مقدمة

عندما تُولَد الموهبة

حين طُلِب من تشيخوف كتابة سيرة ذاتية لنشرها في دليل عن خريجي كلية الطب بجامعة موسكو خلال الفترة من ١٨٨٤م إلى ١٨٩٤م ردَّ الكاتب بأنه «مُصاب بداء الخوف من السِّير الذاتية.» وأضاف: «إنه لَعذاب حقيقي أن أقرأ أي تفاصيل عني … فضلًا عن كتابتها بنفسي للنشر.» وأَرفق بهذه الرسالة سيرة ذاتية قصيرة للغاية عَرض فيها رأيه حول العلاقة بين الأديب والعلم، أكثر مما كَتب عن تفاصيل حياته الشخصية أو إبداعه.

وقد راودني نفس الإحساس المعذِّب عند كتابة هذه المقدِّمة عن تشيخوف. فكيف تَكتب عن مبدع كبير معروف على نطاق العالم كله منذ بزوغه في سماء الأدب الروسي في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى هذه الأيام؟ وكيف تُقدِّمه للقُراء العرب ومنهم من يعرف عن أدبه وحياته الكثير من التفاصيل؟ وما العمل من أَجْل ألَّا تخرج هذه المقدِّمة في صورة تقريرية تتناول حياته وأدبه بنبرة البحث العلمي الجافة، أو أن تجنح إلى الاعترافات العاطفية بالحب لهذا الفنان المدهِش وأدبه الأكثر إدهاشًا؟ وأخيرًا قرَّرتُ أنه ليس هناك ما هو أفضل من الدرب المعهود والطريق المطروق، وهو الحديث عن تشيخوف الفنان وتشيخوف الإنسان، الأمر الذي يتيح لنا أن نجمع بين الموضوعية والذاتية في سبيكة واحدة، إذا حالفنا التوفيق بطبيعة الحال.

خرج أنطون تشيخوف إلى الدنيا في ٢٩ يناير ١٨٦٠م، ورحل عنها في يوليو ١٩٠٤م، وخلال هذا العمر القصير «٤٤ سنة» والعمر الأدبي القصير «٢٤ سنة» ترك لنا إرثًا أدبيًّا خالدًا من القصص القصيرة والروايات والمسرحيات التي أحدثَت انقلابًا حقيقيًّا في القصة القصيرة والأدب المسرحي. وليس غريبًا، لهذا السبب، أن يظل تشيخوف معاصرًا حتى اليوم، وأن يحاول المخرِجون في شتَّى دول العالم إعادة قراءة مسرحياته الشهيرة وحل ألغازها عامًا بعد عام على خشبات المسارح، التقليدية والتجريبية، الكلاسيكية منها والطليعية.

كان أنطون (اسم التدليل: أنطوشا) الابن الثالث في عائلة التاجر الصغير بافل تشيخوف، الذي كان يملك حانوت بقالة في مدينة تجانروج على شاطئ بحر آزوف في جنوب روسيا. وقد سبقه إلى الدنيا أخوه ألكسندر «الذي أصبح فيما بعد أديبًا»، ونيكولاي «الذي أصبح مصورًا» وتلاه إيفان «مدرس»، وميخائيل «أديب»، وأخته ماريا التي عملَت مدرِّسة وكانت موهوبة في التصوير، وأصبحَت اليد اليمنى للكاتب في حياته وحافظَت على تراثه بعد مماته.

لم يَعش أنطوشا طفولة سعيدة في هذه الأسرة الموهوبة؛ فقد كان الأب يجبره مع إخوته على العمل في الحانوت، فكان يقف بالساعات على قدميه في الحانوت البارد مُغالِبًا الرغبة في اللهو والنوم. وفي أيام الآحاد والأعياد الدينية — وما أكثرها — كان الأب يجبره على الغناء في كورال الكنيسة، مصاحِبًا طقوس الصلوات المُضنِية الطويلة؛ ولهذا قال تشيخوف فيما بعد: «في طفولتي لم تكن لديَّ طفولة.» وانتهت هذه الطفولة الشَّقيَّة نهاية تعيسة؛ فقد أفلس الأب، وهرب سرًّا من الدائنِين إلى موسكو، ثم لحِقت به عائلته ما عدَا أنطون، الذي بقيَ ليكمل تعليمه الثانوي، وظل وحيدًا طول ثلاث سنوات يكسب رزقه بإعطاء الدروس الخاصَّة، ويقتصد من هذا الكسب الضئيل بعض المال ليرسله إلى موسكو مساعدة لوالديه وإخوته.

في عام ١٨٧٩م أنهى أنطون تشيخوف المدرسة ورحَل إلى موسكو؛ حيث التحق بكلية الطب بجامعة موسكو، وتخرَّج فيها عام ١٨٨٤م ومارَس مهنة الطب فترة قصيرة.

وقد تفتَّحت موهبة الأديب وهو بَعدُ في الصف الأول بكلية الطب، فشرع في كتابة الفكاهيات والقصص القصيرة الساخرة والمشاهد المضحِكة ونشرها في الصحف والمجلات الأسبوعية الفكاهية في موسكو وبطرسبرج، وكان يُوقِّعها بأسماء مستعارَة (أشهرها: أنطوشا تشيخونتي).

ويمكن تأريخ البداية الإبداعية لتشيخوف بعام ١٨٨٠م الذي نَشر فيه قصته القصيرة «رسالة إلى جاري العالم»، ثم ظهرت أول مجموعة قصص قصيرة «حكايات ملبومينا» (عام ١٨٨٤م) ثم توالت المجموعات: «قصص منوعة» (١٨٨٦م)، «في الغسق» (١٨٨٧م)، «أحاديث بريئة» (١٨٨٧م)، «قصص قصيرة» (١٨٨٨م)، «أناس عابسون» (١٨٩٠م).

يشير النُّقاد والمؤرِّخون إلى أن فترة الثمانينيات (حتى بداية التسعينيات) من القرن التاسع عشر كانت من أشد الفترات ظلامًا ورجعيَّة في تاريخ روسيا الحديث؛ فقد فشل مشروع الإصلاح الذي تبنَّاه القيصر ألكسندر الثاني، عندما أصدر مرسوم تحرير عبيد الأرض (الفلاحين) عام ١٨٦١م، وأفلَست حركة «الشعبِيِّين» الثورية ودخلَت طريقًا مسدودًا فتَبنَّى جناحها المتشدِّد أسلوب الاغتيال الفردي. وبالفعل اُغْتِيل القيصر ألكسندر الثاني عام ١٨٨١م، وبالطبع لم يؤدِّ ذلك إلى تحسين الأوضاع، بل زادها سوءًا، وتراجعت السُّلطة حتى عن الحد الأدني من الحرِّيَّات الذي كان موجودًا، وتوالت الإجراءات القمعية ضد الحكم المحلي (الزيمستفو) في الأرياف والأقاليم، فوُضِع تحت إشراف المحافظِين المباشر وأُلغيَ مبدأ الانتخاب فيه، وفُرِضت رقابة صارمة على الصحف والمجلات بصدور قانون النشر الجديد عام ١٨٨٢م الذي أباح إغلاق المجلات بسبب اتجاهها العام وليس فقط بسبب مقال محدَّد، وألزمها بإبلاغ السلطات بالأسماء الحقيقية للكُتَّاب الذين ينشرون بأسماء مستعارَة. وألغيَ الاستقلال النسبي الذي تَمتَّعت به الجامعات، ووُضِعت القيود على دخول المدارس الحكومية لأبناء الفقراء والفئات الدنيا. وفي عام ١٨٨٤م أُغلِقت مجلة «مذكرات وطنية» التي كان يرأس تحريرها الكاتب الروسي الساخر الكبير سالطيكوف-شيدرين، والتي كانت مِنبَر الكُتَّاب الديمقراطِيِّين الروس.

في هذه الفترة العصيبة الخانقة بدأ «أنطوشا تشيخونتي» في نشر قصصه واسكِتشاته المَرِحة وفكاهياته «البريئة» اللاهية في المجلات الفكاهية المعروفة آنذاك: «الجرادة» و«المنبه» و«شظايا»، التي كانت لا تستهدف سوى إضحاك القُرَّاء وتسليتهم وتطلُب من كُتابها الالتزام بهذا الهدف ذاته. ولكن موهبة تشيخوف كانت أكبر من أن تبقى أسيرة هذه القيود. وشيئًا فشيئًا تبرز في قصصه القصيرة الفكاهية جوانب السخرية اللاذعة من عبَدة المناصب والألقاب والمنافقِين «البدين والنحيل»، «الحرباء»، وذوي الطباع الفظَّة الذين يستعذبون إهانة الضعفاء «القناع»، «الكبش والآنسة»، وضعاف النفوس الذين يستسلمون لمصائرهم دون محاولة احتجاج «المغفَّلة»، «أنيوتا». وتمتد سخرية تشيخوف إلى المسحوقِين أنفسهم، فهو يسخر من «العبيد الصِّغار» الذين يجدون قمة اللذة والسعادة في إهانة السادة وإذلالهم لهم وقسوتهم عليهم «حُلة النقيب»، والذين يموتون خوفًا من غضب الرؤساء «وفاة موظف»، وأصحاب النفوس الصغيرة التافهة الذين يفرحون لنشر أسمائهم في الصحف حتى لو كان ذلك بسبب دهس عربات الخيل لهم «فرحة»، والشخصيات المشوَّهة، وليدة المجتمع الظالم الذي يفرِّخ «الجواسيس المتطوِّعِين» الذين يريدون «منع كل شيء» و«الإبلاغ عن كل الناس» «الصول بريشيبييف» والشرطي المتقاعِد «حالات جنون العظمة» الذي يحبس القطط والكلاب والدجاج في صناديق لفترات محدَّدة، ويسجن البقَّ والصراصير والعناكب في زجاجات، ويحاول إقناع أهل بلدته بدخول الحجز مقابِل نقود!

وفي هذه المرحلة تَتجلَّى النبرة الوجدانية الحزينة في قصص تشيخوف القصيرة عن أحزان «الغلابة» التي لا يريد أن يسمعها أحد «وحشة» ومآسي الصنَّاع المَهرة الذين تقضي الفودكا على كل ما هو طيب فيهم وتمضي حياتهم كأنها في غيبوبة «المصيبة». ويرسم تشيخوف لوحة إنسانية عريضة لشتَّى النماذج البشرية من مختلف درجات السُّلَّم الاجتماعي، ويبلغ بها مستوًى عاليًا من التعبيرية والرمزية كما في قصص «الرجل المعلَّب».١

كان تصوير تشيخوف للتشوُّهات النفسية والأخلاقيات المترَدِّية في تلك الفترة (ثمانينيات القرن) يُفضي بالقارئ مباشرة إلى استنتاج واحد؛ أن كل هذه الفظاظة، وهذا النفاق والابتذال والضعة والطغيان … إنما هي ثمرة الأوضاع الاجتماعية المختلَّة التي يُكرِّسها النظام القائم ويُسبغ عليها ثياب الشرعية والدَّيمُومة. ولا عجب إذًا أن تنتبه الرقابة «اليقظة» إلى هذه المعاني فتمنع صدور أولى مجموعات الأديب القصصية، وتُواصل تدخُّلها في كل ما يكتب.

ويجذب الأديب اهتمام القراء وزملائه بتحفته الأولى «السهوب» في جنس الرواية القصيرة «النوفيلا» والتي ظهرت عام ١٨٨٨م مُؤْذِنة بشق طريق إبداعي جديد لموهبة كبيرة؛ حيث لا تلعب الأحداث أو الحبكة الروائية الدور الرئيسي، بل يلعبه المزاج العام للقصة، ولوحات السهوب الشاسعة بآفاقها اللامحدودة وسحرها الخاص، وكأنَّما يرمز الكاتب إلى وطنه روسيا وقوته وجماله، وتطلُّعه إلى مستقبَل أسعد. ويمتزج التفاؤل والفرحة بالحزن العميق الأغوار، وتَرنُّ النبرة الوجدانية كموسيقى حزينة خافِتة مُصاحِبة للسياق العام للرحلة عَبْر هذه السهوب المترامية. فلا ترى هل أنت أمام منظر طبيعي رسَمَه مصوِّر بارع، أم سيمفونية صاغها موسيقار مبدِع؟!

ولعل موهبة تشيخوف في مرحلة إبداعه الأولى (١٨٨٠–١٨٩٣م) لم تَتجلَّ بهذه القوة والعمق كما تجلَّت في روايته التالية «للسهوب» «حكاية مُملَّة» التي صدرت عام ١٨٨٩م والتي طرح فيها بقوة فكرة اللامبالاة وخَطَرها على الروح الإنسانية، واضعًا في بؤرة الرواية أستاذًا شهيرًا في الطِّب بجامعة موسكو، يراجع حياته بعد إصابته بالسرطان وتقاعُده. لقد أثارت الرواية إعجاب الكثيرِين. وكَتب الأديب الألماني الحائز جائزة نوبل توماس مان عنها:

«إنها شيء غير عادي تمامًا، شيء ساحر لن تجد له مثيلًا في الأدب كله. فقوة تأثيرها وميزتها في نبرتها الخافتة الحزينة. إنها حكاية تثير الدهشة على الأقل لتسميتها «بالمملة» في حين أنها تَهزُّك هزًّا. وعلاوة على ذلك فقد كَتبها شابٌّ لم يبلغ الثلاثين من عمره، ورُوِيَت بأقصى نفاذ على لسان عالم عجوز، ذي شهرة عالمية.»

في عام ١٨٩٠م يقرِّر أنطون تشيخوف القيام برحلة شاقَّة محفوفة بالخطر من موسكو في الغرب إلى جزيرة ساخلين في أقصى شرق روسيا عَبْر سيبريا كلها، قاطعًا عشرة آلاف كيلو متر بالقطار والسفينة والقوارب وخيول البريد والعربات الصغيرة، متعرِّضًا لمخاطر الغرق والبرد والضياع لكي يصل إلى جزيرة سخالين (أرض المعاناة التي لا تطاق) — كما قال عنها — ويستقصي أحوال السُّجناء والمنفِيِّين هناك ليقدم بعد ذلك دراسة سوسيولوجية أدبية مذهلة بعنوان «جزيرة سخالين» (١٨٩٣-١٨٩٤م). وخلال هذه الرحلة أُصيب تشيخوف بمرض الدَّرَن الرئوي الذي كان السبب في رحيلة المبكِّر عن العالم.

ويمكن القول إن هذه الرحلة الطويلة (٩ أشهر) والبؤس والفظاعة التي رآها تشيخوف ولمَسَها بنفسه في سجون ومَنافي تلك الجزيرة التعيسة، وأثمرت روايته القصيرة «عنبر رقم ٦» (١٨٩٢م) قد هزَّت كيان الكاتب وغيَّرت مجرى حياته. فعندما عاد إلى موسكو قرر الانتقال إلى الريف، واشترى عام ١٨٩٢م ضيعة «ميليخوفو» على بُعد ٧٠ كيلومترًا من موسكو، وشرع في غرس البستان وترتيب البيت وبناء المَرافق، وأمضى هناك سبع سنوات قام خلالها بعلاج الفلاحِين ومكافحة الكوليرا وبناء المدارس على حسابه الخاص، وجمع التبرعات لمنكوبي المجاعة من الأطفال، وبالطبع زاول الكتابة. وفي هذه الفترة وما بعدها حتى وفاته (١٩٠٤م) أبدع تشيخوف أعمالًا رائعة مثل: «رواية رجل مجهول»، و«الراهب الأسود»، و«الطالب»، ورواياته القصيرة الجميلة: «حياتي»، و«ثلاث سنوات»، و«المنزل ذو العلية»، ورواية «الفلاحون»، وقصة «السيدة صاحبة الكلب»، و«حبوبة» وآخر قصصه «العروس».

وفي عام ١٨٩٨م اضْطُر تشيخوف إلى ترْك بيته وضَيعته في «ميليخوفو» لاشتداد وطأة المرض عليه، وانتقل إلى شبه جزيرة القرم على البحر الأسود لجوِّها الدافئ المشمِس، واشترى قطعة أرض قرب مدينة «يالطا» وشيَّد فيها منزلًا صغيرًا أبيض على مقربة من البحر، وغرس بستانًا جديدًا وضع في غرساته كل رِقَّته وحنانه وحنينه إلى موسكو الحبيبة. وككل شيء تلمسه أنامل تشيخوف تحوَّلت تلك البقعة الجرداء المقفِرة إلى واحة صغيرة يانعة جذَبت إليها الوافدين الكبار إلى القرم، وفي مقدِّمتهم عميد الأدب الروسي آنذاك ليف تولستوي، ونجمه البازغ مكسيم جوركي، والكُتَّاب الجدد: كوبرين، وكورلنكو، وبونين وغيرهم من الفنانِين والأدباء البارزِين.

في هذه الفترة أيضًا قدَّم أنطون تشيخوف للمسرح أعماله المعروفة «النورس» و«الخال فانيا» و«الشقيقات الثلاث» و«بستان الكرز» وغيرها من المسرحيات الأقل شهرة والأعمال ذات الفصل الواحد والفودفيل.

ورغم ذلك كانت «يالطا» بالنسبة له سجنًا ومنفًى، كما قال. وكان يُتابع بالرسائل والبرق أخبار مسرحياته المعروضة في موسكو، ويُصارع المرض وحده في البيت المظلم في ليالي الشتاء برباطة جأش نادرة وأمل في المستقبل، ورغم أنه — كطبيب — كان يدرك دُنوَّ أجَلِه المحتوم.

وفي يونيو ١٩٠٤م تدهورت صحته بشدة؛ فسافر إلى ألمانيا للعلاج في مُنتجَع «بادن فيلر» حيث وافَته المنِيَّة في ١٥ يوليو ١٩٠٤م، وكانت آخِر كلمات لفظها قُبَيل وفاته: … Ich sterbe؛ (إنني أموت - بالألمانية).

جاء تشيخوف الفنان إلى الدنيا حاملًا رؤية جديدة ترتدي ثياب الفكاهة والسخرية، ومفهومًا جديدًا عن «المضحِك» لا باعتباره شيئًا كوميديًّا، بل باعتباره تراجيكوميديا، يجمع بين البسمة والسخرية والحزن، وهذا ما ميَّزه عن بقية الكُتَّاب الروس. أما المأساة عنده فليست في وقوع شيء فاجِع خارق، بل في عدم وقوع أي شيء وبقاء الأمور كما هي عليه! إنه يُقدِّم أبطاله دون تزويق أو سَتر لعيوبهم وضعفهم؛ لأنه يؤمن بأن «الإنسان سيصبح أفضل عندما تُظهرون له ما هو عليه» دون استدرار للشفقة أو اللجوء إلى «الكذب السامي». من هنا يتَّسم أسلوب تشيخوف بالموضوعية الصارمة، التي قد تبدو نوعًا من البرود تجاه مصائر الأبطال.

ويبتعد تشيخوف عن العبارات الطَّنَّانة والميلودراما، ويلتزم التحفُّظ الذي لا يفصح عن موقف الكاتب للوهلة الأولى؛ لأنه يعتبر ذلك أكثر إقناعًا للقارئ. فقد كان تشيخوف يحترم عقل القارئ ويثق في فطنته. ويهتم تشيخوف اهتمامًا بالغًا بالتفاصيل كمفتاح للإيجاز والتكثيف السردي، وهو الإنجاز الكبير الذي حقَّقه تشيخوف في مجال الأسلوب. وهذه التفاصيل قد يرسم القليل منها صورة كاملة للشخصية، وقد تبلغ بالعمل الأدبي درجة التوتُّر النفسي والشحن العاطفي التي يريد الكاتب إيصالها إلى القارئ؛ ولذا يرقى بالتفصيل أحيانًا إلى مستوى الرمز (كالنورس المقتول في مسرحية «النورس»).

فليس غريبًا إذًا أن يقول تولستوي: «إن تشيخوف هو بوشكين في النثر … إنه فنان لا مثيل له.» ويضع تولستوي العظيم يده على مفاتيح لغز تشيخوف كمجَدِّد فيقول: «بفضل صِدقه صاغ تشيخوف أشكالًا كتابية جديدة كل الجدة، بالنسبة للعالم كله، على ما أعتقد، أشكالًا لم أجد لها مثيلًا في أي مكان.» وعن فكاهيَّة تشيخوف، وأسلوبه عامة، يقدِّم تولستوي هذا التحليل المدهِش: «كان تشيخوف يُجيد إلى درجة الكمال، تحويل الموضوع كوميديًّا، وتنويع الأشكال الفكاهية المؤثرة. لقد كان بارعًا في اختراع المواضيع وتقديم بدائل لا نهائية للموضوع الواحد، وكان ينوع في استخدام الأشكال البنيوية المضغوطة … لقد كان يعرف فن الصورة الموجَزة واستخدام التفاصيل بشكل معبِّر … وكان يلجأ على نطاق واسع إلى الحوار الحي الموحي مع التعبيرات الفكاهية للغة الكلام الدارج دون أن يهرب من الكاريكاتير المركَّز، مستخدمًا بكثرة المبالَغات والألقاب الساخرة.»

كان تشيخوف يتوخَّى البساطة والدخول مباشرة في الموضوع، ويَكرَه البناء المعقد للعمل الأدبي وكان شعاره «كلما كان الموضوع أبسط كان ذلك أفضل»، ولكن ذلك لم يكن على حساب عُمق التحليل والتعبيرية السيكولوجية وبروز ملامح الشخصيات والأماكن، حتى شاع تعبير «الشخصية التشيخوفية» عندما تصادف في الحياة شخصية تكاد تكون نسخة حيَّة من شخصيات روايات تشيخوف وقصصه، وكأنما أصبح المرجِع فَن تشيخوف لا واقع الحياة.

في أعمال تشيخوف الروائية والقصصية والدرامية تحس — رغم تحفظ الكاتب و«حياديته» — بتعاطفه العميق مع شخصياته المعذَّبة وأبطاله المُهانِين الذين سحَقَتهم الحياة بابتذالها وكآبتها، وبعطفه عليهم حتى وهو يدين ضعفهم ورذائلهم. ولم يقتصر تشيخوف في إبداعه على تصوير المثقَّفِين، الأقرب إليه روحيًّا واجتماعيًّا، بل هبط إلى القاع، فقدَّم لنا نماذج بشرية من الفلاحين والتجار والعمال والحِرفِيِّين والأطفال ولم يقسم أبطاله إلى أشرار وأخيار، فتَحت تأثير الصراع النفسي الداخلي والهزَّات الأخلاقية تتبدَّل النفوس فتسمو أو تنهار أو تتبادَل المواقع رواية «المبارزة»، وفي هذا التعاطف العميق مع البشر يَكمُن سِحر تشيخوف الخاص الذي يجعل منه معاصرًا بعد رحيله ومحبَّبًا إلى كل القلوب.

لا شك أن أنطون بافلوفيتش تشيخوف عبقرية مبدِعة «لا مثيل لها» كما قال تولستوي، لكنها لم تظهر من الفراغ. لقد عاش تشيخوف في وقت واحد مع ليف تولستوي العملاق الذي أثَّر فيه تأثيرًا كبيرًا في مرحلة معيَّنة، وكان من أساتذته معاصره سالطيكوف-شيدرين أعظم الكُتَّاب الروس الساخرِين. وأحاطَت به مجموعة من الكُتَّاب الموهوبِين الذين ذاعَت شهرتهم في حياة تشيخوف «جوركي، وبونين، وكورلنكو، وكوبرين وغيرهم». وكان من أصدقائه أكبر مصوِّري ذلك العصر لفيتان وريبين، وأبرز الموسيقِيِّين الروس: تشايكوفسكي ورحمانينوف، وأكبر مخرج ومُنظِّر عرفه المسرح الروسي والسوفيتي: قسطنطين ستانسلافسكي، وزميله نيميروفتش-دانتشنكو. وإلى وسادة الأدب الروسي الوثيرة … التي صنعها بوشكين، وجوجول، وليرمنتوف، وتورجينيف، ودوستويفسكي … أسند أنطون تشيخوف ظَهْرَه، مستمِدًّا من هذا الإرث الثقافي الضَّخم قُوَّته الإبداعية الفذَّة.

وأخيرًا لا نجد أفضل من كلمات الأديب المعاصر لتشيخوف، ألكسندر كوبرين، لنختم بها هذه المقدِّمة:

«… وبالفعل … فسوف تمرُّ الأعوام والقرون. وسوف يمحو الزمن ذكرى آلاف الآلاف من الأحياء من الآن، لكن الأجيال القادمة، التي كان تشيخوف يحلم بسعادتها بذلك الحزن الساحر، سوف تُردِّد اسمه بعِرفان، وبِأسًى خافِت على مصيره.»

د. أبو بكر يوسف
القاهرة، يونيو ٢٠٠٧
١  القِصص المشار إليها في هذه المقدمة مترجَمة في هذه المجموعة باستثناءات قليلة. (المُعَرِّب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤