المقدمة

بدايةً من أبسط أنواع البكتيريا وحتى الإنسان، تتكوَّن كل الكائنات الحية من نوع أو آخر من الخلايا. والمدهش أن كل هذه الكائنات جوهريًّا لها الكيمياء نفسها، بغض النظر عن مكانها في شجرة التطور. لا بد أن هذه الكيمياء توفِّر آلياتٍ تتيح للخلايا أن تتفاعل مع العالم الخارجي، ووسيلةً لإمداد الخلايا بالطاقة، وبنياتٍ لتنفيذ مختلف أنواع العمليات، وإطارًا يعمل بداخله كل شيء، وبالطبع نوعًا من التحكم. الخلايا تشبه المجتمعات الإحيائية في كثير من النواحي، ولكن تتحكَّم بها وتسيطر عليها شبكةٌ من التفاعلات الكيميائية المتداخلة. وتدور الكيمياء الحيوية حول دراسة هذه التفاعلات، وكذلك الجزيئات التي تُنتَج وتتعدَّل وتتدمر نتيجة لهذه التفاعلات، والجزيئات الضخمة الهائلة (مثل الدي إن إيه والهياكل الخلوية والبروتينات والكربوهيدرات) التي تشكِّل البنيات الكيميائية التي تحدُث فيها هذه التفاعلات الكيميائية الحيوية.

أو بعبارة أوجز صاغها عالِم الفيزياء العظيم إرفين شرودنجر: «في علم الأحياء … مجموعة واحدة من الذرات … تنتج أحداثًا منظمة، متوافقة بعضها مع بعض ومع البيئة توافقًا رائعًا طبقًا لأدق القوانين.»

إذن، الكيمياء الحيوية هي المجال الذي يسعى لفهم تلك القوانين الدقيقة التي تحكم هذه الأحداث المنظمة ذات التوافق الرائع؛ إنها تدرُس الجزيئات الحيوية وتفاعلاتها، ومن ثَم فإنها تسعى إلى كشف الستار عن الأساس الجزيئي للحياة.

بالطبع الحياة بكل مجدها لا تتألف من مجرد خلايا مفردة فحسب. بل إن الخلايا تتجمع معًا لتكوِّن كائناتٍ متعددة الخلايا، ومن ثَم لا بد من وسيلة كي تتواصل هذه الخلايا المفردة وتعمل معًا. والكائنات الحية بدورها تتفاعل معًا لتكوين الشبكات المعقَّدة التي تشكِّل أنظمتنا البيئية. وكل هذه التفاعلات تُنظَّم وتُيسَّر عبْر وسائل كيميائية حيوية. لنضرب المثلَ على ذلك بجزيئات الرودوبسين التي تستجيب لفوتونات الضوء، ومن ثَم، فهي تُعَد بمنزلة المرحلة الأولى التي يحدِّد بها الكائن المفترس وجبتَه التالية. مثال آخر وهو البروتينات الشمية التي تربط بضعة جزيئات صغيرة جدًّا بعضها ببعض، ومن ثَم تؤدي إلى سلسلة من التفاعلات الكيميائية الحيوية تجعل الفريسة تتنبَّه إلى وجود الكائن المفترس. مثال ثالث وهو الأجسام المضادة التي تُعدُّ خطوطَ الدفاع الأول حيث إنها تتعرَّف على الجزيئات الغريبة للطفيليات الغازية وتطلق النفير لجيش الاستجابة المناعية. كل هذه العمليات تقع ضمن مجال الكيمياء الحيوية.

لم يمرَّ وقت طويل على فهْم كيمياء الحياة حتى ظهرت رغبةٌ في تعديلها. فالأدوية والعلاجات كلها تهدف إلى تعديل العمليات الكيميائية الحيوية سواء كانت النتيجة إيجابية أو سلبية؛ فالبنسلين، على سبيل المثال، المشتق من فطرٍ معيَّن، يمنع البكتيريا من بناء جدران خلاياها؛ والأسبرين الذي ترجع جذوره الأولى إلى لحاء شجر الصفصاف يعمل على تثبيط الإنزيمات الداخلة في الاستجابات الالتهابية؛ وبضعة نانوجرامات من سُم البوتولينيوم (البوتوكس) كفيلة بأن تقتل كائنًا حيًّا بمنع إطلاق الناقلات العصبية من نهايات الأعصاب ما يؤدي إلى الشلل والوفاة، وعلى الجانب الآخر يمكن حقنُ كميات صغيرة للغاية منه بحيث يؤدي إلى اختفاء التجاعيد من الجبهة. كل هذه العمليات تندرج ضمن مجال الكيمياء الحيوية.

كان من السهل تناولُ هذه الموضوعات ببعض التفصيل في هذا الكتاب، وقد يشعر بعض القراء أني قد قصرت بتجاهلها هي وموضوعات أخرى جوهرية، مثل الفيتامينات والهرمونات والكروموسومات والعديد من تقنيات الكيمياء الحيوية. ولكن هذه في النهاية مقدمة قصيرة جدًّا، ولذا اضطررت إلى الإيجاز نوعًا ما. ونتيجة لذلك، ركَّزت في جزء كبير من الكتاب على جانب من الكيمياء التي تحدُث داخل الخلايا. والسبب هو أنها تكمُن فيها العمليات الكيميائية الأساسية التي تتشاركها كل الكائنات الحية.

وأخيرًا، الحدود الدقيقة للكيمياء الحيوية غير محدَّدة جيدًا، حيث تتداخل مع علم الوراثة وعلم الأحياء الجزيئي وعلم الأحياء الخلوي والفيزياء الحيوية والتكنولوجيا الحيوية. ولما كان الأمر كذلك، اختتمت الكتاب بفصلين يتناولان بعضَ الاكتشافات الجوهرية في الكيمياء الحيوية التي تؤثِّر في هذه المجالات وفي المجتمع بوجه عام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤