الفصل التاسع

جعة، وبطاطس مقلية، وعولمة

يحكى أنه كان هناك مدينة تجارية مزدهرة تسمى بروج Bruges تقع في حضن مصب نهر زوين Zwin في البلد المعروف الآن باسم بلجيكا. نشأت مدينة بروج حول قلعة بناها مؤسس دوقية فلاندرز في أواخر القرن التاسع الميلادي. وبعد قرن صارت بروج عاصمة هذا الإقليم. وشرع نمو ثروتها في التعاظم مع انتشار التجارة في أوروبا الشمالية. وكانت بروج مركزًا لصناعة القماش، وكانت السفن تبحر إلى مصب نهر زوين لشراء المنسوجات، جالبة معها البضائع الإنجليزية من جبن، وصوف، ومعادن، وكذلك النبيذ الإسباني، والفراء الروسي، واللحم الدانمركي، والحرير والتوابل من الشرق التي كانت كلها تباع في المدينتين الإيطاليتين الكبيرتين البندقية وجنوا. وقد زارت ملكة فرنسا مدينة بروج بنفسها عام ١٣٠١ وقد سُجل عنها قولها «كنت أظن أني وحدي الملكة، ولكني رأيت ستمائة مُنافِسة هنا.»
وطفقت الثروات تفيض تتدفق إلي مدينة بروج طيلة ٢٥٠ عامًا على الرغم من غزوها بواسطة الفرنسيين وحكام منطقة بورغاندي. وبغض النظر عمن كان يحكمها، فقد واصلت الازدهار؛ أمست مركزًا للرابطة الهانزية للمدن التجارية، وانتعشت الفنون بها، ونمت بها صناعات جديدة مثل صناعة قطع الماس القادم من الهند، وبلغ عدد سكانها ضعف عدد سكان لندن آنذاك. وكان التجار يأتون بأجود أنواع البضائع من كل حدب وصوب ليبيعوها في فندق تملكه عائلة فان دير بورس Van der Beurs التجارية — لذا قد يحاول البعض إقناعك بأن هذا هو السبب في أن سوق الأسهم، حتى اليوم، ما يزال يطلق عليها اسم «البورصة». وكان مصب نهر زوين يزدان بالصواري الطويلة والأشرعة العريضة للسفن.

ثم بدأ شيء غريب يحدث في القرن الخامس عشر، أخذ الطمي يغمر نهر زوين، ولم يعد باستطاعة السفن الكبيرة الوصول إلى المراسي في بروج. وانتقلت الرابطة الهانزية إلى مدينة أنتويرب شمال الساحل، وسرعان ما انغمست بروج في حالة من الركود، وبعد أن افتقدت الحيوية، على هذا النحو أُطلق عليها اسم «بروج الميتة». وأضحت اليوم قطعة مُتحفية جذابة. ولكونها محفوظة بكامل معالمها القديمة، تجدها تعج بالنشاط فقط بسبب السائحين المتلهفين على زيارة كبسولة زمنية ألا وهي مدينة تجارية من مدن القرن الخامس عشر جميلة ومزدهرة جفّتْ ثروتها ونماؤها مع جفاف النهر.

في غضون ذلك، صارت أنتويرب — في ظل اتصالها بالعالم عبر نهر شيلدت Scheldt — أعظم قوة اقتصادية في أوروبا الغربية بدلًا من بروج. وتبدو ثروة تلك الحقبة من الزمن جلية اليوم إذ ما زالت كاتدرائية أنتويرب العريقة قائمة بضخامتها وروعتها حتى ليستحيل على المرء تجاهلها. وأكثر ما يدهش زائر المدينة لأول مرة هو مشهد مباني مجالس النقابات والشركات الواقعة في ميدان جروت ماركت The Grote Markt، التي ترتفع عن الأرض بخمسة وستة وسبعة طوابق، وتبدو تلك البنايات أكثر علوًّا بسبب التصميم المعماري لأبراجها الطويلة، ونوافذها الطويلة الضيقة. ومع أن ظهور وسائل النقل الجوية، والسكك الحديدية، والسيارات حد من أهمية موقعها الجغرافي المتميز، بقيت أنتويرب مركز قوة اقتصادية. ولم يتخل عنها لقب العاصمة الماسية للعالم، ولا يزال ميناء شيلدت الهائل يعمل دون توقف ليلًا ونهارًا.

ثمة درس صغير مستفاد نخرج به من القصتين المتناقضتين لمدينتي بروج وأنتويرب ألا وهو أنك إذا أردت أن تصبح غنيًّا، فمن الأفضل أن تبني روابط وثيقة بينك وبين العالم. أما إذا فضلت عدم التغيير، فمن الأفضل أن يكون لديك مرفأ مغطى بالطمي. وإذا أردت أن تصبح غنيًّا مع عدم التغيير، فسوف يخيب أملك.

هناك القليل من الأمور التي أستمتع بها أكثر من مكوثي في أنتويرب ألتهم البطاطس المقلية الساخنة، التي أخمد حرارتها بالمايونيز، وأبرد فمي بالجعة الفوارة المُسكِرة. بالتأكيد كوني رجل اقتصاد يجعلني أميل إلى تأمل نظم التجارة في العالم من حولي مثلما أفعل دائمًا. فمثلًا، البطاطس المقلية من مطعم فريتور نمبر وان Frituur No 1 لا تضاهيها البطاطس من أي مطعم آخر في العالم. أما قدح جعة دوفيل Duvel الذي تشربه وأنت تأكل البطاطس فيمكن الحصول عليه دون عناء في واشنطن العاصمة. صحيح أن ثمنه في واشنطن يمكن أن يكون ضعف ثمنه في أنتويرب ولكن مذاقه الرائع وقوته تستحق. لذلك، فعندما أكون في أنتويرب جالسًا أتمتع بإطلالة على ميدان جروت ماركت، وأحتسي جعة دوفيل يداهمني شعور ببعض الأسف لأن تلك النشوة قد رخصت قيمتها عن طريق إتاحتها في متناول اليد في مدينتي. أما عندما أكون في واشنطن العاصمة، فلا يسعني إلا شكر التجار المثابرين الذين يحضرون أنواع الجعة الفريدة من ماركات دوفيل، وتشيماي Chimay، وماريدسوس ١٠ Maredsous 10 إلى باب منزلي، وأتطلع إلى اليوم الذي يستوردون فيه ماركة ويستمالي تريبل Westmalle Tripple أيضًا.

إن أكثر الأمثلة وضوحًا على الارتباط المتزايد للاقتصاد العالمي أن تجد المنتجات الأجنبية متاحة في شكل مألوف لك، الأمر الذي يعد نعمة ونقمة في الوقت ذاته: فهو نعمة لأنه بات من الممكن أن ينعم المرء بمجموعة أكبر من متع الحياة دون الاغتراب بعيدًا عن المكان الذي نشأ فيه. ونقمة لأنك عندما تسافر إلى بلد أجنبية تجد الأماكن التي من المفروض أن تراها لأول مرة مألوفة جدًّا بالنسبة لك، فمن ماكدونالدز في موسكو إلى ستاربكس في شنغهاي، ألا نصير بذلك متشابهين؟ لقد أضحى العالم بأسره كتلة واحدة متنامية من العولمة. فالتجارة مع الأراضي الأجنبية التي كانت في يوم من الأيام حِكرًا على مدن مثل فلورنسا، والبندقية، وبروج؛ أمست الآن لا تخلو منها بقعة على سطح الأرض.

إذا كنت تنفق الكثير من الوقت في مطارات العالم، وعواصم بلاده، وسلاسل فنادقه فستفهم ما أعنيه على الفور. ومع ذلك فنحن نعيش في عالم فسيح ومتنوع. قد تتسنى لك فرصة زيارة مقهى ستاربكس في شنغهاي، ولكن المقهى ليس هو كل ما في شنغهاي، وشنغهاي ليست كل ما في الصين. فالعالم لديه طريق طويل ليسلكه قبل أن تتم «عولمته» بحق، إذا كانت هذه الكلمة تعني أن «تصير كل الأماكن واحدة». ولا شك أن العالم يمضي في هذا الطريق الآن. أذكر أنني عندما قرأت كتابًا لعالم الأحياء إدوارد ويلسون Edward O. Wilson اكتشفت أنه بعد توالي بضع عشرات من الأجيال سيصير كل البشر «متشابهين»، بمعنى أن نفس الخليط العرقي ستجده هو نفسه في لندن، أو في شنغهاي، أو في موسكو، أو في لاجوس Lagos. وعلى اختلاف أجناسهم سيغدو التنوع البشري في المكان الواحد غير مسبوق من قبل، وبسبب تسارع هذه العملية من المزج العرقي «أصبح لدينا الآن الكثير والكثير من اندماجات الصفات البشرية، من لون البشرة، وملامح الوجه، والمواهب، والسمات الأخرى التي يسببها الاختلاط الجيني بشكل غير مسبوق.» أنا شخصيًّا وجدت كلًّا من هذين التوقعين مثيرين، في حين يجدهما آخرون باعثين على القلق.

وينطبق الأمر ذاته على الثقافات، والتكنولوجيا، والأنظمة الاقتصادية، وكل ما تزخر به أسواق العالم من منتجات. فمن ناحية، سوف تستمر في أن يأخذ بعضها شكل بعض في شتى بقاع الأرض؛ ومن ناحية أخرى، سيكشف المكان الواحد عن تنوع رهيب واختلاط جديد مثير سيشهد عليه كل من سيستمتع بالطعام الإثيوبي في واشنطن العاصمة، أو بوجبة الساشيمي اليابانية في أنتويرب، أو بالكاري البنجلاديشي في لندن. وستستغرق عملية الدمج الاقتصادي والثقافي الوقت الطويل، تمامًا مثل عملية التداخل العرقي. وبالإضافة إلى ذلك فسوف يظهر بشكل مستمر أفكار وتقنيات جديدة. فالعولمة لن تتسبب يومًا في أن نصير كلنا متشابهين، بسبب ظهور الأفكار الجديدة، التي تضيف المكونات الطازجة لخليط الدمج الاقتصادي الذي يحتاج الوقت لكي ينضج. فالذين يخشون حدوث توّحد عالمي بغيض لا بد أن يتذكروا أن الأفكار الجديدة، سواء كانت مقبولة أو غير مقبولة، ستظل في ظهور مستمر أسرع مما يمكن لهذا الخليط أن يتشربها.

ربما أكون قد خرجت بحديثي عن الثقافة والأجناس عن حدود اختصاصي، لذلك يجدر بي العودة مرة أخرى إلى علم الاقتصاد حيث توجد «ميزتي المقارنة».

والميزة المقارنة أساس الطريقة التي يفكر بها علماء الاقتصاد في التجارة. دعني أضرب لك المثال الآتي: من يكتب أفضل في الاقتصاد؟ أنا، أم إدوارد ويلسون؟ يعد البروفيسور ويلسون «أحد عظماء مفكري القرن العشرين»، و«واحدًا من أعظم علماء العالم الحاليين» مثلما كُتب على غلاف كتابه «كونسيلينس» Consilience الذي كتب أحد فصوله عن علم الاجتماع بعد التقائه بعدد من أعظم علماء الاقتصاد؛ وكانت النتيجة شرحًا مذهلًا كشف لي العديد مما لم أكن أعرف عن علم الاقتصاد. والحقيقة أن إدوارد ويلسون رجل اقتصاد أفضل مني.

لذا فأنا أعرف متى تتم هزيمتي. فلماذا أكتب كتابًا عن الاقتصاد في حين أن البروفيسور ويلسون يمكنه أن يكتب كتابًا أفضل؟ الإجابة هي بسبب الميزة المقارنة التي لولاها لألف البروفيسور ويلسون كتبًا في الاقتصاد، وأنا على تمام اليقين أنه لن يفعلها.

وندين بفكرة الميزة المقارنة لديفيد ريكاردو، نجم الفصل الأول. فإذا لجأت أنا والبروفيسور ويلسون إليه كوكيل لأعمالنا، سينصح كلًّا منا بالآتي: «إذا ألفت كتبًا في الأحياء يا تيم، ربما لن يباع منها إلا نسخة واحدة سنويًّا، وهي النسخة التي ستشتريها زوجتك. ولكن كتابتك في علم الاقتصاد مقبولة، وأتوقع أن تبيع منها خمسة وعشرين ألف كتاب كل عام إذا استمررت في الكتابة. أما أنت يا بروفيسور ويلسون، فإن كتبك الاقتصادية ربما تحقق مبيعات تبلغ خمسمائة ألف نسخة كل عام إذا استمررت في الكتابة: ولكن لماذا لا تصب كل اهتمامك على إصدار الكتب في علم الأحياء وتبيع عشرة ملايين؟»

صحيح أن إدوارد ويلسون يكتب أفضل مني عشرين مرة في علم الاقتصاد، ولكن كما نصحه ديفيد ريكاردو، فهو مركز جهده على الكتابة في علم الأحياء، وهو المجال الذي يمتاز فيه عني عشرة ملايين مرة. فنصيحة ريكاردو لكلينا لم تخرج عن الحس السليم: إذ إن ويلسون يستوجب عليه اختيار طريقه المهني ليس استنادًا على ما يجيده أكثر مني، وإنما استنادًا على ما يجيده على الإطلاق. في الوقت ذاته، سأتجه أنا إلى كسب عيشي من الكتابة في علم الاقتصاد، ليس لأني أفضل من يكتب في هذا المجال، ولكن لأن الكتابة في الاقتصاد أكثر ما أجيده على الإطلاق.

وقد تثير نصيحة ريكاردو الجدل متى تعلقت بالتجارة مع الصين، وتجد أنصار مذهب حماية الإنتاج الوطني يهتفون «الأجور في الصين أقل من أجورنا بكثير»، ويقولون: «إنهم قادرون على صناعة أجهزة التلفاز، ولعب الأطفال، والملابس، وكل الأغراض الأخرى بتكلفة أقل بكثير مما يكلفنا نحن. لهذا، يتحتم علينا حماية مصانعنا المحلية بفرض ضريبة على المنتجات الصينية، أو حتى بمنعها بالكامل.» وهذا ما نفعله، فالولايات المتحدة تدافع عن مصالح شركاتها الأمريكية (وليس الشعب الأمريكي) عن طريق سد الباب في وجه الواردات الصينية بقوانين «مكافحة الإغراق». والإغراق، وفقًا لهذه القوانين، يعني بيع المنتجات بأثمان زهيدة. ولكن الحقيقة أن هذا ليس إغراقًا، وإنما منافسة. فمن المستفيد عندما يتم منع الأثاث الصيني مثلًا من دخول البلاد لأن سعره رخيص بطريقة «غير عادلة»؟ ربما مصنعو الأثاث الأمريكي أنفسهم، وليس بالتأكيد الأمريكي العادي الذي يبغي شراء الأثاث. في غضون ذلك، لا يقدر العديد من الأوروبيين على تحمل تكلفة أجهزة التلفاز حديثة الطراز الكبيرة عالية النقاء بسبب محاولة الاتحاد الأوروبي اليائسة لمنع وصولها من الصين. أما الصلب، الذي يتجاوز إنتاج الصين منه الآن إنتاج الولايات المتحدة واليابان معًا، فقد خضع مؤخرًا لتعريفات جمركية غير شرعية فرضتها الولايات المتحدة، وأما الزراعة فهي تخضع لمزيد من الحماية.

أليس هذا ضروريًّا لصد ما يمكن أن يتحول إلى طوفان من السلع الأجنبية الرخيصة التي ستغرق تحتها صناعتنا المحلية؟ كلا ليس ضروريًّا. فالولايات المتحدة عليها أن تنتج السلع والخدمات بغضّ النظر عمّا إذا كانت منتجاتها أرخص من المنتجات الصينية أم لا، وإنما بالتركيز على أكثر الصناعات التي تجيدها على الإطلاق.

كان ريكاردو يرى أن القيود التجارية — سواء كانت في صورة دعم للمزارعين الأمريكيين، أو سن القوانين المُنظِّمة لصناعة المنسوجات، أو فرض ضريبة على أجهزة التلفاز — تعود بالخسارة على الصين والولايات المتحدة معًا. إذ لا يهم إذا ما كان الصينيون أفضل منا بكثير — نحن الأمريكيين — في صناعة كل أنواع البضائع، إذ يجب عليهم التمسك بإنتاج أي منتج يكون اقتصادهم فعالًا في إنتاجه. وفي الوقت ذاته، بينما نبدو (ظاهريًّا) أننا الأسوأ في صناعة كل شيء، علينا أن نتمسك بإنتاج أدنى السلع سوءًا التي ننتجها. وهي نفس الفكرة التي طرحتها روح ديفيد ريكاردو عليَّ وعلى البروفيسور ويلسون: فقد أكون أسوأ منه في ناحية ما، ولكن عليّ أن أتابع سيري في إنتاج كتب الاقتصاد في حين يتابع ويلسون سيره في إنتاج كتب علم الأحياء. ومع ذلك، فإن القيود التجارية التي تطبقها الدول لا تخرج عن كونها قيودًا لهذا النسق البديهي.

قد يساعد المثال التالي على إقناع من لم يقتنع بعد: دعنا نفرض أن العامل الأمريكي بإمكانه إنتاج مثقاب في نصف ساعة، أو تلفاز ذي شاشة مسطحة في ساعة بينما بإمكان العامل الصيني إنتاج المثقاب في عشرين دقيقة، والتلفاز في عشر دقائق. يبدو جليًّا أن إنتاج العامل الصيني يعادل إنتاج ويلسون. (الأرقام في هذا المثال ليست خيالية فقط، بل بعيدة تمامًا عن الواقع. فمن المحزن للصينيين أن العمال في الدول النامية أقل إنتاجية بكثير من العمال في الدول المتقدمة، إذ تبقى لديهم القدرة على المنافسة فقط لأن أجورهم أقل بكثير؛ والواقع أن العلاقة بين الأجور المنخفضة والإنتاجية المنخفضة علاقة اطراد وثيقة).

وإذا لم يتم التبادل التجاري بين الصين وأمريكا، فسيستغرق الأمر تسعين دقيقة في الولايات المتحدة لإنتاج التلفاز ذي الشاشة المسطحة والمثقاب لتثبيته في الحائط. وسيستغرق الأمر في الصين نصف ساعة لإنتاج كليهما. فإذا نجح أنصار مذهب الحمائية أو مذهب حماية الإنتاج الوطني، فسيبقى هذا الحال على ما هو عليه.

إذا لم يكن هناك قيود تجارية، فكلا البلدين سيتمكنان من التبادل التجاري فيما بينهما، الأمر الذي سيعود عليهما بالنفع. فالعامل الصيني يصنع تلفازين في عشرين دقيقة، والعامل الأمريكي يصنع مثقابين في ساعة. فإذا تبادلا تجاريًّا المثاقيب مقابل أجهزة التلفاز، فسيغدو النفع العائد على كل منهما أكبر من ذاك الذي يعود عليهما في الوضع السابق بعدما وفر كل منهما ثلث وقته. والطبيعي أنه بعد أن أصبح العامل الصيني أكثر كفاءة فسيكون بوسعه إما العمل عدد ساعات أقل أو يربح المزيد من المال. ليس معنى هذا أن العامل الأمريكي يتكبد الخسارة بسبب التجارة، وإنما العكس هو الصحيح.

صحيح أن العامل الصيني لو أُسند إليه العمل لساعات إضافية، فسوف ينجز نفس العمل الذي أنجزه العامل الأمريكي طوال الأسبوع. ولكن لماذا عليه أن يمارس عمله بهذا السخاء المفرط؟ فالصينيون لا يصدرون أجهزة التلفاز للولايات المتحدة من فرط طيبة قلوبهم؛ بل إنهم يفعلون ذلك لأن الأمريكيين يرسلون إليهم سلعًا أخرى في المقابل (المثاقيب الافتراضية في المثال السابق) حتى إذا كان الصينيون أفضل منهم في تصنيع هذه السلعة أيضًا.

وبعكس الاعتقاد الشائع، لن تتسبب التجارة الخارجية يومًا في فقداننا لوظائفنا، أو تجعلنا نستورد كل شيء من الخارج، ولا نقوم بتصدير شيء قط. فلو كان هذا صحيحًا، لما كنا نمتلك ما نشتري به وارداتنا في المقام الأول. ولكي توجد التجارة الخارجية في المقام الأول، كان لزامًا على الناس في الولايات المتحدة أن يصنعوا شيئًا ما يبيعونه للعالم الخارجي.

لا يجب أن يظل الكثيرون غافلين عن تلك الحقيقة، إلا أنهم كذلك بطريقة أو بأخرى. فكرْ مثلًا في العمال الأمريكيين في مدينة بيتسبرج Pittsburgh على سبيل المثال الذين ينتجون تلك المثاقيب والذين يتلقون أجورهم بالدولار الأمريكي، ويتم دفع إيجار المصنع بالدولار، وكذلك تكاليف التدفئة، والإضاءة، وفواتير التليفون، كلها تتطلب السداد بالدولار. ولكن يتم تصدير المثاقيب إلى الصين وتباع هناك محليًّا، أو تستخدم في تصنيع سلع تباع بالعملة الصينية الرنمينبي. لذا، فإن تكلفة الإنتاج تأتي بالدولار الأمريكي، بينما تأتي الإيرادات بالرنمينبي. صحيح سيتم «تحويل» الرنمينبي في مكان ما إلى الدولار الأمريكي لدفع أجور ورواتب العمال في بيتسبرج، ولكن بالطبع ليس ثمة عملية سحرية تقوم بتحويل الدولارات إلى رنمينبي. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله المستورد في الولايات المتحدة هو دفع الدولارات مقابل الرنمينبي، فالصادرات تعوض الواردات.

ومما يبعث على الدهشة لدى بعض الناس أن علم الاقتصاد يعني بدراسة العلاقات المتشابكة للأشياء: فالسلع والأموال لا تظهر وتختفي فجأة، إذ لن يقبل أحد خارج الولايات المتحدة الدولارات كأساس للتعاملات النقدية لو لم تكن الولايات المتحدة تصدر السلع التي يمكن شراؤها بالدولار.

والحقيقة أن في عالمنا الأكثر تعقيدًا، لا يتم تبادل الدولارات بالرنمينبي، أو تبادل المثاقيب بأجهزة التلفاز بطريقة مباشرة، وإنما تقوم الولايات المتحدة بتصدير المثاقيب للسعوديين الذين يبيعون النفط لليابانيين، الذين يبيعون الروبوتات للصينيين، الذين يبيعون أجهزة التلفاز لنا نحن الأمريكيين. ربما نقترض الأموال مؤقتًا — والولايات المتحدة تفعل ذلك الآن — أو ننشئ أصولًا مثل مصانع إنتاج المثاقيب، ونبيع تلك المصانع بدلًا من بيع المثاقيب نفسها. ومع ذلك فإن التدفق غير المباشر للعملات ستتساوى قيمته تمامًا في النهاية. فالولايات المتحدة يمكنها تحمل تكلفة الواردات فقط إذا قامت في النهاية بإنتاج الصادرات كمقابل لما تحصل عليه من واردات. وينطبق الأمر نفسه على سائر الدول.

مثال متطرف آخر قد يوضح لك الأمور أكثر: فكرْ في دولة تميل حكومتها إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، ولا ينفك وزيرها للتجارة والصناعة يردد: «نريد أن نشجع الاقتصاد المحلي.» وتتشبث حكومتها بمنع الواردات من دخول البلاد، وتعين الحراس لتمنع تهريب أي بضائع إلى داخل البلاد. أحد تأثيرات هذه السياسة هي بذل الكثير من الجهد كي تنتج محليًّا ما يمكن استيراده من الخارج. بالتأكيد سيشجع هذا الاقتصاد المحلي، ولكن من تأثيراته أيضًا أن سرعان ما ستخمد كل صناعات التصدير في هذه الدولة وتموت نهائيًّا. لماذا؟ لأنه لن يتبقى من يرغب في بذل الوقت والمال في صناعات التصدير من أجل الحصول على عملة أجنبية، إذا كان من غير المسموح لأحد إنفاق العملة الأجنبية على الواردات. صحيح أن جزءًا من الاقتصاد المحلي قد جرى تشجيعه، ولكن جزءًا آخر شُلت حركته. فسياسة «لا واردات» تعني أيضًا سياسة «لا صادرات». ثمة نظرية تمثل موضعًا من أهم مواضع نظرية التجارة التي صيغت عام ١٩٣٦ تسمى نظرية ليرنر Lerner theorem، التي سميت على اسم عالم الاقتصاد أبا لرنر Abba Lerner، والتي تفيد أن الضريبة على الواردات تعادل تمامًا في مقابلها ضريبة على الصادرات.

تخبرنا نظرية ليرنر أن تضييق الخناق على استيراد أجهزة التلفاز من الصين لحماية العمالة الأمريكية العاملة في تصنيع أجهزة التلفاز؛ يوازي تضييق الخناق على تصدير المثاقيب الأمريكية لحماية العمالة الأمريكية العاملة في تصنيع أجهزة التلفاز. وفي الحقيقة فإن صناعة أجهزة التلفاز الأمريكية لا تنافس بحق صناعة أجهزة التلفاز الصينية على الإطلاق؛ إنما هي منافسة ضد صناعة المثاقيب الأمريكية نفسها. فإذا أثبتت صناعة المثاقيب أنها أكثر فعالية، فلن تجد صناعة أجهزة التلفاز من سبيل للنجاة، تمامًا مثلما لم تجد حياة ويلسون المهنية الواعدة للكتابة في مجال الاقتصاد متنفسًا أمام مهاراته الأكثر تفوقًا في مجال علم الأحياء.

وهذا من دون شك يجعلنا نبصر القيود التجارية من زاوية جديدة. ومع ذلك لا يثبت هذا أن القيود التجارية تسبب أي ضرر: ففي النهاية، أليس من الجائز أن ترجح كفة المنافع التي تسببها القيود التجارية لصناعة أجهزة التلفاز الأمريكية عن كفة الضرر الذي سيحل بصناعة المثاقيب؟ تجيبنا نظرية الميزة المقارنة لديفيد ريكاردو بالنفي. فكما نعرف، يمكن لكل من العمال الصينيين والأمريكيين في ظل التجارة الحرة أن يعملوا لعدد ساعات أقل مما كانوا سيعملونه في ظل تجارة مكبلة بالقيود، لأنهم باتوا ينتجون نفس الكمية في وقت أقل.

ويجيبنا الإدراك السليم القائم على التجربة العملية بالنفي أيضًا، قارن مثلًا بين اقتصاد دولتي كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، أو النمسا والمجر. ولكي يكون بين يديك دليل على مدى أفضلية الاقتصاد الليبرالي المفتوح المتحرر عن الآخر المنغلق، لاحظ أنه في عام ١٩٩٠ بعد انهيار سور برلين أضحى المواطن النمساوي العادي أكثر ثراءً ما بين مرتين إلى ست مرات أكثر من المواطن المجري العادي (اعتمادًا على كيفية قياس الثراء). وتجد المواطن العادي في كوريا الجنوبية مُترفًا مُنعمًا في حين تجد نظيره في كوريا الشمالية يتضور من الجوع. فقد بلغت كوريا الشمالية من الانغلاق ما جعل من الصعب وضع صورة تقريبية لمدى ما تعانيه من فقر.

سيطغى ضرر القيود التجارية دائمًا على منافعها، ليس فقط بالنسبة للدول التي وُضعت القيود لمنع الاستيراد منها، ولكن بالنسبة لتلك التي وضعت القيود نفسها، ومهما اختارت دول أخرى أن تفرض على نفسها قيودًا تجارية، فإن حالنا سيكون أفضل بدونها. أذكر أن عالم الاقتصاد الكبير جوان روبنسون Joan Robinson سخر ذات مرة من أن قذف بعض الدول موانئها بالحجارة ليس سببًا يحرضنا نحن أيضًا على قذف موانئنا بالحجارة. وهي الحقيقة التي أبصرها مواطنو بروج منذ قرون عندما جف نهر زوين وتغطى بالطمي.

ولا يعني أي من هذا أن التجارة الحرة مفيدة للكل. فمنافسة البضائع الأجنبية الرخيصة أو الأفضل جودة لا تقدر على طرد كل صناعاتنا المحلية خارج السوق، وإلا لن يمكننا تحمل تكلفة شراء المنتجات الأجنبية في المقام الأول. ولكنها ستخل بتوازن اقتصاد بلادنا. فإذا عدنا إلى مثال المثاقيب وأجهزة التلفاز، فمع أن الصينيين خير من الأمريكيين في صناعة هاتين السلعتين؛ نجد أننا نحن الأمريكيين لم نبرح ننتج المثاقيب من أجل تجارتنا الخارجية مع الصين، بل إننا أصبحنا ننتجها بضعف ما كنا ننتجه أكثر من أي وقت مضى. أما صناعتنا لأجهزة التلفاز، فلم يعد لها وجود. فما يُعد خيرًا لصناعة المثاقيب، يُعد شرًّا بالنسبة لصناعة أجهزة التلفاز، التي ستفقد عِمالتها وظائفها وسيتوجب عليهم محاولة اكتساب المهارات الجديدة وإعادة توظيفهم في قطاع صناعة المثاقيب وبالطبع الكلام أسهل من الفعل في مثل هذه الظروف. إذ صحيح أنه سيعود النفع على الولايات المتحدة بشكل مُجمل، ولكن سيفقد بعض الأمريكيين وظائفهم في سبيل تحقيق ذلك، وسيلعن الخاسرون التجارة الحرة وسيطالبون بفرض القيود على استيراد أجهزة التلفاز الصينية، الأمر الذي أدركنا للتو أنه يعد مساويًّا للمطالبة بفرض القيود على المثاقيب المصدرة.

حتى إن أكثر المؤرخين تساهلًا سيذكره هذا بالحركة اللاضية Luddite في بريطانيا التي اندلعت عام ١٨١١ في منطقة ميدلاندز بإنجلترا، والتي كانت ردًّا يائسًا من جانب عمال صناعة النسيج الماهرين على منافسة التكنولوجيا الحديثة لهم: ألا وهي ماكينات النسج والقص. إذ شنت جموع اللاضيين المنظمة حركتها آخذة في تخريب المصانع والماكينات، والاحتجاج ضد الأنظمة الاقتصادية الجديدة. وبعكس النموذج النمطي لأعداء روح الابتكار المتشبثين بالماضي، كان اللاضيون يقومون بما يقومون به كرد فعل تجاه خطر حقيقي يهدد أرزاقهم.

هل ألحقت الطفرات التكنولوجية الأذى بالبعض؟ نعم، من دون شك. هل أسبغت الفقر على بريطانيا بأكملها؟ سؤال ليس له محل من الإعراب. وبدون الحط من قدر المعاناة الهائلة التي تعرض لها من فقدوا أعمالهم خلال مسيرة التقدم التكنولوجي فمن الواضح أن هذا التقدم قد جعل حالنا أفضل كثيرًا.

ويمكن التفكير في التجارة على أنها شكل آخر من التكنولوجيا. أذكر مثلًا أن رجل الاقتصاد ديفيد فريدمان David Friedman انتبه ذات مرة إلى حقيقة أن ثمة طريقتين أمام الولايات المتحدة لإنتاج السيارات: إما أن تصنعها في ديترويت Detroit، أو أن تزرعها في ولاية أيوا. أما زراعتها في أيوا، فسوف تتطلب تفعيل نوع خاص من التكنولوجيا الذي يحول القمح إلى سيارات تويوتا: فقط اشحن القمح بمنتهى البساطة على ظهر السفن التي ستتجه إلى مكان ما في المحيط الهادئ لتعود السفن بعد فترة من الزمن وعلى متنها سيارات تويوتا. أما التكنولوجيا المستخدمة لتحويل القمح إلى سيارات تويوتا في المحيط الهادئ، فاسمها «اليابان»، ولكن هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون أيضًا مصنعًا عضويًّا مستقبليًّا يطفو على ساحل هاواي. في كلتا الحالتين سيواجه مصنعو السيارات في ديترويت منافسة مباشرة مع المزارعين في ولاية أيوا. سيساعد فرض القيود التجارية على استيراد السيارات اليابانية عمال السيارات في ديترويت ويلحق الضرر بالمزارعين في أيوا، وهذه هي النسخة الحديثة من الحركة اللاضية.

وفي مجتمع متمدن تقدمي، لا يكمن الحل في حظر استخدام التكنولوجيا الحديثة، أو في كبح جماح التجارة، ولا يكمن كذلك في تجاهل النكبة التي حلت على من شردتهم التكنولوجيا والتجارة من عملهم، ولا في أي شيء من هذا القبيل، وإنما يكمن في السماح للتقدم بالاستمرار وفي الوقت نفسه منح المتضررين بسببه الدعم وتعليمهم مهارات جديدة تؤهلهم لاكتساب وظائف جديدة.

ربما يبدو في الأمر غلظة وقسوة. ففي نهاية الأمر، حتى لو تعلق الأمر شخص واحد يرغب في وظيفة ولا يجدها فسوف يعاني مأساة شخصية. ومع ذلك تجد أن جماعات المصالح التي تعارض التجارة الحرة من أجل تحقيق أغراضهم الخاصة تعظم كثيرًا من تأثيرات التجارة. ففي الفترة ما بين عامي ١٩٩٣ و٢٠٠٢، فقدت حوالي ٣١٠ ملايين وظيفة في الولايات المتحدة وظائفهم، في حين خرجت إلى النور خلال نفس الفترة أكثر من ٣٢٧ مليون وظيفة. وكان مقدار الزيادة في عدد العاملين عام ٢٠٠٢ حوالي ١٨ مليون مقارنة بعام ١٩٩٣. وفي اﻟ ٣١٠ مليون مرة التي فقد فيها شخص وظيفته، نجد أن هذا الشخص يستحق منا التعاطف والمساعدة بغض النظر عمّا إذا كان للمنافسة الأجنبية يد في تشريده من العمل أم لا. وسواء كانت التجارة هي المتهم أم لا، لا ينفك الاقتصاد السليم عن فقدان الوظائف طوال الوقت، وخلق غيرها باستمرار أيضًا.

(١) هل العولمة مفيدة؟

فقولك إن التجارة تجعل دولًا مثل الولايات المتحدة أكثر ثراءً شيء، وقولك إن العولمة مفيدة شيء آخر. لن تتسع هذه الصفحات للتطرق إلى كل ما قيل عن العولمة، ولكن هذا الفصل القصير قد يتسع لمعالجة اتهامين شائعين متعلقين بالعولمة: أولهما: أن العولمة أمر سيئ لكوكبنا، والثاني: أنها أمر سيئ لفقراء العالم.

نحتاج أولًا أن نكون إلى حد ما أكثر وضوحًا فيما يتعلق بمعنى كلمة العولمة دون الخوض في تفاصيل فنية كثيرة. حتى إذا نحينا جانبًا الظواهر غير الاقتصادية مثل انتشار المواد التلفزيونية الأمريكية، والطهي الهندي، والفنون القتالية اليابانية؛ نجد الساحة متسعة أمام دمج الدول اقتصاديًّا، فضلًا عن دمجها تجاريًّا. يمكنني أن أسرد لك على الأقل قائمة بخمس اتجاهات مميزة في ذلك الصدد، ألا وهي: تجارة السلع والخدمات، وهجرة الناس، وتبادل المعرفة التقنية، و«الاستثمار الأجنبي المباشر» والمقصود به بناء أو شراء المصانع والشركات في الخارج، والاستثمار عبر الحدود في الأصول المالية كالأسهم والسندات.

تخلط العديد من المناقشات الدائرة حول العولمة كل تلك الاتجاهات بعضها ببعض. وفي مخاطرة يمكن أن أتهم من خلالها بالإفراط في التبسيط، دعنا ننحي ثلاثة منها جانبًا، ألا وهي: الهجرة، وتبادل التقنيات، والاستثمارات عبر الحدود في الأصول المالية. وذلك ليس لأنها غير ذات أهمية، ولكن لأنها ليست النقاط التي يفكر فيها الناس عندما يتحدثون عن العولمة. فالهجرة مثلًا تثير الجدل لأسباب أخرى قد ترجع إلى مرض رهاب الغرباء أو محاباة النفس دون الغير. ومن ناحية أخرى، يعترض قليلون على انتشار المعرفة التقنية والعلمية السلمية. أما الاستثمارات عبر الحدود في الأصول المالية، فتعد مادة للمناقشات الفنية الطويلة بين علماء الاقتصاد؛ فمع أنها فرصة كبيرة لكل من الأغنياء والفقراء فإنها فرصة محفوفة بالمخاطر. ومن أجل المساحة ليس إلا، لن نخوض في مزيد عن هذه الاتجاهات الثلاثة.

وفي معظم الأحيان فعندما يتحدث الناس عن العولمة فإنهم يتحدثون عن الاتجاهين الباقيين ألا وهما: مزيد من التجارة، ومزيد من الاستثمار المباشر من قبل شركات الدول الغنية، مثل توجهها لبناء المصانع في الدول الفقيرة. ويرمي جزء كبير من الاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة إلى إنتاج البضائع ليتم إعادة شحنها إلى الدول الغنية؛ وفي الوقت الذي تبرز فيه هذه الحقيقة فإن التجارة والاستثمار الأجنبي يرتبطان بعضهما ببعض ارتباطًا وثيقًا. فالاستثمار الأجنبي معروف على نطاق واسع أنه ضروري للنمو الاقتصادي في الدول الفقيرة: فهو يُعد طريقة مُثلى بالنسبة لهم لخلق الوظائف، وتعلم أحدث التقنيات، كل هذا دون اضطرار تلك الدول للاستثمار أموالها المحدودة التي تعد موردًا نادرًا بالنسبة لها. وبعكس الاستثمار في الأسهم، أو العملة، أو السندات، لا يمكن للاستثمار الأجنبي المباشر ببساطة أن يرتد على أعقابه في ذعر، أو كما قالها الصحفي الاقتصادي مارتن وولف Martin Wolf: «المصانع لا تمشي.»
ومع أن كلًّا من التجارة والاستثمار في الدول الفقيرة شهد زيادة سريعة في السنوات الأخيرة، فإننا لا بد أن نعي حقيقة أن كلًّا من التجارة والاستثمار الأجنبي يحدث غالبًا فيما بين الدول الغنية، وليس بين الدول الغنية والفقيرة. ربما يتطلع الناس إلى أحذيتهم من إنتاج شركة الأدوات الرياضية «نايكي» Nike ويظنون أن كل شيء يُصنع في إندونيسيا والصين. ومع ذلك، لا تنفك عملية إنفاق المزيد من الأموال عن استيراد النبيذ من أستراليا، واللحم من الدانمرك، والجعة من بلجيكا، والتأمين من سويسرا، وألعاب الحاسب الآلي من بريطانيا، والسيارات من اليابان، وأجهزة الحاسب الآلي من تايوان، والتي يتم نقلها جميعًا على سفن من كوريا الجنوبية. ويتم التبادل التجاري في الغالب بين هذه الدول الغنية. أما الصين العملاقة التي يبلغ تعداد سكانها ربع سكان العالم، فتنتج أقل من ٤٪ من صادرات العالم. ومع أن المكسيك، التي يزيد سكانها عن المائة مليون نسمة، عقدت اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة أكبر الأنظمة الاقتصادية في العالم وعاشت حالة من التوسع التجاري السريع عندما كان اقتصاد الولايات المتحدة في أوجه عام ٢٠٠٠؛ فقد كانت صادراتها تقل عن صادرات بلجيكا الباسلة صغيرة المساحة. في غضون ذلك، لا نجد الهند ذات المليار نسمة على الخريطة التجارية على الإطلاق، إذ تنتج أقل من ١٪ من صادرات العالم. أما هذه الأرقام، فليست إلا انعكاسًا للبضائع المادية فحسب، فإذا نظرت إلى تصدير الخدمات التجارية عبر المحيطات، تجد مشاركة الدول النامية أكثر انكماشًا عن هذا بكثير. ماذا عن الدول شديدة الفقر؟ لسوء حظها، فإن التبادل التجاري بينها وبين الدول الغنية يتم في أضيق الحدود، وبالرغم من تغلغل التمدد التجاري في كل أرجاء العالم الأخرى، تبقى الدول الأشد فقرًا في طي النسيان تجاريًّا، إذ بلغت واردات أمريكا الشمالية من دول العالم الأقل تقدمًا ٠,٦ في المائة فقط من إجمالي وارداتها عام ٢٠٠٠، أي أن النسبة قد انحدرت بعدما كانت تبلغ ٠,٨ في المائة عام ١٩٨٠، في حين بلغت واردات أوروبا الغربية من الدول الأقل تقدمًا ٠,٥ في المائة من إجمالي وارداتها عام ٢٠٠٠ منحدرة بذلك عن نسبتها السابقة البالغة ١٪ عام ١٩٨٠. وبالنسبة لليابان، فقد انحدر الرقم إلى ٠,٣ في المائة عن نسبة كانت تبلغ ١ في المائة. ومتى جمعنا كل معدلات تجارة دول العالم الأقل تقدمًا مجتمعين مع دول العالم الكبيرة، نجد نسبة وارداتها تبلغ ٠,٦ في المائة، منحدرة بذلك عن نسبة ٠,٩٪ منذ عشرين عامًا مضت. أما بالنسبة للدول التي تعاني من فقر مدقع، فمشكلتها ليست بالتأكيد هي مشاركتها المفرطة في نظام التجارة العالمي. ويسري الأمر ذاته على الاستثمار الأجنبي.

تخبرنا كل من نظرية الميزة المقارنة، والإدراك السليم، والتجربة أن التجارة مفيدة للنمو الاقتصادي؛ وأن الاستثمار الأجنبي المباشر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتجارة، وهو الآخر مفيد للنمو، وهما الأمران اللذان لا تتمتع بهما الدول الأشد فقرًا. قد يكون هذا تبسيطًا مبالغًا للأمور، إلا أنه عادل نوعًا ما. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، لا تزال تبحث بعض الأسئلة عن إجابة، مثل: ما تأثير التجارة والاستثمار الأجنبي على البيئة؟ وما تأثير الاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة على المضطرين لقبول ما يسمى بالوظائف في المؤسسات المستغلة ذات ظروف عمل شديدة القسوة، وأجور ضعيفة؟

(٢) العولمة الخضراء

دعنا نُجب عن السؤال الخاص بالبيئة أولًا. لقد رأينا في الفصل الرابع كيف يزودنا المفهوم الاقتصادي للتأثيرات الخارجية بأداة فعالة للغاية لتقدير حجم مخاطر الأضرار البيئية، وكيف تمنحنا ضريبة التأثير الخارجي الحل. وبالفعل يعي العديد من علماء الاقتصاد — وربما معظمهم — مخاطر الإضرار بالبيئة، ويودون التحرك للحفاظ على البيئة.

ومع ذلك فإن الصلة بين التجارة والإضرار البيئية لم تخضع للفحص الدقيق، ولكن هناك ثلاثة أسباب باعثة على القلق: أولها، فكرة «السباق نحو القاع»: أي هرولة الشركات إلى الخارج لإنتاج السلع في ظل قوانين بيئية أكثر تساهلًا وأقل تكلفة، بينما تشجعها على ذلك الحكومات العاجزة بتشريع هذه القوانين المتراخية. وثانيها، التحريك المادي للبضائع والسلع يستنفد على نحو محتوم الموارد ويسبب التلوث. أما ثالث باعث للقلق فهو أنه إذا كانت التجارة تشجع النمو الاقتصادي فلا مناص لها من إلحاق الأذى بكوكبنا. ومع أن بعض تلك المخاوف يستند إلى أسباب معقولة، فإن فكرة إضرار التجارة بالبيئة تستند إلى فكر واهٍ ودليل ضعيف.

أما أولى المخاوف أن التجارة الحرة تثير المشاكل البيئية لأن السلع التي أُنتجت في الخارج تخضع لمعايير بيئية أكثر تساهلًا، أو حتى لا تخضع لأي معايير على الإطلاق، فينبغي أن نبددها بتذكير أنفسنا أن الأغلبية الساحقة للتبادل التجاري تحدث فيما بين الدول الغنية، والتي تتسم قوانينها بنفس المعايير البيئية. ولكن ماذا عن الاستثمار في الدول الفقيرة؟ تحدثت عالمة البيئة فاندانا شيفا Vandana Shiva في ذلك الشأن عندما أعلنت أن «التلوث ينتقل من الأغنياء إلى الفقراء، والنتيجة تفرقة عنصرية بيئية عالمية.» يا لها من كلمات مفعمة بالقوة … ولكن ترى هل هي صادقة؟

ربما تكون صادقة من الناحية النظرية. فالشركات القادرة على إنتاج السلع بتكلفة أقل ستنظر إلى الأمر من منظور الميزة المقارنة. بالإضافة إلى كونها قادرة على الانتقال من بلد إلى آخر بسهولة في عالم غلبت عليه التجارة الحرة. من هنا يغدو «السباق نحو القاع» أمرًا جائزًا.

مرة أخرى، نجدنا بصدد أسباب تجعلنا نشك أن تلك المخاوف من نسج خيالنا فقط: إذ إن القوانين البيئية ليس لها تكلفة عظيمة بعكس إيجاد العمالة وتوظيفها. فلو كانت المعايير البيئية الأمريكية صارمة بحق، لماذا تنفق أكثر الشركات الأمريكية تلويثًا ٢٪ فقط من إيراداتها على معالجة التلوث؟ وفي حقيقة الأمر فإن الغالبية تنفق أقل من هذا بكثير. وعندما تخرج الشركات للعمل بالخارج فإنها تفعل ذلك سعيًا وراء العمالة الرخيصة وليس سعيًا وراء ملاذ آمن تنفث فيه ملوثاتها. كما أن الشركات لا تقوم بالتلويث على سبيل التسلية؛ إذ تكون أحدث تقنيات التصنيع في الغالب أوفر ثمنًا وأقل تلويثًا في الوقت ذاته. فمثلًا، ترى فعالية استخدام الطاقة توفر المال، وتحد من التلوث. وهذا هو المبعث وراء نظرة العديد من الشركات للأداء البيئي باعتباره جزءًا لا يتجزأ من مراقبة الجودة والتصنيع الجيد الفعال. وحتى إذا كان من الممكن توفير بعض التكاليف عن طريق خفض النفقات على البيئة، فالعديد من المؤسسات تبني المصانع في كل مكان بالعالم باستخدام أحدث وأنظف التقنيات التي ستأتي بها من العالم المتقدم، وذلك ببساطة لأن هذا النوع من التوحيد القياسي يوفر التكلفة. دعنا نرسم قياسًا تمثيليًّا كالآتي: إذا فرضنا أن رقائق الحاسب الآلي التي كانت تُصَّنع منذ عشرة أعوام لا تزال تنتج بكميات كبيرة، فسيغدو إنتاجها أقل تكلفة، وأقل تعقيدًا من الرقائق الحديثة، ومع ذلك لن تأبه الشركات المُصنِّعة بهذه الحقيقة. فسوف يبيت من الصعب الآن على المرء شراء حاسب آلي قديم حتى إذا كانت هذه هي إرادته المحضة. نفس المنطق نستدل منه على أن الشركات تأمل في تقديم معايير بيئية عالية لإرضاء موظفيها وعملائها.

لذلك … فإن «السباق نحو القاع» جائز من الناحية النظرية؛ ولكن ثمة دوافع وجيهة للارتياب في حدوثه على أرض الواقع. فإذا نحينا النظرية جانبًا، فماذا عن الحقائق؟ أولًا، يقل بكثير احتمال توجه الاستثمار الأجنبي في الدول الغنية إلى القطاعات الصناعية الملوثة مقارنة بالاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة. ثانيًا، يُعد الاستثمار الأجنبي في الصناعات الملوثة القادم إلى الولايات المتحدة أسرع أنماط الاستثمار الأجنبي نموًّا. وفي المقابل، يُعَد الاستثمار الأجنبي في الصناعات النظيفة أسرع أنماط الاستثمار الأمريكي نموا خارج الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، فإن الدول الأخرى تحمل الصناعات القذرة إلى الولايات المتحدة في الوقت الذي تحمل فيه الولايات المتحدة الصناعات النظيفة إلى شتى أرجاء العالم.

ربما تكون قد أغمضت عينك قليلًا عندما قرأت الفقرة السابقة. فبالنسبة لمن يعاني ضميرهم البيئي من الخمول، لا تخرج تلك الإحصاءات عن كونها ضربًا من ضروب الجنون. ولكنها لا تبدو بهذا الجنون عندما تفكر في أن الدول الفقيرة تنتج سلعًا مثل الملابس، ولعب الأطفال، والقهوة، في حين أن الصناعات الملوثة على نحو خطير مثل الإنتاج الكيميائي الضخم تتطلب مستويات عالية من المهارة، وكذلك بنية تحتية متينة — وطالما أن الكثير من رأس المال مرتبط بهذه المسألة فالأمر يتطلب أيضًا الاستقرار السياسي. فلماذا تجازف الشركات بنقل مصانعها إلى إثيوبيا لتوفير حفنة دولارات على حساب البيئة؟

ويأتينا من معايير التلوث في الصين، والبرازيل، والمكسيك مؤشر آخر على الأداء البيئي للاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة، إذ يصل ٦٠٪ من الاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة إلى هذه الدول الثلاث. يوضح الشكل التالي كيف أنه عندما تطور الاقتصاد الصيني تقلص تلوث هواء المدن الصينية، سواء ليناسب السوق الصينية أو ليستفيد من العمالة الرخيصة والتصدير إلى باقي أنحاء الكرة الأرضية. والوضع في البرازيل والمكسيك يتشابه كثيرًا مع الوضع الصيني.

لا يهدف هذا إلى إجلال الاستثمار الأجنبي دون سواه؛ إذ فرضت حكومة الصين قيودًا بيئية أكثر شدة بعد تعاظم ثروتها في نفس الوقت الذي وصل فيه إليها الاستثمار الأجنبي. وكما قلت فإنه من الصعب تسوية حكايات «السباق نحو القاع» من هذه الصورة. فحكايات الرعب هذه ملائمة تمامًا لأنصار مذهب حماية البيئة الباحثين عن طرق جديدة لمحاباة الصناعات المتميزة على حساب كل من العملاء والدول النامية على حد سواء.

هل تسبب العولمة التلوث؟

الحقيقة أن مذهب حماية البيئة نفسه ذا تكاليف بيئية ضخمة. وأوضح مثال على هذا هو السياسة الزراعية المشتركة CAP «متعددة الوظائف» التي يتبناها الاتحاد الأوروبي، والتي تمثل حزمة من القيود التجارية والدعم مصممة لحماية المزارعين الأوروبيين. يرى مؤيدو السياسة الزراعية المشتركة أن تعددية الوظائف من المفترض أن تمنح المزارعين الفقراء الاكتفاء الذاتي والحماية والأداء البيئي والسعر العادل. ولكن في المقابل، تدعم تلك السياسة المزارعين في الاتحاد الأوروبي بما يقترب من نصف ميزانيته حيث يحصل الربع الأكبر من عدد المزارع على أكثر من ثلثي هذا الرقم، إذ حصل أغنى رجل في إنجلترا، دوق ويستمينيستر Westminister على ٤٤٨,٠٠٠ جنيه إسترليني (حوالي ٩٠٠,٠٠٠ دولار) كدعم في عامي ٢٠٠٣-٢٠٠٤. وتشجع تلك السياسة الزراعة الكثيفة التي من الجلي أنها لا ينجم عنها إلا الأغذية ضئيلة الجودة، والاستخدام الزائد للمبيدات والأسمدة، وإغراق أسواق العالم النامي بتلك الأغذية وخفض أسعار المحاصيل التي يحصل عليها المزارعون في الدول الفقيرة. وليس هذا فحسب، بل إنها تساعد على الانعطاف بعيدًا عن تحرر التجارة الدولية. يقول مارتن وولف في صحيفة فاينانشيال تايمز Financial Times: «إنها سياسة متعددة الوظائف بحق: فهي رجعية، ومخربة، ومدمرة لجودة الغذاء والبيئة بالإضافة إلى أنها تقف عائقًا أمام تحرير التجارة في كل مكان.»

الزراعة المحمية زراعة كثيفة

وتحابي الأمم الغنية الأخرى، ولاسيما اليابان وكوريا، مُزارعيها بنفس الطريقة التي يحابي بها الاتحاد الأوروبي مُزارعيه: إذ يأتي ثلث دخل المزرعة العادية التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) من إعانات الحكومة. يوضح الشكل السابق أنه كلما زاد دعم الزراعة، زادت الأسمدة المُستخدمة. فإذا ألغيت السياسة الزراعية المشتركة ومثيلاتها من سياسات الحماية الزراعية، فهناك احتمال كبير في أن بيئة العالم سوف تتحسن تحسنًا جوهريًّا في ظل تقليل الزراعة الكثيفة. وفي الوقت ذاته، سوف يحصل كل من المستهلكين الأوروبيين، وثلث مزارعي العالم على صفقة أفضل على نحو كبير.
تقدم الولايات المتحدة قدرًا أقل من الدعم لمزارعيها، إلا أنها لا تزال توفر الحماية التجارية وتتسبب في إلحاق الضرر بالبيئة متى اضطرت لذلك. فقد حظي منتجو السكر المحليون عام ١٩٩٨ بدعم حكومي بلغ مليار دولار، ذهب نصفها إلى سبع عشرة مزرعة فقط. (فبسبب التجاوزات التي سببتها سياسة الحماية، كلف هذا الدعم المستهلكين حوالي ملياري دولار، كان نصفها بمنزلة تبذير محض). كما أضرت هذه الحماية بمنتجي السكر في كولومبيا الذين حولوا نشاطهم إلى صناعة الكوكايين في المقابل. وبالطبع فإن الجماعات المناصرة للبيئة ربما كانت سترضى عن هذا إذا كانت البيئة تستفيد ولكن البيئة لا تستفيد؛ إذ إن الانبعاثات الكيميائية الصادرة من مزارع الزراعة الكثيفة في جنوب فلوريدا تلحق الضرر بمنطقة إيفرجليدز Everglades التي يزرع بها القصب.

والزراعة الكثيفة هي قضية واضحة على نحو مدهش، إذ لن يتم حل كل المشكلات البيئية تلقائيًّا بمفعول التجارة الحرة، وأحد الأمثلة على ذلك الزراعة الأحادية: كزراعة الأرز فقط، أو البن فقط، أو القمح فقط. فمثل هذا النقص في التنوع الحيوي يجعل المحاصيل أكثر عرضة للتعرض لآفات وتقلبات الطقس.

قد يبدو هذا الحل معارضة للتجارة الحرة، فاتساع نطاق التجارة يحث الدول على التخصص في محاصيل معينة تتمتع فيها هذه الدول بميزة مقارنة، بيد أن القيود التجارية هي طريقة كريهة للتعامل مع مشكلة الزراعة الكثيفة. فأولًا، يحظي كل من التنوع الحيوي المحلي، والتنوع الحيوي العالمي بالأهمية. أما التنوع الحيوي الوطني فهو ليس ذا صلة؛ إذ إن المشاكل البيئية لا ترى الحدود السياسية. فعند الحد الذي يصل فيه نقص التنوع الحيوي إلى مُسمى مشكلة، يكمن الحل في التنظيم البيئي المباشر: ألا وهو جراحة المنظار الاقتصادية التي تحدثنا عنها في الفصل الخامس. ويصبح أمل أن تحل القيود التجارية المشكلة؛ أمرًا مثيرًا للسخرية.

تمثل هذه الحالة حالة خاصة من أحد الجوانب المهمة لنظرية التجارة. فسيوجد دائمًا (من الناحية النظرية)، وعادة (من الناحية العملية) سياسة بديلة، ستَحل المشكلة البيئية بطريقة مباشرة أكثر، وبفعالية أكبر مما قد تفعله أي قيود تجارية. يعلق على هذه المسألة جاجديش باجواتي Jagdish Bhagwati، الباحث البارز في مجال التجارة، فيقول: «لا يمكنك قتل عصفورين بحجر واحد.» فالقيود التجارية طريقة ضارة وغير ملائمة لتحقيق أهداف مهمة مثل البيئة الصحية.
وتكاليف النقل مثال آخر على مبدأ باجواتي. ومرة أخرى، يبدو تقييد التجارة الدولية حلًّا مفيدًا ظاهريًّا من أجل تقليل التلوث الذي تسببه سفن الحاويات وطائرات الشحن. ونحتاج إلى القول مرة أخرى إن الحل يكمن في القوانين التنظيمية المباشرة في صورة فرض ضريبة تأثير خارجي. صحيح أن القيود التجارية تؤثر تأثيرًا سيئًا على نقل البضائع عبر الحدود إلا أن عبور الحدود في حد ذاته لا يلحق أي إضرار بالبيئة. فتكاليف نقل مشغل أقراص مدمجة من ميناء أوساكا في اليابان إلى ميناء لوس أنجلوس أقل من تكاليف حمله من ميناء لوس أنجلوس إلى ولاية أريزونا، أو حتى إلى أحد متاجر شركة بست باي Best Buy في لوس أنجلوس نفسها. وإذا ما وضعنا في الاعتبار التكاليف البيئية للزحام والتلوث، فالتكلفة في الغالب ستكون أكبر فيما يخص تكلفة انتقال شخص ما ثم قيادته السيارة إلى متجر شركة بست باي ثم عودته مرة أخرى بعد شراء مشغل الأقراص المدمجة. لا تعتبر التكاليف البيئية للنقل ضئيلة لمجرد أن السلع تُنقل بين الدول أو حتى على المستوى المحلي. مرة أخرى، نطلب من مخبرنا الاقتصادي إسداء النصيحة فيما يخص السياسات المُثلى التي تواجه المشكلة مباشرة: فضريبة التأثير الخارجي سوف تحث على استخدام وسائل نقل أكثر نظافة، سواء داخل الدولة الواحدة، أو بين الدول وبعضها.

أما الهاجس الأخير، فهو أن التجارة ليست بغيضة في حد ذاتها، ولكنها تقود إلى نمو اقتصادي يبعث على الإضرار بالبيئة: فهي تجعل الناس أكثر ثراءً، وهو ما يدمر البيئة. وهذا الهاجس يسترعي بعض الاهتمام.

إن أكثر المشكلات البيئية المُهلكة بالتأكيد في يومنا هذا — وربما أكثرها تهديدًا للمستقبل في ظل مشكلة تغير مناخ الأرض — هي المشكلات التي يبتلي بها الناس الأشد فقرًا في العالم؛ ومنها مثلًا مشكلة التلوث المحلي المنبعث من أفران حرق الخشب، التي تسبب العمى وأمراضًا في الجهاز التنفسي تسبب الوفاة؛ ومنها أيضًا مياه الشرب غير الآمنة التي تقتل الملايين. وعلاج هذه المشكلات البيئية هو النمو الاقتصادي، ويمكن للتجارة المساعدة في هذا الشأن.

وتزداد الملوثات الأخرى، مثل الجسيمات التي تنتقل عبر الهواء والمنبعثة من عوادم السيارات، مع زيادة ثراء الناس، لبعض الوقت. وفي الظروف العادية، يصبح التلوث أقل خطورة بعدما يبلغ دخل الفرد حوالي ٥٠٠٠ دولار (كما في المكسيك)، لأن المواطنين من هذه النقطة سيغدون أثرياء بما يكفي لتحمل نفقات المعايير البيئية المتطورة، ولسوف يطالبون بتطبيقها. تساعد التجارة على نهوض كلا الصعيدين إما عن طريق غير مباشر بزيادة النمو، أو عن طريق مباشر، لأن التجارة الحرة في الدول الأفقر ارتبط وجودها بانتهاء الدعم الممنوح للصناعات الكبيرة التي تتسبب في إلحاق عظيم التلوث بالبيئة مثل صناعة البتروكيماويات، وصناعة الصلب، بالإضافة إلى استيراد التقنيات الجديدة الأكثر نظافة.

إن استهلاك الطاقة، وما تخلفه من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وخطر تغير مناخ الأرض — ما برح يتزايد بعد وصول دخل الفرد إلى ٥٠٠٠ دولار. وهذا راجح، إلا أننا لسنا متيقنين من أن دول العالم الغنية قد بلغت النقطة التي يوشك فيها متوسط استهلاك الفرد من الطاقة على التخلي عن الزيادة. ففي النهاية، تزداد سياراتنا وكل أجهزتنا الكهربائية المنزلية الأخرى فعالية عامًا بعد عام، وعندما يمتلك كل منا سيارتين، ومنزلًا كبيرًا مكيفًا يغدو من الصعب تخيل من أين سنحصل على مزيد من الطاقة.

إذا كنا صادقين، فإن التعلل بأن التجارة تبعث على النمو الاقتصادي، الذي يبعث بدوره على تغير مناخ الأرض، يؤدي بنا إلى نتيجة قاسية، ألا وهي ضرورة قطع كل روابطنا التجارية لضمان بقاء الصينيين، والهنود، والأفارقة فقراء. والسؤال هو عمّا إذا كان من الممكن لأي كارثة بيئية، حتى مشكلة تغير المناخ الخطيرة؛ أن توقع نفس التكلفة البشرية التي يوقعها الإبقاء على ثلاثة مليارات من البشر أو أربعة في فقرٍ يضنيهم. وسؤال مثل هذا السؤال شأنه شأن الإجابة عليه. هل يعني هذا أن الأقدار شاءت لنا الاختيار بين الجوع الجماعي، وبين معركتنا البيئية الفاصلة؟ لا على الإطلاق. ثمة الكثير مما يمكن أن نساعد به البيئة دون استخدام المنهج المضاد الذي يحد من التجارة. فضرائب التأثيرات الخارجية حدت بالفعل من انبعاثات غاز الكبريت في الولايات المتحدة (وستفعل الأمر ذاته في الصين أيضًا). ويمكن توظيفها كذلك للحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، ولمكافحة تغير المناخ؛ فإذا طلبنا من قادتنا إحالة هذا الأمر إلى لجنة تشريعية، فقد يمكننا إنجازه. كما أنه قد لا يكون باهظ التكلفة كما نتخيل. يمكننا البدء بالتوقف تمامًا عن دعم الوقود الحفري. فألمانيا، مثلًا، وهي الدولة المولعة بإنجازاتها البيئية، والمؤيدة بحزم لاتفاق كيوتو بشأن تغير المناخ، تدفع لكل عامل في مناجم الفحم ٨٦,٠٠٠ دولار لتحمي بذلك صناعتها للفحم من المنافسة الدولية.

ما الذي سنجنيه من هذه الهجمة البيئية على التجارة الحرة؟ ها قد رأينا أن السباق نحو القاع لا وجود له، وأن الصناعات الملوِّثة ما تزال موجودة على نحو أساسي في الدول الغنية قبل الدول الفقيرة، وأن المعايير البيئية تشهد نهوضًا في الصين، والبرازيل، والمكسيك التي هي أكبر مقاصد الاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة، وأن الإجراءات الحمائية كالتي تُفرض على الزراعة، والصلب، والفحم التي تستند أحيانًا إلى مبررات بيئية هي في الواقع تلحق بالبيئة جسيم الضرر، وأن الضرائب المفروضة على وقود المركبات متوافقة مع التجارة الحرة وأنها أفضل كثيرًا في خدمة البيئة من القيود التجارية، وأن أخطر المشاكل البيئية على الأقل حتى يومنا هذا سببها الفقر وليس الثروة. أما الحركة المُناصِرة للبيئة، فيجب عليها المعارضة بشدة والمطالبة بتجارة دولية حرة على الفور. وربما نجدها تفعل هذا يومًا ما.

(٣) المؤسسات المستغلة، أو هل التجارة مناسبة للفقراء؟

يا له من حذاء رياضي جميل! لكن، ألا يشعرك ولو بقليل من الذنب؟

اتهمت عدد من الشركات متعددة الجنسيات بأنها ترضخ عامليها في الدول النامية للعمل تحت ظروف عمل سيئة. ذُكر اسم شركة نايكي كثيرًا في هذا السياق وكانت هدفًا لعدد من الحملات. دعني أذكر لك أحد الأمثلة الرائعة: قام طالب مغامر من معهد تكنولوجيا ماساتشوستس الأمريكي (MIT) يدعى جونا بيريتّي Jonah Peretti باستغلال العرض الذي قدمته نايكي لعملائها بإمكانية تصميم الحذاء كما يحب الزبون، عندما قال:

تحديًا لاحتفال مصانع نايكي بالحرية، وعرضها الذي يقول: إذا رغبت في صنع حذائك على النحو الصحيح، فاصنعه بنفسك؛ لم يسعني إلا التفكير في العاملين بالمصانع المكتظة في آسيا وأمريكا الجنوبية الذين يصنعون بالفعل أحذية نايكي. وتحديًا لمصانع نايكي، طلبت زوجًا من الأحذية تحت الطلب عليه جملة «مؤسسة مستغلة».

مع أن رجال الاقتصاد نظروا إلى المسألة على أنها أمر طريف، لكن نايكي لم تنظر إليها بهذا الشكل وبالتالي لم يحصل جونا بيريتي على حذائه الذي طلبه.

نجح جونا بيريتّي والمتعاطفون معه في جذب الأعين نحو حقيقة تحمل العمال في الدول النامية ظروف العمل مثل الساعات الطويلة من العمل والأجور الحقيرة. ومع ذلك فتلك المؤسسات لا تخرج عن كونها عرض من أعراض المرض وليست المُسببة للمرض، ألا وهو الفقر العالمي المثير للاشمئزاز. يذهب العمال إلى العمل في تلك المؤسسات طواعية، إلا أن هذا يعني — وهو أمر صعب التصديق — أنه مهما كان لديهم من بدائل، فكلها بدائل أكثر سوءًا؛ إذ تجد معدلات ترك العمل في المصانع المملوكة لشركات متعددة الجنسيات منخفضة، لأن ظروف العمل والأجور، مع كونها سيئة، إلا أنها أفضل من تلك التي توفرها لهم مصانعهم المحلية. ومن المرجح أن الشركات المحلية ستدفع أجورًا أفضل من تلك التي سيحصل عليها العمال من محاولة كسب المال بدون وظيفة: بإقامة كشك في الشارع بدون تصريح مثلًا أو العمل في الدعارة أو تمشيط مقالب القمامة في مدينة مثل مانيلا Manila للبحث عن سلع قابلة لإعادة التصنيع. يذكر أن أشهر مقلب قمامة في تلك المدينة قد أُغلق، والذي كان يسمى «الجبل الدخاني» في تسعينيات القرن العشرين لأنه أضحى علامة مخجلة من علامات الفقر، في حين استمرت مقالب القمامة الأخرى في إعالة نابشي القمامة الذين يكسبون من ورائها مبلغًا يوميًّا قد يصل إلى خمسة دولارات. كما لقي أكثر من ١٣٠ شخصًا مصرعهم عندما انهارت عليهم النفايات في مقلب باياتاس Payatas للقمامة في مانيلا أيضًا في يوليو عام ٢٠٠٠. ومع ذلك فهذه الطرق للحياة في المدن بأقل قدر من المال تعتبر جذابة إذا ما قورنت بالمناضلة من أجل البقاء في عداد الأحياء في الأماكن الريفية. ففي أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، بينما يندر نسبيًّا وجود الفقر الشديد في المدن، فإنه شيء مألوف في الريف. فأي فرد لديه ذرة من الاهتمام بغيره من البشر لا بد أن يشعر بالاستياء من أوضاعٍ مثل هذه، بيد أنه لا بد أن يفطن إلى أن شركة نايكي وغيرها من الشركات متعددة الجنسيات ليست السبب فيها.

لن يأتي الحل لمشكلة الفقر هذه عن طريق مقاطعة الأحذية والملابس التي تصنَّع في الدول النامية. بل على العكس، فعندما فتحت دول مثل كوريا الجنوبية ذراعيها للشركات متعددة الجنسيات، شقت طريقها نحو الثراء ببطء ولكن بثقة. وعندما شرعت الشركات متعددة الجنسيات في إنشاء مزيد من مصانعها، باتت تنافس بعضها بعضًا للحصول على العمال الأكثر مهارة. وارتفعت الأجور، ليس لأن الشركات أصبحت أكثر سخاءً، وإنما لأنه لم يكن لديها خيار آخر لجذب العمال المهرة. أما الشركات المحلية فهي تتعلم أحدث تقنيات الإنتاج، وتصبح من الشركات الكبرى الموفرة لفرص العمل أيضًا. وأصبح العمل في مصنع واكتساب المهارات اللازمة يلقى جاذبية أكثر وأكثر لدى الناس، وتحسَّن التعليم. وتتسبب هجرة سكان القرى إلى المدينة في رفع أجور الذين يظلوا بالريف إلى مستوى أفضل نوعًا ما. ولما كان من الأسهل فرض الضرائب على العمالة الرسمية، فقد ارتفع دخل الحكومة وتحسن مستوى البنية التحتية، والرعاية الطبية، والمدارس. وتراجع الفقر، وارتفعت الأجور على نحو لا يمكن إيقافه. فبعد تعديله وفقًا للتضخم، ارتفع دخل العامل الكوري العادي ليصير أربعة أضعاف ما كان يحصل عليه والده منذ خمسة وعشرين عامًا. وتعد كوريا الآن رائدة في التكنولوجيا العالمية، وغنية بما يكفي لتدعم زراعتها شأنها شأن باقي دول العالم الغنية. وقد رحلت منها المؤسسات المستغلة إلى مكان آخر.

من الصعب ألا يتأثر المرء بالأحوال في المؤسسات المستغلة. والسؤال هو كيف نتخلص منها؟ يعتقد معظم خبراء الاقتصاد أن المؤسسات المستغلة نافعة من ناحيتين: أولاهما، أنها بمنزلة وضعٍ أفضل مقارنةً ببدائلها المباشرة. والأخرى، أنها درجة على السلم نحو شيء أفضل.

ولكن كثيرًا من الناس ينظرون إلى هذه المسألة من زاوية أخرى. أذكر أن المعلق السياسي اليساري ويليام جرايدر William Greider أعرب عن إعجابه بمجلس مدينة نيويورك لإجازته قرارًا عام ٢٠٠١ مفاده أن المدينة ترفض شراء الثياب الموحدة لأفراد الشرطة ورجال المطافئ إلا إذا صُنعت في ظل «أجور وظروف عمل جيدة». فمثل هذا القرار لن يؤذي إلا العمال في المؤسسات المستغلة أنفسهم: سيفقدون عملهم ويعودون — بالنسبة للعمال في مانيلا — إلى أكوام القمامة بالمعنى الحرفي للكلمة. وبالطبع، سيعود هذا بالنفع على عمال النسيج في الدول الغنية، الذين ستنتقل إليهم تلك الأعمال في المقابل، حتى إنني أشك في الصدفة التي جعلت من يصوغ مشروع القرار لمجلس المدينة هو اتحاد عمال النسيج والمشغولات اليدوية والصناعية UNITE؛ إذ إنهم هم بالضبط المستفيدون من تقلص واردات المنسوجات. (إذا وجدت قصتي غير مقنعة، ورغبت ألا تشعر بالذنب عند شرائك الملابس، فلم لا تزور موقع الاتحاد على شبكة الإنترنت وتطلب «الملابس غير المُصنّعة في مؤسسات مستغلة، وإنما المصنوعة بمعرفة الاتحاد» وهو www.uniteunion.org.)

(٤) قوة جماعات المصالح الخاصة

عُرف عن هاري ترومان أنه كان يبحث عن رجل اقتصاد يتحدث من وجهة نظر واحدة بحيث يعجز عن قول «ومن ناحية أخرى» بعد أن يعطيه المشورة. ذكر رونالد ريجان ذات مرة، وهو الذي كان لديه أفضل من يكتبون له الخطب؛ ضرورة وجود نسخة من لعبة أسئلة خاصة برجال الاقتصاد «تحتوي على مائة سؤال وثلاثة آلاف إجابة».

إن خبراء الاقتصاد لا يتفقون دائمًا، ولكن يندر أن تجد خبير اقتصادي غير متحمس لمزايا التجارة الحرة. ويفيد الرأي المتشابه المُجمع عليه بين علماء الاقتصاد أن التجارة الدولية الحرة تمثل تقدمًا عظيمًا، وأنه حتى إذا أبت الدول الأخرى تخفيف وطأة القيود التجارية، فسيكون بنا من الحماقة ما يكفي إذا لم نخفف وطأة القيود التي نضعها نحن.

يرى علماء الاقتصاد أن للتجارة الحرة فوائد جمة. فمثلًا، عندما رضخت اليابان لرغبة الولايات المتحدة في فتح موانئها للتجارة في خمسينيات القرن التاسع عشر في أعقاب عقود من العزلة، بدأت اليابان في تصدير الحرير والشاي إلى سوق عالمية متلهفة مقابل القطن والملابس الصوفية التي كانت زهيدة الثمن دوليًّا ولكن باهظة الثمن في اليابان. ومن ثم، زاد دخلها القومي بمقدار الثلثين.

ومؤخرًا، اعتُبرت جولة المفاوضات التجارية في أورجواي، التي قللت القيود التجارية في العالم منذ العام ١٩٩٤؛ السبب في زيادة الدخل العالمي بحوالي ١٠٠ مليار دولار. فإذا تقلصت التعريفات الجمركية على السلع الزراعية والصناعية والخدمات بمقدار الثلث، فسوف يرتفع المكسب إلى ٦٠٠ مليار دولار، أي حوالي ٢٪ من الدخل العالمي. أما إزالة جميع القيود التجارية، فسوف تحقق أكثر من ٦٪ من الدخل العالمي. وتقلل هذه الأرقام بالطبع من تقدير المنافع، إذ إنها لا تعبر إلا عن المكاسب المباشرة الناجمة عن نقل أرخص البضائع من الأسواق العالمية إلى الأسواق المحمية: وبناء عليه يكون هذا تطبيقًا مباشرًا لنظرية ديفيد ريكاردو للميزة المقارنة. وتتضارب ميزات أخرى مع الاعتقاد الشائع بأن التجارة صديقة للشركات متعددة الجنسيات، فالتجارة الحرة تقضي أيضًا على قوة ندرة الشركات الكبيرة بتعريضها للمنافسة الدولية. فهي تشجع استخدام طرق العمل الجديدة، والتقنيات الأكثر تقدمًا. ويعتقد بعض الناس أنها تروج للسلام بمنحها الدول ذات العلاقات التجارية أسبابًا قوية كي لا يحارب بعضها بعضًا.

فإذا كانت التجارة الحرة تتمتع بالفعل بكل هذا الكم من الفوائد، فلماذا لا يزال بالعالم العديد من القيود التجارية؟ لماذا لا يحاول السياسيون كسب أصوات الناخبين بسهولة عن طريق تقليل القيود التجارية؟ لماذا كان يتحتم إجبار اليابانيين على تنفيذ السياسة التي ضاعفت دخل الدولة بأكملها؟ للأسف لا تخل معظم الأمم، الغنية منها والفقيرة، من جماعات المصالح، التي تتمتع بسلطة تختلف باختلاف الدول، يكون لديها أسبابها لمعاداة التجارة الحرة.

تميل التعريفات الجمركية إلى فرض تكلفة ضئيلة مستترة على معظم أنحاء البلاد، في صورة أسعار مرتفعة، وتميل كذلك إلى فرض تكلفة إضافية على الأجانب، الذين ليس لديهم أصوات انتخابية. وبالطبع لتلك التعريفات فوائد جوهرية مقتصرة على مجموعة محدودة من الناس الذين يكونون في الغالب تابعين لقطاعات ذات نقابات منظمة وشركات كبيرة. فمتى تزود المصوتون بالمعلومات الكافية والفهم الشامل للنظرية الاقتصادية، فسوف يخسر هؤلاء الحمائيون في الانتخابات الديمقراطية. ولكن إذا لم يكن لدى المواطنين الفهم الكافي لما تفرضه عليهم تلك التعريفات من تكلفة، فبالنظر إلى التأثير الضئيل الذي تحدثه أي تعريفة بعينها على أي ناخب بعينه، فإن التعريفة ربما لن تخطر ببال الناخبين — خاصة إذا كانت الحملة من أجل القيود التجارية تستتر في صورة حملة ضد المؤسسات المستغلة. قد تتعرض جهود الإصلاح للإحباط عن طريق كسل وعصبية المصوتين قليلي المعلومات، في حين أن جماعات المصالح تعي جيدًا رغبتها في التربح من الحماية ويجدون الأمر يستحق أن يخصصوا له التمويل السخي وجهود جماعات الضغط للدفاع عن مصلحتهم المحدودة.

ويستوجب ألا تتمتع جماعات المصالح الخاصة في ظل نظام ديمقراطي سليم إلا بقدر محدود من القوة يكون أقل من ذاك الذي يتمتعون به في الأنظمة الديمقراطية الهشة، أو في الأنظمة غير الديمقراطية على الإطلاق، مثل الكاميرون. فإذا كانت القيود التجارية يعزى جزء من سببها إلى جماعات المصالح، فإنا نتوقع للدول التي ترسخت فيها الديمقراطية أن يكون لديها قيود تجارية قليلة.

وتؤيد الإحصاءات هذا الاستنتاج، ففي عام ١٩٩٩، بلغ متوسط التعريفات الجمركية بالولايات المتحدة ٢,٨٪، وبلغ في الاتحاد الأوروبي ٢,٧٪، وفي النمر المتنامي كوريا ٥,٩٪، وفي الأرجنتين، التي يطلق عليها النموذج المثالي للإصلاح الاقتصادي، ١٠,٧٪. وفي الأنظمة الاقتصادية العملاقة في الصين والهند ١٥,٧٪، و٢٩,٥٪ بالترتيب. وقد علمنا من قبل أن دولة الكاميرون الصغيرة البائسة لم تتخلص من الفقر والفساد بفرضها تعريفة جمركية متوسطها ٦١,٤٪.

ويبدو أنه حتى إذا كنا قادرين على ممارسة الضغط على رجال السياسة لفعل الصواب للجميع بتقليل التعريفات الجمركية، فإن مسئولية مشابهة تقع على عاتق حكومات تلك الدول الفقيرة. فلماذا يبقون على التعريفات التي تلحق الضرر بمواطنيها؟ ربما لأن العزلة الدولية نافعة للاستقرار السياسي. فالقائد السياسي فيديل كاسترو، صاحب أطول فترة رئاسة في العالم، بالتأكيد أصبح رئيسًا مدى الحياة نتيجة للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على بلاده، والتي كان لها تأثير مُغاير للنتيجة التي كانت مرجوة منها. كما أن حكم صدام حسين بدا أقوى من أي وقت مضى بعد انقضاء عشر سنوات من العقوبات الاقتصادية، حتى إن خلعه تم بقوة خارجية، وليس بتغيير داخلي. أما دول مثل ميانمار وكوريا الشمالية، فهي دول منبوذة دوليًّا بسبب حكوماتها الثابتة ثباتًا محبطًا لا يتغير.

ويكشف لنا هذا لماذا كان يجب على اليابان أن ترغم على التحرر لتزيد دخلها القومي زيادة هائلة. أما سياسة الانعزال، فهي لم تخلق لمصلحة الشعب الياباني، وإنما لمصلحة حكامهم من عائلة توكوجاوا Tokugawa. تقول المؤرخة جانيت هانتر Janet Hunter عن تاريخ حُكم هذه العائلة:

دَعَمَ آليات السيطرة السياسية نظام صارم من القوانين، التي حاولت أن تخفض إلى الحد الأدنى أي تغيير اجتماعي، أو سياسي، أو اقتصادي بين السكان بصورة عامة … ومن المحتمل أن التأثيرات الأجنبية الضارة قد انخفضت إلى حدها الأدنى بعد عام ١٦٤٠ عندما قطعت الدولة كل ما يربطها بالعالم الخارجي. وبينما نجحت تلك المقاييس الدقيقة في حفظ حكم أسرة توكوجاوا طوال قرنين ونصف القرن تقريبًا إلا أنها لم تأمل مطلقًا في منع كل التغييرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية من الحدوث … وأدى استئناف الاتصال الأجنبي مع الولايات المتحدة والقوى الامبريالية الأوروبية إلى جلب أزمة إلى البلاد على نحو سريع … ومنذ عام ١٨٥٣ في أثناء الأزمة حول طلب الولايات المتحدة بإنشاء العلاقات الرسمية … سرعان ما أصيبت سلطة توكوجاوا بكبوة هائلة.

حاولت جماعات المصالح تعريف السياسة التجارية للولايات المتحدة، وإن تفاوت نجاحهم في ذلك. فقيود التعريفات الجمركية يستوجب أن يوافق عليها الكونجرس الذي يدافع ممثلوه عن مصالح جمهورهم من الناخبين، ويطالبون بحمايتهم سواء كانوا يعملون في الزراعة في ولاية «أيوا»، أو في صناعة الصلب في بنسلفانيا، أو صناعة السكر في فلوريدا، أو صناعة السيارات في ميتشيجن. وبالمتاجرة بالأصوات فيما بينهم، تمكنوا من الحصول على موافقة الكونجرس على التعريفة تلو الأخرى، فإذا عاد رئيس الدولة من بعض المفاوضات التجارية وفي يده اتفاقية تحد من القيود التجارية تجدهم يرفضون التصديق عليها.

يميل رؤساء الدول بكل الحماس إلى تأييد التجارة الحرة لأنهم يحتاجون الأصوات الانتخابية للأمة بأسرها، لهذا يقل نزوعهم إلى محاباة ضرب محدد من ضروب الحماية. فعندما أقنع الرئيس روزفلت الكونجرس بعد عام ١٩٣٤ بمنحه والرؤساء المستقبليين للولايات المتحدة حق الموافقة مسبقًا على الاتفاقيات التجارية، انكمشت معدلات التعريفات الجمركية في الولايات المتحدة من حوالي ٤٥٪ حتى ١٠٪ في عقدين. وبعد أن ألقيت على عاتق الرئيس مسئولية السياسة التجارية، استمر المعدل في الانخفاض.

لا مناص من أن قادة الدول ليس لديهم مناعة ضد سياسات جماعات المصالح: إذ إن تفضيل مصلحة جمهور الناخبين في فلوريدا خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة يضمن الحماية لمُصنِّعي السكر على حساب باقي الأمة. إذ ما من نظام يسمى بالنظام السياسي المثالي، ولكن الأنظمة الديمقراطية تميل إلى محاباة التجارة أكثر من الأنظمة الأخرى، لأن تقليل القيود التجارية يستفيد منه المواطن العادي.

(٥) كيف نجعل الأمور أفضل للفقراء؟

بالتأكيد بدأ يتراءى لك الآن حبي الشديد للقهوة والجعة. أما قهوتي المفضلة، فأحصل عليها من جزيرة تيمور Timor، في حين تأتيني جعتي المفضلة من بلجيكا. وكل مرة أحتسي فيها هذين النوعين من المشروبات تصير حياتي أكثر سعادة بفضل جامعي البن التيموريين، وصناع الجعة البلجيكيين. آمل أن أكون قد قدمت ما يكفي لإقناعك أنهم يعيشون حياة أسعد بسببي. فالميزة الأساسية التي تخلفها تلك الأنواع من التفاعلات الاجتماعية التي يعنى بدارستها عادة رجال الاقتصاد تكون ميزة «الكل رابح».

وللأسف يربح بعض الناس أكثر من البعض الآخر. فأنا أنعم بحال جيد، وكذلك البلجيكيون، أما التيموريون فلا، فحالهم كان سيصبح أسوأ لولا التجارة، ولكن لا يكفي هذا ليجعلنا نتجاهلهم وننسى أمرهم.

يعاني مزارعو البن الفقر لأنهم يفتقرون إلى قوة الندرة حيث توجد العديد من الأماكن الصالحة لزراعة البن. ويتطلب إنتاج البن بكميات كبيرة كثيرًا من العمل الشاق، ولكن في الوقت نفسه قليلًا من المهارة. فليس لدى أي زارع بن بمفرده قوة التأثير على سعر السوق. حتى إذا كان يمكن للدول أن تمارس كلها نفس النشاط في انسجام، فلن يتمتعوا بقوة الندرة: فعندما حاول كبار مصنعي القهوة إنشاء منظمة لهم تتحكم في ثلثي إنتاج العالم من البن ألا وهي رابطة البلدان المنتجة للبن ACPC، فشلوا وحُلت الرابطة. فكلما نجحت الرابطة في رفع الأسعار، سرعان ما يلقى البدء في زراعة البن جاذبية لدى مزارعين جدد في دول جديدة. وتعد فيتنام خير مثال، فمنذ بضعة سنوات مضت، كان نادرًا ما يُزرع البن فيها على الإطلاق، أما الآن، فقد غدت ثاني أكبر منتجي البن في العالم. وهكذا فإن أي منظمة أنشأت من أجل استغلال قوة الندرة ستنجح في تحقيق هدفها فقط إذا لم يستطع المنتجون الجدد دخول السوق بسهولة.

ولا يجدر بنا السهو عن أن أحد الأسباب وراء سهولة إنتاج المزارعين الفقراء للبن هو أن البن لا يُزرع في فرنسا أو فلوريدا، وعليه لا يهتم المزارعون الأغنياء بالاعتراض على فرض تعريفات جمركية عالية. أما البن الخام، فهو لا يخضع نسبيًّا للقيود التجارية، لذا فإن أحد تأثيرات القيود التجارية المفروضة على اللحم والأرز والحبوب هي أن المزارعين في الدول الفقيرة يجبرون على زراعة محاصيل مثل البن وهو الأمر الذي لا يمكن أن يساعدهم جميعًا.

ولمّا كان البن مجال عمل يسهل دخوله، فإنني أود أن أتنبأ بشيء ما، ألا وهو أن مزارعي البن لن يصبحوا أثرياء قط إلى أن يصبح معظم من حولهم أغنياء. فإذا أصبحوا أغنياء في حين ينغمس في الفقر باقي المزارعين والعاملين في المؤسسات المستغلة، فسيحولون نشاطهم إلى زراعة البن هم الآخرون. وستشهد أسعار البن العالية انخفاضًا إلى أن يحصل العمال بالمؤسسات المستغلة ذوو الياقات الزرقاء على أجور جيدة من عمل تصنيعي يتطلب مهارة، ومن ثم لن ينظروا حينئذ لمزارع البن الثري على أن مهنته مهنة جذابة.

وعلينا أن نستوعب أن المبادرات التي تركز بدقة على «بن التجارة العادلة»، أو «الملابس غير المصنعة في المؤسسات المستغلة» لن تسهم قط بأي تحسن جوهري في حياة ملايين الناس. فبعضها يتسبب بالفعل في إلحاق الأذى بهم، مثل حملة المطالبة بمنع مدينة نيويورك من شراء أطقم الثياب الموحدة من الدول الفقيرة. أما غيرها مثل الأنواع العديدة من البن التي تحمل علامة التجارة العادلة، فمن الأرجح أن تحسن دخل بعض منتجي البن دون التسبب في كثير من الأذى. ولكن هذه المبادرات لا يمكنها إصلاح المشكلة الأساسية ألا وهي إنتاج البن بكميات مفرطة. فمع أدنى تلميح بأن زراعة البن ستصبح مهنة جذابة، سينهال عليها البائسون ممن ليس لديهم أي بدائل أخرى. وفي الحقيقة، فإن التنمية واسعة النطاق في الدول الفقيرة سترفع من مستويات معيشة الأفراد الأشد فقرًا، وترفع كذلك أسعار البن، وتحسن الأجور، وتحسن ظروف العمل في مصانع الأحذية.

هل مثل هذا النوع من التنمية واسعة النطاق وارد الحدوث؟ من دون شك، فمليارات الناس في العالم النامي باتوا الآن أكثر ثراءً مما كان عليه آباؤهم من قبل. وما برح متوسط عمر الإنسان ومستوى التعليم يزداد، حتى في الدول التي لم تشق طريقها نحو الثراء بعد. يعزى جزء من السبب إلى التجارة الحرة، أما الأسباب الكاملة فيطول شرحها. أما بالنسبة لدفع اقتصاد نامي نحو الارتفاع بقوة، فلا مناص من وضع العديد من الإصلاحات المختلفة في مواضعها الصحيحة. ثمة دولة واحدة في العالم نجحت في تحقيق كل هذا على نحو سريع لشعبها الكبير، وانطلقت لتحقيق ما حققته من أسوأ نقطة بداية عرفها التاريخ. وهي الدولة التي سنختم بها رحلتنا الاقتصادية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤