البربوط١

صباح صيفي، والجو ساكِن، إلا من أزيز جُنْدب على الشاطئ، وفي مكان ما يُزقزِق عصفور صغير بِوجَل. وفي السماء تقف سُحب زُغبية جامدة، تُشبه نُدَف الثلج المُبعثَر … وبجوار حَمَّام يُجرَى بناؤه، وتحت أغصان الصفصاف الخضراء يتخبط في الماء النَّجَّار جيراسيم، وهو فلاح طويل نحيف، بشعر أحمر مُجعَّد، ووجه مُغطًّى بالشعر. ويزحر ويزفر، ويغمز بعينيه بشدة، وهو يحاول أن يستخرج شيئًا ما من تحت جذور الصفصاف. ووجهُه مُغطًّى بالعرَق. وعلى بُعد ذراع من جيراسيم يقف غائصًا في الماء حتى زوره النجار لوبيم، وهو فلَّاح شاب أحدَب، بوجه مُثلَّث وعينين ضيقتين صينيتين. وكل من جيراسيم ولوبيم يَقفان بالقمصان والسراويل. وكلاهما أزرقَّ جلده من البرد؛ لأنهما يقفان في الماء منذ أكثر من ساعة.

ويصيح لوبيم الأحدب وهو يرتعش كالمحموم: ما لك تتحسس بيدك كالأعمى؟ شغَّل مخك!

أَمسِكه، أَمسِكه وإلا أفلتَ هذا الملعون، أَمسِكه قلتُ لك!

فيقول جيراسيم بصوت أبح مكتوم صادر لا من حلقه بل من أعماق بطنه: لن يفلتَ … إلى أين يذهب؟ انحشر تحت الجذر … يا له من أملس، هذا الشيطان، لا تعرف من أين تمسكه.

– أَمسِكه من خَشْمه، من خَشْمه!

– خياشيمه لا تظهر … مهلًا … أمسكته من موضع … من شفته أمسكته … إنه يعض، هذا الشيطان!

– لا تشده من شفته، لا تشده وإلا أفلَت! أَمسِكه من خَشْمه، من خَشْمه أمسكه! عدت تتحسس بيدك كالأعمى! أمَّا فلاح غبي، رحمتك يا رب! أَمسِكه!

فيقلده جيراسيم مشاكسًا: «أمسكه» … حضرته عامل ريِّس … تعالَ أَمسِكه أنت، أيها الشيطان الأحدب … ما لك واقفًا؟

– لو كنتُ أقدر لأمسكتُه … وهل أستطيع بجسمي هذا أن أنزل تحت الشاطئ؟ المياه عميقة هناك!

– لا يهم أنها عميقة … اسبح.

ويضرب الأحدب بذراعيه ويسبح حتى يبلغ جيراسيم، ويتشبَّث بالأغصان. وما إن يحاول الوقوف على قدميه حتى يغوص في الماء ويبقبق.

ويقول وحدَقَتا عينيه تدوران بغضب: ألَم أَقُل لك عميقة؟ أجلس على رقبتك يعني؟

– ضع قدميك على جذر … الجذور هناك كثيرة … كدرجات السلم.

ويتحسس الأحدَب بكعبه حتى يعثر على جذر، فيقف عليه بعد أن يتشبَّث بعدة غصون معًا … ويحفظ توازنه، وبعد أن يَتمركَز في الموقع الجديد ينحني محاولًا ألا يدخل الماء فمه، ويروح يفتش بيده اليمنى بين الجذور. وتَشتبِك يده بالأعشاب المائية، وتنزلق على الطحلب الذي يغطي الجذور، ثم تصطدم بمخلب سرطان حادَّة.

– لم يكن ينقصنا سواك أيها الشيطان! يقول لوبيم ويلقي السرطان بغضب إلى الشاطئ.

وأخيرًا تَعثُر يده على يد جيراسيم، فتهبط معها حتى تصل إلى شيء أملس بارد.

ويبتسم لوبيم قائلًا: ها هو ذا! كبير هذا الشيطان … افتح أصابعك فسوف أُمسِكه … من خَشْمه … حاسِب، لا تَدفعْ بكوعك … حالًا … سأُمسِكه … انتظر حتى أقبض عليه … لقد انحشر هذا الشيطان تحت الجذر بعيدًا … لا أصل إلى رأسه … ليس هناك إلا بطن … اقتل البعوضة على رقبتي … آه تلسَعُني! سأُمسِكه … حالًا … من خَشْمه … تعالَ من الجنب، ادفعه، ادفعه! انغزه بأصبعك!

نفخ الأحدب شِدْقَيه، وكتم أنفاسه، وحمَلقَت عيناه، وبدا كأنه يوشك على دس أصابعه «تحت خشمه»، إلا أن الأغصان التي كان متشبثًا بها بيده اليسرى تتكسَّر فجأة، فيفقد توازنه و… ويهوي في الماء! وتنطلق دوائر مُتموِّجة، مُبتعدًا عن الشاطئ وكأنها مذعورة، وتتصاعد من موضِع السقوط الفقاقيع. ويطفو الأحدب وهو يزفر ويتشبَّث بالأغصان.

ويدمدم جيراسيم بصوته الأبح: المصيبة أن تَغرَق وأُصبح أنا المسئول! اخرُج إلى الشيطان من هنا! أنا سأسحبه!

وينشب السُّباب … والشمس تحمى وتحمى، وتصبح الظلال أقصر وتنكمش على نفسها كقرون القوقعة … وتَتصاعَد من الأعشاب الطويلة التي سخَّنَتها الشمس رائحة عسلية قوية. وعمَّا قريب ينتصف النهار بينما لا يزال جيراسيم ولوبيم يتخبطان في الماء تحت الصفصاف. ولا يكف الصوت «الباص» الأبح، و«التينور» الرفيع المَقرُور عن تعكير سكون النهار الصيفي.

– اسحبه من خَشِمه، اسحبه! انتظر سأدفعه! أين تدس كل هذه القبضة؟ بأصبعك لا بقبضتك يا بهيم! تعالَ من الجنب! من الشمال ادخل، من الشمال، في اليمين حفرة، حاسب وإلا تَعشَّى بك عفريت الماء! اسحبه من شفته.

وتُسْمَع فرقعة سوط … وعلى الشاطئ المنبسط يسير قطيع نحو المورِد في كسل، يَسوقه الراعي يفيم. يسير الراعي، هذا العجوز المتهالِك ذو العين الواحدة والفم المُلتَوي، مُطأطئ الرأس ينظر تحت أقدامه. وتصل إلى النهر الشياه أولًا، ثم تتبعها الخيول، ومن خلفها البقر.

ويسمع الراعي صوت لوبيم: ادفعه من تحت! مُرِّر إصبعك! هل أنت أطرش؟ إخص!

فيصيح يفيم: ماذا تُطارِدون يا إخوان؟

– بربوطًا! لا نستطيع إخراجه. انحشر تحت الجذر!

– ادخل من الجنب! ادخل، ادخل!

ويزرُّ يفيم عينه الواحدة مُحدِّقًا في الصيادَّيْن لحظة، ثم يخلع حذاءه «اللابتي»٢ ويلقي بالكيس عن كتفه، وينزع قَميصه. ولا يستطيع أن يصبر حتى يخلع سرواله فينزل به إلى الماء وهو يرسم علامة الصليب ويحافظ على توازنه بيديه النحيلتين السمراوين … ويسير حوالي خمسين خطوة على القاع الطيني، ثم يمضي سابحًا.

ويصيح:

انتظِروا يا فتيان! انتظروا! لا تَتعجَّلوا بإخراجه وإلا أفلتَ … لا بد من المهارة!

وينضم يفيم إلى النَّجارَين، وأخذ ثلاثتهم يتزاحمون في مكان واحد وهم يدفعون بعضهم بعضًا بالمرافق والركب ويزحرون ويسبون … ويشرق لوبيم الأحدب بالماء فيُجلجِل في الجو سُعال حادٌّ مُتقلِّص.

ويُسمع صياح من الشاطئ: أين الراعي؟ يفيم! يا راعِ أين أنت؟ القطيع دخل البستان! اطرده، اطرده من البستان! اطرده! أين هذا الشقي العجوز؟

وتُسمَع أصوات رجال، ثم صوت امرأة … ويخرج من وراء سياج البستان السادة الإقطاعي أندريه أندريتش مرتديًا روبًا من الحرير الفارسي وممسكًا بجريدة في يده … وينظر مستفهمًا نحو الأصوات الآتيه من النهر، ثم يُسرِع الخطى نحو الحمَّام.

ماذا هنا؟ من يصيح؟ يسأل بصرامة وهو يرى من خلال أغصان الصفصاف رءوس الصيادين الثلاثة المبللة: عمَّ تبحثون هنا؟

ويتمتم يفيم دون أن يرفع رأسه: ﺳﻤ … كة … نصطاد.

– سأريك كيف تصطاد! القطيع دخل البستان وهو يصطاد السمك! متى تنتهون من بناء الحَمَّام أيها الشياطين؟ منذ يومين تعملان، فأين النتيجة؟

فيزحر جيراسيم: سيكو … ن جاهزًا … الصيف طويل، ستَتمكَّن من الاستحمام يا صاحب السعادة … بررر، لا نستطيع إخراج البربوط من هنا … دخل تحت الجذر وكأنما في جحر، لا وراء ولا قدام.

– بربوط؟ يسأل السيد وعيناه تبرقان … إذن هيا أخرجوه بسرعة!

– فَلتُعطنا نصف روبل … ونتركه لك … بربوط كبير … سمين كزوجة التاجر … يساوي نصف روبل يا صاحب السعادة … جزاء على تعبنا … لا تعصره يا لوبيم لا تعصره وإلا هلك! ارفعه من تحت! ارفع الجذر إلى أعلى يا رجل أنت … ما اسمك؟ إلى أعلى لا إلى أسفل أيها الشيطان! لا تَخبطَا بأرجلكما!

وتمضي خمس دقائق، ثم عشر … ولا يستطيع السيد أن يصبر أكثر، فيصيح ملتفتًا نحو الدار: يا فاسيلي! يا فاسكا! نادُوا فاسيلي.

ويأتي الحُوذي فاسيلي ركضًا، يمضغ شيئًا ما ويتنفس بصعوبة.

فيأمره السيد: انزل إلى الماء … ساعِدْهم في إخراج البربوط … لا يستطيعون إخراج بربوط!

وينزع فاسيلي ملابسه بسرعة وينزل إلى الماء.

ويتمتم: حالًا، حالًا … أين البربوط؟ حالًا … في لمح البصر! اذهب أنت يا يفيم! لا مكان لعجوز مثلك هنا، لا تتدخل في أمر لا يخصك! أين هنا البربوط؟ أنا حالًا … ها هو ذا! ارفعوا أيديكم!

– شاطر صحيح … بدونك نعرف … ارفعوا أيديكم قال … طب هيا أخرجه!

– وهل يمكن إخراجه هكذا لا بد من شده من رأسه!

– ورأسه تحت الجذر! يا لك من غبي!

– كفى نباحًا وإلا أريتك! يا وغد!

فيتمتم يفيم: في حضرة السيد تَسبُّ بهذه الكلمات … لن تخرجوه يا جماعة! انحشر هناك بمهارة!

– انتظروا، أنا قادم … يقول السيد ويبدأ في نزع ملابسه على عجل: أربعة حمقى ولا يستطيعون إخراج بربوط!

وبعد أن ينزع أندريه أندريتش ملابسه، يقف قليلًا ليبرد جسمه، ثم ينزل إلى الماء، ولكن تَدخُّله لا يفيد بشيء.

وأخيرًا يقول لوبيم: لا بد مِن قطع الجذر! اذهب يا جيراسيم وأحضر الفأس! هاتوا الفأس!

ويقول السيد عندما تَتردَّد تحت الماء ضربات الفأس على الجذر: لا تقطع أصابعك! امش يا يفيم من هنا! انتظروا، أنا الذي سأخرج البربوط! أنتم لستم.

وها هو ذا الجذر قد اجتُثَّ إلى نصفه. ويكسرونه قليلًا، ويشعر أندريه أندريتش بسرور بالِغ أن أصابعه تَدخُل في خياشيم البربوط.

– إنني أشده يا جماعة! لا تَتزاحَموا … قِفُوا … أنا أسحبه!

ويظهر فوق صفحة الماء رأس بربوط كبير، ثم جسمه الأسود بطول ذراع. ويحرك البربوط ذيله بصعوبة محاولًا أن يتملَّص.

– دَعْكَ من هذا يا أخي … لا يمكن أن تُفلِت! وقعت؟ هكذا!

وترتسم على الوجوه كلها ابتسامة عسلية. وتمر دقيقة في تأمُّل صامِت.

ويُتمتِم يفيم وهو يحك صدره: بربوط عظيم! حوالي عشرة أرطال.

فيقول السيد موافقًا: نعم … انظر إلى كبده كم هي ممتلئة … تكاد تقفز من داخله … آه!

وفجأة يأتي البربوط بحركة حادة مُباغِتة بذيله إلى أعلى، ويسمع الصيادون صوت ارتطام شديد بالماء … ويمد الجميع أيديهم، ولكن بعد فوات الأوان … إذ لم يعد للبربوط أثر.

١  البربوط: سمَك نهري من فصيلة القد. (المُعَرِّب)
٢  حذاء كان يُصنَع من لحاء الأشجار وينتعله فقراء الفلاحين فيما مضى في روسيا. (المُعَرِّب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤