الملك كان معتل الصحة، ولكن فردنند السابع قرَّر الزواج للمرة الرابعة، واختار زوجًا له ماريا كريستينا، وهي أميرة من نابولي، وكانت شقيقة لماريا كارلوتا زوجة شقيق الملك الآخر، دون فرانسشكو، وهي صاحبة نفوذ على فردنند وتتزعم الحزب المناوئ للكارليين، وجاءت إلى مدريد في ديسمبر ١٨٢٩، وعقد الأحرار عليها آمالًا كبيرة في تحطيم حزب «الملكيين الرسوليين» وهم الذين كانوا يعارضون هذا الزواج، وتتزعم نشاطهم زوجة دون كارلوس التي أرادت أن يتزوج الملك أميرة أخرى.

ولقد كان من المنتظر أن يفيد الأحرار من وجود الملكة الجديدة، تستخدم نفوذها بقدر الإمكان وبالدرجة التي قد يرضخ فيها فردنند لهذا النفوذ في صالحهم، ولكن نشوب ثورة يوليو ١٨٣٠ في باريس التي شمل أثرها أوروبا كلها، لم يلبث أن أدخل عاملًا جديدًا على الموقف.

فقد انزعج فردنند السابع بسبب الحوادث التي أطاحت بعرش شارل العاشر في فرنسا، ثم تولية لويس فيليب صاحب «المبادئ النظرية الحرة»، فلم يشأ فردنند الاعتراف بملكيته، وكان ذلك — ولا شك — خطأً كبيرًا؛ لأن لويس فيليب الذي أراد الانتقام من الإهانة التي لحقت به عمد إلى تشجيع — أو على الأقل عدم تعطيل — المؤامرات التي صار يحيكها اللاجئون في فرنسا من الأحرار الإسبان، والذين جاءوا كذلك إليها من إنجلترة، ولو أن هؤلاء لم يلقوا تأييدًا رسميًّا من جانب الحكومتين الفرنسية والإنجليزية، وبادر فردنند بإصلاح خطئه، فاعترف بلويس فيليب ملكًا على الفرنسيين، وعندئذٍ وقف كل تسامح مع اللاجئين في فرنسا، وكان الفشل نصيب عدد من الحملات العسكرية التي دبرها اللاجئون لغزو إسبانيا خلال ١٨٣٠–١٨٣٢، وتلا هذه المحاولات عهد من الإرهاب جعل واضحًا أن نفوذ الملكة لم يفِد شيئًا في منعها أو وقفها، وأشرف على إجراءات القمع الجديدة، كالومارد Calomarde وزير العدل الذي بلغ من ضيق الأفق حدًّا جعله يغلق «الجامعات»، التي اعتبرها موطن المبادئ الحرَّة المتأثر بها الشباب الإسباني، وتعرض الأحرار والماسونيون لصنوف من الاضطهاد العنيف، حتى إن كثيرًا من هؤلاء، ومن «المهرطقين» لقوا حتفهم، ومنع تداول الكتب المشتبه في أنها ذات صبغة حرَّة، ولو أن هذا المنع لم يحُل دون استمرار تداول هذه الكتب التي نشرت المبادئ الحرَّة، وروَّجت لها بصورة مكَّنت من تغلغل الآراء الحرَّة.

على أن الذي شغل أذهان السياسيين أكثر من أي شيء آخر في هذه الآونة؛ كان توقع إنجاب الملك الذي حملت زوجته ماريا كريستينا وارثًا للعرش، وكانت حقيقة حمل الملكة مسألة على جانب كبير من الخطورة؛ لأن المولود إذا كان ذكرًا صار من حقه وراثة العرش، وفي ذلك ضمان لاستعلاء نفوذ الحزب أو الجماعة في البلاط التي تتزعمها دونا كارلوتا وشقيقتها الملكة ماريا كريستينا، ويقضي على أمل «الكارليين» نهائيًّا، أو إذا كان المولود بنتًا، قوي حزب الكارليين، لاحتمال أن يضيع حق ابنتها في وراثة العرش نظرًا لعدم استقرار نظام وراثة العرش تمامًا في إسبانيا، والسبب في ذلك أن ملك إسبانيا فيليب الخامس، كان صاحب ادعاءات على عرش فرنسا، بوصفه المتزعم لأسرة بربون إذا قُدِّرت للملك الفرنسي لويس الخامس عشر الوفاة؛ بل إنه كان مصممًا — إذا حصل هذا — على المطالبة بعرش فرنسا ولو أدى الأمر إلى تنازله عن عرش إسبانيا. ولما كان يهم الدول أَلَّا يجمع فرد واحد (من أسرة بربون) بين تاجي فرنسا وإسبانيا في شخصه، فقد اضطر فيليب الخامس في سنة ١٧١٣ إلى إصدار قانون يحكم ترتيب الوراثة يجعلها من حق الذكر فقط، كان الغرض منه الوصول إلى هذه الغاية، فلما أن تبدل الموقف الدولي الذي كان أوجد هذا القانون، عمد شارل الرابع بالاتفاق مع الكورتيز المنعقد في مدريد إلى إلغائه في سنة ١٧٨٩ والعودة إلى النظام القديم الذي يجيز للإناث وراثة العرش؛ وعلى ذلك فقد أرادت ماريا كريستينا الاحتياط لكل احتمالات الموقف في المستقبل، واستمالت الملك في ١٩ مايو ١٨٣٠ لإذاعة قانون ١٧٨٩، وتزايد سخط دون كارلوس والكارليين وغضبهم من هذا الإجراء عندما وُلد للملك ابنة «ماريا إيزابلا» في ١٠ أكتوبر ١٨٣٠، أُعلنت على الفور ولية للعهد؛ أي وريثة لعرش إسبانيا، وانحصر النزاع من الآن فصاعدًا بين الكارليين وعلى رأسهم دون كارلوس، وبين الملكة وأنصارها حول ضرورة إلغاء قانون ١٧٨٩، أو استبقائه والعمل به، وانتهز الكارليون فرصة مرض الملك الخطير، ووجود دونا كارلوتا بعيدة في أشبيلية آنئذ، وتهديد الملكة كريستينا بإشعال الحرب الأهلية فجعلوا الملك يلغي قانون ١٧٨٩ (في ١٨ سبتمبر ١٨٣٢)، ليعود ليلغي هذا الإلغاء نفسه، بمجرد أن اجتاز مرحلة الخطر في مرضه، وعادت دونا كارلوتا إلى جانبه. ثم سقطت وزارة كالومارد الذي كان انحاز لخصوم الملكة في هذه الأزمة، وصدر قرار في ٦ أكتوبر ١٨٣٢ يخول ماريا كريستينا إدارة شئون الدولة أثناء مرض الملك، فأعيد قانون ١٧٨٩، وصار استصداره رسميًّا للمرة الثانية في ٣١ ديسمبر ١٨٣٢، واتجهت سياسة الحكومة اتجاهًا «حرًّا» ففتحت الجامعات، وصدر قرار بالعفو (في ١٥ أكتوبر) استطاع بفضله كثيرون من اللاجئين الذين كانوا غادروا البلاد من ١٨٢٤، أن يعودوا إلى إسبانيا، وذلك بالرغم من القيود والاستثناءات التي تضمنها القرار نزولًا على رغبة الملك.

ولقد التف الأحرار من الآن فصاعدًا حول الملكة «ماريا كريستينا» وحول ولية العهد «ماريا إيزابلا» وأخلصوا لهما الولاء، في حين التف أنصار الملكية المطلقة حول دون كارلوس، وشهدت البلاد سلسلة من المؤامرات المضادة، ومحاولات لتحريك الثورة، حتى إن الحكومة رأت أن تبعد دون كارلوس من البلاد في النهاية، فاضطر إلى مغادرة إسبانيا إلى البورتغال في ١٦ مايو ١٨٣٣، وفي يونيو اجتمع مجلس الكورتيز وفقًا للتقاليد الإسبانية القديمة ليحلف يمين الولاء «لماريا إيزابلا» وليعترف بها وريثة للعرش.

وَتُوفِّي الملك فردنند السابع بعد هذه الحوادث بقليل في ٢٩ سبتمبر ١٨٣٣، فانتهى بوفاته عهد في تاريخ إسبانيا، وصفه المؤرخون بأنه كان مدموغًا بالقسوة، جلب العار والشنار على أصحابه الذين أنزلوا بالأحرار صنوف العذاب؛ ليؤسسوا من جديد الحكم الملكي المطلق كما عرفه «النظام القديم»، فاستنجدوا بالجيوش الأجنبية «الفرنسية» التي غزت البلاد، وأتاحت بهذا الغزو نفسه الفرصة لإشاعة الفوضى واختلال الأمن، وتعطيل تقدم البلاد المادي والاقتصادي، وانتشار البؤس بها، وكان الملك فردنند السابع نفسه صورة سقيمة وهزيلة للملك المتردد المخادع، الذي لا مواثيق ولا عهود له، والذي عُرف بالتعصب وضيق الأفق، ووقع تحت تأثير النساء في بلاطه، ومن أفراد أسرته، ولو أن ذلك كان دائمًا بالدرجة التي تتفق مع ميوله وآرائه الرجعية الغاشمة.

«الوصاية»، والحرب الكارلية

ولقد كان متوقعًا بوفاة هذا الملك الذي اشتط في رجعيته أن يبدأ عهد جديد قد تتبسط فيه المشكلة السياسية في إسبانيا، لو أن الملكة كريستينا — التي تولت الوصاية على العرش بسبب صغر ابنتها التي كانت دون سن البلوغ — اعتنقت بإخلاص المبادئ الحرَّة، وأيَّدت قضية الأحرار، فيصبح ممكنًا حينئذ أن يعين النزاع بين أنصار الملكية المطلقة وبين الدستوريين هؤلاء الأخيرين على إنشاء وتنظيم حزب معترف به قانونًا، ومن نمط الأحزاب التي تدين بالمذهب الحر في بقية أوروبا، ولكن الذي حصل كان على خلاف ذلك.

فالملكة الوصية سرعان ما نكصت على عقبيها بعد انتصاراتها الأولى، فلم تشأ السير في سياسة الإصلاح؛ بل صارت تعتمد في الحكم على وزراء من «المعتدلين» المترددين والمتحذرين، وتطلب النصح من أولئك الذين يتنكرون لبرامج الأحرار، وغاب عن إدراكها أن الموقف لم يعد كما كان عليه في سنة ١٨١٤، أو في سنة ١٨٢٣، وأن الآراء والمبادئ الحرَّة قد صارت الآن متغلغلة بين الجماهير ذاتها التي دأبت فيما مضى على رفضها؛ ولذلك فبدلًا من أن يسود الاستقرار البلاد ولتشهد تجربة الحكم الدستوري وعلى غرار ما حدث في هذه الحقبة في البلدان الأوروبية الأخرى، كان النضال السياسي لا يزال مستعرًا في إسبانيا، واستطال لدرجة إلحاق الأذى بها.

واتخذ الصراع شكلًا مزدوجًا؛ فهو من ناحية في صورة الحروب الأهلية ضد مبادئ «الكارلية»؛ أي مبادئ الحكم المطلق الذي يدين به الكارليون أنصار دون كارلوس، ثم من ناحية ثانية في صورة الجهود التي بُذلت لاستمالة الملكة الوصية كريستينا وابنتها إيزابلا وأفراد الحاشية؛ للانحياز بصراحة إلى جانب الأحرار، وتأييد برنامج مبني على مبادئهم، وهي جهود بمجرد أن اصطدمت بالمعارضة العنيفة، تسببت في حصول طائفة من الاضطرابات والثورات؛ وعلاوة على ذلك فقد كان لا يزال هناك من العوامل الكثيرة ما ساعد على وجود الانقسام بين الأحرار أنفسهم، الذين صاروا فريقين؛ عُرف أحدهما: بالاعتدال، والآخر: بالتطرف. وهذا إلى جانب ما طرأ من تردد على الأحرار بشأن الأهداف التي يبغون تحقيقها عندما أخذت تنتشر بينهم آراء جديدة أدت بدورها إلى ظهور اتجاهات سياسية لم تكن معروفة قبل ذلك.

فاللاجئون في فرنسا وإنجلترة خلال سنوات ١٨٢٤–١٨٣٣، قد صاروا متأثرين إما بآراء «المذهبيين» و«الراديكاليين» في فرنسا، وإما بأنظمة الحكم والعادات والتقاليد السائدة في إنجلترة، وترتب على ذلك أن أخذ يقل الآن ذلك الاحترام القديم الذي استمر يشعر به الأحرار الإسبان لدستور ١٨١٢ سنوات طويلة، ومن ناحية ثانية انتشرت المبادئ الحرَّة بين أنصار الحكم المطلق، ومع ذلك وبالرغم من النقص الذي حدث في صفوفهم، فقد بقي هؤلاء زمنًا طويلًا أصحاب الأكثرية في جهات مختلفة وبين أهل الريف خصوصًا، حيث اعتبرت قضيتهم مرتبطة بتقاليد الاستقلال المحلي والمصالح الإقليمية الموروثة من العصور الوسطى، فكانوا لذلك خصوصًا خطرين، تتطلب هزيمتهم إنفاق أموال طائلة وإراقة دماء غزيرة، وهذه الحقائق التي ذكرناها هي التي تفسر ما وقع من حوادث أو حصل من ترتيبات ومناورات واتخذ من تدابير في السنوات التالية.

ويمر عهد الوصاية — وصاية الملكة الوالدة كريستينا في أدوار ثلاثة؛ أولها ومدته من ١٨٣٤ إلى ١٨٣٥: كان عهد إصلاحات متخاذلة، كان الغرض منها استمالة الأحرار لتأييد الوصاية ضد الكارليين، ولم تكن صادرة عن رغبة صحيحة لدى الملكة الوالدة في الإصلاح، وثانيها يمتد إلى سنة ١٨٣٧: وقد اتبعت الحكومة في أثنائه سياسة إصلاح راديكالية، وصدر في أثنائه دستور ١٨٣٧، وأما الدور الثالث الذي استمر إلى سنة ١٨٤٠، فقد شهد عودة «الاعتدال» وانتهى بقيام الثورة واعتزال الوصية «الملكة الوالدة كريستينا» الحكم، وفي أثناء ذلك كله كانت تجري في طريقها الحرب الأهلية التي أثارها الكارليون بعد وفاة الملك فردنند السابع بقليل.

ويتميز الدور الأول (١٨٣٤-١٨٣٥) باستدعاء «مارتينز دي لاروزا» — الذي ذكرنا أنه من المعتدلين وهم المحافظون — لتشكيل الوزارة وذلك إرضاء للأحرار الذين كان أغضبهم تنكر الملكة الوالدة للمبادئ الحرَّة عقب وفاة فردنند السابع، وذلك عندما أعلن زيابر موديز Zea Bermudez رئيس الوزارة (السابقة) خبر وفاة الملك فردنند، أنه يعتزم أن يبقى مستمرًّا نظام الحكم القائم، ثم كانت الاستبدادية المستنيرة Despotismo illustrado الوصف الذي نعت به برموديز سياسته، فسقطت وزارته في يناير ١٨٣٤، وكان الوزير الجديد مارتينز دي لاروزا كذلك من الأحرار لتأييد نظام الحكومة البرلمانية، فعمدت الوزارة الجديدة إلى إدخال طائفة من الإصلاحات العاجلة التي منها توسيع أثر العفو العام حتى يشمل اللاجئين، ولقد قبلت هذه الوزارة مقترحات بلمرستون وزير خارجية إنجلترة، فوقعت في ١٥ أبريل من السنة نفسها على معاهدة ثلاثية بين إسبانيا والبورتغال وإنجلترة، تتكفل إنجلترة بمقتضاها بمساعدة الحكومات في مدريد ولشبونة ضد الثورات المنتشرة وقتئذ، سواء كانت «دستورية» أو مبعثها التنازع العائلي على العرش في إسبانيا والبورتغال، وقد انضمت فرنسا إلى هذه المعاهدة (١٨٢٢)، وبذلك اكتمل تأسيس ما يُعرف باسم «المحالفة الرباعية» وهي محالفة — كما هو واضح — موجهة ضد المطالبين بالعرش في إسبانيا «دون كارلوس»، وفي البورتغال «دون مجويل»، فقويت آمال أنصار الملكة الوالدة، أو الكريستنيين Cristinos في إسبانيا، في حين أن هذه المعاهدة أفضت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع النمسا وروسيا وبروسيا. ولقد كان بفضل هذه المحالفة أن عاونت الجيوش الإسبانية التي أُرسلت إلى البورتغال على هزيمة دون مجويل المطالب بالعرش هناك — وعلى نحو ما سيأتي ذكره في موضعه — أما دون كارلوس الذي عرفنا أنه كان قد اضطر إلى مغادرة البلاد إلى البورتغال في مايو من السنة السابقة (١٨٣٣)، فإنه قد تمكن من الإفلات إلى لندن على ظهر إحدى السفن البريطانية، بمعاونة الأميرال الإنجليزي الذي كان بأسطوله في مياه البورتغال «نهر التاجوس» لأسباب سيأتي ذكرها عند الكلام عن النزاع الحزبي والعائلي في البورتغال، ولقد تمتع دون كارلوس بقدر كبير من الحرية في لندن، لدرجة أنه استطاع العودة بعد أسابيع قليلة إلى إسبانيا (٩ يوليو)؛ ليتزعم أنصاره في الحرب التي قرَّر الكارليون أن يخوضوا غمارها، يعتمدون في نضالهم على الإمدادات من المال والرجال التي صارت تأتيهم من «الشرعيين» الفرنسيين.
ومع أن وزارة مارتينز دي لاروزا طلبت من حكومتي لندن وباريس المساعدة، فقد رفض بلمرستون التدخل أو إجازة هذا التدخل لفرنسا. ثم إن لويس فيليب بالرغم من ارتباطاته «بالمحالفة الرباعية»، فقد أبدى ميولًا ظاهرة نحو تأييد دون كارلوس على أمل إرضاء روسيا والنمسا وبروسيا، فكان كل ما حصل عليه (ماريتنز دي لاروزا) من فرنسا إعارته فرقة جزائرية، ومن إنجلترة السماح له بتأليف فرقة بريطانية، أسدت فيما بعد مساعدات عسكرية هامة، ولعل أكبر ما نجم من آثار من الناحية الإنسانية بسبب وساطة الإنجليز ما صار يُعرف باسم اتفاق لورد إليوت Eliot نسبة للمبعوث الإنجليزي الذي جعل الأحرار والكارليين يبرمون في ٢٨ أبريل ١٨٣٥ اتفاقًا لتأمين حياة أسرى الحرب، الذين كان حتى هذا الوقت العذاب والموت نصيبهم.
ولقد حدث في هذا الدور ما حال دون تفاقم خطورة الموقف فترة من الوقت على الأقل، وذلك حينما اشترطت الدول الشرقية؛ روسيا، بروسيا، النمسا، لاعترافها بدون كارلوس ملكًا على إسبانيا أن يكون للكارليين قواعد عسكرية؛ أي مدن ومراكز محصنة في داخل البلاد. ومع أن الكارليين كانوا يحتلون كل «نافار» والمقاطعات الباسكية (على خليج بسكاي)، إلا أنه لم يكن في حوزتهم مثل هذه القواعد المحصنة، وكان هذا المطلب نفسه هو ما اشترطه المصرفيون الأجانب الذين أراد الكارليون الاستدانة منهم. ثم إن الكارليين أنفسهم والمحيطين بدون كارلوس أرادوا أن تكون لهم قاعدة عسكرية، وعلى ذلك فقد أمر دون كارلوس قائد قواته بالاستيلاء على بلباؤ Bilbao. فحاصر الكارليون «بلباؤ»، ولكن لم تنقضِ أيام قليلة على الحصار حتى أصيب قائدهم زومالا كاريجوي Zumalacarregui بجرح قاتل في أواخر يونيو، واضطر الكارليون إلى رفع الحصار عن «بلباؤ» في يوليو ١٨٣٥، وكان يتولى قيادة الأحرار الجنرال إسباراتيرو Espartero الذي نال شهرة كبيرة فيما بعد، وكان إرغام الكارليين على رفع الحصار عن بلباؤ أول انتصار هام له، وكان إسباراتيرو جنديًّا شهد الحرب الإيبيرية أيام السيطرة النابليونية، ثم خدم ضابطًا في بيرو (في أمريكا الإسبانية)، ثم تولى الآن قيادة القوات المناصرة للملكة الوصية «كريستينا» ليقودها إلى النصر في الحرب الكارلية في النهاية.
وفي يوليو ١٨٣٥، استقالت وزارة «مارتينز دي لاروزا» الذي عجز عن تحمل ضغط الراديكاليين والمعتدلين على حكومته، إلى جانب مصاعب الحرب الأهلية (الكارلية)، ولقد امتاز عهد وزارته باستصدار الميثاق والعهد الدستوري المعروف باسم القانون الملكي Estatuto Real الذي أُذيع في أبريل ١٨٣٤، والذي كان من نمط العهد أو الميثاق الدستوري الفرنسي الصادر في سنة ١٨١٤، وهو «العهد» الذي استندت عليه سياسته. وأهم ما يلاحظ في هذا الميثاق تأكيد أنه منحة من الملك (أو الملكة الإسبانية) للشعب، قد أنكر سيادة الأمة، المبدأ الذي قام عليه دستور ١٨١٢. على أن هذا الميثاق اشتمل على إعلان لحقوق الإنسان، كما أنشأ نظامًا برلمانيًّا من مجلسين؛ أحدهما: للشيوخ والآخر: للنواب، وكلاهما يرتهن بقاؤه بإرادة التاج ومشيئته، ولا سلطات لهما سوى حق تقديم العرائض على نحو ما جرى العمل به في مجلس الكورتيز القديم، ولم يُرضِ بطبيعة الحال هذا النظام الدستوري الضيق والمحدود الأحرار الحقيقيين، وسرعان ما حصل الاصطدام بين الوزارة والنواب الراديكاليين في مجلس النواب. ثم إن الوزارة لم تفلح في استرضاء أنصار المتطرفين، عندما كانت إصلاحاتها لا تعدو اتخاذ بعض الإجراءات من نوع ما سبق إنجازه من تشريعات «حرَّة» خلال ١٨٢٠–١٨٢٣؛ لمنع تدخل رجال الدين في شئون السياسة، وضد الطوائف الدينية. وكان الراديكاليون المتطرفون قد أفزعهم أن يبلغ عدد الرهبان في المملكة (حسب إحصاء ١٨٣٥) واحدًا وثلاثين ألفًا، وعدد الراهبات اثنين وعشرين ألفًا، وأغضبهم أن تؤيد الطوائف الدينية مبادئ «الكارلية» والحكم المطلق. فصح عزم الراديكاليين (الأحرار) المتطرفين على القضاء عليهم، وساعد انتشار وباء الكوليرا في مدريد وقتئذ على ترويج الاتهام ضد الرهبان بأنهم سمموا مياه الشرب، فثارت الاضطرابات في يوليو ١٨٣٤، وهاجمت الجماهير الأديرة وقُتل عدد من الرهبان، وعجزت الحكومة الضعيفة والمترددة عن وقف هذه الحوادث الدامية، وفي الشهور الأولى من سنة ١٨٣٥ وبعد سقوط وزارة «مارتينز دي لاروزا» استمر قتل الرهبان في المدن، ولم تبطلها إجراءات الوزارة الجديدة، وزارة تورينو (جوزيه ماريا) Toreno التي تألَّفت في يوليو ١٨٣٥، والتي بادرت بطرد اليسوعيين (الجزويت) وإغلاق الأديرة الصغيرة (التي يقل عدد الرهبان فيها عن اثني عشر راهبًا).
على أن الحركة التي بدأت ضد الرهبان سرعان ما انقلبت إلى ثورة ضد الحكومة ذاتها، وهي التي اتصفت بالعجز — وزارة تورينو — ولم يرضَ المتطرفون الراديكاليون Exaltoaos عن «اعتدال» وزارة تورينو مع أنه من التقدميين Progressistas، فامتدت الثورة إلى الأقاليم ولم تقدر الحكومة على إخمادها، وكان أثناء هذه الأزمة أن تولى وزارة المالية أحد أولئك الذين كانوا قد تآمروا (بالتعاون مع الماسونيين) على تحريض حامية قادش على العصيان، وتحريك الثورة بها في سنة ١٨١٩، وهو منديزا بال Mendiza bal الذي كان منفيًّا في إنجلترة، فوصل إلى مدريد في سبتمبر ١٨٣٥، وقد صح عزمه على الدفاع عن «النظام الدستوري»، والسير في سياسة أوضح مبادئها في صراحة للملكة وللوزراء معًا، وغرضها تهدئة الثورة بتحقيق بعض مطالب الأحزاب الحرَّة، والعفو والصفح عن العصاة والثوار، وتنظيم بعض فروع الإدارة، وأعلن في برنامجه (١٤ سبتمبر) عزمه على إعادة الثقة في مالية الحكومة، وإنهاء الحرب بالاعتماد على موارد البلاد وحدها فقط، فنال ثقة البرلمان، واستصدر عددًا من القرارات لإصلاح المالية، من أهمها؛ قرار صدر في فبراير ١٨٣٦ يعرض للبيع أملاك الطوائف الدينية الملغاة، وآخر في مارس يلغي أديرة الرهبان باستثناء عدد قليل منها، وَيُخفض عدد أديرة الرهبان، وَيُمَكِّن الحكومة من مصادرة أملاك الأديرة الملغاة.
ولم تلبث أن ظهرت آثار سياسة «منديزا بال» في ناحيتين؛ تطور الحرب الذي أدى إلى تحسن الموقف العسكري في الشمال، بفضل عناية «منديزا بال» بالجيش، وتشجيعه لأنصار الملكة الصغيرة إيزابلا الإيزابليين Isabelinos، ثم في دعم الرأي القائل بضرورة العمل من أجل المحافظة على عرش إيزابلا، بين الطبقات الموصوفة بأنها طبقات «محافظة»، وهي التي ابتاعت أملاك الأديرة والكنيسة وبشروط انتفع بها هؤلاء المشترون أكثر مما كانت في صالح الدولة، فصارت بغيتهم رعاية مصالحهم هذه الجديدة وتنميتها بالدفاع عن عرش الملكة «إيزابلا»، والمحافظة عليه ضد أطماع دون كارلوس وادعاءاته، وبذلك يكون «منديزا بال» قد استمال المصالح المادية لتأييد العرش، وصاحبة الحقوق الشرعية عليه.

وأما في الميدان الخارجي، فقد آثر «منديزا بال» أن يكون لبريطانيا نفوذ أكبر في السياسة الإسبانية، فخالف بذلك السياسة التي درج عليها «مارتينز دي لاروزا» و«تورينو» من حيث الرغبة دائمًا في الاعتماد على النفوذ الفرنسي، بالرغم من عدم نجاحهما في إقناع حكومة لويس فيليب بالتدخل. فنال «منديزا بال» ثقة الحكومة الإنجليزية، وهو الذي إلى جانب أنه تلقى «تربيته السياسية» ببلادها، كان لا ينفك يقيم الدليل من وقت لآخر على تفضيله لنفوذها. فكان من ثمار هذه الخطة الجديدة أن صارت الوزارة البريطانية مستعدة للعمل السياسي مستقلة عن فرنسا، وتبذل قصارى جهدها، ومهما غلا الثمن لمنع تدخل فرنسا وتنفيذ مشروع معزو إلى لويس فيليب لتزويج أحد أبنائه من الملكة إيزابلا، ولقد طرأ انفصام أو انشقاق مؤقت بين الوزير الفرنسي «تيير» والبرنس دي مترنيخ، كادت تحبط بسببه الخطط الإنجليزية — ولو أن هذا الانشقاق كان في صالح إسبانيا — وذلك أن «تيير» أقنع مليكه لويس فيليب بتعديل موقفه من «الكارليين» وتسامحه السابق معهم، وتقوية الفرقة العسكرية الفرنسية (الجزائرية) التي ذكرنا أنه أعارها إلى إسبانيا (في وزارة مارتينز دي لاروزا)، ثم السماح لجيوش الملكة الوالدة والوصية على العرش كريستينا، بالمرور في الأراضي الفرنسية للقيام بحركة التفاف حول قوات الثوار (الكارليين) في الأقاليم الباسكية الشمالية.

ولقد كان في هذه الظروف أن سقطت وزارة «منديزا بال»، واستعلى مرة أخرى نفوذ المعتدلين الأحرار في الحكومة الجديدة ولدى البلاط (١٥ مايو ١٨٣٦)، فحل الكورتيز (البرلمان) الذي تألَّفت الأكثرية به من التقدميين الأحرار Progressistas، وأصدرت الوصية على العرش «الملكة الوالدة كريستينا» منشورًا عنيف اللهجة ضد «منديزا بال» وأنصاره، وتلصق بهم الاتهامات الكثيرة، الأمر الذي أدى إلى نشوب ثورة جديدة لم تلبث أن شملت كل أجزاء إسبانيا (في شهر أغسطس ١٨٣٦) — تلك الأجزاء التي لم تكن خاضعة لنفوذ «الكارليين»، وأمام استفحال الثورة وتمرد جنود الحرس الملكي في المكان الذي كانت تقيم به وقتئذ الملكة الوالدة على مسافة ليست بالبعيدة من مدريد، وجدت كريستينا نفسها تحت تهديد العسكر وإطلاق الرصاص على زوجها مانزوس Munzos ومن رجال الحرس — الذي اقترنت به بعد ترملها من زوجها السابق فردنند السابع، وجدت نفسها مرغمة على التوقيع في ١٣ أغسطس على دستور ١٨١٢ القديم، واستصدار منشور للعمل «بقانون قادش»؛ أي بهذا الدستور، مع إقناع الكثيرين بأن هذا الدستور لا يمكن إدارته؛ أي تنفيذه، ولقد عزا المعتدلون (وهم المحافظون) هذه الثورات لمؤامرات السفير الإنجليزي لورد كلارندون.

وأفاد الكارليون من الفوضى التي انتشرت في البلاد منذ شهر مايو ١٨٣٦؛ ليعوضوا خسائرهم في الحرب التي توالت عليهم الهزائم في أثنائها، وليستطيعوا مواصلة القتال على الأقل في الأقاليم الشمالية. كما استمرت رحى الحرب دائرة في فالنسيا وأرغونة وقشتالة وأندالوشيا، ولكن دون الوصول إلى نتيجة حاسمة، واستطاع «إسباراتيرو» أن يرغم الكارليين مرة ثانية على رفع الحصار عن «بلباؤ» التي كانوا عاودوا حصارها، وأحرز عليهم انتصارًا باهرًا (ديسمبر ١٨٣٦) لم يُجدِ نفعًا في إنهاء الحرب. ولقيت حكومة الملكة الوالدة الوصية وابنتها كل تأييد من جانب الحكومة الإنجليزية التي أقرضتها ما يزيد على نصف مليون جنيه لتغطية نفقات الحرب، في حين اشترك الجنود الإنجليز (الفرقة البريطانية) في القتال الدائر أمام بلباؤ وغيرها. ولقد تلقى دون كارلوس من ناحية أخرى المعونة المالية من الدول الشرقية. وفي سنة ١٨٣٧ قام «إسباراتيرو» بحملة ناجحة، استولى في أثنائها على أكثر الحصون التي كانت بيد الكارليين.

التقدميون ودستور ١٨٣٧

كانت الحكومة التي خلفت وزارة «منديزا بال» على أثر الثورة التي ذكرناها، حكومة «تقدمية» تشكَّلت برئاسة جوزيه ماريا كالاترافا Calatrava، الذي تولى فيما مضى زعامة الراديكاليين المتطرفين، والذي صار الآن من التقدميين (المعتدلين)، ويريد إنقاذ الدولة؛ فاتخذ طائفة من الإجراءات الهامة بعضها ضد الكارليين والمناوئين للمبادئ الحرَّة، فصودرت أملاكهم، والبعض الآخر من أجل مواصلة الحرب بتجنيد الذكور من سن الثامنة عشرة إلى الأربعين، وإرغام الأهلين على الاكتتاب في قرض داخلي قيمته مليونان من الجنيهات، وطائفة ثالثة ذات صبغة اجتماعية بشأن الأملاك العقارية (والأراضي) التي انتقلت ملكيتها إلى النقابات، وتكاثرت في حوزتها، سواء كانت هذه في الأصل أملاكًا (أو أراضي) كنسية أو علمانية مدنية، والعمل على إخراجها من أيدي هذه النقابات.

ولما كانت الثورة قد طالبت بدستور ١٨١٢، واضطرت الوصية إلى إعلانه، وكان من المتعذر وضع هذا الدستور موضع التنفيذ، فقد دعا «كالاترافا» إلى انعقاد الكورتيز كهيئة تأسيسية لوضع دستور جديد هو الذي صار معروفًا باسم دستور ١٨٣٧، وقد اتفق هذا مع الدستور القديم (١٨١٢) في بعض المبادئ التي احتفظ بها مثل الاعتراف بسيادة الأمة، ولكنه اختلف عنه من حيث إنه أنشأ برلمانًا من مجلسين؛ أحدهما للنواب والآخر للشيوخ، وكان الغرض من وجود هذا المجلس الأخير أن يكون بمثابة «ضابط» للإشراف على أعمال النواب، وقد تكرر هذا الضمان كذلك في إعطاء التاج حق وقف قرارات السلطة التشريعية وتعطيلها بصورة مطلقة. ثم وُضعت بعض القيود لتضييق حقوق الانتخاب، وصار من شروط النيابة في المجلس الشعبي (النواب) دفع ضريبة معينة لم تكن كبيرة القيمة، ومع ذلك فقد كان دستور ١٨٣٧ يتسم لدرجة ظاهرة بطابع المبادئ الحرَّة ويبدو فيه التأثر بالآراء «التقدمية»، والدليل على ذلك أن الأعضاء في المجلس الأعلى (مجلس الشيوخ) كانوا بالانتخاب، وأنه كان للكورتيز (بمجلسيه) الحق في الاجتماع من تلقاء نفسه إذا لم يدعه التاج (الملك) للانعقاد قبل أول ديسمبر من كل سنة، وغير ذلك من المبادئ التي استمدها واضعو هذا الدستور من قانون الإصلاح النيابي في إنجلترة لسنة ١٨٣٢، الأمر الذي يدل على تأثر السياسيين الإسبان بأنظمة الحكم الإنجليزية، وهو تأثر يرجع في أصوله إلى بداية هذا القرن تقريبًا؛ وخصوصًا عندما لجأ إلى إنجلترة كثيرون من «الأحرار» الذين أرغمتهم الملكية الراجعة في إسبانيا على مغادرة البلاد إلى «المنفى».

ولقي هذا الدستور كل معارضة من جانب المعتدلين (المحافظين)، وكذلك من جانب «المعاندين» الذين أبوا في إصرار الاعتراف به Doceanistas، ومع ذلك فقد ظل دستور ١٨٣٧ زمنًا طويلًا، الوثيقة أو العهد الذي اتحدت صفوف الأحرار التقدميين في الحرب من أجل المحافظة عليه وتأييده. ثم إنه كان لهذا الدستور أهمية مزدوجة كذلك؛ من حيث إنه أتاح الفرصة لاستمرار المبادئ الدستورية ودعمها، بصورة جعلت متعذرًا التنكر لها أو إهمالها بعد ذلك، ثم من حيث إنه قضى على العاطفة التي أحاطت دستور ١٨١٢ بهالة من التقديس زمنًا طويلًا.
وعلى نحو ما كان منتظرًا بذل المعتدلون قصارى جهدهم لإيذاء «التقدميين» أصحاب هذا الدستور، ونجحوا في إشاعة روح التمرد في الجيش، حتى إن فريقًا من الضباط في الفرق التي تحت قيادة «إسباراتيرو» في مدريد، لم يلبثوا أن تظاهروا ضد الحكومة، فاستقال «كالاترافا»، وتشكَّلت وزارة جديدة برئاسة «إسباراتيرو» في ١٨ أغسطس ١٨٣٧، وكان السبب في وجود جيش إسباراتيرو آنئذ بمدريد، أن جيشين من قوات الكارليين، كانا يزحفان صوب العاصمة. ولقد قامت محاولات من جانب الوصية «كريستينا» للوصول إلى اتفاق مع دون كارلوس على أساس عقد زيجة تجمع فرعي الأسرة المتنازعين على المُلك، كانت سببًا في وقف دون كارلوس الزحف على مدريد، ثم عندما لم تثمر هذه المفاوضات عن شيء، لم يجد دون كارلوس مناصًا من الارتداد إلى المقاطعات الباسكية، يطارده «إسباراتيرو» وغيره من القواد، وكان من أثر هذه الأحداث أن خسر الكارليون قضيتهم من الناحية الأدبية تمامًا، ومع أن الكارليين استمروا يقومون ببعض عمليات الهجوم المتفرقة في فالنسيا وأرغونة وغيرهما خلال سنة ١٨٣٨، فقد كان واضحًا أن الهزيمة سوف تكون نصيبهم، وفي سنة ١٨٣٩ تزايدت متاعب الكارليين، ودب الخلاف في صفوفهم، وانقسموا إلى فريقين؛ حزب البلاد من المتعصبين الذين لا يريدون تفاهمًا أو اتفاقًا على «حل وسط» مع الحكومة، وحزب العسكريين الذين وإن أرادوا متابعة القتال كانوا يريدون ضرورة الامتناع عن ارتكاب الفظائع التي نفَّرت الشعب منهم، ويرغبون في الاتفاق مع خصومهم، وكان يتزعم هؤلاء الجنرال ماروتو Maroto الذي لم يلبث أن أبرم اتفاقًا مع «إسباراتيرو» في آخر أغسطس ١٨٣٩ لإنهاء الخلافات والحرب، وعندئذ غادر دون كارلوس — الذي رفض هذا الاتفاق — البلاد إلى فرنسا دون إبداء مقاومة، ولم يلبث أن تبعه إلى فرنسا آخر قواده كابريرا Cabrera الذي كان أبقى الحرب دائرة بضعة شهور أخرى في أرغونة وفالنسيا، ثم لحقت به الهزائم وأُرغم — الآن — على اجتياز الحدود مع عديدين من أتباعه في ٦ يونيو ١٨٤٠، وبذلك أُسدل الستار على الحرب الكارلية (الأهلية) التي استمرت سبع سنوات تقريبًا.

انتهاء وصاية كريستينا

وحينما كانت تسير الحوادث لتصفية الحرب الكارلية، كان قد أمكن على غير انتظار الوصول إلى حل يحسم النزاع الدائر في صفوف الأحرار بين المعتدلين والتقدميين وفي صالح هؤلاء الأخيرين، فقد استطاع المعتدلون بفضل سيطرتهم على الموقف أن ينالوا موافقة الكورتيز في سنة ١٨٤٠ على مشروع يجرد المجالس البلدية من أكثر اختصاصاتها التي كانت تكفل لها استقلالها سياسيًّا وإداريًّا، ويخضعها لإشراف الحكومة المركزية، وكان هذا المشروع يلقى معارضة شديدة من جانب التقدميين، فلما أجازته الأكثرية «المعتدلة» في مجلس الكورتيز، صار ضروريًّا الحصول على تصديق الوصية على العرش ليصبح قانونًا، ولكن هذه كانت تريد استمالة «إسباراتيرو» وتدبر انقلابًا لإلغاء دستور ١٨٣٧، وعجزت كريستينا عن استمالة «إسباراتيرو» الذي كان قد زاد تعلق الجماهير به بعد الاتفاق الذي أبرمه لإنهاء الحرب الكارلية، والذي كان قد أعلن تمسكه بدستور ١٨٣٧ واحترامه له، ثم تبيَّن للملكة الوصية أن أكثرية الشعب نفسه لا تقبل قانون البلديات، ورفض «إسباراتيرو» أن ينفذ مأرب المعتدلين، فنصح للملكة الوصية بعدم التصديق على هذا القانون، ووعدت هذه بأن لا تقبل ذلك، ولكنها لم تلبث أن صدَّقت على القانون بعد قليل؛ فقامت الثورة في برشلونة (١٨ يوليو ١٨٤٠)، وعمدت كريستينا من أجل تهدئة الشعب وتسكينه، وبموافقة «إسباراتيرو» إلى تشكيل وزارة من التقدميين، ولكنها لم تلبث أن استبدلت بها وزارة أخرى من المعتدلين، بمجرد انتقال البلاط إلى فالنسيا، وعندئذٍ قامت الثورة من جديد في مدريد، ثم امتدت إلى الأقاليم. واضطرت كريستينا إلى تأليف وزارة جديدة أشرف الثوريون على اختيار أعضائها، وتولى «إسباراتيرو» رياستها.

وهكذا لاحقت الإهانات الملكة الوصية، فهي قد فُرض عليها فرضًا تأليف هذه الوزارة الأخيرة التي اتخذت لها برنامجًا «تقدميًّا»، وهي قد تعرَّضت كذلك لحملة عنيفة من التشهير؛ بسبب صدور كتيب من الْمُرَجَّح أن صاحبه صحفي يُدعى جونزاليس برافو Gonzalez Bravo يُشَهِّر بزواج الوصية على العرش من أحد رجال الحرس، وكانت كريستينا قد تكتمت زواجها الثاني حتى لا تفقد الوصاية. فبلغ من دقة الموقف وحروجته أن الملكة الوصية لم تجد مخرجًا من الأزمة إلا بالتنازل عن الوصاية. وفي ١٢ أكتوبر ١٨٤٠ تنازلت كريستينا عن الوصاية، وعزت هذا التنازل في خطاب — عهدت فيه كذلك إلى الكورتيز بتسمية وصي آخر على العرش — إلى خلاف في الرأي بينها وبين الحكومة بشأن عدد من الإصلاحات السياسية المعينة، وخصوصًا قانون البلديات.

وبذلك تكون قد انتهت وصاية كريستينا التي بدأ عهدها والآمال الكبيرة معقودة عليها، ثم لم تلبث أن تبددت هذه الآمال بسبب اعتمادها على «المعتدلين» وتقبل النصح منهم من غير تفكير أو روية لثقتها العمياء فيهم، ثم بسبب أنه لم يكن من طبائعها الإخلاص في النية، والابتعاد عن الدس والمؤامرة.

والعهد الذي بدأ الآن، وبعد اعتزال كريستينا الوصاية في أكتوبر ١٨٤٠، يتميز بأنه عهد «التقدميين» الذي بلغت فيه سياسة هؤلاء ذروتها، وهي تتبع الخطوط الرئيسية التي رسمها أحرار ١٨٢٠، وأحرار ١٨٣٦، كما يتميز بأنه العهد الذي تمتع فيه الجنرال إسباراتيرو بشعبية عظيمة، فجاءت حكومته المثل الذي اقتدت به في الأزمنة التالية في إسبانيا كل تلك الحكومات التي من طرازها؛ أي التي صار يتولى إدارتها قواد عسكريون. أضف إلى هذا أنه كان في هذا العهد «التقدمي» أن صارت تبدو بوضوح كل تلك الميول والاتجاهات الجديدة التي كانت قد نبتت، ثم أخذت تتفاعل في الرأي العام من مدة طويلة، إلا أنها لم تكن قوية بالدرجة التي تتشكل بها في صورة مقاومة عنيفة، ونعني بذلك الآراء الجمهورية التي تألَّف تدريجيًّا حزب يدين بها، ثم أفضت إلى تحريك ثورة مخيفة في برشلونة في سنة ١٨٤٢، ولقد كانت هذه الثورة أحد الأخطار التي تعرضت لها حكومة الجنرال «إسباراتيرو»، وفي هذه الثورة اختلطت الأغراض الجمهورية بالمصالح المحلية الإقليمية عندما شعر الصُّناع بالعنت والإرهاق الشديد بسبب نشاط أحد ضباط الجمارك — من الذين وضع «إسباراتيرو» ثقته فيهم — في تعقب المهربين، والقضاء على التهريب. فلم يمكن القضاء على هذه الثورة إلا بعد حضور «إسباراتيرو» نفسه، وإطلاق المدافع على برشلونة (ديسمبر ١٨٤٢).

انتهاء سيطرة التقدميين

واستمرت حكومة «إسباراتيرو» من أكتوبر ١٨٤٠ إلى نهاية يونيو ١٨٤٣، وكان تاريخها مجرد سجل لكفاح هذه الحكومة «التقدمية» ضد المعتدلين تارةً، وضد الوصية السابقة «كريستينا» وأنصارها تارةً ثانية، وضد الأحرار عمومًا الذين لم يرضوا عن حكومة إسباراتيرو، أو حقدوا عليه هو نفسه لاستعلاء نفوذه. أما المعارضة «الكريستينية» فقد تبدت في منشور صدر من مرسيليا في ٨ نوفمبر ١٨٤٠ ينحى باللائمة على الحكومة التقدمية، ويحمل احتجاج كريستينا ضد إرغامها على التنازل عن الوصاية، وكان لهذا المنشور أثر كبير في إثارة المعارضة وتقويتها؛ إذ استند عليه كل أعداء «إسباراتيرو» في الإمعان في خصومتهم له، واتخذت منه الحكومات الأوروبية ذريعة لمناصبة حكومة «إسباراتيرو» العداء. فلم يشذ عن ذلك سوى الحكومة الإنجليزية التي ظلت تؤيده على طول الخط، ولما كان ضروريًّا تعيين وصي على العرش لعدم بلوغ إيزابلا سن الرشد، فقد سمَّاه الكورتيز وصيًّا على العرش في (٨ مايو ١٨٤١)، وأفقده هذا التعيين مناصرة أولئك الذين كانوا يريدون وصاية ثلاثية؛ أي من ثلاثة أوصياء، ثم إن الملكة الوالدة كريستينا لم تلبث أن احتجت على تعيين قيِّم على ابنتها، بدعوى أن استمرار القوامة على ابنتها حق من حقوقها الشرعية، وكانت كريستينا قد جعلت إقامتها في فرنسا، يحيط بها «المعتدلون»، ومن هناك راحت تشجع المؤامرات، وتضع خطط الانقلابات، مما أدى إلى قيام الاضطرابات في بامبيلونا Pampeluna (٢ أكتوبر) ومدريد (٧ أكتوبر) بزعامة بعض القواد الذين حاولوا القبض على الملكة «إيزابلا» لتحريرها — كما قالوا — من الحبس أو الأَسر الذي وضعها فيه «الإسباراتيريون»، وبالرغم من إخفاق هاتين المحاولتين، فقد تجددت الاضطرابات في السنة التالية (١٨٤٣)، وأيَّد جماعة من الأحرار المتذمرين الحركة الثورية، كما تمرد قسم من الجيش، وقاد الثورة خصوم الوصي على العرش «إسباراتيرو». ثم لم تلبث أن انتشرت الثورة، وانفض معظم الجنود من حول «إسباراتيرو»، وعندئذٍ اضطر «إسباراتيرو» إلى الهرب، فأبحر إلى إنجلترة في ٣٠ يونيو ١٨٤٣.

وبمغادرة إسباراتيرو البلاد وزوال حكومته انتهى عهد «الوصاية»، وانتهى بانتهائها كذلك عهد سيطرة التقدميين. فمع أن فريقًا من هؤلاء كانوا قد انضموا إلى الثورة — المضادة — ضد حكومة إسباراتيرو التقدمية، وانتظروا أن يجنوا شيئًا من ثمار هذه الثورة المضادة، وَعَيَّنَ المعتدلون فعلًا أحد هؤلاء التقدميين في وزارتهم الأولى، فإن المعتدلين سرعان ما تخلصوا من التقدميين، وانفردوا بالحكم.

وكان زعيم المعتدلين الجنرال نارفائز Narvaez ديكتاتورًا بطبعه، يبطش بأعدائه ومخالفيه في الرأي في عنف وقسوة، وعلى ذلك ففي أثناء سيطرة المعتدلين (من ١٨٤٣ إلى ١٨٤٥) ما عتمت أن أُلغيت كل الإصلاحات التي تمت في عهد التقدميين، ثم أُلغي دستور ١٨٣٧، الذي استُعيض عنه بدستور آخر في ٢٣ مايو ١٨٤٥، كان في صميمه ميثاقًا يستند من الناحية النظرية إلى المبادئ التي تربط بين الأمة والعرش، ولو أنه ينفي مبدأ سيادة الأمة؛ إذ قد حذف «المقدمة» التي اعترفت في دستور ١٨٣٧ بهذا المبدأ، في حين أنه جاء يؤيِّد سلطان الملكية تأييدًا كاملًا، وذلك أنه جعل من حق التاج تعيين أعضاء مجلس الشيوخ لمدى الحياة وبالعدد الذي يريده، وَجَرَّدَ مجلس الكورتيز (البرلمان) من حق الاجتماع تلقائيًّا على نحو ما كان يقرُّه دستور ١٨٣٧. أضف إلى هذا أن الدستور الجديد منع اتباع نظام المحلفين في محاكمة الصحفيين على ما قد يرتكبونه من مخالفات أو جرائم، إلى غير ذلك من التفاصيل التي صبغت هذا الدستور بصبغة رجعية.

ولقد بلغت الرجعية — رجعية المعتدلين (أو المحافظين) حدًّا بعيدًا باستصدار «قانون التربية والتعليم» لسنة ١٨٤٥، وهو قانون ألغى استقلال الجامعات القديم، ولو أنه أبقى بعض الشيء على التقاليد القديمة ضد الكهنوتية، وذلك أنه بالرغم من إلغاء كثير من القوانين الصادرة منذ ١٨٣٦ ضد الكنيسة واستئناف العلاقات مع البابوية، فقد رفض المعتدلون رفضًا باتًّا إعادة الأديرة. وينهض دليلًا على انتشار التسامح في إسبانيا وقتئذ أن ضغطًا ما لم يحدث لوقف التبشير للبروتستانتية التي كانت قد نشطت أيام حكومة التقدميين، وذلك بالرغم من انتصار المبادئ «المعتدلة».

مسألة الزواج الإسباني

وهكذا شهد هذا العهد الطويل في تاريخ إسبانيا صراعًا عنيفًا بين الملكية الراجعة وأنصار الحكم المطلق في جانب، وبين الأحرار الذين استندوا في نضالهم على المبادئ التي جاء بها دستور ١٨١٢، ثم دستور ١٨٣٧، والذين انقسموا فيما بينهم إلى شيع وأحزاب؛ راديكالية متطرفة، وتقدمية، ومعتدلة (محافظة)، ثم رجحت كفة هؤلاء الأخيرين فاستصدروا دستورًا «محافظًا» — أو رجعيًّا — في سنة ١٨٤٥ في جانب آخر، ولم يكن هذا الصراع — كما شاهدنا — «دستوريًّا» محضًا، بل اختلط به صراع من نوع آخر مبعثه التنازع على العرش بين أعضاء البيت المالك (وهم من البربون)، ثم تدخلت الدول الأوروبية في أثنائه؛ إما لتأييد الحركات والثورات الرجعية، التي يدين زعماؤها بمبادئ الحكم المطلق، على نحو ما فعلت الدول الشرقية؛ النمسا، وبروسيا، وروسيا، وتارة فرنسا أثناء الحرب الكارلية وقبلها وبعدها، وإما لتأييد الأحرار عمومًا، الذين يريدون حكمًا دستوريًّا على كل الأحوال، سواء كان هؤلاء من التقدميين أو المعتدلين (المحافظين) على نحو ما فعلت إنجلترة ثم فرنسا تارةً أخرى.

على أن الذي صار يستلفت النظر في نهاية هذا العهد أن مشكلة التنازع العائلي على وراثة العرش في إسبانيا، لم تلبث أن اتخذت مظهرًا جديدًا عندما تنازل دون كارلوس عن «حقوقه» أو ادعاءاته على عرش إسبانيا إلى ولده كونت مونتمولان Montemolin في ١٥ مايو ١٨٤٥، وتحديد مشروع زواج هذا الأخير من الملكة إيزابلا، وهو مشروع الزواج الذي تناولته المفاوضات بين الملكة الوصية كريستينا ودون كارلوس سنة ١٨٣٧، على نحو ما سبق ذكره. أما دونا إيزابلا، فقد أُعلن أنها بلغت سن الرشد (وهي لا تزال في الثالثة عشرة من عمرها) في نوفمبر ١٨٤٣، بالرغم من مخالفة هذا الإجراء للدستور، ولقد أبرز هذا المشروع مسألة الزواج الإسباني ليس كموضوع عائلي داخلي من شأن الأسرة المالكة الإسبانية الفصل فيه وحدها فقط، بل كمشكلة دولية.
فقد كان زواج الملكة إيزابلا من الموضوعات التي جرى البحث فيها بين حكومتي لندن وباريس من مدة سابقة، وأبدت الملكة الوالدة والوصية على العرش «كريستينا» استعدادها لتزويج ابنتيها دونا إيزابلا (الملكة القاصر) وشقيقتها ماريا لويزا فرنندا Fernanda من ولدي الملك الفرنسي لويس فيليب، وهما دوق دومال D’Aumale ودوق دي مونتبانسيه Montpensier، كثمن للمساعدة التي سوف تسديها فرنسا من أجل إسقاط حكومة إسباراتيرو، وفي الوقت نفسه كانت الحكومة الإنجليزية ترشح ليوبولد أمير ساكس كوبرج (الذي صار ملكًا للبلجيك) ويمت بصلة القرابة لملكة بريطانيا وزوجها ألبرت Albert (أمير ساكس كوبرج) — للزواج من إيزابلا الإسبانية، ولكن الحكومة الإنجليزية سحبت هذا الترشيح في نظير تنازل الفرنسيين عن مشروعهم، ولقد تجدد بالرغم من ذلك المشروع الفرنسي في عهد وزارة جيزو بعد إدخال تعديل عليه من شأنه إرجاء زواج إيزابلا، والإسراع بعقد زواج ولية العهد ماريا لويزا فرنندا من مونتبانسيه، وعارض بلمرستون هذه الزيجة التي تمهد لتولي مونتبانسيه الحكم إلى جانب زوجه الملكة إذا حدث أن توفيت إيزابلا دون أن يكون لها وارث للعرش، وعندئذ زارت الملكة فكتوريا وزوجها البرنس ألبرت، الملك لويس فيليب في فرنسا في غضون سنة ١٨٤٢، وتم الاتفاق بين الفريقين على أن تمنع الحكومة الإنجليزية من تأييد أي أمير مرشح للعرش الإسباني ليس من فرع أسرة بربون الإسبانية؛ على أن يكون لدوق دي مونتبانسيه الحق — إذا شاء — في الزواج من ماريا لويزا فرنندا بعد أن يتأكد استقرار نظام وراثة العرش عند انتهاء عهد الوصاية، وكانت حكومة لويس فيليب تبذل قصارى جهدها لاستمالة الحكومة الإنجليزية إلى الامتناع من تأييد قضية الأحرار الإسبانيين، وتلك مهمة سهل أمرها بعد تأليف وزارة السير روبرت بيل Peel (١٨٤١–١٨٤٦) في إنجلترة. ثم جاء زواج دوق دومال من أميرة أخرى في سنة ١٨٤٤ دليلًا على أن الحكومة الفرنسية تعني التمسك بالاتفاق المبرم حديثًا.
وبينما كانت تجرى المفاوضات بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية بشأن الزواج الإسباني، كان هذا الزواج قد أصبح مسألة حربية في داخل إسبانيا، ثم إن ترشيح كونت مونتمولان للزواج من إيزابلا لم يلبث أن نال تأييد الحكومتين النمساوية والبروسية، ومنذ أن تنازل دون كارلوس عن حقوقه لولده صار «مونتمولان» زعيم الجماعة «الكارلية» وعرفه الكارليون من الآن فصاعدًا باسم «كارلوس السادس». وأما مرشح حزب الأحرار فكان دون إنريك «هنري» Enrique دوق إشبيلية والابن الأكبر لكارلوتا شقيقة كريستينا، وترضى الملكة إيزابلا نفسها به زوجًا لها، ولو أن فرصة زواجه من الملكة كانت ضئيلة بسبب آرائه الراديكالية. ثم إن هناك مرشحًا آخر، أرادته الوصية السابقة «كريستينا» زوجًا لابنتها هو الكونت تراباني Trapani، وكان أبله يبلغ السادسة عشرة من عمره، تعهد «نارفائز» بالموافقة عليه حتى لا يصطدم مع الملكة الوالدة، ولكن كريستينا في أوائل ١٨٤٦ صارت تشك في أن نارفائز بالرغم من تظاهره إنما كان يتآمر سرًّا ضد ترشيح «تراباني»، وكانت كريستينا محقة في شكوكها، وعلى ذلك فقد تآمرت هي الأخرى على إسقاط وزارته (١١ فبراير ١٨٤٦)، بالرغم من الأكثرية التي كانت لها في الكورتيز، وبالرغم من غضب هؤلاء لإسقاط وزارته.
وتعاقبت الوزارات، وتزايدت الانقسامات الداخلية، وتدخلت الحكومة الفرنسية (وزارة جيزو) لتنفيذ مشروع الزواج الفرنسي؛ أي ما تبقى منه، بزواج ماريا لويزا فرنندا من دوق دي مونتبانسيه، وتدخلت الحكومة الإنجليزية، ووزيرها في مدريد السير هنري بلور Bulwer لتأييد «التقدميين» الذين ناصروا دون أنريك دوق أشبيلية، وأخيرًا تنازلت الملكة الوالدة عن ترشيحها للكونت تراباني، واتفقت مع لويس فيليب على إنجاز مشروع الزواج الفرنسي بكل سرعة، فيتزوج دون فرنسيسكو دي أسيس de Asis شقيق دوق أشبيلية الأصغر من الملكة إيزابلا، على أن يتزوج ولية العهد «ماريا لويزا فرنندا» من دوق مونتبانسيه في الوقت نفسه.
وواضح أن هذا الاتفاق الذي أُبرم بين كريستينا والسفير الفرنسي في مدريد كونت دي بريسون Bresson أثناء غيبة الوزير الإنجليزي «بلور» المؤقتة، كان خرقًا للاتفاق الذي تم بين لويس فيليب والملكة فيكتوريا وزوجها البرنس ألبرت (سنة ١٨٤٣)، واعتمد جيزو في دفع احتجاجات واعتراضات الحكومة الإنجليزية، على أن الحكومة الإنجليزية إنما وافقت فقط على أَلَّا تتزوج الملكة أو ولية العهد من غير أعضاء أسرة بربون، وكلا المرشحين للزواج منهما من هذه الأسرة، ثم إن الاتفاق السابق نفسه لم يعد ملزمًا لفرنسا؛ لأن بلمرستون — أي الحكومة الإنجليزية — قد خرقت نفسها هذا الاتفاق — كما قال جيزو — بمؤازرتها لترشيح ليوبولد أمير ساكس كوبرج، وذلك بالرغم من أن بلمرستون ظل مترددًا في الحقيقة بين ترشيح هذا الأمير أو ترشيح دوق أشبيلية، وهكذا تَمَّ عقد هذه الزيجة المزدوجة في ١٠ أكتوبر ١٨٤٦ (يوم بلوغ الملكة إيزابلا سن السادسة عشرة).

ولما كان فرنسيسكو دي أسيس رجلًا ضعيف البنية ومن غير المتوقع أن ينجب وارثًا للعرش، وذلك ما جعل ترشيحه مقبولًا من لويس فيليب وكريستينا، فقد كان من المنتظر أن ترث العرش ماريا لويزا فرنندا، ويمارس مونتبانسيه سلطات الحكم بوصفه زوجها، وبذلك يستعلي نفوذ فرنسا فيما وراء جبال البرانس، ولقد اعتُبر هذا الزواج هزيمة دبلوماسية لإنجلترة، وبذلك فقد عمدت الحكومة الإنجليزية إلى الانتقام لهذه الهزيمة بتحريض «المعارضة» في إسبانيا وتقويتها ضد الحكومة.

وشهدت البلاد فترة من الاضطرابات الداخلية التي زاد من حدتها توالي تأليف الوزارات واشتداد النزاعات الحزبية داخل الكورتيز بين المحافظين والراديكاليين، والأحرار المعتدلين، وقيام الثورات — الصغيرة — من وقت لآخر وفي أماكن متفرقة، وتوتر العلاقات بين الملكة وزوجها، والتفاف الرجعيين حول هذا الأخير الذي أراد الاستفادة من العار الذي لحق بزوجته لخيانتها عهود الزوجية، وتدخل الملكة الوالدة «كريستينا» في أثناء ذلك كله لمحاولة تشكيل الوزارات التي ترضى هي عنها، وانتشار التذمر السياسي في البلاد، وانحياز الأحرار إلى جانب إيزابلا، والمحافظين إلى جانب زوجها، وقيام الكارليين بالثورة في قطالونيا.

الموقف سنة ١٨٤٨

ومنذ سنة ١٨٤٦ كانت الثورة قد قامت في البورتغال لأسباب سيأتي ذكرها في موضعها، وطلبت الحكومة البورتغالية تدخل الدول لقمعها، فاشتركت إسبانيا «مع إنجلترة» في محاولة إخضاع هذه الثورة، وزحفت الجيوش الإسبانية بالاشتراك مع قوات بريطانية على «أوبرتو» التي كانت مقر مجلس الثورة البورتغالي، وساعد أسطول إنجليزي وقف على حصارها على إخماد الثورة، فسلمت أوبرتو في يونيو ١٨٤٧، وعندئذٍ تفرغت الحكومة الإسبانية لإرسال قواتها لمكافحة الثوار «الكارلين» في قطالونيا.

وكان أثناء هذه الحوادث أن قامت ثورة ٢٤ فبراير ١٨٤٨ في باريس، التي أطاحت بحكومة لويس فيليب، وأقامت الجمهورية (المؤقتة) في فرنسا؛ فشجَّع هذا النجاح الثوريين في إسبانيا على القيام بالثورة في مدريد (٢٦ مارس)، ولكن هذه لم تكن ثورة خطيرة قضت عليها الحكومة دون عناء، ثم قامت ثورة أخرى في مدريد (٧ مايو) قضت عليها الحكومة كذلك، ثم تبعتها ثورة نشبت في أشبيلية (١٣ مايو)، واتهمت الحكومة الإسبانية الوزير الإنجليزي «سير هنري بلور»، إما بتدبير هذه الثورات، وإما بتشجيع المحرضين عليها، فطرده «نارفائز» الذي كان وقتئذ يتولى رئاسة الوزارة (منذ أكتوبر ١٨٤٧)، ومع أن وزارة نارفائز كانت تواجهها صعوبات عديدة، فقد استطاعت القضاء على هذه الحركات الثورية التي ذكرناها، وهكذا مرَّت العاصفة التي أثارتها ثورة ٢٤ فبراير في باريس، والتي هزت عروشًا أخرى في أوروبا دون أن يلحق أي أذى بالعرش في إسبانيا.

ولقد تولى نارفائز في السنوات التالية رئاسة الوزارة مرات أربع، من ١٨٤٧–١٨٥١، ثم من ١٨٥٦-١٨٥٧، من ١٨٦٤-١٨٦٥، ومن ١٨٦٦–١٨٦٨، ولقد كان رئيس الوزارة في المرات التي غاب فيها نارفائز عن الحكم عسكريًّا آخر هو القائد ليبولد أودونل O’Donnell، وكلاهما من جماعة المعتدلين (أي المحافظين الأحرار)، ولو أن الأخير كان يميل إلى التقدمية، وكلاهما كان شديد الولاء للعرش والتاج ولأسرة بربون الحاكمة. فكان بفضل الثورة — المتمثلة في الجيش — وبفضل ولاء هذين القائدين لها أن استطاعت إيزابلا البقاء على العرش كل هذه المدة، ولكن وفاة «نارفائز» في مارس ١٨٦٨ جاءت نذيرًا بدنو ساعتها، فقد نشبت الثورة في قادش، وتمرد بها الأسطول (في ٩ سبتمبر ١٨٦٨)، وعجزت إيزابلا عن قمع هذه الثورة، فعبرت الحدود مع زوجها وابنها وعشيقها إلى فرنسا (حيث عاشت بها إلى أن توفيت سنة ١٩٠٤). غير أن هذه الحوادث كلها إنما هي جزء من تاريخ العهود التالية. ويكفي القول الآن أن كل هذا الصراع الطويل بين الأحرار ومؤيدي الحكم المطلق قد انتهى في سنة ١٨٤٨، بتغلب المحافظين (المعتدلين) أنصار الملكية الذين وإن وضعوا للملكية نظامًا دستوريًّا (دستور ١٨٤٥) فقد أبقوا للتاج سلطات فعلية واسعة، وأنشئوا الحكومات العسكرية التي يتولاها القواد العسكريون، وكانوا بذلك مبتدعي هذا الطراز من الحكومات الذي استمرت تشهده إسبانيا من حوالي منتصف القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر.

(٢) البورتغال: الكفاح بين «الرجعية» و«الدستورية» في البورتغال

وكان الذي أوجد أصلًا «المشكلة البورتغالية» حصول الاعتداء النابليوني عليها عندما أرسل الإمبراطور الفرنسي جيوشه إلى شبه جزيرة إيبريا لإدخالها مرغمة في نظام الحصار القاري، فزحف الفرنسيون بقيادة الجنرال جونو إلى البورتغال (١٨٠٧)، وَفَرَّ الوصي على العرش وهو فيما بعد الملك يوحنا السادس مع أسرته والملكة ماريا الأولى والدته، وكانت مصابة بالجنون؛ من لشبونة إلى ريو دي جانيرو عاصمة البرازيل أكبر المستعمرات البورتغالية (٢٩ نوفمبر ١٨٠٧)، وفي اليوم التالي دخل جونو إلى لشبونة.

عهد الوصاية في البورتغال

وكان يوحنا قبل مغادرته البورتغال قد أقام مجلسًا للوصاية، خضع لنفوذ الإنجليز الذين مارسوا بصورة عملية كل سلطات التاج التنفيذية عن طريق هذا المجلس، ومرَّت البورتغال بتجربة قاسية في عهد هذه الوصاية التي عزا الشعب المتذمر إلى مشورة الدبلوماسي الإنجليزي السير شارلس ستيوارت، و«نفوذ» القائد العام للجيش «المارشال بيرسفور Beresford» كل المتاعب التي يشكو منها نتيجة لحالة الفقر والبؤس التي تئن البلاد منها عمومًا، وثقل الضرائب التي أرهقت الأهلين، وكان مجلس الوصاية قد طلب من الإنجليز (في فبراير ١٨٠٩) إرسال رئيس إنجليزي ليتولى قيادة الجيش العامة في البورتغال، وصار بيرسفورد هو الحاكم الحقيقي للبلاد.
واشتد سخط البورتغاليين لتغيب الملك «يوحنا السادس» في البرازيل، وَحَزَّ في نفوسهم أن لشبونة لم تعد قصبة المملكة، ومقر بلاط الملك، وأن تكون حكومتهم «وصاية» تتبع قانونًا ما يتقرَّر في مستعمرة من مستعمراتهم، وأن تخضع حكومة هذه «الوصاية» لنفوذ الإنجليز الأجنبي، وذلك وضع لم يتغير بعد انهيار الإمبراطورية النابليونية في أوروبا. الأمر الذي كان يجب أن يجعل ممكنًا إقناع الملك يوحنا بالعودة إلى عاصمة ملكه في البورتغال، وكان يوحنا بعد رحيله إلى البرازيل قد اعتلى العرش بعد وفاة والدته الملكة ماري الأولى في ريو دي جانيرو في ١٦ يناير ١٨١٦، فأعلن اعتلاءه عرش البورتغال والبرازيل والغرب Algarves في ٢٠ مارس من السنة نفسها باسم الملك يوحنا السادس. وأغضب البورتغاليين رفع البرازيل إلى مرتبة المملكة على هذه الصورة، ولقد صار الملك يوحنا يخشى من ناحية أخرى إذا هو غادر البرازيل، أن يعلن البرازيليون استقلال الدولة الجديدة.
وتضافرت عوامل جديدة على انتشار التذمر والغضب في البورتغال من حكومة «الوصاية» الخاضعة للإنجليز، والسخط عليها. فقد بقي المارشال بيرسفورد بالبلاد بعد سنة ١٨١٤، وبنت حكومة الوصاية أو بالأحرى «حكومة» بيرسفورد سياستها على أساس من الاستبدادية الصارمة، وسلك بيرسفورد نفسه وهيئة أركان حربه من الضباط الإنجليز مسلكًا يتسم بالعجرفة وعدم الاحترام في علاقاتهم، خصوصًا مع العسكريين والضباط البورتغاليين الذين سرعان ما انضم عديدون منهم إلى الجمعيات السرية المتآمرة على النظام القائم، ووجدت هذه المعارضة المتزايدة متنفسًا لها في قيام حركة ثورية صغيرة في سنة ١٨١٨ بقيادة أحد القواد البورتغاليين «أندرادا»،١ كان سبق أن خدم تحت قيادة نابليون، ومعروف بميوله الفرنسية، ولكن بيرسفورد قضى على هذه الحركة في صرامة متناهية، أضافت سببًا جديدًا من أسباب التذمر ضد الحكومة القائمة.

ثورة ١٨٢٠ وآثارها

غير أن الفرصة لم تلبث أن سنحت لقيام ثورة جديدة كان لها شأن آخر هذه المرة، وذلك على أثر انتشار الثورة العسكرية في إسبانيا في حامية قادش في يناير ١٨٢٠، وهي الثورة التي عرفنا — عند الكلام عن الاتحاد الأوروبي — أنها امتدت إلى مقاطعات عدة في إسبانيا، وبصورة سيأتي كذلك الكلام عنها مفصَّلًا في موضعه. فقامت الثورة حينئذٍ في «أوبرتو» يوم ٢٤ أغسطس ١٨٢٠ يتزعمها جماعة من كبار الضباط في حاميتها، ثم اشتعلت الثورة في لشبونة يوم ٢٩ أغسطس، وكان مارشال بيرسفورد وقتئذ متغيبًا عن البلاد؛ لأنه كان قد أبحر إلى البرازيل قبل ذلك، وفي اللحظة التي كانت الثورة قد نجحت فيها في مدريد بإسبانيا، وذلك — ولا شك — كان خطأً كبيرًا من ناحيته. فأسقط في يد مجلس الوصاية الذي عجز عن مقاومة الثوار «العسكريين» الذين ما لبثوا أن اتحدوا فيما بينهم، وأقاموا مجلسًا عسكريًّا لقيادة الثورة جونتا Junta فأذعن مجلس الوصاية لمطالبهم: وضع دستور من نمط الدستور الإسباني المشهور لسنة ١٨١٢، ومن المعروف أنه لدرجة كبيرة صورة من دستور الثورة الفرنسية الصادر في سنة ١٧٩١. ثم طرد الضباط الإنجليز وعلى رأسهم لورد بيرسفورد من خدمة الجيش البورتغالي، ودُعي مجلس الكورتيز للانعقاد بعد أن ظل معطلًا مدة تزيد على قرن من الزمان لوضع الدستور الجديد، أما هذا الدستور عند إنجازه بعد ذلك (١٨٢٢)، فقد قضى على كل بقايا الإقطاع، كما أُلغيت بفضله محكمة التفتيش، وتقرَّرت المساواة لجميع الأفراد أمام القانون، وصار للمواطنين الحق في الالتحاق بالوظائف العمومية دون تمييز، كما أُعلنت حرية الصحافة، ثم انحصرت السلطات التشريعية والإدارية (التنفيذية) في مجلس واحد، من أعضاء يُختارون بالانتخاب، وأُعطي الملك حق الاعتراض المؤقت وحسب على قرارات المجلس.

البرازيل ووصاية دون بدرو

وكان لكل هذه الحوادث وقع عميق الأثر في البرازيل؛ حيث أيَّد البرازيليون والمهاجرون من البورتغال قضية الدستور في «الوطن الأم»، ولو أن الملك «يوحنا السادس» نفسه ظل متحيرًا في أمره، أي الطرق يسلك؛ الاعتراف بالدستور، وذلك ما كان يذهب إليه فريق من أفراد أسرته بزعامة دون بدرو ولي العهد، أم مقاومة الدستور والتمسك بأهداب السلطة المطلقة، وذلك ما كان يريده الرجعيون وعلى رأسهم الملكة كارلوثا جواكينا Joaguina، وكانت هذه سيئة السمعة وصاحبة دسائس، ظلت سنوات طويلة تتآمر ضد زوجها، ويؤيدها في أطماعها ابنها الأصغر دون ميجويل. ولقد انتهى هذا الصراع بين الفريقين بانتصار الفريق الأول، فصدر بيان في ١٨ فبراير ١٨٢١ عن عزم الملك إرسال دون بدرو إلى البورتغال ليتفاوض مع الكورتيز هناك، وكذلك ببعض أجزاء الدستور للعمل بها في البرازيل في الوقت نفسه؛ فثارت ثائرة الرجعيين الذين انضم إليهم العسكريون، وأثاروا القلاقل في ريودي جانيرو، ولكن سرعان ما أخمد دون بدرو هذه الاضطرابات بتدخله الشخصي، وقرأ على الملأ قرارًا من الملك يتضمن اعترافه بالدستور الذي يضعه مجلس الكورتيز في البورتغال. فكان بفضل هذا الإعلان أن انتقلت البورتغال التي ظلت حتى هذا التاريخ ملكية مطلقة، إلى دولة يسودها النظام الملكي الدستوري.

ومع ذلك فإن الاعتراف (الذي حصل) من جانب يوحنا السادس، وأعلنه دون بدرو بالدستور في البورتغال، وذلك قبل أن يتم الكورتيز وضعه نهائيًّا وتتضح المبادئ التي يقوم عليها، كان إجراء أقل ما يوصف به أنه لا يصدر من ملك يحترم نفسه إلا إذا وجد أنه واقع تحت ضغط تهديدات قوية، ولقد وجد البرازيليون بعد ذلك أن هذا الدستور عندما أَتَمَّه الكورتيز لم يكن يكفل حقوق البرازيليين ومصالحهم، فلم يرتاحوا إليه أبدًا.

وكان في هذه الظروف إذن أن اضطر الملك تحت ضغط الرأي العام الشديد في البورتغال والبرازيل على السواء، وإلحاح الحكومة الإنجليزية؛ إلى تقرير العودة إلى لشبونة، فاستصدر مرسومًا في ٢٢ أبريل ١٨٢١ بتعيين دون بدرو وصيًّا وقائممقام في البرازيل، ثم غادر البلاد بعد أربعة أيام، وبصحبة حاشية عديدة من النبلاء البورتغاليين وغيرهم، بلغت حوالي ثلاثة آلاف، في حين قويت الإشاعات أنه يحمل معه مبالغ طائلة، وحينئذٍ اقترن رحيله بقيام المظاهرات الصاخبة التي أمكن تفريقها دون حوادث دامية، وتسلم دون بدرو زمام الحكم في بلد يسود التذمر أهله، ويعاني إفلاسًا حقيقيًّا.

وأخفق مجلس الكورتيز في البورتغال في معالجة الموقف بحكمة؛ بل إنه اتخذ من الخطوات ما مهد لانفصال البرازيل عن البورتغال، وإعلان استقلالها كدولة صاحبة سيادة، إذ لم ينتظر الكورتيز الذي ذكرنا أنه دُعي للانعقاد لوضع الدستور، مجيء النواب المنتخبين (بالفتح) في البرازيل؛ لينضموا لإخوانهم في لشبونة، بل إنه كان لا يرضى بأن يكون للبرازيل نواب، وهو الذي يريد عودة النظام الاستعماري السابق بحذافيره إلى هذه المستعمرة البورتغالية القديمة. فاتخذ قرارًا في ٢٩ سبتمبر ١٨٢١ ألغى به كل ما كان أسسه يوحنا السادس من محاكم وهيئات وما وضعه من أنظمة في البرازيل، وأصدر أمره إلى «الوصي» على العرش هناك ليتخلى عن وظائفه ويعود إلى البورتغال، كما صدرت فيما بعد قرارات أخرى لتقوية الحاميات البورتغالية في ريودي جانيرو وباهيا، ولإرسال حكام للمقاطعات يكونون مسئولين مباشرة أمام السلطات التنفيذية في لشبونة.

انفصال البرازيل واستقلالها

ولقد غمرت البرازيل موجة من الغضب والسخط بسبب هذه الإجراءات كان من آثارها المباشرة أن جماعة أو حزب «الوطنيين» الذي كان يتألَّف حتى هذا الوقت من أولئك الذين يميلون للأنظمة الجمهورية، تحول الآن إلى حزب قومي، وأن موظفي الدولة الذين فقدوا وظائفهم نتيجة لإلغاء المحاكم قد صاروا — الآن — من أشد أنصار الاستقلال حماسة؛ بل إن «الملكيين» لم يترددوا في إعلان استنكارهم للقرارات التي صدرت عن مجلس كورتيز «ثوري»، كان موضع ازدرائهم لميوله اليعقوبية. ثم سرعان ما قوي الشعور بأن «الوصي» — دون بدرو — لا يجب بحالٍ من الأحوال أن يترك البلاد إلى لشبونة.

ومع أن دون بدرو نفسه كان متحيرًا أي الطريقين يسلك: البقاء في البرازيل نزولًا عند إرادة البرازيليين الذين في وسعهم — إذا شاءوا — أن يمنعوه من أن يفعل ذلك عنوة، بفضل ما لديهم من حاميات من الجنود النظاميين المدربين في المدن الرئيسية، أم تلبية الأمر الذي صدر إليه من لشبونة والإبحار إلى البورتغال، فلا يكون قد خان عهد وطنه أو ظهر بمظهر الثائر على والده، ومهما كان الأمر، فقد كان هناك قطعًا تفاهم سرى بين الابن وأبيه، عندما افترق الاثنان في أبريل ١٨٢١ (ليعود يوحنا إلى البورتغال)، بأن للدوق بدرو مطلق الحرية في اختيار خطة العمل التي تلائمه إذا اعترضت الصعوبات طريقه، على أساس أن عليه قبل كل اعتبار أن يُؤَمِّن مصالح التاج أو العرش الذي هو وارث له، وأعلن دون بدرو في بادئ الأمر أنه ينوي الإذعان لقرارات الكورتيز، ومغادرة البرازيل.

ولكن سرعان ما صار واضحًا أن دون بدرو لن يستطيع ترك البلاد؛ بسبب الظروف العصيبة التي كانت البرازيل تمر بها وقتئذ. ففي اللحظة التي عَمَّت فيها الفوضى، وساد التردد، نهض لزعامة الحركة الاستقلالية في البرازيل رجل عركته التجارب، وعُرف بالحكمة وبُعد النظر، هو جوزيه بونيفاشيو دي اندراوا José Bonifacio، أصله من سان باولو، وغادر البرازيل إلى البورتغال ليشترك في الحروب الإيبرية دفاعًا عن البورتغال ضد الجيوش الفرنسية، ولكن ضعف حكومة الوصاية في لشبونة وفسادها جعلاه يعود إلى بلاده (في سنة ١٨١٩)؛ ليقوم فيها بالدعوة للاستقلال والانفصال، باعتبار أنه من المتعذر بقاء البرازيل دولة تابعة للبورتغال، وفي سنة ١٨٢١ عُيِّنَ ثانيًا لحكومة سان باولو المؤقتة — وسان باولو هي مركز الحركات الانفصالية مع ميناس جيراس Minas Geras المقاطعة المجاورة لها، من مدة طويلة. فلعب «جوزيه» دورًا كبيرًا — الآن — في تنظيم حركة احتجاجات قوية غرضها الضغط على دون بدرو، الذي نبذ ظهريًّا تردده السابق ووعد بالبقاء ليدافع عن مصالح البرازيل، ليس ضد والده، ولكن ضد مجلس الكورتيز، ولقي هذا القرار ترحيبًا عظيمًا من جانب الملكيين والوطنيين على السواء، وفي ١٥ فبراير ١٨٢٢، أقلعت الحامية البورتغالية الموجودة في ريودي جانيرو عائدة إلى البورتغال، فاستقام الأمر لجوزيه بونيفاشيو وأخيه «مارتين فرانسسكو» اللذين كان الملك قد أدخلهما في الوزارة.
فصدر قرار في ١٦ فبراير بجمع مجلس تمثيلي، من مندوبين من مختلف المقاطعات، وفي ١٣ مايو قَبِلَ دون بدرو لقب «حامي البرازيل الدائم والمدافع عنها»، وتلك كانت خطوة أخرى في طريق الانفصال، لم تلبث أن تبعتها أخرى حينما صدر قرار في ٣ يونيو بإنشاء «مجلس تشريعي»، ولقد كانت هذه إجراءات سببت وقوع بعض الاضطرابات التي بادرت الحكومة بإخمادها — خصوصًا في سان باولو، وميناس، ومن جانب الحاميات البورتغالية الباقية في برنامبكو Pernambuco وباهيا، ومع أن الحامية البورتغالية في المدينة الأخيرة أمكن الوصول إلى اتفاق معها للعودة إلى البورتغال، فقد بقيت حامية باهيا، التي لم تلبث أن وصلتها النجدات من البورتغال (أغسطس ١٨٢٢)، الأمر الذي أوجد حالة حرب فعلية بين البرازيل والبورتغال، وصدر قرار في أول أغسطس يعلن اعتبار كل الجنود المقيمين في البرازيل من غير أوامر صادرة من دون بدرو بذلك عصاة ثائرين، وأخيرًا تَمَّ الانفصال النهائي عندما أعلن دون بدرو في سان باولو استقلال البرازيل في ٧ سبتمبر ١٨٢٢، ثم سرعان ما نودي به إمبراطورًا دستوريًّا على البرازيل في سان باولو يوم ٢ أكتوبر ١٨٢٢.
وكانت الخطوة التالية، تأمين الاعتراف بالإمبراطور بدرو الأول في كل أنحاء البرازيل، وذلك بالقضاء على بقايا المقاومة سواء في «باهيا» التي أُرغمت حاميتها البورتغالية على التسليم والإبحار إلى البورتغال (يوليو ١٨٢٣)، أم في بارا Para، أو مارنهام Maranham، أو مونتفيدو Montevido، التي طُردت منها الحامية البورتغالية كذلك. فلم يمضِ عام ١٨٢٣ حتى كان قد قُضي على كل مقاومة «للنظام» الجديد، وصار استقلال البرازيل تحت حكم الإمبراطور بدرو حقيقة واقعة.

الاضطرابات الداخلية في البورتغال

أما في البورتغال ذاتها، أثناء كل هذه الحوادث، فكان قد طرأ تغيير على الموقف السياسي بها؛ بسبب ما وقع بها من اضطرابات داخلية، صرفت الكورتيز والأمة إلى الاهتمام بشئون البلاد الداخلية، وذلك بعد أن كان الكورتيز قد استصدر قرار ١٩ سبتمبر ١٨٢٢ المعروف بأمر دون بدرو بالعودة إلى لشبونة في ظرف شهر واحد فقط وإلا فقد حقَّه في وراثة عرش المملكة، ويعد جميع المدنيين والعسكريين الذين يعترفون بحكومة البرازيل الواقعية De facto في عداد الخونة، ثم بعد أن كان الكورتيز نفسه الذي انتُخب تحت نظام دستور ١٨٢٢، قد أظهر عزمه على إخماد ثورة البرازيل.

وكان مبعث الاضطرابات الداخلية في البورتغال، الانقسام الذي حصل بشأن الدستور عندما تحدد يوم ٣ ديسمبر ١٨٢٢ موعدًا يحلف فيه كل موظفي الدولة والشخصيات الرسمية بها يمين الولاء للدستور الجديد، وإلا تعرَّض مَنْ يمتنعون منهم بعقوبة النفي خارج البلاد. فرفضت الملكة «كارلوتا جواكينا» حلف هذه اليمين فحُكم عليها بالنفي، وإن أُوقف تنفيذ هذا الحكم بسبب سوء صحتها، ثم لم يلبث أن لقي أنصار الحكم الاستبدادي والسلطان المطلق في البورتغال تعزيزًا «لقضيتهم»، حينما دخلت الجيوش الفرنسية أرض إسبانيا لتؤيِّد الملك فردنند السابع ضد حركات الثورة والعصيان بها، ولقد كان ضياع البرازيل — ولا شك — من العوامل التي أثارت المعارضة ضد نظام الحكم اتهمه مناوئوه بأنه السبب في فقد هذه المستعمرة القديمة، وانضم العسكريون إلى المعارضة، وقامت ثورة «رجعية» مبدئية في فبراير ١٨٢٣ قضت عليها الحكومة، ولكن لم يلبث دون مجويل أن وضع نفسه على رأس حركة كانت في صميمها متفقة مع ميوله وأغراضه، وأصدر منشورًا طلب فيه من الشعب أن يعيد للملك «يوحنا السادس» سلطاته التي سلبها الدستور منه، ولم يجد الملك الضعيف والمتردد دائمًا مخرجًا من هذا المأزق إلا في مغادرته لشبونة، وعندئذٍ اضطر الكورتيز الذي لم يجد سندًا له إلى إعلان انفضاضه من تلقاء نفسه.

ولكن يوحنا السادس الذي اعتنق تحت تأثير ولده الأكبر دون بدرو — ولا شك — بعض آراء الأحرار، لم يكن يريد أن يخضع لسيطرة أنصار الاستبدادية، فعيَّن لجنة «جونتا» لوضع دستور جديد مقيدة في نظام برلماني، من طراز الدستور الإنجليزي، وذلك في الوقت نفسه الذي أعلن فيه إلغاء دستور ١٨٢٢.

ولما كان ذلك إجراء لا يرضى عنه دون مجويل، أو والدته الملكة كارلوتا جواكينا، فقد صح عزمهما على القيام بعمل حازم؛ فاستولى دون مجويل على القصر الملكي، وطرد الوزارة القائمة، ونفى رئيسها بالميللا Palmella، وتسلم زمام الحكم ليحكم باسم والده (٣٠ أبريل ١٨٢٤)، الذي ما عتم أن أفلح بعد احتجازه في الفرار من محبسه والالتجاء إلى سفينة حربية بريطانية تقف في نهر التاجة (التاجوس)؛ في ٩ مايو ليطلب تدخل الدول، فأسفر تدخل سفراء الدول، وخصوصًا المبعوث الإنجليزي سير وليام أكورت A’Court عن استرجاع الملك لسلطانه وعودة «بالميللا» للوزارة، وإرغام دون مجويل على الانسحاب من البورتغال، (ليقيم في فيينا) تحت رقابة مترنيخ.

ولكن تدخل الدول لتأسيس حكومة برلمانية في البورتغال، لم يلبث أن أسفر عن انتشار الفوضى في بلاد كان ملكها ضعيفًا ومترددًا، ويعاني آلام المرض، ولم يقدر إلا أن يكون ألعوبة في أيدي الأحزاب المختلفة، وتحت تأثير الإنجليز بادر بالاعتراف باستقلال البرازيل (في ٢٩ أغسطس ١٨٢٥) وبولده دون بدرو إمبراطورًا عليها. ثم لم يلبث يوحنا السادس أن تُوفي فجأة بعد ذلك بستة شهور.

دستور ١٨٢٤ في البرازيل

أما كيف اعترفت البورتغال باستقلال البرازيل؛ فتفصيل ذلك أنه كان قد اجتمع في ريو دي جانيرو مجلس تأسيسي في ٣ مايو ١٨٢٣ لوضع دستور للإمبراطورية «البرازيلية»، فلم يلبث أن تدخل دون بدرو ليحل هذا المجلس، وليدعو «مجلس دولة» من عشرة أشخاص لوضع دستور، يعترف بأن الإمبراطور هو الذي استصدر وثيقته، ويقوم في الوقت نفسه على المبادئ الحرَّة التي وعد دون بدرو بأن يشملها الدستور المنتظر. فعهد إلى مجلس الدولة (٢٦ نوفمبر) بإعداد مشروع للدستور لم يلبث أن أَتَمَّه هذا المجلس في يناير ١٨٢٤، ثم بدلًا من عرضه على مؤتمر وطني كما كان قد سبق الوعد به؛ أُرسلت نسخ من المشروع إلى المجالس البلدية، ومختلف المقاطعات لبحثه، ووافقت أكثرية هذه المجالس البلدية عليه، وعندئذٍ حلف الإمبراطور يمين الولاء له (٢٤ مارس ١٨٢٤)، وكما وعد دون بدرو، نصَّ الدستور على حرية العبادة وحرية الصحافة والتعبير عن الرأي، والمساواة أمام القانون، والأخذ بالأنظمة التمثيلية (النيابية)، والعمل بمبدأ المسئولية الوزارية واستقلال القضاء، وجعل البرلمان يتألَّف من مجلسين؛ أحدهما للنواب، والآخر للشيوخ، أعضاؤهما بالانتخاب، وذلك بأن يكون للناخبين في الأقاليم حق انتخاب أعضاء هذين المجلسين، في حين أن الذي ينتخب هؤلاء الناخبين أنفسهم، ناخبون يمارسون حق الانتخاب العام، ويُنْتَخَب أعضاء مجلس النواب لمدة أربع سنوات، وأما الشيوخ فَيُعَيِّنهم الإمبراطور من بين أسماء انتُخِب «بالكسر» أصحابها، وتضمها قوائم ثلاث تُعرض عليه، ويبقون أعضاء في مجلس الشيوخ مدة حياتهم. فإذا اختلف المجلسان في موضوع من الموضوعات كان لكل منهما الحق في دعوة المجلسين في جمعية عمومية لتدارس المسألة، وأما «مفتاح» العمل في هذا الدستور فقد تضمنه ما أُعلن أنه السلطة ذات الأثر الاعتدالي Moderative Power، والمقصود بذلك؛ السلطة الموضوعة في يد صاحب السيادة «الإمبراطور»، والتي تعطيه حق الاعتراض على القوانين، وحق تعيين أعضاء مجلس الشيوخ والوزراء، وحل مجلس النواب، ودعوة الجمعية العمومية، وحق العفو ومراجعة وتعديل الأحكام الصادرة، وتعيين الأساقفة والسفراء وغير ذلك من الحقوق، على أن يمارس الإمبراطور سلطاته التنفيذية بناءً على نصيحة وزرائه الذين لا بد من توقيعاتهم ليتخذ أي إجراء الصبغة القانونية، والذين كانوا مسئولين أمام نواب الأمة.

وهكذا صدر هذا الدستور (دستور ١٨٢٤) يبشر — لو أنه أُحسن استخدامه — بمستقبل طيب للأمة البرازيلية؛ لتظفر بفضل هذه الأنظمة الحرَّة بمزايا الحكومة المستقرة الموطدة، ولكن السبب في أن هذا الدستور لم يأتِ بالنتائج المتوخاة منه، لم يكن وجود أي نقص في المبادئ المقرَّرة به والقواعد التي نصَّت عليها مواده؛ بل كان مرده إلى عدم اكتمال نضج الشعب البرازيلي نفسه الذي عاش تحت نظام هذا الدستور، وإلى عجز الإداريين الذين قاموا على تنفيذه.

وفي مارس ١٨٢٤؛ أي في الشهر نفسه الذي حلف فيه الإمبراطور يمين الولاء للدستور، بدأت المفاوضات بين البورتغال والبرازيل، بفضل توسط الإنجليز من أجل الوصول إلى إبرام الصلح بين البلدين؛ فجرت المفاوضات في لندن، وتدخل «كاننج» ليصل الطرفان إلى حل لمسألة تعارضت بشأنها أراؤهما، حيث كان البرازيليون يطلبون الاستقلال، في حين يطلب البورتغاليون الاعتراف بحقوق سيادتهم على البرازيل. ثم حصلت المساعي — وبواسطة الحكومة الإنجليزية دائمًا ومبعوثيها — في كل من لشبونة وريو دي جانيرو للوصول إلى اتفاق، اتخذ الملك يوحنا السادس بموجبه لقب إمبراطور البرازيل تمشيًا مع الناحية الشكلية الرسمية للمسألة، ولكن ليتنازل عن هذا اللقب لابنه دون بدرو، وليعترف باستقلال البرازيل المستعمرة البورتغالية السابقة، في حين يعِد دون بدرو، بأن تتحمل حكومة البرازيل سداد دين مقداره مليون وأربعمائة ألف جنيه إنجليزي كانت البورتغال قد اقترضته في سنة ١٨٢٣ من بريطانيا، وأن تدفع علاوة على ذلك مبلغًا آخر (٦٠٠٠٠٠ جنيه) للملك يوحنا السادس مقابل سرايه وأملاكه الخاصة الأخرى في البرازيل، وفي ٢٩ أغسطس ١٨٢٥ وُقِّعت المعاهدة في ريو دي جانيرو، ومع أن هذه المعاهدة لم تذكر شيئًا عن وراثة عرش البورتغال، فقد أعلن دون بدرو تنازله عن أية حقوق له في وراثة هذا العرش.

النزاع الدستوري في البورتغال

وهكذا اعترفت البورتغال باستقلال البرازيل، ولكن في ٦ مارس ١٨٢٦ مرض الملك يوحنا السادس، ثم تُوفي بعد أربعة أيام — وهناك مَنْ يشكون في أنه مات مسمومًا — ومنذ ٧ مارس صدر قرار بتعيين ابنته «إيزابلا ماريا» وصية على العرش، وبادرت حكومة الوصاية بالاعتراف فورًا بدون بدرو ملكًا على البورتغال باسم بدرو الرابع، وكان هذا إجراءً شكليًّا أو رسميًّا فحسب؛ لأن دون بدرو بمقتضى المعاهدة المبرمة حديثًا (في ٢٩ أغسطس ١٨٢٥) محرر من وراثة عرش البورتغال، ويستحيل كذلك أن يجمع شخص واحد بين تاجي إمبراطورية البرازيل ومملكة البورتغال، نزولًا على أحكام هذه المعاهدة نفسها التي تقرِّر الانفصال بين البلدين نهائيًّا.

ومع أنه كان منتظرًا أن يتنازل دون بدرو عن عرش البورتغال لأخيه دون مجويل، وذلك إجراء لم يكن من المتوقع أن يلقى أية معارضة؛ بسبب ضعف الحزب الثوري آنئذ (١٨٢٦)، والذي كان أقصى ما يصبو إليه تغيير مجلس الكورتيز البورتغالي — من مجلس طبقات ثلاث — إلى مجلس دستوري أو برلمان، فقد آثر دون بدرو على نصح الإنجليز إشباع رغبته بالظهور بمظهر العاهل الدستوري الذي يمنح شعبه من تلقاء نفسه، وكشيء صادر منه شخصيًّا، الحقوق الدستورية، فاستصدر ميثاقًا Charter (أو دستورًا) كمنحة منه لرعاياه البورتغاليين، ثم استصدر مرسومًا في ٢ مايو ١٨٢٦ تنازل فيه عن تاج البورتغال لابنته دونا ماريا داجلوريا Gloria — وتبلغ سنها سبع سنوات — على أن تحلف يمين الولاء للدستور. ثم تبع ذلك الاعتراف بدون مجويل وصيًّا على العرش، وكان هذا الاعتراف مشروطًا بأن يتزوج دون مجويل من ابنة أخيه التي تصغره بسبعة عشر عامًا.
ولم يكن أحد في البورتغال يتوقع مثل هذا التدخل من جانب البرازيل في شئون المملكة الداخلية، ولم يكن مجلس الوصاية في لشبونة يريد قبول الميثاق (أو الدستور) أو يرضى بنشره، ولكن تحت ضغط تهديد سالدانها Saldanha أحد القواد من أنصار الأحرار في حامية (أوبرتو) بالزحف على لشبونة، بادر مجلس الوصاية بالاعتراف بالدستور (١٢ مايو)، ثم حلفت جميع الهيئات في أوبرتو ولشبونة على السواء يمين الولاء لهذا الدستور في ٣١ مايو. وتألَّفت وزارة من الأحرار كانت تبغي حضور دون بدرو من البرازيل لتولي الحكم بنفسه، أو بقاء وصاية دونا ماريا داجلوريا على الأقل، لحرمان دون مجويل من الوصاية، ولكنَّ شيئًا من هذه الأغراض لم يتحقق؛ لتدخل الدول التي أيَّدت وصاية دون مجويل، ولقيام حركات العصيان في عدة أماكن تنادي بدون مجويل ملكًا على البلاد، واحتشاد المهاجرين البورتغاليين على الحدود الإسبانية على أهبة الاستعداد للهجوم على البورتغال، وذلك بتشجيع سري من الحكومة الإسبانية.

وكانت روسيا والنمسا تميلان لتأييد دون مجويل، ولكن كاننج أمكنه إقناعهما باتباع سياسة التريث التي تسير عليها الدولتان الغربيتان؛ إنجلترة وفرنسا، وتقوم هذه على أساس «عدم التدخل» وترك الشعب البورتغالي يختار وحده الحكومة التي يريدها.

ومع ذلك فقد سادت الفوضى أنحاء البورتغال جميعها في نهاية السنة نفسها (١٨٢٦) لدرجة أن قرَّرت الحكومة الإنجليزية إرسال جيش تحت قيادة سير وليام كلينتون Clinton لإعادة النظام، كما طلبت في الوقت نفسه من الحكومة الإسبانية فض القوات البورتغالية المحتشدة على حدودها، واعتقالها ونزع أسلحتها. وفي مارس ١٨٢٧ كان البورتغاليون قد قبلوا الدستور (أو الميثاق) الذي فرضته الحراب الإنجليزية عليهم، وواضح أن «حريات» تدخل الأجنبي تدخلًا مسلحًا لتأييدها لم تكن عزيزة لدى الشعب الذي أُرغم إرغامًا على قبول هذه الحريات التي «منحها» لهم دون بدرو.

وأثناء هذا كله كان دون مجويل لا يزال يقيم في فينا تحت رقابة مترنخ، وبعد وفاة أبيه سلك مسلكًا حكيمًا، فاعترف بدون بدرو حاكمًا شرعيًّا على البورتغال. وفي ٤ أكتوبر ١٨٢٦ حلف يمين الولاء (للدستور)، وفي ٢٩ أكتوبر أُعلنت خطبته رسميًّا لابنة أخيه — وهذه الخطوة الأخيرة اتُّخذت بناءً على نصيحة مترنخ تحت ضغط من إنجلترة — فنفذ دون مجويل كل الشروط التي اشترطها أخوه «دون بدرو» في تنازله عن عرش البورتغال، ولم يعد ثمة شيء يحول دون عودة دون مجويل إلى لشبونة ليتولى «الوصاية» حتى تبلغ «دونا ماريا داجلوريا» سن الرشد، ولا جدال في أن دون مجويل عندما حلف يمين الولاء للدستور كان يعتبر هذا القسم ضرورة سياسية ولا يجب أن تتعطل بسببه حقوقه الشرعية (القانونية)، ومع ذلك فقد اكتفت الحكومات في لندن ولشبونة ومدريد، كما اكتفى دون بدرو نفسه «في البرازيل» بالتأكيدات التي صدرت عن دون مجويل بالتزام الوضع الراهن المتولد من الدستور الذي تعهد بتأييده؛ ليتاح لدون مجويل العودة عن طريق بليموت (بإنجلترة) على ظهر مركب حربي بورتغالي نقله إلى لشبونة، فوصلها في ٢٢ فبراير ١٨٢٨.

ورحَّب الشعب البورتغالي بقدوم دون مجويل، وتعالت الهتافات بحياة «الملك المطلق» الذي توقعوا إنقاذ البلاد على يديه، وكانت الملكة الوالدة «كارلوتا جواكينا» لا ترضى أن يكون دون مجويل «وصيًّا دستوريًّا»، ولم يشأ هذا الأخير أن يربط نفسه برباط معين في هذه المرحلة، فحلف يمين الولاء للدستور في حضور «البرلمان» في ٢٦ فبراير ١٨٢٨ بوصفه وصيًّا على العرش، ولو أن الرأي العام كان يعترف به ملكًا على البورتغال، وكان هو نفسه يسلك مسلك الملك. وحَلَّ دون مجويل «البرلمان» في ١٤ مارس دون أن يعترض أحد على حله، وفقد حزب الأحرار الدعامة التي كان يستند عليها، عندما غادرت القوات الإنجليزية البلاد (في ٢ أبريل) بناءً على استدعاء حكومة دوق ولنجتون في لندن لها، وبذلك لم تعد هناك أية عقبات تحول دون عودة الحكم الرجعي (والملكية المطلقة).

وكان إجراءً حاسمًا في سبيل عودة هذا الحكم الرجعي، عندما دعا الوصي «دون مجويل» مجلس الطبقات القديم (الكورتيز) للانعقاد، فانعقد المجلس يوم ٢٣ يونيو، ونادى بدون مجويل ملكًا على البورتغال. وفي ٧ يوليو حلف مجويل الأول اليمين القانونية أمام الكورتيز بوصفه ملكًا للبلاد، وقوبل هذا الإجراء بحماس عظيم في لشبونة وفي كل أنحاء البلاد، ولم تنفرد بالمعارضة غير «أوبرتو» التي كان قد اجتمع فيها زعماء الدستور (الأحرار) مثل: بالميللا وسالدانها وغيرهما، وشكَّلوا مجلسًا ثوريًّا جونتا Junta لتدبير المقاومة المسلحة ضد النظام الجديد، وانضم إليهم المتطوعون من كوامبرا Coimbra، وكذلك من أماكن أخرى الجنود الذين كانوا قد أعلنوا ولاءهم لابنة دون بدرو، دونا ماريا داجلوريا، ولكن المجلس الثوري «جونتا» لم يكن يجرؤ على مجابهة القوات المجويلية، ففرَّ بالميللا وسالدانها ورفقاؤهما إلى لندن (منذ ٣ يوليو) في حين تقهقر جيشهم وعدده حوالي خمسة أو ستة آلاف — من غير نظام — إلى جاليكيا Galicia، وأبحرت فلولهم (حوالي ٢٥٠٠) إلى بليموث بإنجلترة حيث اعتقلتهم الحكومة الإنجليزية، واعتقد «الأحرار» أن وجود دونا ماريا داجلوريا في لندن باسم الملكة ماريا الثانية، لا يلبث أن يحمل الحكومة الإنجليزية على التدخل، في صالح «المبادئ الحرَّة»، ولكن وزارة ولنجتون التي استقبلت الملكة ماريا بكل مظاهر الاحترام، أبقت جنود الملكة في المعتقل، ورفضت التدخل فيما أسمته بالنزاعات العائلية حول العرش، وفي الشئون الداخلية «لأمة حرَّة».

الرجعية في البورتغال

وفي البورتغال طغت موجة من الرجعية الشديدة لتقتلع جذور المبادئ الحرَّة من البلاد، وشهدت البورتغال عهدًا من الإرهاب الحقيقي عندما هلك أو سُجن عديدون مِمَّنْ اتُّهموا بالاشتراك في الحركات الثورية السابقة، ولا جدال في أن «مجويل الأول» كان مسئولًا عن الفظائع التي ارتكبها الرجعيون تحت زعامة الملكة الوالدة «كارلو تاجواكينا» التي صار لها القول الفصل في نظام تسيطر عليه «الكنيسة» وشهوة الانتقام من المبادئ الحرَّة وأصحابها؛ وذلك لأنه أذعن لإرادة الملكة الوالدة وأنصارها، ومع ذلك وبالرغم من الإرهاب الذي حصل؛ فقد ظل مجويل الأول معبود الشعب البورتغالي حتى آخر أيامه. وزاد مركز المجويليين قوة عندما أسفرت سياسة عدم التدخل الإنجليزية عن اعتراف الإنجليز بالحكومة الفعلية القائمة في البورتغال، وتبع ذلك الاعتراف بهذه الحكومة أيضًا من جانب النمسا وفرنسا، ورُفضت دعاوى «بالميللا» ورفاقه في لندن أنهم يمثلون بلادهم، في حين صار إبلاغ دون بدرو في البرازيل أن تنازله عن عرش البورتغال قد اعتُبر نهائيًّا، ومن شأنه أن يمنعه من التدخل في شئون هذه البلاد، وأما إذا شاء أن يؤيِّد ادعاءات ابنته «دونا ماريا داجلوريا» على عرش البورتغال تأييدًا عمليًّا نشيطًا فليس من سبيل إلى ذلك إلا إعلان الحرب من جانب البرازيل، ومع أن الإنجليز بذلوا جهودًا كبيرة لتسوية الخلاف بين الشقيقين: «دون بدرو» و«دون مجويل» على أساس زواج العم من ابنة أخيه، ودون قبول الدستور (الميثاق)، فقد ذهبت هذه الجهود سدًى. ثم لم يلبث أن انتهى دور النزاع الأول على عرش البورتغال بين دون مجويل، والملكة ماريا الثانية «ماريا داجلوريا» عندما عادت هذه الأخيرة إلى البرازيل (في ٢٩ أغسطس ١٨٢٩).

أما الدور الثاني من هذا النزاع فكان قد بدأ فعلًا في جزر آزورا (ومن بينها جزيرة ترسيرا Terceira، حيث قام أهل هذه الجزر في ربيع ١٨٢٨، يعلنون تأييدهم لقضية دون مجويل، على غرار ما فعل أهل الوطن الأم «البورتغال»، ولم يشذ عن ذلك غير حامية صغيرة في أنجرا Angra بقيت تؤيِّد قضية الأحرار وحدها من مايو إلى أغسطس)، ويحيط بها أعداؤها، حتى حدث في ٨ سبتمبر ١٨٢٨، أن نزلت بالجزيرة قوات من المهاجرين، حملتهم إليها فرقاطة برازيلية، فلم يلبث أن تشكَّل مجلس ثوري مؤقت (جونتا)، اعترف بملكية «ماريا الثانية»، فرفرف علمها على جزيرة «ترسيرا» التي غدت من الآن فصاعدًا مركز المقاومة المسلحة ضد المجويليين، وأهملت حكومة لشبونة إخضاع الجزيرة قبل أن تأتيها النجدات والمؤن، سواء من البورتغال أو من البرازيل، وبالرغم من الحصار الذي ضربه الإنجليز على جزر آزورا لمنع وصول الإمدادات من رجال وعتاد إليها؛ وعلى ذلك فقد فشلت حملة بورتغالية في إخضاع «ترسيرا»، واضطر الأسطول البورتغالي إلى الانسحاب من مياهها (في ١١ أغسطس ١٨٢٩)، فكان لهذه الهزيمة في القضاء على مركز مقاومة الأحرار والدستوريين الوحيد وانتزاعه من أيديهم، أبلغ الأثر في تطور الحوادث التالية، فقد انتقل «بالميللا» من لندن إلى «ترسيرا» في ٣٠ مارس ١٨٢٩ ليؤسس بها وصاية باسم الملكة ماريا الثانية، وصادفت هذه «الحكومة» الحديثة صعوبات كثيرة؛ منها؛ أن الإمبراطور بدرو، مع اعترافه بحكومة ابنته في «ترسيرا» منعته مشاغله العديدة في البرازيل من إسداء أية معاونة فَعَّالة بها، ولو أنه في الوقت نفسه كان يتفاوض — بفضل وساطة الإنجليز كما رأينا — لتسوية الخلاف مع أخيه دون مجويل على أساس زواج الأخير من ابنته. أضف إلى هذا أن الدول التي لم تشأ اتخاذ موقف نهائي من «النزاع العائلي» حول العرش كانت ميولها واضحة نحو الاعتراف بحكومة دون مجويل الواقعية.

آثار ثورات يوليو (١٨٣٠)

غير أن الحوادث التي حصلت في سنة ١٨٣٠، سرعان ما أدخلت تغييرًا ملحوظًا على موقف الدول الغربية. ففي فرنسا؛ أطاحت ثورة يوليو بحكومة شارل العاشر، وملكية البربون، ووضعت على العرش مكانه لويس فيليب من أسرة بربون أورليان، وفي إنجلترة؛ أُقصيت وزارة ولنجتون المحافظة التوري Tory من الحكم، وشكَّل الأحرار الويجز Whigs وزارة جديدة كان لورد بلمرستون وزير الخارجية بها. زِدْ على ذلك أن الملكة الوالدة «كارلوتا جواكينا» كانت قد تُوفيت قبل ذلك (في ٧ يناير ١٨٣٠)، وهي القوى المسيطرة على حركة الرجعيين مؤيدي الملكية المطلقة الاستبدادية، ولم يكن في استطاعة ملكية أورليان في فرنسا ولا حزب الويجز الإصلاحي (سنة ١٨٣٠) أن يؤيِّد الرجعيين في البورتغال، حينما بلغ الحماس لشخص دون مجويل حد الجنون، فصار يعتبره البورتغاليون ما عدا حفنة ضئيلة من الأحرار والدستوريين؛ «المسيح المنتظر». فوقفت ملكية يوليو (الأورليانية) في فرنسا، ووزارة الويجز في إنجلترة موقف المعارضة من هذه المجويلية المتطرفة في رجعيتها، ثم لم تلبث أن انقلبت هذه المعارضة إلى عداء سافر، فقد أساء البورتغاليون معاملة بعض الرعايا البريطانيين في البحر وعلى الأرض على السواء، ونجم من معاملتهم السيئة كذلك لفرنسيين يقيمان في لشبونة؛ أن قُطعت أولًا العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ثم تلا ذلك إرسال سفن حربية فرنسية إلى نهر التاجه (التاجوس) في يوليو ١٨٣١، ثم لم يلبث أن أرغم وجودها الحكومة البورتغالية على إصلاح ذات البين مع فرنسا بشكل مهين لها، ثم على تسليم أسطولها، ولقيت هذه الإجراءات موافقة بل وتأييدًا صامتًا من جانب الحكومة الإنجليزية، التي أولت ملكية لويس كل مؤازرتها، ولم تُحرِّك ساكنًا للدفاع عن حليفتها القديمة البورتغال.

وكانت الأمور في أثناء هذا كله تسير في البرازيل في طريق أفضى إلى تنازل دون بدرو عن العرش في ٧ أبريل ١٨٣١؛ والسبب في ذلك؛ أن الإمبراطور كان جائر الطباع مستبدًّا، مسرفًا، يعيش في لهو وعبث، ففرَّ البرازيليون منه؛ لأنه أقحمهم في حرب الأرجنتين أصيبوا فيها بالهزيمة، فتنازل دون بدرو لصالح ابنه، وكان طفلًا يبلغ الست سنوات من عمره، فأُعلن إمبراطورًا على البرازيل باسم «بدرو الثاني» تحت وصاية «جوزيه يونيفا سيودي أندرادا» الذي عاد الآن من المنفى، وأبحر دون بدرو إلى أوروبا (١٣ أبريل).

وأفادت البرازيل — ولا شك — من ذهاب دون بدرو، فقد تقدَّمت البلاد من الناحية المادية تقدمًا ملحوظًا بالرغم من بعض الحركات الثورية التي قضت عليها الحكومة بسهولة، ولما لم يعد الشعب يؤيِّد «جوزيه دي أندرادا»، فإنه لم يلبث أن حَلَّ محله للوصاية (١٨٣٣)، وفي السنة التالية أُعيد النظر في دستور ١٨٢٤ على أساس التوسع في الحكومة الذاتية في المقاطعات والبلديات، فكان العمل بمبدأ الحكومة اللامركزية إجراءً حكيمًا — ولا شك — في بلاد واسعة الأطراف، ويختلف تكوينها الطبيعي من مكان لآخر، وقد يكون بفضل هذا التوسع في الحكومة الذاتية وحده أن تسنت المحافظة على وحدة الدولة البرازيلية. وفي ١٨٣٥ وقع الاختيار على أحد الأساقفة ليكون وصيًّا منفردًا على العرش، ليخلفه بعد عامين وصي آخر هو دي ليما Lima الذي استمرت وصايته من ١٨٣٧ إلى ١٨٤٠؛ حتى إذا بلغ «بدرو الثاني» سن الرشد في سنة ١٨٤٠ تسلم شئون الدولة، وتَمَّ تتويجه في ١٨ يوليو ١٨٤١.

النضال بين المجويليين والدستوريين

وأما دون بدرو فقد قصد إلى لندن، مصطحبًا معه ابنته الملكة ماريا الثانية، وقد صح عزمه على الدفاع عن قضية ابنته هذه ضد «المغتصب» لعرش البورتغال (وهو دون مجويل)، ولقي ترحيبًا هو والملكة ماريا في لندن من وزارة جراي Grey — بالمرستون، وفي أغسطس ١٨٣١ قصد مع ابنته إلى فرنسا حيث وثق أن سيلقى بها ترحيبًا كذلك من لويس فيليب الذي بادر بتهيئة قصره لإقامتهما، وجرت الاستعدادات في فرنسا وإنجلترة بواسطة «بالميللا» وغيره لتدبير المال اللازم، ولإعداد أسطول لنقل الحملة المزمعة، فأمكن بمساعدة أحد المصرفيين الإسبان عقد قرض في لندن (في سبتمبر ١٨٣١)، وأمكن ابتياع بعض السفن التي أكثر بحارتها من الإنجليز، كما جُمعت قوة من المرتزقة، وجرت هذه الاستعدادات تحت سمع الحكومة الفرنسية وبصرها، وهي لم تكن تبالي شيئًا في إعلان تعضيدها لدون بدرو، على خلاف الإنجليز الذين حرص وزيرهم «بلمرستون» على الاحتفاظ بموقف الحياد الظاهري بين الفريقين، ونصح «لبالميللا» وأنصار دون بدرو بسرعة الإبحار بسفنهم قبل أن يثير وكلاء دون مجويل صعوبات جديدة، بل إنه تهددهم بالاعتراف رسميًّا بحكومة دون مجويل إذا وجدت الحكومة الإنجليزية نفسها مضطرة لفعل ذلك بسبب إبطاء أنصار دون بدرو في حركتهم.
وعلى ذلك فقد أبحرت الحملة من جزيرة بل إيل Belle Ule (الواقعة تجاه ساحل بريتاني الغربي من أعمال فرنسا) في ١٠ فبراير ١٨٣٢ وكانت تتألَّف من فرقاطتين، ومركبين ونقالة واحدة، وأبحر على ظهر إحدى السفن أيضًا دون بدرو، ويصحبه زعماء الأحرار الدستوريين، ومنهم بالميللا، وإن لم يصحبه سالدانها Saldanha، القائد الذي أرغم بحد حسامه الأمة البورتغالية على قبول الدستور (الميثاق) في سنة ١٨٢٦، وكان ذلك بأمر من دون بدرو نفسه؛ لأن «سالدانها» لم يعد يثق في الرجل الذي كثيرًا ما تعارضت فعاله مع أقواله وتصريحاته، ووصل الأسطول إلى جزر الآزورا (ترسيرا) في نهاية فبراير، وتشكَّلت حكومة على الفور، لم تستطع تجهيز جيش قوي يمكن الاعتماد عليه في غزو البورتغال بنجاح، ولكن الإمبراطور «دون بدرو» كان يعتقد أن مجرد نزوله بأرض البورتغال كافٍ لأن يجذب أهلها لنصرة «محرريهم» ويؤلبهم للقيام بثورة جارفة ضد دون مجويل، حتى إن الأسطول عندما أقلع قاصدًا إلى «لشبونة» في ٢٧ يونيو، تطلع الجميع لاحتلال عاصمة البورتغال في ظرف أسبوعين فقط كأمر مفروغ منه قطعًا.

ولكن زحف قوات «الدستوريين» سرعان ما قوبل بمقاومة عنيفة، فكانت العمليات العسكرية الوحيدة التي تنفذت بسهولة هي الاستيلاء على أوبرتو (٩ يوليو)، ثم دخول الأسطول إلى مينائها في اليوم التالي، والسبب في ذلك؛ أن الحامية التي بها قد أخلتها قبل زحف قوات دون بدرو عليها، ولكن خاب أمل الإمبراطور الذي قوبل بجفاء من سكانها، ثم تعددت الالتحامات الدموية بعد ذلك وخصوصًا في معركتين كبيرتين في ١٨ و٢٣ يوليو (١٨٣٢)، ولم تكن معارك فاصلة، ولو أنها أقنعت الإمبراطور أخيرًا بأن البلاد لن تثور ضد دون مجويل ولن تؤيِّد قضيته، وأحدقت به جيوش المجويليين من كل جانب، فلم يبقَ أمامه إلا اختيار أحد أمرين؛ إما الفرار بطريق البحر، وإما التحصن في «أوبرتو»، وانتظار تطور الأحداث وهو بها، واختار الإمبراطور التحصن في «أوبرتو»، وضرب المجويليون الحصار عليها، ولكن قائدهم كان لا جدارة ولا كفاءة له، فاستطاع جيش الإمبراطور تحصين مواقعه دون أن يحاول المجويليون منعه من ذلك، حتى إذا تقرَّر الهجوم على المدينة في ٢٩ سبتمبر، كان نصيب المجويليين الفشل، فردوا على أعقابهم؛ وعندئذٍ أشرف دون مجويل بنفسه على العمليات العسكرية، وعيَّن قائدًا آخر على رأس جيشه ليعاود تضييق الحصار على «أوبرتو»، وفي أكتوبر تسلم من الجانب الآخر الإمبراطور بدرو نفسه زمام عمليات الدفاع عن أوبرتو، وظلت الحرب سجالًا، ودون أن يظفر أي فريق بنتيجة حاسمة بالرغم من الخسائر الفادحة التي نزلت بكلا الفريقين على السواء.

ومع أن «بالميللا» أُوفد مع آخر في بعثة إلى لندن لطلب وساطة الحكومة الإنجليزية، فقد رفضت هذه أي تدخل من جانب الدول بين الإمبراطور وبين البورتغاليين إلا إذا غادر دون بدرو البورتغال، فصمم دون بدرو على الصمود في موقفه وأجرى عدة تغييرات في حكومته، فاستدعى الزعيم الشعبي «سالدانها» لمعاونته، وتخلى هو عن القيادة لآخر، وتحسن موقف المدافعين (المحاصرين) في أوبرتو (يناير ١٨٣٣)، ولكن لم تلبث أن انتشرت المجاعة في المدينة، وعندئذٍ تقرَّر بعد تردد كبير من ناحية الإمبراطور، وتحت ضغط قائد قواته البحرية الإنجليزي الجديد كابتن نابيير Napier الذي خلف في هذا المركز قائدًا بحريًّا سابقًا من الإنجليز؛ أن يحاول الأسطول الهجوم على أي مكان في شاطئ البورتغال الجنوبي الغرب Algarve للاستيلاء على هذا الشاطئ بدلًا من لشبونة. وفي ٢٤ يونيو نزل العسكر في خليج كاسيلاس Cacellas دون أن يلقوا أية مقاومة، واحتلوا بعض المواقع، ثم زحفوا على فارو عاصمة الإقليم (الغرب) فتقهقر حاكمها المجويلي، وأقام بها «بالميللا» حكومة مؤقتة، ولكن العداء الذي قوبلت به هذه الحملة في الجنوب كان لا يقل في حدته عن العداء الذي قوبلت به كل عمليات دون بدرو في الشمال، وانتظر الأهلون مجيء القوات من لشبونة لسحق قوات العدو.

وخرج نابيير بأسطوله لمقابلة أسطول البورتغاليين (المجويليين) الذي كان قد غادر نهر التاجوس في طريقه إلى الجنوب، فالتحم الأسطولان في معركة بحرية حاسمة عند رأس سانت فنسنت في ٥ يوليو ١٨٣٣، كان هدف نابيير منها؛ إما الانتصار وإنقاذ البورتغال — كما قال — وإما خسارة القضية كلية، وفي مدى ساعتين تقرَّر النصر في جانب نابيير، وتحطم أسطول المجويليين تمامًا، بل لم يعد لهم أسطول بعد هذه الواقعة.

ثم توالت انتصارات قوات دون بدرو في الجنوب بعد أن أثار فيهم الحماس نجاح نابيير، وقرَّر أحد قوادهم دوق تيرسيرا Terceira الزحف على لشبونة ذاتها، وكانت تلك مغامرة جريئة لا يبررها غير نجاحها، ولقد تسنى لدوق تيرسيرا أن ينجح فعلًا، فقد استمر في زحفه صوب الشمال (الشرقي) حتى بلغ سيتوبال Setubal (٢٢ يوليو) ليستولي عليها دون عناء بسبب فرار حاميتها في فزع ورعب إلى لشبونة، إذ قد خُيل إليهم بسبب جرأة هذه المجازفة من جانب «تيرسيرا» أن قوات لا حصر لها تطاردهم، وأسرع المجويليون بإرسال جيش كبير لوقف «تيرسيرا»، فالتحم الفريقان عند بيداد Piedade في مكان ضيق محصور بين التلال والنهر «التاجة» مساء ٢٣ يوليو، وحلَّت الهزيمة بجيش المجويليين الذين فرَّت فلولهم صوب لشبونة، وقُتل قائدهم، وفي صباح اليوم التالي سلمت ألمادا Almada على الشاطئ المواجه للعاصمة «لشبونة»، ومع أن موقف «تيرسيرا» كان على جانب كبير من الدقة والخطورة بالرغم من هذه الانتصارات، فقد كفت هذه الانتصارات المفاجئة ذاتها لتحطيم أعصاب الوزراء المجويليين في لشبونة، فقرَّروا إخلاء لشبونة (في ٢٤ يوليو)، فاستولى عليها «تيرسيرا» دون أن يطلق رصاصة واحدة. وفي صبيحة اليوم التالي دخل نابيير بأسطوله نهر التاجوس (٢٥ يوليو)، وألقى مراسيه أمام لشبونة دون أية مقاومة. وفي ٢٨ يوليو دخل دون بدرو العاصمة، بعد غيبة استطالت ستة وعشرين عامًا؛ فقوبل بالترحاب من جماعة الأحرار من سكانها، ومن أولئك الذين نزلت بهم المظالم على أيدي المجويليين، أو سئموا الحرب وأرهقهم نفقاتها الباهظة، فتاقت نفوسهم لحصول أي تغيير، ثم لم تلبث أن سلمت «أوبرتو» بعد انسحاب قوات دون مجويل منها، فرُفع عنها الحصار بعد أن استمر أحد عشر شهرًا.
وحاول المجويليون محاصرة لشبونة، ولكن لم يكن النجاح حليفهم (أغسطس–أكتوبر)، ومع ذلك فلم يكن المجويليون حتى هذا الوقت قد خسروا كل أمل في كسب قضيتهم؛ لأن البلاد بأسرها في الشمال والجنوب إذا استثنينا أوبرتو ولشبونة — إنما كانت تؤيِّد دون مجويل، وتعترف به ملكًا شرعيًّا عليها، ولم يفلح في الوقت نفسه دون بدرو — الوصي على عرش ابنته ماريا الثانية والإمبراطور السابق — في إقامة حكومة عادلة طيبة في لشبونة، تجذب الأنصار لتأييد قضيته؛ وذلك لأنه على خلاف ما نصحه به «بالميللا» والوزير الإنجليزي لورد ليم راسل Russell — الذي عُيِّن لدى بلاط الملكة ماريا الثانية بعد سقوط لشبونة — من ضرورة التزام جانب الاعتدال، آثر دون بدرو اتباع سياسة تقوم على الانتقام من خصومه ومصادرة أموالهم وأملاكهم؛ فطرد اليسوعيين (الجزويت) من المملكة، وطلب من السفير البابوي (أو القاصد الرسولي) الانسحاب من لشبونة، واعتبر كل الذين خدموا في عهد النظام المطلق السابق أعداء للدولة.
ولقد بلغ الغرور المستولي على دون بدرو إلى درجة أنه دعا مجلس الكورتيز للانعقاد عندما لم تكن سلطته تتجاوز أسوار كل من أوبرتو ولشبونة فقط، في حين أن الالتحامات بين قواته «من الدستوريين» وبين المجويليين استمرت من وقت لآخر طوال المدة الباقية من عام ١٨٣٣، والشهور الستة الأولى من العام التالي، فقد شهد هذا العام الأخير (١٨٣٤) عمليات جد نشيطة، فزحف «سالدانها» صوب الشمال واستولى على لييريا Leiria في ١٤ يناير، ثم أحرز انتصارًا آخر على المجويليين عند برنيس Pernes في ٣٠ يناير، ثم أعقبه انتصار آخر كان أكثر أهمية عند الموستر Almoster في ٢٨ فبراير، وفي شهر مارس نزل «نابيير» بقواته من الإنجليز عند كامينها Caminha في أقصى الشاطئ البورتغالي شمالًا واستولى على إقليم مينهو Minho، وفي الوقت نفسه كان جيش آخر بقيادة «ترسييرا» يتغلغل بطريق نهر دورو Douro في إقليم تراز أوس مونتيس Traz os Montes حيث لقيه إسباني انضم إليه في القتال ضد المجويليين، وكان الإسبان قد دخلوا الأراضي البورتغالية بناءً على معاهدة «التحالف الرباعي» المعروفة التي أُبرمت بين إنجلترة وإسبانيا والبورتغال وفرنسا في ٢٢ أبريل ١٨٣٤ لتأييد الملكة البورتغالية «ماريا» ضد دون مجويل من ناحية، والملكة الوصية كريستينا في إسبانيا ضد دون كارلوس من ناحية أخرى، وكان دون مجويل بجيشه في أثناء ذلك كله متحصنًا في سنتاريم Santarem على نهر التاجة في «الشمال»، ولكن لم يلبث أن تطرق الوهن إلى عزيمته، فتقهقر إلى إيفرورا مونت Evrora-Monte إلى الجنوب الشرقي من سنتاريم، وفي ٢٤ مايو ١٨٣٤ وَقَّعَ على اتفاق للتسليم بشروط كانت سخية، خالف فيها دون بدرو نصائح مستشاريه، فكان نصيب دون مجويل النفي الدائم خارج شبه جزيرة إيبريا، مع إعطائه معاشًا سنويًّا كبيرًا. غير أن دون مجويل منعه كبرياؤه أن يعيش على إحسانات أخيه، فغادر البلاد في ٣٠ مايو، ومن جنوه أصدر احتجاجًا (في ٢٠ يونيو) ضد إرغامه على التنازل عنوة عن حقوقه في تاج البورتغال، ورفض قبول المعاش الذي خُصص له.
واجتمع الكورتيز في ١٥ أغسطس ١٨٣٤، وأبدى دون بدرو رغبته في التخلي عن الوصاية بسبب المرض الذي انتابه من جراء نشاطه المتصل والذي أنهك قواه خلال العامين المنصرمين خصوصًا، ولكن الكورتيز قرَّر أن يستمر دون بدرو وصيًّا حتى تبلغ الملكة ماريا الثانية (ابنته) سن الرشد، وفي ٢٩ أغسطس حلف دون بدرو اليمين نزولًا على أحكام الدستور، وكان ذلك آخر عمل قام به، إذ سرعان ما غادر العاصمة إلى كولوز Queluz ينشد الراحة في قصر له هناك، ولكن لم تلبث أن اشتدت وطأة المرض عليه، فَقضى بعد أسابيع قليلة في ٢٤ سبتمبر ١٨٣٤، ولم يكن قد بلغ الخامس والثلاثين ربيعًا.

انتهاء الحرب الأهلية

ولا جدال في أن تلك الديكتاتورية القصيرة الأمد التي أقامها دون بدرو، كانت ذات آثار باقية عندما أمكن بفضل ما صدر من قرارات أثناءها أن يتخذ أحد وزرائه من ذوي الآراء السياسية الإنشائية، ونعني به موزينهودا سيلفيرا Mousinho da Silveira إجراءات إصلاحية عديدة، فصار إلغاء العشور، وأُزيلت الحقوق والامتيازات الوراثية، وأُغلقت أديرة الرهبان والراهبات، وجُعلت أملاكها ملكًا للدولة، وفُصلت أعمال الإدارة عن القضاء، وقُضي على الاحتكارات، وصفوة القول أن كل بقايا الإقطاع في البورتغال اختفت في سنة ١٨٣٤، واستطاعت الملكة ماريا الثانية أن تبدأ حكمًا في بلاد أزالت رواسب الإقطاع منها، وصارت جديدة في حياتها وتقاليدها.

ولكن افتقار البلاد لليد القوية لتمسك بزمام الحكم والإدارة في بلاد لا زالت فقيرة ومتأخرة، مرت علاوة على ذلك بأدوار متقلبة كثيرة جعلتها نهبًا للقلق وعدم الاستقرار، وفريسة للخلافات الحزبية، ولانتشار التذمر بها، وذلك كله بدرجة عطلت تقدمها لمدة طويلة، وجعلت متعذرًا أو مستحيلًا إقامة صرح الحكومة الرشيدة والموطدة بها.

ولقد تزوجت الملكة ماريا الثانية من أغسطوس دوق لختنبرج Leuchtenberg وهو ابن يوجين بوهارنيه، وشقيق زوجة دون بدرو الثانية (أول ديسمبر ١٨٣٤)، ولكن أغسطوس لم يلبث أن تُوفي (في ٢٥ مارس ١٨٣٥)، فتزوجت الملكة من فردننذ ساكس كوبرج، قريب ليوبولد الأول ملك بلجيكا (٩ أبريل ١٨٣٦)، ووجد الاثنان أن صعوبات كثيرة تواجههما.

ذلك أن عهد الملكة ماريا الثانية شهد نضالًا طويلًا ومؤامرات كثيرة بين أحزاب رئيسية ثلاثة؛ أولها: حزب «الدستوريين» أو أنصار «الميثاق» الذين يريدون حكومة دستورية بالصورة التي أتى بها ميثاق أو دستور ١٨٢٦، الذي أصدره دون بدرو. وثانيها: الحزب الديمقراطي (أو السبتمبريون) الذين أرادوا العودة إلى المبادئ المقرَّرة في دستور ١٨٢٢. وثالثها: الحزب المجويلي الذين يريدون تأسيس الحكم المطلق، واستعلاء النفوذ الكنسي في البلاد.

وكانت الملكة في السابعة عشرة من عمرها فقط، وتكاد تكون غريبة عن البورتغال، في حين كان زوجها فردننذ يبلغ العشرين، وهو الآخر أجنبي أصلًا أو جنسًا، وتدريبًا وتعليمًا. فكان طبيعيًّا في هذه الظروف إذن أن تستمع الملكة الشابة والتي لم تصقلها التجارب بعد لنصح حاشية صغيرة أكثر أفرادها من الأجانب، أو أن ترتكب أخطاء معينة أثناء محاولتها المحافظة على سلطة التاج وسط تيارات الحزبية المتضاربة، والمنازعات المستمرة بين زعماء الأحزاب من السياسيين الذين يسعون وراء مصالحهم الذاتية، وهكذا تميزت الحقبة التي تلت حروب الوراثة في البورتغال، بوقوع سلسلة من حركات العصيان والانقلابات الوزارية، والثورات، والثورات المضادة وهكذا؛ من ذلك انقلاب (٩–١١ سبتمبر ١٨٣٦) الذي وضع الديمقراطيين أو السبتمبريين على رأس الحكومة، ثم الانقلاب الذي حدث بعد قليل لإقصائهم عن الحكم دون طائل (نوفمبر)، ثم عصيان أو ثورة الدستوريين بقيادة سالدانها وتيرسيرا في سنة ١٨٣٧ (وقد انتهت هذه الحركة بنفيهما)، ثم تأليف وزارة «معتدلة» في سنة ١٨٣٩، ونجاح الدستوريين في إحراز أكثرية كبيرة داخل الكورتيز في السنة التالية (١٨٤٠)؛ مما نهض دليلًا على أن استعلاء مبادئ السبتمبريين قد انتهى عهده، ولو أن الثورة المضادة لم تحدث إلا في يناير ١٨٤٢، وعندئذٍ صدر قرار في ١٠ فبراير يعيد العمل بدستور ١٨٢٦، وتألَّفت وزارة برئاسة دوق تيرسيرا الاسمية بقيت في دست الأحكام حتى شهر أبريل ١٨٤٦، وكان كوستا كبرال Costa Cabral هو صاحب السلطان الفعلي في هذه الوزارة، والذي حكم حكمًا ديكتاتوريًّا ألب ضده المجويليين والسيمتريين والدستوريين المنشقين، فقامت الثورة في مايو ١٨٤٦، واضطر كوستا كبرال — الذي كان قد نال لقب كونت تومار Thomar — إلى الاستقالة والذهاب إلى المنفى، وطوال العام التالي (١٨٤٧) استمرت الثورات تجتاح البلاد، ولم يكن لدى «سالدانها» الذي ألَّف الوزارة أي أمل في إنقاذ الأسرة المالكة إلا بمعاونة أسطول إنجليزي له في نهر التاجوس، وطلب «سالدانها» تدخل الدول، فزحفت قوات إسبانية وإنجليزية على «أوبرتو» — وكان قد تشكَّل بها مجلس ثوري (جونتا) من العام السابق (١٨٤٦) — وحاصر أسطول إنجليزي نهر دورو، وعندئذٍ سلمت «أوبرتو» الثائرة في ٣٠ يونيو ١٨٤٧.
وأنهى اتفاق عُقد في جراميدو Gramido في ٢٤ يوليو ١٨٤٧، الحرب الأهلية في البورتغال، بعد أن نشرت هذه الحرب البؤس والشقاء في طول البلاد وعرضها، فالصناعة معطلة، والدولة في حالة إفلاس، والحكومة القائمة لا اعتبار لها. لقد شهدت الشهور الأخيرة من سنة ١٨٤٧ هدوءًا في البورتغال، هو هدوء ناجم عن استنفاد القوى.

الموقف في سنة ١٨٤٨

وعندما قامت ثورة فبراير ١٨٤٨ التي أطاحت بملكية أورليان (ملكية يوليو) وأدت إلى إعلان الجمهورية في فرنسا، انتعشت آمال الثوريين في البورتغال، ولم يمنع تحالف المجويليين والسبتمبريين لتكدير السلام، وإثارة الاضطراب في البلاد؛ غير تدخل «سالدانها» السريع الحاسم، ولكن سالدانها لم يلبث أن استقال (١٨ يونيو ١٨٤٨) ليتولى كبرال «كونت تومار» الوزارة، وهو الذي كادت في عهده تشتعل الحرب الأهلية (أو الثورة) من جديد؛ بسبب الصراع الحزبي العنيف بين جماعته والأحزاب المعارضة، ولقد انتهى التوتر بأن رفع «سالدانها» علم الثورة أخيرًا في كنترا Cintra في ٧ أبريل ١٨٥١ لتخليص العرش والدستور (الميثاق) من طغيان حكومة الكونت تومار، واستجابت أوبرتو لنداء الثورة (في ١٧ أبريل)، وحذت حذوها مدن أخرى، واضطر تومار مرة أخرى إلى الفرار إلى إسبانيا (في ٢٩ أبريل). وعُرضت الوزارة على سالدانها في أول مايو، وتطايرت الإشاعات بأن الغرض من عرض رئاسة الحكومة عليه؛ استدراجه للدخول إلى لشبونة متفردًا؛ أي من غير جيشه، ثم اغتياله، ولكن «سالدانها» احتاط للأمر، ودخل بجيشه إلى العاصمة في موكب كبير من النصر (في ١٥ مايو)، وألَّف وزارة «إحياء وتجديد» طلبت معاونة كل أصحاب الآراء المستقلة لتأييدها في تنفيذ البرنامج الذي وضعته لتطهير الأداة التنفيذية (الحكومة) وإدخال الإصلاحات الضرورية «المعتدلة».
ومع أن «سالدانها» لم يفلح في تكوين حزب قومي (وطني) فإنه أسدى خدمة جليلة لوطنه باستصدار القانون الإضافي Acto Addicional (١٨٥٢)، الذي أضاف فقرات كبيرة إلى الدستور (دستور ١٨٢٦) لإعطائه صبغة ديمقراطية. فكان أهم تغيير (أو إصلاح دستوري) حدث؛ إدخال مبدأ الانتخاب المباشر، ثم تضييق السلطات التي كانت حتى هذا الوقت للأداة التنفيذية المركزية (الحكومة) وإنشاء البلديات (أي المجالس البلدية) التمثيلية، وإلغاء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية.

وهكذا بعد صراع عائلي عنيف على العرش اقترن بنضال الأحزاب التي انقسمت إلى جماعات تؤيِّد المتنازعين على الحكم من أفراد أسرة براجانزا، ويريد فريق منهم إنشاء الحكومة الرجعية المستندة على مبدأ الملكية المطلقة، والإكليريكية؛ أي التي تعتمد على معاونة الكنسيين، وذلك إلى جانب الطبقات الأرستقراطية الإقطاعية، في حين يريد الفريق الآخر إعلان الدستور وتقييد السلطة التنفيذية في نظام برلماني يحل محل مجلس الكورتيز (أو مجلس الطبقات) القديم، استطاعت البورتغال أن تظفر بدستور في سنة ١٨٢٢ لم يلبث أن استبدل به آخر في سنة ١٨٢٦، كان أضيق من السابق ثم أُدخلت تعديلات (أو إضافات) عليه في ١٨٥٢، أعطته صبغة ديمقراطية ظاهرة، ولو أنها في رأي كثيرين كانت محدودة؛ حيث لم يتمتع بحق الانتخاب المباشر بمقتضى «القانون الإضافي» الجديد سوى نصف مليون فقط.

أما الملكة ماريادا جلوريا فقد تُوفيت في ١٣ نوفمبر ١٨٥٣، ليخلفها ولدها بدرو الخامس الذي بقي تحت الوصاية حتى بلغ الرشد في سبتمبر ١٨٥٥، وشهد عهده هدوءًا نسبيًّا في البلاد لرضاء الأحزاب عمومًا عن «الإضافات» الدستورية الجديدة منذ ١٨٥٢، وخلفه منذ ديسمبر ١٨٦١ أخوه دون لويس Luiz باسم لويس الأول، وفي عهده أضحت الملكية محبوبة من الشعب البورتغالي أكثر من أي عهد مضى، وكان لزواجه من أميرة إيطالية هي ماريا بيا Maria Pia ابنة الملك فيكتور عمانويل الثاني (ملك إيطاليا) في أكتوبر ١٨٦٢ أبلغ الأثر في شعبه؛ حيث رضي الأحرار عن هذا الزواج وهم الذين رحبوا بماريا بيا بوصفها ابنة الملك الإيطالي (الحر)، وحيث رحب بها المحافظون باعتبار أنها ابنة بالمعمودية للبابا بيوس الحادي عشر، ولقد استمر عهد الملك لويس الأول حتى سنة ١٨٨٩.
١  Gomez Freire de Andrada.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤